إن الإسلام عقيدة شاملة ومنهج رباني ينظم جميع جوانب حياة الإنسان، فقد قدم الإسلام رؤية واضحة للكون والإنسان والحياة، وقدم نظاماً تشريعياً كاملاً لتنظيم كافة شؤون الحياة الإنسانية، وقدم نظاماً قيمياً لصياغة النفس البشرية من شأنه أن يرفع الإنسان إلى أعلى مراتب التفوق والتميز والكمال، وقدم ثوابت لضبط مواقف الإنسان وحراكه في ساحة العمل في كافة الميادين، ليمنع الاهتزاز والتقهقر والانقلاب فيها، فلم يترك الإسلام جزئية إلا قال كلمته فيها وحدد للإنسان موقفه منها.
وهنا أرغب في ذكر بعض الملاحظات المهمة:
الملاحظة الأولى:
أن الإسلام بهذه الشمولية والاحاطة والنوعية لا بد أن يكون سماوياً، فمن المستحيل عقلاً أن يأتي إنسان مهما بلغ من العبقرية والثقافة بمثل هذا الدين العظيم الشامل الكامل..
والسؤال: كيف استطاع إنسان أمي في جزيرة العرب في ذلك الزمان أن يأتي بهذا الدين؟
الجواب: إنه من عند الله تعالى.
الملاحظة الثانية:
أن الإسلام بهذه الشمولية والاحاطة والنوعية لابد أن يترك تأثيره الخاص على معتنقيه، ويصنع منهم شخصيات متميزة ومستقلة وفاعلة وبناءة بعيداً عن الاهتزاز والتماهي والذوبان في الآخر والسلبية تجاه ما يجري في الساحة من أحداث وحركات، وإنما يراقب ما يحدث ويحلله ويحاكمه، ثم يحدد موقفه بالرفض أو التأييد ويتخذ الخطوات اللازمة على هدي الإسلام.
وهذا هو الأساس الذي ينبغي عليه فهم الشخصية الإسلامية وسلوكها ومواقفها لا على غير ذلك أو بعيداً عنه.
الملاحظة الثالثة:
حسب الرؤية الإسلامية المؤكدة، فإن التمسك بصناعة الشخصية الإسلامية على ضوء العقيدة والأحكام والقيم الإسلامية، شرط لقبول الشخص عند الله تعالى ونجاته يوم القيامة، وشرط لنمو ورقي الشخصية بصورة صحيحة ومتوازنة، وشرط لأي نهضة مجتمعية في أي زمان ومكان، لأن الشخصية الإسلامية الحقيقية هي وحدها التي تقوم بصياغة الواقع الخارجي صياغة إسلامية صحيحة ومتميزة.
ونستخلص من تلك الملاحظات النتائج التالية:
النتيجة الأولى:
خطأ كل من يحاول أن يفهم عقلية المسلم وسلوكه ومواقفه ويوجهها بعيداً عن نظرة المسلم لسماوية الإسلام وشموليته، ومن يفعل ذلك فلن يستطيع أن يفهم المسلم ولن يستطيع التفاهم معه والتأثير فيه.
النتيجة الثانية:
أن الإنسان المسلم الحقيقي لا يسمح بأن يصنع على غير الإسلام، ولا يسمح بأن يمتلكه الواقع ويستبد به، وإنما هو الذي يمتلك الواقع ويشكله وفق رؤيته الدينية الإسلامية المقدسة.
قول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 143).
فالوسطية: تدل على الصناعة الإسلامية المستقيمة والدقيقة للشخصية والمجتمع.
والشهادة: تدل على التالي:
1- التميز والاستقلالية وعدم الذوبان في الآخر.
2- المراقبة والتحليل والنقد البناء للآخر.
3- عدم الاستهانة بالآخر أو تجاهله أو الاستعلاء عليه.
4- تحمل المسؤولية تجاه الآخر.
5- الفاعلية والتأثير الايجابي في الحياة، بإقامة الحق والعدل ووضع الموازين الصحيحة والقيم الرفيعة، وأن تفعل طاقات الإنسان ومواهبه التي منحه الله تعالى إياها، والدفع بالحياة إلى التقدم والتحضر وعدم إعاقة حركتها وتطورها.
وقد حفل التاريخ الإسلامي بالنماذج الراقية والعظيمة من الشخصيات التي صاغها الإسلام صياغة محكمة: نساءً ورجالاً، تلك الشخصيات التي تمتلك العلم والمعرفة، وتمتلك الروحية والأخلاق العالية، وتجاهد في سبيل رفع راية الحق وإقامة العدل، وتهتم بقضايا الأمة وهموم الناس، ولا تأخذها في الله لومة لائم.
ومن هذه النماذج العالية جداً التي تمثل الكمال الإنساني والقدوة الصالحة: فاطمة الزهراء عليها السلام، النموذج الأمثل والقدوة الحسنة الصالحة لكل المسلمين من الرجال والنساء في كل تفاصيل حياتها ونوعية عطائها، فهي القدوة الحسنة في العلم والعبادة والاهتمام بقضايا الناس وهمومهم وآمالهم وآلامهم العامة والخاصة واهتمامها بقضايا الرسالة وفي مواقفها الرسالية الجهادية العظيمة وفي بيتها مع أبيها وزوجها وأولادها.
ولكي نفهم المكانة العالية للزهراء عليها السلام، وننجح في تقديمها كقدوة صالحة للنساء المسلمات، لنمحوا عنهن الصور المزيفة والنماذج السيئة للمرأة، نحتاج إلى ذكر بعض التفاصيل، منها: توضيح البعد الخاص والبعد العامة في كيان المرأة والرجل…
للرجل والمرأة – أيها الأحبة – بعدان رئيسيان:
– البعد المشترك: وهو البعد الإنساني.
– البعد الخاص: وهو الذكورة والأنوثة.
ويفترض أن يظهر الرجل وتظهر المرأة إلى الحياة العامة ويمارس كل منهما دوره العام فيها بالبعد الإنساني المشترك. أما البعد الخاص فله دائرته الخاصة التي يفترض ألا يتعداها، لكي تستقيم الحياة وتتوازن وتطهر من العهر والفساد..
وأمامنا في المجتمع ثلاث توجهات للتعامل مع المرأة..
التوجه الأول:
يخلط بين البعدين المشترك والخاص، ولا يرتب أي أثر للتمييز بينهما، وبالتالي فهو لا يدعو لحجاب المرأة، ولا يمانع من الاختلاط بين الجنسين، ولا يقيم وزناً للعفة، وقد ذهبت إحدى المتحدثات في المؤتمر الأخير للإيدز في تايلاند إلى القول: بأن الإيدز لا يتيح للمرأة الفرصة لممارسة الجنس خارج عش الزوجية، ووصفت ذلك بأنه وضع خاطيء وغير إنساني.
وهذا هو الطريق الذي فتحه الشيطان للإنسان، لكي يسلخه من إنسانيته ويضله السبيل، ويسعى الاستكبار العالمي وقوى الشر في العالم اليوم لترسيخه والجري عليه تحت عناوين خادعة، مثل: الحرية وحقوق المرأة وكسر جمود الماضي، ولم تحصل المرأة من وراء هذا الضجيج سوى الاستغلال البشع لأنوثتها، وقد رأينا في حياتنا المعاصرة – كما وجدنا في التاريخ – كيف تسخر الإثارة الجنسية بصور شتى وعلى أكثر من صعيد لكسب المزيد من الربح بدون أي حرج، ويصنف ذلك ضمن الدخل المشروع والنجاح في العمل، كما في القاعدة الرأسمالية: ” دعه يعمل، دعه يمر ” والأمر لا يقل سوءً في النظام الاشتراكي.
ولا شك أن هذا التوجه ينشر الفساد في الأرض ويخل بالتوازن في الحياة – كما هو ظاهر ونراه جميعاً بأم أعيننا..
التوجه الثاني:
يميز بين البعدين، ولكنه يغلب الخاص على العام، ويصور المرأة على أنها كائن ضعيف لا تستطيع حمل أعباء الحياة وإدارة شؤونها، أو ليس لها الحق في ذلك، أو لا يجب عليها، فهي أشبه بالأسير الذي يقضي عمره بالعبودية محروماً من حرية الإرادة والعمل.
والنتيجة: أن هذا الاتجاه يحبس المرأة في البيت، ويفرض قيوداً مشددة جداً وغير واقعية على العلاقة بين الرجل والمرأة، ويعطل دور المرأة في الحياة.
وفي رأيي بأن نظرة هذا الاتجاه إلى المرأة في بعض جوانبها، لا تختلف من حيث الجوهر عن نظرة ( سيجمند فرويد ) وإن اختلفت عنها من حيث الشكل ولبست لباس العفة والتقوى، وهي نظرة غير واقعية وتقوم على الشك والريبة في العلاقة بين الرجل والمرأة، وتؤدي إلى تشويه الصورة وتعطيل دور المرأة في الحياة والإخلال بالتوازن فيها.
