قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
{ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} آمنا بالله صدق الله العلى العظيم.
هاتين الآيتين الشريفتين المباركتين، وهما الآيتين رقم (193 – 194) من (سورة الأعراف) تتناولان قضية النبوة وبعض الحقائق المتعلقة بها، و الآثار المترتبة عليها. وهي من الحقائق التي يتوصل إليها أولي الألباب من خلال تفكرهم وتبصرهم في الآيات الكونية والأنفسية، والبحث فيها استمرار إلى البحث في الأسبوعين الماضيين، وقد أشرت إلى هذه القضية بإجمال في الأسبوع قبل الماضي، وسوف أفصل البحث فيها في هذا الأسبوع، مستعيناً بالله اللطيف الخبير.
قول الله تعالى على لسان أولي الألباب:
{ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا}
هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، تصور وقوف أولي الألباب أمام الله جل جلاله، ليشهدوه على إيمانهم بالنبوة، انطلاقا من وعيهم بحاجة الإنسان إلى المرشد والهادي إلى تفاصيل الطريق الله جل جلاله. فقد أدركوا بفطرتهم السليمة وعقولهم النيرة، على ضوء هدفية الخلق، بأن الإنسان لم يخلق عبثاً، وأدركوا بناءً عليه، ضرورة سير الإنسان في طريق التكامل إلى الله جل جلاله، وأنه ليس في وسع الإنسان وليس في قدرته، أن يعرف تفاصيل هذا الطريق والمنهج الذي يجب عليه أن يسلكه في طريقه التكاملي إلى الله جل جلاله من تلقاء نفسه، مما يقتضي بعث الأنبياء ثم الأوصياء، لأن الحاجة إلى هذه الهداية، وكذلك الحاجة إلى القيادة التنفيذية الربانية، التي تطبق الدين الصحيح وتدافع عنه وتحميه من التحريف والتبديل، وكذلك الحاجة إلى القدوة الحسنة التي تقوم بوظيفة الإرشاد والتوجيه والتربية الشاملة: العلمية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية… الخ، هي حاجة مستمرة لا انقطاع لها إلى يوم القيامة.
وسوف ابحث في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة عدة نقاط، وهي كالتالي:
النقطة الأولى: ابتداء نداءهم بلفظ: {ربنا}
وله عدة دلالات رئيسية، أذكر منها:
- الدلالة الأولى: عرض لأيمانهم بين يدي الرب العظيم، وإظهار كمال التضرع والصدق والخشوع والابتهال إلى الله جل جلاله.
- الدلالة الثانية: صدور مقولتهم عن رغبة شديدة، وعزم أكيد على العمل بنشاط فيما يقتضيه إيمانهم.
- الدلالة الثالثة: صلة ما بعد اللفظ من غفران الذنب وتكفير السيئات بالكمال الإنساني، ويدل على ذلك أيضاً قولهم: {وتوفنا مع الأبرار} كما سيتضح في مكانه.
النقطة الثانية: قول الله تعالى على لسانهم (إننا سمعنا منادياً)
المنادي: هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والتنوين في اللفظ يدل على التفخيم، أي منادياً عظيم الشأن. وتقول نادى محمد علياً: أي دعاه بصوت مرتفع.
ولهذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة عدة دلالات، أذكر منها التالي:
- الدلالة الأولى: كمال اعتناء المنادي بشأن الدعوة، والمبالغة في الحرص على إيصالها إلى كافة الناس بوضوح تام، والتأكد من السماع ووصول الرسالة بتفاصيلها الصحيحة.
- الدلالة الثانية: الإخلاص في حمل أمانة التبليغ، والجد في القيام بالمهمة، وهذه من الصفات التي يتصف بها أولوا الألباب في المهام التي تسند إليهم – كما أوضحت سابقاً.
- الدلالة الثالثة: الحرص على إيصال الرسالة بنفسه، وعدم الاعتماد على غيره في التبليغ.وهنا قصة مهمة أرى من المفيد ذكرها، وهي:
في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة الهجرية، أنزل الله سبحانه وتعالى الآيات الأولى من سورة براءة، وبعث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر ليشرف على الحج في ذلك العام وحمله مسؤولية تبليغ آيات براءة إلى الناس، ثم نزل الوحي على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يأمره بأن يرسل علياً عليه السلام مكان أبي بكر ليبلغ بآيات براءة، وقال له الوحي: {لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك}.فأرسل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام وأمره أن يأخذ الآيات من أبي بكر ويؤديها بنفسه، فخرج علي عليه السلام ولحق بأبي بكر رضي الله عنه وهو بذي الحليفة، وهو الميقات الذي يعرف اليوم بمسجد الشجرة، فأخذ منه الآيات ورجع أبو بكر إلى المدينة، وذهب إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم خائفاً أن يكون قد نزل فيه شيء من القرآن يغضب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله أنزل في شيء؟فقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل مني.
وفي رواية: “لا يؤديها إلا أنا أو رجل مني”.
وفي رواية ثالثة “لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي”.
وفي رواية رابعة “لا يذهب بها إلا أنا أو رجل مني وأنا منه”.ومضى علي بن أبي طالب عليه السلام إلى مكة، وفي اليوم العاشر من ذي الحجة، قرأ على الناس الآيات الأولى من سورة براءة، ونادى في الناس: أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوف في البيت عريان، ولا تدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فعهده إلى مدته.
وفي الحقيقة: فإن مضمون: “لا يؤديها إلا أنا أو رجل مني” أو ما في معناه، هو عينه المضمون الذي يؤديه حديث الثقلين المتواتر في مدرسة الخلفاء وفي مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وقد روي حديث تبليغ آيات سورة براءة في كتب المدرستين أيضاً.
- الدلالة الرابعة: حضور صورة المنادي بصفاته الحقيقة عند أولي الألباب، وإيمانهم الواعي بصدق رسالته على أساس تلك الصفات وعلى أساس مضمون الرسالة التي يدعوا إلها.
النقطة الثالثة: قول الله تعالى على لسانهم في توضيح موضوع دعوة المنادي:
{ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم}
هذا القول يشير إلى موضوع النداء، أو القضية التي يدعو إليها المنادي، وهي الإيمان بالتوحيد {أن آمنوا بربكم}.
ويلاحظ في المقام الانتقال من العام (ينادي للإيمان – عموم الإيمان) إلى الخاص {أن آمنوا بربكم}، ولهذا الانتقال عدة دلالات أذكر منها التالي:
- الدلالة الأولى: الإشارة إلى الصلة بين الإيمان بالرب والحصول على الكمال الإنساني وتحقيق غاية الوجود، وهي من المسائل المهمة جداً في تفكير أولي الألباب، كما أوضحت كثيراً فيما سبق من البحث.
- الدلالة الثانية: الإشارة إلى وجوب الطاعة، لأنها من شؤون الخضوع إلى التدبير الربو بي الحكيم، والحصول على الكمال وتحقيق غاية الوجود.
- الدلالة الثالثة: الإشارة إلى عظمة الموضوع المتعلق بالإيمان.
النقطة الرابعة: قول الله تعالى على لسانهم {فآمنا}
يشير هذا اللفظ في الآية الشريفة المباركة إلى الاستجابة السريعة من أولي الألباب إلى النداء، والتصديق بالرسالة والكتاب المنزل من عند الله سبحانه وتعالى على حبيبه ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإيمان بكل التفاصيل التي جاء بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وجاء بها الكتاب المنزل من عند الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن أولي الألباب، كانوا قد توصلوا من خلال النظر والتفكر في الآيات الكونية والأنفسية، إلى ضرورة السير إلى الله سبحانه وتعالى، والحاجة الضرورية إلى الهادي والمرشد لمعرفة التفاصيل في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، فكانوا يتربصون وينتظرون من يدعوهم إلى الله جل جلاله، فلما جاءهم وعرفوا صدقه من خلال ما يتمتع به من صفات الكمال، ومن خلال مضمون الرسالة الذي يتناسب مع الحقائق التي توصلوا إليها من خلال تفكرهم في الآيات الكونية والأنفسية، آمنوا به وصدقوه ونصروه وعزروه كما أمرهم الله جل جلاله بذلك، وكما تحكم به الفطرة السليمة والعقول النيرة.
ولهذا اللفظ المبارك عدة دلالات مهمة، أذكر منها التالي:
- الدلالة الأولى: الإيمان اليقيني الذي لا يتسرب إليه الشك لدى أولي اللباب بالرسالة والكتاب وكل ما جاء عنهما.
- الدلالة الثانية: الانتقال من دائرة أو مساحة العقل والتفكير المستقل، إلى دائرة أو مساحة السمع والطاعة الواعية لمن يوجب العقل طاعته المطلقة على الإنسان. ولم يجمدوا على دائرة العقل، ولم يصبح العقل لديهم حجاباً يحجبهم عن النقل والنبوة، وعن الحق والحقيقة.
- الدلالة الثالثة: مدى ما يعيشه أولوا الألباب من الإخلاص والحراك في البحث عن الحقيقة، والتفتيش عن الطرق الصحيحة المتعددة إليها، وتمسكهم بأقرب وأفضل الطرق إلى الحقيقة، ومنها التصديق بالأنبياء والأوصياء. كما يدل على إيمانهم العظيم بالحوار.
- الدلالة الرابعة: مدى التعقل الواسع الشامل العميق لدى أولي الألباب، ومدى التواضع لديهم والخضوع للحقيقة مطلقاً، ومدى انفتاح العقل والقلب والضمير والوجدان لديهم، على طلب الحقيقة والالتزام المطلق بها إذا وجدوها، وعدم الغرور بالعقل ولا بغيره، وعدم وجود الأنانية أو الحساسية بينهم وبين الحقيقة ومن يدعوا إليها، على أساس ديني أو عرقي أو نفسي أو مادي، كما فعل اليهود حينما رفضوا الحقيقة، لأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس من اليهود، وكما فعل بعض المشركين حينما رفضوا الحقيقة، لأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس من الأغنياء. وفي ذلك آيات كثيرة جداً.
قول الله تعالى على لسانهم: {ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا}
هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة والتي بعدها، تشير إلى بعض أهم الآثار المترتبة على الإيمان بالنبوة.
الأثر الأول: غفران الذنوب وتكفير السيئات.
وسوف أبحث في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة عدة نقاط كالتالي:
النقطة الأولى: تكرار النداء بلفظ {ربنا}، وله نفس الدلالات التي أوضحتها قبل قليل في بحث الفقرة السابقة تقريباً، ولا حاجة إلى التكرار.
النقطة الثانية: الفرق بين الذنوب والسيئات.
الذنوب: تطلق على المعاصي الكبيرة.
السيئات: تطلق على المعاصي الصغيرة.
قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما} (النساء: 31).
الخلاصة: أن أولي الألباب يسألون الله جل جلاله، أن يعفوا عنهم بشأن المعاصي الكبيرة {الذنوب}، وأن يستر على معاصيهم الصغيرة {السيئات} ويغطيها وكأنه لا وجود لها أبداً في كتاب أعمالهم. وهذا مما تدل عليه الآية (31) من (سورة النساء) التي ذكرناها قبل قليل في توضيح الفرق بين الذنوب والسيئات.
النقطة الثالثة: دلالات هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، ولها عدة دلالات، أذكر منها التالي:
- الدلالة الأولى: وجود الفاء في لفظ {فأغفر} يدل على ترتيب المغفرة أو الدعاء بها على الإيمان. بمعنى: لا مغفرة بدون إيمان، وأن وجود الإيمان يدفع الإنسان للدعاء بالمغفرة والحصول عليها، وهذه مسألة في غاية الأهمية في معرفة الإيمان والآثار المترتبة عليه.قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48 و116).
- الدلالة الثانية: الإشارة إلى الصدق والإخلاص لدى أولي الألباب في الطاعة والسير إلى الله جل جلاله، وفي نفس الوقت خوفهم من الأخطار المحدقة بهم، والعوائق التي يمكن أن تقطع عليهم طريقهم إلى الله جل جلاله، مثل الشهوات والهوى والشيطان، وقصور العقل عن إدراك بعض المسائل التفصيلية، التي أعطي المؤمنون حق الاجتهاد فيها مع الحرص على طاعة الأنبياء والأوصياء واقتفاء أثرهم، ثم التحديات الخارجية التي يثيرها أعداء الله والإنسانية في وجوه المؤمنين الصادقين في إيمانهم ومواقفهم، فينتج عن ذلك احتمال، أن تزل لهم قدم أثناء سيرهم إلى الله ذي الجلال والإكرام، وهذا شيء يؤرقهم ويقلق نفوسهم العاشقة لرب العزة والكرم والجلال.فأولي الألباب لديهم الإصرار والعزم الأكيد على الطاعة والسير إلى الله جل جلاله بخطى ثابتة، ولكنهم يخافون من المخاطر ويطلبون العون من الله جل جلاله في الدنيا، والعفو والستر في الآخرة.
- الدلالة الثالثة: أن سلوك طريق الأبرار السامي، يتطلب العمل بالأحكام، والحذر الشديد من الذنوب والسيئات، والاستغفار الدائم عن التقصير والخطأ والنسيان، والاستغفار من أجل الشكر لرب العزة والكرم والجلال والتقرب إليه.ومثلما يقال: (حسنات الأبرار سيئات الصديقين).
وكان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة) من غير ذنب كما تعلمون.
وسوف يتضح الموضوع أكثر بعد قليل في بحث الفقرة الخاصة بالأبرار.
- الدلالة الرابعة: أن أولي الألباب لفرط صدقهم وإخلاصهم وحرصهم على السير المستمر والتقدم في معارج الكمال، لا ينظرون إلى حسناتهم وأعمالهم الإيجابية، وإنما ينظرون أكثر إلى سيئاتهم وسلبياتهم وتقصيرهم وإهمالهم، ويحاسبون أنفسهم عليها. وهذا بمثابة الشرط لاستمرار التقدم في طريق كل كمال منشود، أو في طريق كل سيرة تكاملية للإنسان.
- الدلالة الخامسة: أن أولي الألباب يخوضون معركة مستمرة شاملة لا هوادة فيها ضد عوامل الشر في داخل أنفسهم وفي خارجها (الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس ضد الشهوات والهوى والشيطان والقصور، والجهاد الأصغر وهو جهاد أعداء الحق والعدل والخير والسلام في الخارج). ولا يعقل أن يخوض الإنسان الجهاد الأكبر وينتصر فيه، ويترك الجهاد الأصغر أو ينهزم فيه. بل لا يمكن تصور الفصل بينهما.
- الدلالة السادسة: نجد في قول أولي الألباب دلالة على الاحتماء بالأيمان المجمل في مسائل العقيدة المقدسة الغراء، من احتمال الوقوع في الخطأ في بعض التفاصيل، فيما أعطي فيه المؤمنون حق الاجتهاد.والاحتماء بالإيمان والعقيدة الصحيحة من احتمال الوقوع في المعصية نتيجة الضعف أمام المغريات والتحديات (أعدا أعدائك نفسك التي بين جنبتيك)، لأن وجود الإيمان يؤهل الإنسان المؤمن للحصول على المغفرة يوم القيامة.
والاحتماء بترك الكبائر من احتمال الوقوع في الصغائر، لأن ترك الكبائر يترتب عليه غفران الصغائر، كما أوضحت قبل قليل.
وفي كل الأحوال: فإن سلوك طريق الأبرار يقتضي المداومة على العمل، والحذر من الذنوب، والمداومة على الاستغفار.
النقطة الرابعة: ما هو مصدر حصول أولوا الألباب على كل هذه التفاصيل المعرفية في العقيدة والأخلاق؟
هل هو التفكر في الآيات الكونية والأنفسية، أم أن هذه المساحة أو الدائرة توقفت تماماً وأنتقل أولوا الألباب إلى دائرة السمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
الجواب: سوف أبحث هذه المسألة بالتفصيل الذي يتسع له المقام في نهاية المطاف مع هذه الآيات الشريفة المباركة، وأشير هنا إلى جانب واحد فقط من جوانب البحث، وهو التسلسل الذهني المنطقي للمسائل، والسلسة الذهبية التي تربط الإيمان بالعمل في ضوء ذلك التسلسل.
لقد آمن أولوا الألباب بالنبوة وصدقوا بما جاء به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله جل جلاله عن قناعة عقلية محضة، وقد حذرهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله جل جلاله، من الموت على الكفر والموت على الذنوب والسيئات بدون توبة نصوحة صادقة، وحذرهم من غضب الله جل جلاله ومن النار، ورغبهم في الإيمان والطاعة والحصول على الرحمة والفوز بالجنة العالية، وأعلاها جنة الأبرار، فاستجابوا لهذه الدعوة الكريمة استجابة صادقة، وجدوا في العمل بمقتضاها، ومن مقتضاها: العمل بالأحكام، والتوبة عن الذنوب، والمداومة على الاستغفار، وسوف نحصل على تفاصيل أكثر في الموضوع في مستقبل البحث.
قول الله تعالى على لسانهم: {وتوفنا مع الأبرار}
الأثر الثاني للإيمان بالنبوة: الوفاة مع الأبرار.
الأبرار: جمع بار، وهم المتوسعون في البر.
البر: اسم جامع لكل معاني الخير والفضل والإحسان والرحمة والصدق والطاعة والمحبة والصلاح.
الوفاة: الموت.
في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، نجد أن أولي الألباب يسألون الله ربهم ذي الجلال والإكرام، أن يتوفاهم مع الأبرار الذين هم خيرة عباد الله الصالحين، وفي مقدمتهم: الأنبياء والأوصياء والشهداء والصديقين. وهذا الطلب يأتي بعد أن أعلن أولوا الألباب عن إيمانهم أمام الله جل جلاله بالنبوة، وعزمهم الأكيد على الطاعة، ولكنهم يطمحون في الحصول على أعلى الدرجات والقرب من الله العزيز الجبار ذي الجلال والإكرام.
ولهذا السؤال عدة دلالات، أذكر منها التالي:
الدلالة الأولى: تمييز أولي الألباب الأبرار عن غيرهم من المؤمنين، وطموح أولي الألباب بأن يكونوا في زمرة الأبرار يسلكون طريقهم ويصحبونهم في الدنيا، ويحشرون معهم ويكونون في جوارهم في الآخرة.
الدلالة الثانية: محبة أولي الألباب إلى لقاء الله، وعدم كراهية الموت أو الخوف منه، لأن الموت هو السبيل إلى لقاء المحبوب والقرب منه، ومن أحب لقاء الله سبحانه وتعالى أحب الله جل جلاله لقاءه.
قال الله تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (الجمعة: 6 – 8).
وفي الحديث: قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (الموت ريحانة كل مؤمن).
