بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
جرت العادة أن يحتفل العالم العربي في كل عام بـ(يوم الأم أو عيد الأم) في 21 مارس/آذار، وهو أول أيام فصل الربيع؛ ليكون رمزًا للتفتّح والصّفاء والمشاعر الجميلة. وهو احتفال ظهر حديثًا في مطلع القرن العشرين، يُعبِّر فيه الأبناء عن حُبّهم تجاه أمهاتهم، من خلال باقات وَردٍ أو هدايا أو بطاقات معايدة…ألخ.
تكريم الوالدَين: واجب ومسؤوليَّة
لقد حرص الإسلام على إشاعة كلّ معاني الجمال الّتي يمثّلها الوالدان؛ لذا لم يجعل تكريمهما اختياريًّا ولا موسميًّا أو محدَّدًا بيوم، بل اعتبر هذا التّكريم واجبًا ومسؤوليّة لا بدّ من أن يؤدّيه الأبناء ما دام فيهم رمق من حياة، فعيد الأم ليس مجرد إهدائها هدية أو ذهبًا أو مجوهرات أو إعداد كعكة وغير ذلك، أو عرض الصَّور في حسابات التواصل الاجتماعي مع الوالدين، عيد الأم هو تجديد العهد وعقد العزم على تجسيد السلوك العملي للأبناء والبنات لِبِر وطاعة واحترام الوالدين وبالأخص الأم.
لذا لا بأس – شرعا – بالاحتفال بعيد الأم وتخصيص يوم لها، إن كان لا ينافي الضوابط والأحكام الشرعية ، فكل يوم يُستحبّ فيه تكريم الأم والبِر بها.
إن المُتتبع للنصوص الشرعية يلاحظ أن الدِّين الحنيف أولى اهتمامًا خاصًا للعلاقات الأسرية وطبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء، فقد عَنى القرآن الكريم أيّ عناية ببيان هذه الحقيقة، وإبراز ما لها من دور بالغ وقيمة مُثلَى في تكوين الصرح الأخلاقي في هيكل الشريعة الإسلامية المقدسة، وأجلى أوجه تلك الحقيقة أن الله تبارك وتعالى قرن أمر توحيده ببر الوالدين والإحسان إليهما في موارد قرآنية عدة، كقوله تعالى:«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (لقمان: 14)، وذلك واضح في دلالته على كبير حقهما وحرمتهما في نظر الشارع الأقدس، ومنها قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» الإسراء: 23.
وقد ربط النبي صلى الله عليه وآله بين رضا الله تعالى ورضا الوالدَين، حتى يعطي للمسألة بُعدَها العبادي.
فعن أبي أمامة أن رجلًا قال: يا رسول اللّه، ما حق الوالدَين على ولدهما؟
قال: “هُمَا جَنَّتُك ونَارُك”.
ميزان الحكمة للريشهري ج4 ص 3674
حيث تضمّن هذا الحديث الشريف دلالة عميقة، وإشارة دقيقة؛ فإن السؤال كان عن حق الوالدَين على ولدهما، ولكن الجواب لم يأتِ بذكر شيء من ذلك الحق المسؤول عنه، وإنما أجاب النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وآله سائلَه بأن شأن الولد مع والدَيه إمَّا طريق يسلك به إلى الجَنّة، وذلك إذا بَرَّ بهما وأحسن إليهما، وإمَّا باب يُفضِي به إلى النَّار، إذا عقّهما ولم يَقُم بما يلزمه لهما، وهذا الجواب أبلغ في الأداء، وأجلى في البيان.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: “بِرُّ الوالدين من أكرم الطباع”.
إنما كان بر الوالدين من أكرم طباع المرء؛ لما فيه من الوفاء لهما، وشكرهما على معروفهما، وجزاء إحسانهما بمثله، ولا ريب أن تلك الخصال من مكارم أخلاق الإنسان، بل من أكرمها.
للأم الحق الأكبر
حظيت الأم بنصيب وافر من اهتمام المشرِّع الحكيم، وظفرت بعناية خاصة بتأكيده حقها، وإفرادها بالذِّكْر، سواء كان ذلك في نطاق القرآن الكريم، أو ضمن إطار السُّنّة المعصومة المطهرة، “وَوَجْه الفضل ظاهر لكثرة مشقتها وزيادة تعبها”. (بحار الأنوار للمجلسي:74/49).
ويكفي لذلك بيانًا قوله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا…» (الأحقاف/15)، كما يوضّح هذه الحقيقة الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق، وهو ما يمكن أن يكون شرحا لمضمون هذه الآية الكريمة، حيث تطرّق فيه – عليه السلام – لذكر ما تعانيه الأم من أجل ولدها من مشقة، وما تمنحه إيّاه من إيثار: “أمّا حق أمِّك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحدًا، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحدًا، وَوَقَتك بجميع جوارحها، ولم تبالِ أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتَعرَى وتكسوك، وتضحى وتُظلك، وتهجر النوم لأجلك، وَوَقَتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون اللّه وتوفيقه”.
بر الوالدين بعد موتهما
إن بر الولد بوالدَيه لا يقتصر على حياتهما بل ينبغي أن يواظب على صلتهما بعد موتهما، والدعاء والاستغفار لهما وإيصال ما ينفعهما من عمل صالح بعد انتقالهما عن دار الدنيا.
- قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله: “سيد الأبرار يوم القيامة رجل برّ والديه بعد موتهما”.
- وقال الإمام محمد الباقر عليه السلام: “إن العبد ليكون بارًا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دَينَهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه اللّه عزّ وجل عاقًّا، وإنه ليكون عاقًّا لهما في حياتهما غير بارّ بهما، فإذا ماتا قضَى دَينَهما واستغفر لهما فيَكتبه اللّه عزّ وجل بارًّا”.
- وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “ما يمنع الرجل منكم أن يَبرَّ والدَيه حَيَّين أو مَيِّتين: يصلي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك، فيزيده اللّه عزّ وجل بِبِرِّه وصِلاته خيراً كثيراً”.
تربية الأبناء
محبة الآباء لأبنائهم أمر تقتضيه الفطرة الإنسانية، بل الغريزة الحيوانية، وهم أمانة وضعها الله بين يدَيهم، وهم مسؤولون عنها، فإن أحسنوا إليهم بحسن التربية كانت المثوبة، وإن أساؤوا تربيتهم استوجبوا العقوبة، وعلى الآباء- في هذا الإطار – أن يوجّهوا أولادهم وجهة الخير، ويعوّدوهم العادات الحسنة، حتى ينشأ الطفل خيّرا ينفع نفسه وينفع أمّته، قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوْا أنفُسَكُم وأهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» (التحريم: 06) ووقاية النفس والأهل من النار تكون بالتعليم والتربية الصالحة، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة التي هي من أكبر واجبات الأبوين والتي يفرضها الشرع ونظام الاجتماع عليهما، كما أن إهمالهم والتفريط في العناية بهم من أكبر الجنايات التي يمقتها الشرع، وتعاقب عليها القوانين المدنية.
والمقصود بالتربية: إعداد الطفل بدنيا وعقليا وروحيا، حتى يكون عضوا نافعا لنفسه ولأمَّته.
والمقصود بالإعداد البدني: تهيئة الطفل ليكون سليم الجسم، قوي البُنية قادرا على مواجهة الصعاب التي تعترضه، بعيدا عن الأمراض والعِلل التي تشل حركته وتعطل نشاطه.
ومعنى إعداده عقليا: أن يُهيَّأ كي يكون سليم التفكير، قادرا على النظر والتأمل، يستطيع أن يفهم البيئة التي تحيط به، ويحسن الحكم على الأشياء، ويمكنه أن ينتفع بتجاربه وتجارب الآخرين.
وأما إعداده روحيا: فمعناه أن يكون جياش العواطف، ينبسط للخير ويفرح به، ويحرص عليه، وينقبض عن الشر ويضيق به ويفر منه.
فإذا أدى الوالدان ما عليهما من الواجبات كافأهما الأبناء بما لهم من الحقوق، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: “رحم اللهُ والدًا أعان ولده على بِرِّه”، أي لم يَحمِله على العقوق بسوء عمله وتربيته.
ورُوي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: “لعن الله والدَين حَمَلا ولدَيهما على عقوقهما”
وعنه عليه السلام: “يلزم الآباء من العقوق لأولادهم ما يلزم الأولاد من العقوق لآبائهم”.
إشكال وشبهة
رُوي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: “لا تَقسِروا أولادَكم على أخلاقكم فإنهم خُلِقوا لزمن غير زمنكم”.
لا تقسروا: أي لا تجبروا.
أما الأخلاق في أصل اللغة فهي السجايا والطبائع والعادات سيئة كانت أو حسنة، وأمَّا في العرف العام فيطلقونها على المروءات والآداب.
فهل يعقل ينهى الإمامُ عليه السلام الآباءَ عن قسر أبنائهم على ما تخلّقوا به أخلاق؟!
الذي يتضح من معنى قوله عليه السلام أنه عنى السجايا والعادات التي هي مناط الخير والشر معا، لا الأخلاق التي هي مناط الخير فقط كالمروءات والآداب العامة، فإن هذه من أخص ما يجب أن يقسر الآباء عليه الأبناء، فإذا كنتُ متصفا بالكرم والوفاء والتسامح والإباء وغيرها من السجايا النبيلة، فالإمام أسمى من أن ينهاني عن أن أروض ولدي عليها وألزمه بها.
إن الصلة الوثيقة بين القديم والجديد إنما تقوم على الوراثة، وخير للآباء القدامى أن يورّثوا أبناءهم الجدد خير ما عندهم من أخلاق، ولعل تربيتهم أبناءهم على التعلق بها هي إحدى الفضائل التي يتقوم بها الدين المنزل من السماء على الأرض.
إذن، فمعنى قول الإمام عليه السلام: “لا تقسروا أبناءكم على أخلاقكم” إنما هو العادات والسجايا والتقاليد التي تلائم عصر الآباء ولا تتسق للأبناء من وراء الرّقي المفروض بدافع التطور الطبيعي في الإنسان، مثل: كيفية اللباس وطريقة الأكل باليدين أو بالملاعق وكيفية النوم وهيئة الجلوس، ولعل أمير المؤمنين عليه السلام يشير من خلال هذا التوجيه إلى ضرورة التطور في الحياة، إذ لو جمد الأبناء على سيرة الآباء لكانوا إياهم خَلْقا وخُلُقا وهذا مغاير لسُنَن الطبيعة في التطور المفروض طبعا على كل كائن.
ختاما،،،
هنيئاً لكلّ ولد بارّ بوالدَيه في حياتهما وبعد موتهما.
هنيئاً لكلّ ولد لا يخرج من بيته إلاّ بعد أن يطمئنّ إلى أنّ أمّه راضية عنه، وتدعو له بالخير.
هنيئاً لكلّ ولد يخشع أمامها ويحرص على تقبيل يديها، ويخفض جناح الذّلّ لها، ولا يفارق لسانه ما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ، وَارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً، وَاجْزِهِمَا بِالإِحْسَانِ إِحْسَاناً، وَبِالسَّيِّئَاتِ غُفْرَاناً”.
نعم هذا هو بر الوالدين، وهكذا يمكن أن نجسّد عيد الأم في أوضح تجلياته.
والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات
المصادر:
- شرح رسالة الحقوق للسيد حسن القبانجي.
- علي والأسس التربوية للسيد حسن القبانجي.
- شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للشيخ جبار جاسم مكاوي.