والذي أفهمه شخصياً من أقوال جمهور من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين الملتزمين: أن الإسلام يساوي بين المرأة والرجل في القيمة الإنسانية، ويعطي المرأة تحت عنوان إنسانيتها دوراً في تحمل المسؤولية وبناء المجتمع وإدارة الحياة لا يقل عن دور الرجل في ذلك، وأن الإسلام لا يدعو لأن تنفصل المرأة عن الرجل في الحياة العملية، وليس ذلك من الحكم الشرعي الصحيح، وإنما هو من العادات والتقاليد التي جرى عليها الناس في بعض المجتمعات وألبسوها لباس العفة والتقوى. وقد نسفها الإسلام، فالنساء قد شاركت الرجال في الحياة العملية حين كان المسلمون يلتزمون في حياتهم بالإسلام الصحيح، ويتحلون بالصفاء الروحي والأخلاقي، ونفضوا عن أنفسهم غبار الجاهلية وأدرانها.
التوجه الثالث:
يميز بين البعدين ويعطي كل بعد حجمه ويضعه في مكانه، ففرض الحجاب على المرأة ومنعها من الإثارة الجنسية والبروز بأنوثتها في الحياة العامة لصيانتها من الفسق والتبذل والتهتك وإظهار الفساد، وأعطى قيمة عالية للعفة والحياء، ولم يسمح للمرأة بأن تدنس إنسانيتها، ولم يسمح للرجل بأن يقصر نظرته للمرأة وتعامله معها على أساس أنوثتها، ووضع أحكاماً واقعية لتنظيم العلاقة الخاصة والعامة بين الجنسين بعيدة عن التساهل والشك والتعقيد، وسمح للمرأة بأن تمارس دورها في الحياة بصورة طبيعية من خلال البعد الإنساني مثلها كمثل الرجل تماماً، وبذلك: سمح للحياة العامة بأن تتحرك بشكل طبيعي ومستقيم ومتوازن، وسمح بإشباع الحاجات الطبيعية والفطرية للإنسان، ومنع ظهور الفساد في الأرض.
والنتيجة: أن الهدف من الحجاب ليس فصل المرأة عن الحياة العملية وحبسها في البيت، فهي لا تحتاج غالباً للحجاب في داخل البيت، وإنما الحفاظ على عفتها وكرامتها وقيمها الإنسانية الرفيعة، وصيانتها من التهتك والابتذال، وإضفاء المزيد من الهيبة والوقار عليها، وإتاحة الفرصة لها لكي تتحمل المزيد من المشاركة والمسؤولية العامة في الحياة الاجتماعية بعيداً عن المضايقات والانشغال بأنوثتها.
والحجاب وفق هذه النظرة: صرخة في وجه كل عربيد يسعى لشغل المرأة بأنوثتها عن مسؤولياتها العامة، وإشاعة ثقافة التعري والعهر والفساد.
وهذه هي نظرة الإسلام الواقعية كما فهمها جمهور من الفقهاء والمفكرين المسلمين الملتزمين، والتي مثلتها الزهراء عليها السلام في أبها صورها وأكملها، فالزهراء هي عصارة القرآن، وقد جسدت الإسلام في شخصيتها بصورة حية متحركة فاعلة، وبلغت أعلى مراتب التفوق والتميز والكمال الإنساني، وجمعت في شخصيتها الكريمة كل معاني العظمة والجمال والشرف والفضيلة والسمو الإنساني الرفيع، لتعطي القدوة الصالحة وتضيء الطريق المظلم لكل امرأة ترغب في سلوك درب الهداية والاستقامة والمجد في الحياة.
إن الزهراء عليها السلام امرأة فريدة ومتميزة، وهي فخر النساء وسيدة نساء العالمين، وقد بلغت الدرجة العالية من القمة التي لم يبلغها إلا الطبقة الأولى من الأنبياء العظام عليهم السلام، وتفوقت عليهم جميعاً ما عدا والدها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم – وهذا فخر لجميع النساء في العالم – لأنها أطاعت الله في كل شيء، وجسدت قيم الرسالة ومباديء الدين، ومثلت التجلي الأعظم للإسلام، فكانت امرأة ملكوتية جسدت الهوية الإنسانية بكاملها، وقد وضعت أنوثتها تحت سيطرتها وصانتها من التلوث لأداء وظيفتها على أكمل وجه كما أراده الله تعالى لها في الدائرة الخاصة بها، ولم تبرزها في الشارع العام لتلوث بذلك كرامتها وتهين نفسها، وتحركت في الحياة العامة بإنسانيتها وقيم السماء العالية وأحكام الرب الحكيم، فكانت في البعد الخاص: رمزاً للعفة والطهارة، وفي البعد المشترك: رمزاً للقوة والصلابة في المواقف الرسالية والجهاد وتحمل المسؤولية على أعلى المستويات، وأصبحت بذلك حجة على كل امرأة ورجل، فكانت الصديقة الشهيدة – كما وصفها حفيدها الإمام الكاظم عليه السلام – وهذا الوصف يؤهلها لتحمل مسؤولية الشهادة على الناس، شأنها في ذلك شأن الأنبياء العظام عليهم السلام. ولسان حالها يخاطب كل النساء في العالم ويقول: أن المرأة كالرجل، بإمكانها إذا تربت في أحضان القرآن والرسالة، أن تتغلب على كل عوامل الضعف في النفس البشرية، وتفعل طاقاتها ومواهبها الإنسانية، لتكون من النماذج الشامخة كالأنبياء العظام عليهم السلام، وتكون قدوة صالحة لكل النساء والرجال في العالم على مدى التاريخ، كما ضرب الله تعالى في القرآن المجيد مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران عليهن السلام ( سورة التحريم: 11- 12 ).
أيها الأحبة الأعزاء: ونحن نستضيء بنور فاطمة عليها السلام في هذه الليلة المباركة في ذكرى مولدها الشريف، تستوقفنا بعض الصور للمرأة المسلمة لا تسر قلوب المؤمنين الصالحين، منها على سبيل المثال لا الحصر..
الصورة الأولى: انفصال الكثير من النساء المؤمنات عن الحياة العملية، وتخليهن عن تحمل مسؤولياتهن الرسالية في الدفاع عن الحق والعدل ونشر التعاليم والأحكام والقيم والمباديء الإلهية.
الصورة الثانية: تقصير بعض النساء المسلمات – لا سيما ذوات المناصب المتقدمة – في أمر الحجاب من أجل الظهور بمظهر التسامح وعدم التعصب، أو الظهور بمظهر الانفتاح والعصرية وعدم الانغلاق والتخلف، وغير ذلك من المؤثرات النفسية غير الواقعية الواقعات تحت تأثيرها.
الصورة الثالثة: تقصير بعض النساء المسلمات في أمر الحجاب بسبب الغفلة والإهمال، أو من أجل الإثارة والإغراء وكسب الإعجاب من الرجال بأنوثتهن ومظهرهن.
وهذه الصور الثلاث لا تعكس الصورة الصحيحة للمرأة المسلمة، وفيها دلالة على الضعف والتهاوي أمام الغير، والخروج عن دائرة الفكر الإسلامي الناصع والأحكام الشرعية الحنيفة والقيم السماوية الرفيعة في صياغة الشخصية الإسلامية، والتأثر بالنماذج المزيفة، والخضوع لحبائل الشيطان وخدعه، والسماح للغير – بغير وجه حق، وتحت عناوين خادعة، مثل: الحرية وحقوق المرأة وكسر قيود الماضي – بالتأثير السلبي في بناء شخصيتنا، ولذلك كله نتائجه السلبية الخطيرة التي يجب الحذر منها على روحية المرأة وأخلاقها وآخرتها، كما له تأثيراته السلبية الخطيرة على مجتمعها.
وفي الختام أيها الأحبة الأعزاء: إن الاحتفاء والتغني بالزهراء عليها السلام، هو احتفاء وطرب بذاتها الإنسانية وشخصيتها الرسالية، ويجدر بالمرأة المسلمة أن تتمعن في أبعاد شخصية الزهراء عليها السلام وترتبط بها روحياً، وتعيش معها في عقلها وعواطفها وطموحاتها وسلوكها ومواقفها الرسالية، وترفع عن نفسها حجاب الغفلة والجهل، وتنفض عن نفسها ما علق بها من شوائب وأدران الشخصيات الطارئة المزيفة، وتستلهم من كمال الزهراء عليها السلام العبر والدروس، وتقتدي بها في كل تفاصيل حياتها ونوعية عطائها المتميز في العلم والعبادة والعفة والجهاد وتحمل المسؤولية على أعلى المستويات وفي بيتها مع زوجها وأولادها وكافة أهلها، وتحذر من التيه واللامبالاة وأن تتقاذفها التيارات العلمانية والمستهترة يميناً وشمالاً، هذا هو الواجب عليها والذي نتوقعه وننتظره منها.
أكتفي – أيها الأحبة الأعزاء – بهذا المقدار، واستغفر الله الكريم لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.