وفي حديث آخر: (تحفة المؤمن الموت).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الموت غنيمة).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الموت كفارة لكل مسلم).
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (ما أنفع الموت لمن أشعر الإيمان والتقوى قلبه).
وقال عليه السلام: (في الموت راحة السعداء).
الدلالة الثالثة: حرص أولي الألباب على ملازمة الأبرار في شؤون حياتهم وعدم مفارقتهم في شيء. ومن هذه الملازمة: سلوك طريق الشهادة والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الله جل جلاله.
قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (أشرف الموت قتل الشهادة).
وقال زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: (ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها عبد إلا الله عز وجل).
وللشهادة عدة فوائد: وهي من الأمور التي يحرص عليها أولوا الألباب، ومنها الفوائد التالية:
- الفائدة الأولى: الراحة عند الموت: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (لألف ضربة بالسيف – في سبيل الله – أيسر من موتة على فراش).
- الفائدة الثانية: غفران الذنوب وتكفير السيئات والعفو عند الحساب: وهي من الأمور التي سال أولوا الألباب الله جل جلاله أن يتفضل بها عليهم.قال الرسول الأعظم صلى الله عليه ولآله وسلم: (الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين).
وقال الإمام الباقر عليه السلام: (كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلا الدين فإنه لا كفارة له إلا أداؤه أو يقضى (عن) صاحبه أو يعفوا الذي له الحق).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (من قتل في سبيل الله لم يعرفه الله شيئاً من سيئاته).
- الفائدة الثالثة: الشهيد لا يفتن في قبره: قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (من لقي العدو فصبر حتى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره).وسئل صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). - الفائدة الرابعة: الحشر مع الأبرار في أعلى الدرجات في الجنة: وهذا هو طموحهم الذي يعملون من أجله، وسألوا الله جل جلاله أن يتفضل به عليهم.قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} (آل عمران: 169- 171).
وفي سبيل مزيد من الوضوح في الفكرة، أعطي صورة مختصرة يتسع لها المقام، عن مسارات أو طرق البرزخ والمصير يوم القيامة.
طرق البرزخ: يسلك أهل البرزخ ثلاث طرق، وهي كالتالي:
- الطريق الأول: طريق عليين أو السماوات السبع، وهي جنة البرزخ – كما أوضحته في بحث معنى السماوات السبع – ويسلكه من محض الإيمان محضاً.قال الله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين. وما أدراك ما عليون. كتاب مرقوم. يشهده المقربون. إن الأبرار لفي نعيم. يسقون من رحيق مختوم. ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ومزاجه من تسنيم. عيناً يشرب بها المقربون} (المطففين: 18 – 26)
تأمل قوله تعالى: (كتاب مرقوم).
- الطريق الثاني: طريق سجين أو الأرضين السبع، وهي نار البرزخ – كما أوضحته في بحث معنى الأرضين السبع – ويسلكه من محض الكفر محضاً.قال الله تعالى: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين. وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم. ويل يومئذ للمكذبين. الذين يكذبون بيوم الدين. وما يكذب به إلا كل معتد أثيم. إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين. كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. ثم إنهم لصالوا الجحيم. ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} (المطففين: 7 -17).
تأمل قوله تعالى: (كتاب مرقوم).
والخلاصة: أن كتاب الفجار وكتاب الأبرار كتاب مرقوم، وعليه أستحق الأبرار دخول جنة البرزخ، وأستحق الفجار دخول جنة البرزخ.
- الطريق الثالث: طريق المرجون لأمر الله، وهو الطريق بين سجين وعليين، أو بين السماوات السبع والأرضين السبع، ويسلكه المستضعفون والذين يخلطون العمل الصالح بالعمل الطالح من المؤمنين.قال الله تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم} (التوبة: 106).
قال الإمام الصادق عليه السلام: (إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، فأما ما سوى هذين فإنه يلهى عنه).
وفي ذلك أحاديث كثيرة. راجع كتاب (حق اليقين ج2 للسيد عبد الله شبر. الفصل الرابع. عالم البرزخ).
المصير يوم القيامة: أما عن المصير يوم القيامة:
فإن الذين محضوا الإيمان محضاً: فإنهم لا يحاسبون يوم القيامة، ويدخلون الجنة بغير حساب، لأنهم محضوا الإيمان محضاً، وقد عبر القرآن عن كتابهم بأنه كتاب مرقوم – أي مختوم، وهم يومئذ درجات.
وأما الذين محضوا الكفر محضاً: فإنهم يدخلون النار بغير حساب، لأنهم محضوا الكفر محضاً، وقد عبر القرآن الكريم عن كتابهم بأنه كتاب مرقوم أيضاً، وهم يومئذ درجات أيضاً.
وأما المرجون لأمر الله: فإنهم يحاسبون يوم القيامة، وينقسمون إلى قسمين: وهما:
- القسم الأول: أهل اليمين: وهم الذين ترجح كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم ويدخلهم الله جل جلاله الجنة.
- القسم الثاني: أهل الشمال: وهم الذين ترجح كفة سيئاتهم على كفة حسناتهم. ومنهم من يحصل على الشفاعة، ومنهم من يزحزحه الله جل جلاله عن النار ويدخله الجنة برحمته وكرمه. ومنهم من وصل إلى درجة عظيمة من الخبث بحيث لا تطهر خبثه إلا النار، وهم من المخزيين، فيدخلهم الله جل جلاله إلى النار حتى تطهرهم من الخبث، وتحصل لهم اللياقة بدخول الجنة الطيبة، بعد مدة قد تطول وقد تقصر، فيخرجهم الله جل جلاله من النار ويدخلهم الجنة برحمته وكرمه. ولا يخلد في النار إلا كل من أشتمل الخبث على كيانه ووجوده بحيث لا تنفع في تطهيره حتى نار جهنم، وهم أصحاب سجين، فيبقى فيها خالداً أبداً – كما فصلت في بحث موضوع الشفاعة.
ملاحظة: هذا تصور عام وهناك بعض التفاصيل التي تحتاج إلى المزيد من البحث والتعمق، منها: دخول بعض أصحاب المعاصي الكبيرة إلى نار البرزخ لتطهيرهم، وخروج بعضهم منها بعد حين، ومكوث بعضهم فيها إلى يوم القيامة، ثم يحاسبون ويدخل بعضهم في أصحاب اليمين، ويدخل بعضهم الآخر في أصحاب الشمال، وينطبق عليهم نفس الحكم الذي بينته قبل قليل، ولا يخلد في النار إلا أهل سجين، وأصحاب الذنوب الكبيرة من المؤمنين ليسوا من أهل سجين.
والخلاصة: أن أولي الألباب، آمنوا بالتوحيد والنبوة والمعاد، وأطاعوا الله ورسوله وأولي الأمر، وهم يطمحون ويعملون في سبيل الوصول إلى أعلى الدرجات في القرب من الله جل جلاله، وليس مجرد دخول الجنة التي هي عاقبة كل بريء حتى البلهاء والمجانين والأطفال!!
إن أولي الألباب يريدون أن يحصلوا من خلال نعمة العقل التي أنعم الله جل جلاله بها عليهم، أن يحصلوا على أعلى الدرجات في الجنة والقرب من الله جل جلاله، وليس مجرد دخول الجنة التي يدخلها كل بريء، حتى الأطفال والبلهاء والمجانين. لأنهم إذا قنعوا بمجرد دخول الجنة، فما قيمة العقل الذي هو أعظم نعمة أنعم الله جل جلاله بها عليهم؟!
إنه من ظلم الإنسان العاقل لنفسه، أن يقتنع بمجرد دخول الجنة، وفي وسعه أن يحصل على أعلى الدرجات في الجنة، ويكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قول الله تعالى على لسانهم: {ربنا وآتنا ما وعتنا على رسلك}
الأثر الثالث للإيمان بالنبوة: الحصول على ما وعد الله جل جلاله به المؤمنين على ألسنة الرسل عليهم السلام.
وعده الأمر: مناه به.
الوعيد: التهديد.
لقد آمن أولوا الألباب بالتوحيد، وصدقوا الرسل وأطاعوا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ونهضوا بالتكاليف الشرعية التي أمرهم بها، وقد وعدهم الأنبياء بأمر الله جل جلاله إن هم فعلوا ذلك وعداً حسناً تطيب به أنفسهم، وهم لذلك يتوجهون إلى الله جل جلاله ويسألونه برحمته وكرمه، أن يأتيهم ما وعدهم على ألسنة الرسل عليهم السلام، بعد أن أوفوا بالتزاماتهم المطلوبة منهم.
ونجد في هذه الآية الشريفة المباركة، نقلة واضحة في قول أولي الألباب من دائرة العقل إلى دائرة النقل، وهذا يدل على أنهم على الفطرة فيما يحكم فيه بالفطرة، وهم على السمع والطاعة فيما يحكم فيه بالسمع والطاعة. وسوف نبحث هذه المسألة في نهاية المطاف كما وعدت قبل قليل.
أما الآن فسوف أبحث عدة نقاط في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، وهي كالتالي:
النقطة الأولى: وجود لفظ {ربنا} في صدر كلامهم:
وله عدة دلالات، منها الدلالات التالية:
- الدلالة الأولى: عظيم التصديق بالرسل، وعظيم الثقة بالوعد الذي جاء على ألسنتهم.
- الدلالة الثانية: هذه هي المرة الخامسة التي ورد فيها لفظ {ربنا} في كلام أولي الألباب، وقد جاء في الحديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من كان له إلى الله حاجة، فليقل خمس مرات ربنا يعطى حاجته).وما جاء على لسان أولي الألباب في هذه الآيات الشريفة المباركة، هو مصداق لقول الرسول الأعظم صلى الله عليه ولآله وسلم، ولهذا قال الله تعالى بعد قولهم أو دعائهم: {فاستجاب لهم ربهم}.
النقطة الثانية: معنى قولهم: {وآتنا ما وعدتنا على رسلك}:
له معنيين رئيسيين، وهما كالتالي:
- المعنى الأول: آتنا ما وعدتنا من الثواب على إيماننا وتصديقنا برسلك عليهم السلام وأتباعنا لهم.
- المعنى الثاني: آتنا ما وعدتنا من الثواب الذي جاء على ألسنة رسلك عليهم السلام.
والمعنى الثاني هو الأكثر بروزاً في أقوال المفسرين.
النقطة الثالثة: ما هي الأشياء التي وعد بها الرسل عليهم السلام عباد الله المؤمنين؟
الجواب: لقد وعد الرسل عليهم السلام عباد الله المؤمنين عدة أمور منها الأمور التالية:
- الأمر الأول: تثبيت المؤمنين الصادقين على دينهم وزيادة هدايتهم.
قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبيلنا وإن الله لمع المحسنين} (العنكبوت: 69). - الأمر الثاني: المغفرة والرحمة عند التوبة من المعصية.
- الأمر الثالث: الجنة للمطيعين، والدرجات العالية للأبرار، هم ومن صلح من أزواجهم وأبنائهم خالدين فبها أبداً.
- الأمر الرابع: النصر على الأعداء في قضاياهم العادلة.
النقطة الرابعة: جاء لفظ {رسلك} في صياغة الجمع، بينما المنادي واحد وهو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذه الصياغة عدة دلالات، أذكر منها الدلالات التالية:
- الدلالة الأولى: التأكيد على وحدة دعوة الرسل عليهم السلام، وأن دعوته صلى الله عليه وآله وسلم منطوية على دعوة كل الرسل عليهم السلام، وأن تصديقه صلى الله عليه وآله هو تصديق لهم جميعاً عليهم السلام.كيف لا يكون كذلك وقد أخذ الله جل جلاله عليهم الميثاق بالإيمان به؟!
قال الله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (آل عمران: 81).
وبالتالي: فإن إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم هو إنكار لهم جميعاً، ولهذا الموضوع صلة وثيقة بهدفية الوجود وغاية الخلق، إلا أن المقام لا يتسع للتوضيح، فقد طال بنا البحث ولا يسمح المقام بالمزيد.
- الدلالة الثانية: أن الموعود على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم من الثواب هو الموعود على ألسنة كل الرسل عليهم السلام.
- الدلالة الثالثة: كمال الثقة بإنجاز الموعود به، وذلك لكثرة الشهود المقطوع بصدقهم جميعاً، فضلا عن الدليل العقلي الدال على أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وهو الأساس الذي تقوم عليه الثقة.
قول الله تعالى على لسانهم: {ولا تخزنا يوم القيامة}
الأثر الرابع على الإيمان بالنبوة: عدم الخزي يوم القيامة
الخزي: سبق توضيح معناه.
ومعنى الآية: لا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة، يوم تنكشف السرائر وتهتك الحجب.
ولهذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة عدة دلالات أذكر منها الدلالات التالية:
الدلالة الأولى: استحضار أولي الألباب الخزي وكثرة تذكرهم له، لشدة حساسية قلوبهم ورقتها، ولشدة حساسيتهم بإنسانيتهم وكرامتهم الإنسانية، و لشدة حيائهم من الله جل جلاله وخوفهم من الفضيحة والعار والبعد عن الله جل جلاله في يوم القيامة. فأولي الألباب شديدي الحرص على القرب من الله جل جلاله في حياتهم الدنيا، فكيف يقدرون على فراقه في الآخرة.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في دعاء كميل: (فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي، صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلهي صبرت على حر نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك، أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك).
الدلالة الثانية: أن خوفهم من الخزي أشد من خوفهم من النار، وقد سبق توضيح ذلك فيما سبق.
الدلالة الثالثة: التذكير بوعد الله جل جلاله في قوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} (التحريم: 8).
وفي ذلك تأكيد على أنهم ممن آمنوا معه.
الدلالة الرابعة: الخوف من سوء العاقبة بتغير الحال، أي أنهم غير آمنين من مكر الله جل جلاله وتغير الحال، بسبب تدخل الهوى وغلبة الشيطان، وهذا في حد ذاته من كمال العلم والإيمان. فهم يسألون الله جل جلاله أن يثبتهم على الإيمان، وينصرهم على أنفسهم الأمارة بالسوء وعلى الهوى والشيطان، ويحسن لهم العاقبة برحمته وكرمه، وأن يحشرهم في زمرة الأبرار.
قول الله تعالى على لسانهم:{إنك لا تخلف الميعاد}.
الخلف: عدم إنجاز الوعد.
الميعاد: وقت الوعد، أو موضوعه، أو مكانه.
الله جل جلاله وعدهم على ألسنة الصدق من رسله، وهم يسألونه ما وعدهم به، وهم يعلمون علم اليقين بأنه لا يخلف الميعاد، وبالتالي: فإن كلامهم لا يدل على أنهم يخافون من أن يخلف الله سبحانه وتعالى وعده الذي وعدهم به، وإنما يدل على كمال التضرع إلى الله جل جلاله، والمبالغة في التعبد والابتهال والخشوع إليه جل جلاله.
والخلاصة: أنهم يقفون بين الخوف والرجاء، تلك الحالة الإيمانية القوائية التي ظهرت في خوفهم من الخزي وأوضحته في الفقرة السابقة.
وفي نهاية المطاف مع هذه الآية الشريفة المباركة، تبقى بعض المسائل الختامية المهمة، التي تكتنز بالدروس والعبر للمؤمنين، نذكر منها المسائل التالية:
- المسألة الأولى: أن تفكير أولي الألباب تفكير عرفاني لا يقف عند الظواهر، وإنما يغوص في الأعماق لمعرفة الأسرار، ولهذا فهم شديدي التعبد لله الواحد القهار.
- المسألة الثانية: أن أولي الألباب لديهم إحساس شديد بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم في جميع الأمور التي تتعلق بالدين والدنيا، بل كل الأمور عندهم هي لله الواحد القهار. ومن يريد أن يكون في زمرتهم، عليه أن يتصف بصفاتهم: من العلم واليقين والطاعة والخشوع والمناجاة والتضرع إلى الله جل جلاله والجهاد في سبيله والتضحية من أجل الحق والعدل ومقاومة الظلم والظالمين وأهل البدع والباطل ولا تأخذهم في الله لومة لائم.
- المسألة الثالثة: وتتعلق بمصادر العلم بالتفاصيل التي ذكرها القرآن على لسان أولي الألباب.
هل مصدرها التفكر في الآيات الكونية والأنفسية؟
أم أن مصدر بعضها السمع عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟الجواب: لا شك أن مصدر أمهات المسائل في التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد يوم القيامة، لا شك أن مصدر ذلك هو التفكر في الآيات الكونية والأنفسية، ولا يصح الاعتماد فيها على السمع. أما التفاصيل الدقيقة فإنه من الجائز أن يصل إليها أولوا الألباب بفطرتهم، لأن الدين كله موافق للفطرة.قال الله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم: 30)
ويقول بعض العلماء بأن ذلك يشمل الأخلاق والأحكام أيضاً.
إلا أن معرفة كل التفاصيل للدين الكامل لا تتحصل إلا للإنسان الكامل، حتى الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لم يحصلوا على كل التفاصيل الدقيقة للدين الكامل، ولم يحصل عليها إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطيبون الطاهرون، مما يقتضي بالضرورة رجوع كافة الناس إلى الأنبياء والأوصياء مهما قطعوا في مشوار الكمال والمعرفة. وهذا ما عرفه أولوا الألباب بفطرتهم السليمة وعقولهم النيرة، فهم على الفطرة فيما يحكم فيه بالفطرة، وهم على السمع فيما يحكم فيه بالسمع، ولم يتجاوزا حدودهم، ولم يصبهم الغرور بما عندهم من العلم، بل كانت لديهم قناعة بتعدد طرق المعرفة، ولم يغلقوا أي طريق، ولم يتكبروا على طلب العلم من مصادره المتعددة، ولم يغلقوا أبواب الحوار في وجه أحد، ومن أراد أن يكون في زمرتهم فعليه أن يقتدي بهم في ذلك كله.
بقيت مسألة أرى من المفيد طرحها: وهي أن أبواب المعرفة قد تنفتح على قلب العبد المؤمن، في لحظة واحدة من لحظات التوجه والانقطاع الصادق إلى الله جل حلاله، كما حدث لسحرة فرعون بعد أن رأوا آية ربهم على يد موسى وهارون. {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى.قال بل ألوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى. وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى. فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى. قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيدكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} (طه: 65 – 71).
وكان خوف موسى من تأثر الناس بما جاء به السحرة، وليس خوفاً من أن يهزمه السحرة، فطمأنه الله جل جلاله بالنصر من هذه الناحية أيضاً.
أنظر بماذا أجابوه وهم في اللحظة الأولى لأيمانهم: {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضي ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى. إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحي. ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} (طه: 72 – 76).
إنه لحقيق بنا أن نقول: {يا قابل السحرة اقبلنا}.