أحدث المواضيع

فاطمة والجدار بقلم الأستاذ إبراهيم حسين

الأستاذ ابراهيم حسين

تجولت عينا فاطمة في جدران غرفتها الضيقة وقد بدأ شعاع ضوء الصباح يلامسها، وقد تسرب شيئا فشيئا ليهاجم الظلمة، فضوء الفجر خادر جميل، كمذاق كوب الشاي العراقي حين يشتد البرد ويصبح قارصا عندها يكون للشاي الأحمر الذي تزيده فحمات التنور لذة شغفه ونكهته ودواعيه.



هكذا تعودت فاطمة أن تستيقظ كل صباح شتوي، فتغادر فراشها الدافئ ولتصافح يديها الناعمتين انهمار ماء اللولب، فتباشر بإعداد الشاي والفطور، لوالديها وأخوها علي الذي تكبره بخمسة عشر عاما فهو لا يزال ابن الثانية عشر وهي قد بلغت السبعة والعشرين.

قلصت فاطمة من انفتاح عينها لتركزها في الضوء الخافت على ملصق صغير في الجدار وتعمقت النظر في كلمات كتبتها منذ عشر سنوات وكأنها تقرأها لأول مرة (أمنيات العواصف)، قصة أعجبتها تقرأها منذ أيام الثانوية العامة حين قرأتها في مكتبة المدرسة وهي تتحدث عن قصة أحدى بنات الريف اللبناني انطلقت فاطمة مندفعة وهي تقول: آه كم حرمتني الحياة أجمل شيء عندي إنها القراءة، كم هي جميلة وعذبة ورائعة، كم أتوق لأن تعود وترجع عجلة الأيام إلى الوراء.

ثم قطعت حديث خاطرها لتخاطب نفسها:
دعني لأن أقوم لأصلي وبعدها أعد فطور والديي وأخي علي حتى لا يتأخر عن العمل والمدرسة فقد ذهبت أيام المدرسة، وها أنا اليوم حبيسة البيت بأشغاله الشاقة وقيوده الصعبة.. وليس من خروج إلا مع الشاشة التلفزيون التي أصبحت الوسيلة الوحيدة، آه على أيام الدراسة والخروج، آه على أيام العز، أيام كانت الوالدة بصحة وعافيه، وكم كان جميلا ورائعا من يدها كوب الشاي ووجبة الفطور!! وكلمات الحنية والوداد وهي تودعني وتستقبلني وأنا ذاهبة أو راجعة من المدرسة.



تهيأت فاطمة للصلاة وبعد انتهائها واجهت ربها بالدعاء:
رباه كم هي جميلة الحياة التي خلقتها، كم هي واسعة آفاقها أبعادها وعديدة قنواتها، رباه هب لي عزما راسخا يعينني، فأنا لست مختلفة عن شقيقتي بنت الجنوب، لقد طوت الأيام بعمري كما طوت عمر ميساء قد ألبستني إعياء والدتي ومرضها ثوب المسئولية الثقيل.

فها أنا منذ أربع سنين لا أعرف شيئا عن الدنيا إلا البيت ومشاغله واحتياجاته، ولم يصبح لي رغبة في شيء سوى خدمة والدي ووالدتي وأخي، كم أنا مشتاقة لإعادة قراءه قصة العواصف..

هل أستطيع أن أقطع المساحات وأطوي السنين لأقف مقارنة بين وضعي اليوم وبين وضع ميساء بنت الجنوب اللبناني الصامد الذي وقفت عند حياتها منذ عشر سنوات في قصة في كتاب مصفر في ركن من أركان مدرستنا التي لا تزال تعاني هي الأخرى من لباسها القديم وحلتها الباهتة وكأنها تحاكي مأساة إهمالها دونما أحد يلتفت إليها!! 

أمنيتي أن أزور الجنوب اللبناني الذي سمعنا عن صموده وشاهدنا شيئا من نضالات شبابه وجهاد أبنائه في قبال المستعمر الصهيوني الغاصب، إن سجن الخيام أصبح معلم مشرفا من معالم الصمود لأهل لبنان وليت الزمن يمنحني فرصة زيارته، ولكن كيف لي هذا!!

أتمنى أن أرى من هم على شاكلة ميساء من بنات الجنوب كي أحدثهن وأريدهن أن يطوين معي سنوات العناء، سنوات الاحتلال، ويتحدثن عن خواطر المستقبل عن أمنيات العواصف فأن أريد أن أسمع ميساء وهناء وعلياء وفرح وكيف يجتمعن ثانية عند أم أحمد في غرفتها الريفية وكيف يتكلمن عن الأجداد والأمجاد وبطولات الأهل ضد الفرنسيين.

أمنيتي أن يختزل الزمن سطور العناء عند ميساء ليوقفني على وجهها الصبوح الجميل وهل أخذ منه الزمان كما أخذ مني.

آه يا أم أحمد.

هل ستستطيع خالتي أن تحكي حكاياتكِ!!
أن تحكي من الأجداد كيف كانوا؟
وأين هم الآن؟
وأين نحن الآن منهم؟



لقد كنت بنت سبعة عشر ربيعا وكانت الذاكرة مفعمة بالأمنيات والطموحات وكل أمنيتي أن أكون كأمي الكادحة في بيت الزوجية وأن أحضى بأبن الحلال، لكني اليوم حبيسة الدار، لا أمل لي في الخلاص وقد شارفت على الانتهاء من السبعة والعشرين عاما..

آه ما أقسى الدهر عندما يغرز مخالبه؟!

وما أقساه عندما يراكم مصائبه، وما أفضعه وهو يأخذ شيئا فشيء من ملامح الحسناوات وكأنه ينتقم منهن فكم كان يضرب المثل بجمالي، وأدبي، وكم أسمع كلمات الإطراء وكان الأمل مخضلا لأن الخيارات قائمة إلي أن هزمني الدهر بمرض أمي فقد تغير الزمن، نعم لقد تغير.

لله درك يا ميساء.. كيف كنت وكيف تغيرت، وتغير مجرى حياتك بغياب أمك أم البطل الصامد نبيل الذي قضى في سجن الخيام وقضت عليه أمك حسرة وتضجرا وتفجعا، كم هي جميلة ذكرى ميساء كما هو جميل هذا الجدار الكئيب الذي أثار خاطري بأمنيات العواصف التي احتضنها خاطري، كما احتضنت صفحات القصة عندما كنت أشاركها العناء في ألم بها في كلمات كنت أحررها هكذا تكون البنت العربية الأصيلة!!

فهل أصبح أسيرة الجدار والذكرى؟؟



يا رب، إن أملي في عونك كبير ورجائي واسع ممتد عظيم وأراك رباه ممسكا بيدي وزمام أمري لتخرجني من ما ينوء به كاهلي من أعصارات الزمن وعواصف الدهر، فأنت رباه معيني وأنت رباه منقذي، وأمنيتي هي أمنية العواصف التي أخرجت بها ميساء من ضجرها بعد طول انتظار حينما تقدم لها العريس هاشم ابن قريتها عرفانا وتقديرا لصبرها وعطائها، هب لي رباه من لدنك سلطانا نصيرا يخرجني مما أنا فيه إنك على كل شيء قدير…

أجعلني ربي أعيش العمر مع شريك الحياة … لا مع الجدار …

شارك برأيك: