يوسف مدن… وسيرة القرية

w27715أن يحملك الإحساس بأداء واجب التصدي إلى محاولة تحريف الذاكرة التاريخية لبلدك، على مغادرة مجال اشتغالك الفكري المعهود إلى مجال البحث التاريخي، فهذا يعد أبلغ مصداق على أن رسالة القلم والنشاط الفكري ليس ترفاً ذهنياً بقدر ما هو مسئولية أخلاقية وواجب وطني.

والحال أن قليلين في هذا الوقت من يجنّد قلمه وعلمه في نصرة الحقيقة في زمن المتاجرة بالضمائر والأقلام.

يوسف مدن واحد من رجال التعليم المشهود لهم بالفضل في المجال التربوي، عمل في مدارس وزارة التربية لأكثر من ثلاثة عقود، إلى أن شغل منصب مدير لإحدى المدارس، وبموازاة ذلك ظل مدن مشدوداً إلى عالم الثقافة والفكر، وبنى لنفسه شخصية فكرية رصينة استطاعت كتاباته في المجال التربوي والديني أن تعكسها، وتجسد إمكانيات بحثية رائعة. وقد أعد مجموعة دراسات في حقلين أساسيين هما حقل الدراسات التربوية المعاصرة، وحقل الأبحاث التربوية الإسلامية. وكانت باكورة إصداراته في العام 1995 عندما أصدر بحثه القيم «التربية الجنسية للأطفال والبالغين»، ثم ألحقها بكتابه الثاني «بناء الشخصية في خطاب الإمام المهدي» (2000) ثم «سيكولوجية الانتظار» (2002)، و «العلاج النفسي وتعديل السلوك الإنساني بطريقة الأضداد» (2005)، و «التعلم والتعليم في النظرية التربوية الإسلامية» (2006). كما نشر عدداً من الدراسات والأبحاث في المناهج والتقويم في المجلات التربوية.

IMG_5622مدن من مواليد قرية بربورة المندثرة في 1954، وقد خصها ببحث تاريخي غير مسبوق يعد من الأبحاث الأصيلة، وقد نشرته صحيفة «الوسط» ضمن سلسة كتاب للجميع في 2009. وهدف منه الباحث التعريف بقرية «بربورة» المندثرة، التي كانت قائمة قبل أقل من قرن فخربت مع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وكانت تلتصق بالنويدرات في خاصرتها اليمنى، وكان خرابها حديث عهد، لكنها تركت وراءها تراثاً ثقافياً وتاريخاً ومنجزات مطوية في بطون الكتب والمصادر الثقافية الأخرى.

 

ويعد كتاب «بربورة» بمثابة نقطة تحول مهمة في مسار اهتمامات مدن العلمية، فهو أول إصداراته في حقل الدراسات التاريخية، وقد أملت عليه حملات التزييف التي يقودها البعض مدفوعاً ببواعث طائفية، ولوج هذا الحقل، والاضطلاع بهذه المهمة في تأكيد الوجود التاريخي لواحدة من أبرز القرى المندثرة، وهي حقيقة تزعج البعض.

ولقد تصدى بعض الباحثين البحرينيين إلى محاولة رصد وتوثيق هذا التاريخ المغيّب، لعل أبرزهم الملا محمد علي الناصري (ت 1999) الذي اهتم بهذا المجال؛ والشيخ بشار العالي الذي عكف على دراسة القرى المندثرة وحصر 37 قرية في كتاب من المقدّر أن يطبع قريباً؛ وجاسم حسين آل عباس صاحب مدونة «سنوات الجريش»؛ كما كتب الشيخ محمد عيسى المكباس عن المدارس العلمية في البحرين وأحصى 12 مدرسة علمية وفقاً للوثائق والمدونات التاريخية القديمة المتاحة.

لم تكن القرية البحرينية بمنأى عن المخاطر والأنواء السياسية، يقول عباس فروغي في «جزر البحرين»: «تعرضت البحرين للغزو العماني (اليعربي) بقيادة سيف بن سلطان ابن الإمام سلطان وهرب كثير من شيعة البحرين للقطيف وسواحل فارس». ويضيف أن «البحرين تعرضت للخراب حتى قيل إنه كان بها 360 قرية ومدينة لم يبقَ منها بعد ذلك الغزو إلا 90 قرية مهدّمة».

ويقول المؤرخ الشيخ محمد علي آل عصفور (ت 1945): «قال بعض مشايخنا كان عدد قرى البحرين في الزمان السابق بعدد أيام السنة»، إلى أن يقول: «والقرى المعمورة الآن أزيد من مايتين». وبينما تشكك مي الخليفة في «الأسطورة والتاريخ الموازي» في صحة وجود هذا العدد من القرى، وتشير إلى أن العدد 360 يتكرّر ذكره «في التراث الشعبي الشيعي إلا أن ذلك لا يستند إلى حقائق تاريخية». ولا يستقيم هذا الرأي الظنّي مع ما نعرفه من تاريخ البحرين من اضطراب سياسي وسم تاريخ البلاد لفترات طويلة.

بالنسبة للباحث مدن، لم يكن كتاب «بربورة» في 2009 أول دراسة له في الحقل التاريخي فحسب؛ بل كان المحطة التي أسلمته إلى حقل جديد سيقدم فيه دراسات غير مسبوقة، فراح نشاطه المحمود يتسارع، فكتب دراسة عن شخصية «الشيخ علي بن عبدالله البربوري: حياته وآثاره» في 2010، وألحقها بدراسة بعنوان «فضل البحرين في الحديث النبوي»، ثم دراسة موسعة في تسعة فصول بعنوان «الاحتلال العماني في دراسات بحرينية معاصرة»، و «تاريخ الفكر التربوي عند علماء البحرين» و «تاريخ التشيع في البحرين» على ضوء المصادر المختلفة.

إلى ذلك، احتلت سيرة القرية البحرينية صدارة اهتماماته، فعكف على دراسة عددٍ من القرى البحرينية، ومن القرى التي شملتها دراساته قرى العكر، عسكر، فاران (قرية القرية)، بوري، والمنامة، وهو يفترض أن أهل المنامة في جذرهم التاريخي هم من أهل القرى نزحوا إليها في فترات تاريخية متعاقبة ولدوافع مختلفة.

ويشير مدن إلى أن أبرز الإشارات التي أتاحت لنا معرفة عددٍ من القرى البائدة والمندثرة ما كان يستخدمه كتاب التراجم لعلماء بحرينيين من ألفاظ كالألقاب الدالة على انتماءات العلماء ونسبهم الوطني والعلمي، فاللقب «البحراني» شائع في هذه المصادر بلا استثناء، ولتحديد أكثر دقة يلحق به لقب واضح دال على القرية مثل «البربوري، الغريفي، الفاراني، الدونجي، الهلتي، الرويسي»، وغيرها من أسماء قرى بحرينية اندثرت. فتساعد هذه الألقاب الجامعة بين مقر «السكن في قرية محددة» وبين اللقب على تحديد هوية العالم من جهة، وعلى معرفة قرى مندثرة لم تعد الآن قائمة وغير موجودة إلاَّ من إشاعة ألقاب العلماء التي تنسبهم إلى قراهم الأصيلة، فيقال الشيخ محمد الفاراني، والشيخ ناصر البربوري، والشيخ محمد بن الحسن بن رجب الرويسي، والشيخ عبدالله الغريفي، والشيخ محمود المعني، فهذه ألقاب مأخوذة من أسماء قرى مندثرة، وألحقت بلقب «البحراني» لتحديد هوية العالم بدقة واضحة.

ومؤخراً تم تشكيل لجنة أهلية لكتابة تاريخ قرية النويدرات، يعتبر مدن أحد أبرز أعضائها، إلى جانب عبدعلي محمد حسن، ومنصور سرحان وآخرين، في الوقت الذي يشهد فيه مجال توثيق تاريخ القرية انتعاشاً ملحوظاً في الآونة الأخيرة يعكس يقظة البحرينيين لضرورة توثيق تاريخهم لقطع الطريق أمام تزييف المزيفين وترهات ذوي الأطماع.

 

وسام السبع – صحيفة الوسط البحرينية

شارك برأيك: