قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب}. صدق الله العلي العظيم.
هذه الآية الشريفة المباركة، وهي الآية رقم (195) من (سورة آل عمران) تتناول ثلاث مسائل رئيسية، وهي:
- المسألة الأولى: تساوي المرأة والرجل في القيمة الوجودية للإنسانية.
- المسألة الثانية: المسلك ألجهادي التضحوي المشرق لأولي الألباب.
- المسألة الثالثة: الثواب العظيم لأولي الألباب في عالم الآخرة.
والبحث في هذه الآية الشريفة المباركة، هو استمرار للبحث في الآيات الخمس السابقة عليها، والتي كانت موضوع بحثنا في الأسابيع الثلاثة الماضية، وقد أوضحت تلك الآيات طريق أولي الألباب في المعرفة، والحالة الإيمانية الصادقة التي يعيشونها في الحياة.
قول الله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم}
الاستجابة: بمعنى الإجابة بإعطاء السائل ما سأله. فقد سأل أولوا الألباب ربهم سبحانه وتعالى عدة مسائل، وهو استجاب لهم وأعطاهم ما سألوه.
وصيغة الماضي في لفظ (استجاب): تدل على تحقق الاستجابة.
وسوف أبحث في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة نقطتين أساسيتين، وهما كالتالي:
النقطة الأولى: الفاء في لفظ {فاستجاب}:
تدل على أن الاستجابة هي نتيجة لتوجه أولي الألباب بالدعاء إلى الله جل جلاله، أي قبولاً لدعائهم، وليس نتيجة لمجرد تفكرهم في الآيات الكونية والأنفسية. وهذا يدل على أن التفكر والإيمان يجب أن ينتج عنهما عمل وحركة تقدم إلى الله جل جلاله، لكي تكون لهما قيمة وأثر في حياة الإنسان ومصيره.
وسوف نعرف بعد قليل بأن العبرة في دعائهم ليست في الكلمات التي نطقوا بها، وإنما في الحالة الإيمانية الشعورية المتوهجة في قلوبهم وأنفسهم، تلك الحالة التي يصدر عنها الدعاء الصادق الخاشع الصافي المبتهل إلى الله جل جلاله.
والعبرة أيضاً في العمل الصالح، والمواقف الإيمانية الجهادية المبدئية القوية الصادقة، التي تسبق الدعاء، والتي تمثل الثمرة الواقعية الطيبة في حياة أولي الألباب.
تلك الأعمال والمواقف التي تغني إنسانية الإنسان وتنميها، كما تنتج عنها استقامة الحياة وتطورها وازدهارها وصلاح الناس والمجتمع والأمة على طريق الله النوراني الواضح.
وذلك كله هو أساس النجاح والفوز بالجنة والدرجات العالية والقرب من الله ذي الجلال والإكرام في يوم القيامة.
وبالتالي فنحن أمام مراحل أو خطوات يعرج إليها أولوا الألباب في دعائهم وابتهالهم إلى الله جل جلاله، وهي كالتالي:
- الخطوة الأولى: التفكر والتدبر في الآيات الكونية والأنفسية، وإجادة قراءتها، والتفاعل الإيجابي الصادق والمسئول مع إيحاءات الحق فيها.
- الخطوة الثانية: سلوك طريق العمل والتضحية والجهاد في سبيل الحق والعدل والخير، كترجمة صادقة واعية لقراءة الآيات الكونية والأنفسية.
- الخطوة الثالثة: التوجه إلى الله ربهم الواحد الأحد الصمد القاهر فوق عباده، التوجه إليه بالدعاء الواعي الخاشع، الصادر عن الحالة الشعورية التي تولدت عن القراءة الواعية المسئولة للآيات الكونية والأنفسية، وعن علمهم بالمصير الوجودي للإنسان في يوم القيامة، ولشعورهم بالحاجة إلى المعين الذي يقويهم ويثبتهم على طريق العمل والطاعة والتضحية والجهاد.
إن أولي الألباب لديهم خوف شديد من أن يضعف إيمانهم أما التحديات والمغريات، مغريات المال والمنصب والشهوات الحيوانية، ولديهم خوف أشد من أن تنقطع علاقتهم بالله ذي الجلال والإكرام بسبب بعض الخطايا، أو تضعف وتتقهقر، فيخسروا بذلك إنسانيتهم وكرامتهم، ويحرموا من نعيم القرب والجوار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً في جنة المقربين إلى الله ذي الجلال والإكرام في يوم القيامة.
إن الدعاء لدى أولي الألباب يصدر عن حالة إيمانية شعورية متوهجة، تكونت نتيجة تفاعل صادق مسئول مع رؤية علمية واقعية للكون والإنسان والحياة، ونتيجة وعي علمي واقعي بالمصير الوجودي للإنسان بعد الموت، وما يؤثر في سعادته وشقائه في يوم القيامة، ونتيجة تفاعل جهادي مسئول مع قضايا الحياة والمجتمع والناس، والشعور بالحاجة الماسة للمعين الذي يعينهم ويثبتهم في طريق الله ذي الجلال والإكرام، طريق ذات الشوكة.
- الخطوة الرابعة: تلقي الاستجابة من الرب الرحيم الكريم بسبب تلك الحالة الإيمانية التي كان عليها أولوا الألباب في حياتهم المشرقة بنور ربها، العامرة بالعمل والجهاد والتضحية في سبيل الله سبحانه تعالى.
النقطة الثانية: إضافة لفظ الرب إليهم في قوله تعالى {ربهم}:
وله دلالتين رئيسيتين، وهما كالتالي:
- الدلالة الأولى: غاية اللطف الإلهي، ومنتهي الرحمة الإلهية بأولي الألباب.
- الدلالة الثانية: غاية الاحترام والتقدير والتبجيل من الله الرحيم ذي الجلال والإكرام بعباده أولي الألباب. وسوف نتعرف في نهاية البحث على دلالة هذا الاحترام والتقدير والتبجيل من الله ذي الجلال والإكرام لأولي الألباب.
قول الله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى}
ضيع الشيء: فقده أو أهمله ولم يحرص عليه.
ولهذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة عدة دلالات مهمة، أذكر منها الدلالات التالية:
- الدلالة الأولى: أن الله جل جلاله يحفظ عمل العاملين ولا يفقده أو يهمله، ويجزي عليه أحسن الجزاء، ولا ينتقص منه شيئاً.
- الدلالة الثانية: المساواة بين الرجال والنساء في ميزان العمل والحساب والجزاء أو الثواب في يوم القيامة، وذلك لأن العمل الصالح يصدر عن الخصائص الإنسانية الواحدة أو المشتركة بين الرجال والنساء، والتي على أساسها يتكامل الإنسان ويصعد ويقترب إلى الله جل جلاله.
- الدلالة الثالثة: تقرير لكرامة المرأة وحقوقها، وأنها مساوية للرجل في القيمة الإنسانية الوجودية، وأن أولي الألباب والأبرار منهم النساء ومنهم الرجال، وقد يتفوق بعض الرجال على بعض النساء، وقد يتفوق بعض النساء على بعض الرجال، في التكمال الإنساني المعنوي، والسبق إلى الله جل جلاله، والحصول على أرفع الدرجات والنعيم المقيم في الجنة.
- الدلالة الرابعة: تقرير للقاعدة العادلة التي تقول: بالمساواة التامة في الأجر على العمل الواحد. وقد سبق القرآن الكريم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 23 ف 2) في تقرير هذا الحق الإنساني العظيم وتثبيته.
- الدلالة الخامسة: قيل في سبب نزول هذه الآية الشريفة المباركة: أن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأم المؤمنين رضي الله تعالى عليها، قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول: ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله جل جلاله هذه الآية الشريفة المباركة.
إلا أنه من الملاحظ في الآية الشريفة المباركة، أن الاستجابة إنما هي بسبب أن الله جل جلاله لا يضيع عمل العامل، وبالتالي فهي حالة مستمرة باقية ما بقي الدهر لكل الرجال ولكل النساء على حد سواء إلى يوم القيامة.
- الدلالة السادسة: في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، خطاب موجه من الله جل جلاله إلى أولي الألباب، وفي ذلك عناية بشأن الاستجابة، وتشريف للمخاطبين وهم أولي الألباب بشرف الخطاب من الله جل جلاله رب الأرباب، وتقدير وتفخيم وتبجيل لهم كما ذكرت قبل قليل، على الطريق الذي سلكوه في المعرفة والإيمان والعمل.
وبالتالي فإنا نلمس التبجيل والاحترام والتقدير لأولي الألباب من الله الرحيم ذي الجلال والإكرام، من خلال نسبة الرب إليهم: {ربهم}، ومن خلال مخاطبة الله جل جلاله إليهم: {إني لا أضيع عمل عامل منكم}، وأيضاً من خلال نسبة الثواب إلى الله جل جلاله، كما سيوضح في نهاية البحث.
وإذا كان الله جل جلاله قد شرفهم بخطابه لهم في الحياة الدنيا، فبالأولى أن يشرفهم بخطابه المباشر لهم في الآخرة، وهو أعظم نعيم في الآخرة – كما أوضحت في حديث سابق – وهو يدل على حصول أولي الألباب على أعلى الدرجات في جنة النعيم الطيبة في الآخرة.
- الدلالة السابعة: أن العماد في الاستجابة من الله جل جلاله لدعاء أولي الألباب، ليس هو مجرد الدعاء، وإنما هو الإيمان الموجود في القلب الذي يصدر عنه الدعاء، والأعمال الصالحة السابقة على الدعاء، كما أوضحت في بداية البحث.
وبالتالي فإن الوعد في الآية الشريفة المباركة بعدم تضييع العمل، ليس خاصاً بأولي الألباب، وإنما يعم كل العاملين من الرجال والنساء، ولكن كل حسب عمله – كما سيوضح بعد قليل.
قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة: 7- 8).
قول الله تعالى: {بعضكم من بعض}
هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، توضح العلة في تساوي الرجل والمرأة في الأجر عند الله يوم القيامة. ولها ثلاثة معاني رئيسية، وهي كالتالي:
المعنى الأول:
أن الرجل أبو المرأة، والمرأة أم الرجل في عملية التوالد الطبيعي للإنسان، وأن كلاهما يعود إلى أصل واحد: هو آدم وحواء عليهما السلام.
وفي الحديث الشريف: (النساء شقائق الرجال).
المعنى الثاني:
أن النساء والرجال من نفس إنسانية واحدة لا تختلف في خصائصها بين الذكر والأنثى، فهي نفس إنسانية واحدة، وأن الرجال والنساء متساوون في حقيقتهم الإنسانية وقيمتهم الوجودية التي يصدر عنها العمل.
قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الروم: 21).
وقد ثبت بالحس والتجربة: أن الآثار المعنوية التكاملية الموجودة في صنف الرجال موجودة في صنف النساء أيضاً من غير فرق بينهما.
أما عن الفروق العضوية وما يترتب عليها من مسئوليات فلا تعتبر أساساً للتفاضل بين الرجل والمرأة، وهي لا تغير في القيمة الإنسانية الوجودية للرجل والمرأة، ولا تغير من قيمة العمل عندهما.
وبالتالي نخلص إلى النتيجتين الرئيسيتين، وهما:
- النتيجة الأولى: أن الرجل والمرأة سواء في ميزان العمل وفي ميزان الحساب وفي ميزان الجزاء والثواب يوم القيامة – كما ذكرت قبل قليل.
- النتيجة الثانية: أن الكمالات المعنوية الميسور للرجال هي ميسورة بنفس الدرجة إلى النساء، وبالتالي فأبواب السعادة والتكامل الإنساني وإمكانية الحصول على أعلى الدرجات وبلوغ المقامات المعنوية الرفيعة مفتوحة في وجه الرجل والمرأة على حد سواء.
المعنى الثالث:
أن الرجال والنساء أتباع دين واحد، وهذا يمثل أساسا صحيحاً لوحدة الجزاء والثواب.
قال الله تعالى: {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} (غافر: 40).
وقال الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجز ينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل: 97).
قول الله تعالى: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا}
بعد أن ربط الله جل جلاله الجزاء بالإيمان وبالعمل في الفقرة السابقة، يبن في هذه الفقرة الأعمال التي يضاعف الله جل جلاله عليها الثواب والأجر للمؤمنين في يوم القيامة، وهي ترسم الصورة المشرقة لأولي الألباب، وهم يشقون طريقهم إلى الله ذي الجلال والإكرام في الحياة، وهو طريق الجهاد والتضحية وتحمل الأذى في سبيل الله تعالى.
إنه طريق الشهادة.
وتقابل هذه الصورة النورانية المشرقة لأولي الألباب، الصورة المظلمة القبيحة لؤلئك النفر الذين يستأ كلون بدين الله تعالى، ويعيشون الاسترخاء والتنعم بعيدين عن الألم والتضحية، في الوقت الذي تموج فيه الساحة الإسلامية والوطنية بالتحديات والظلم والظلام.
وأسوء حالاً منهم أولئك النفر الذين يتنعمون على حساب دماء الشهداء، ودموع الثكالى، وأنين المعذبين وآلامهم، إما بالمتاجرة بها، وإما بمواجهتها في سبيل الحصول على حطام الدنيا الفانية.
هؤلاء هم الأخسرون أعمالاً.
أما الشهداء فهم السعداء عند ربهم: {فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (آل عمران: 170).
و الأعمال التي يضاعف الله جل جلاله عليها الثواب يوم القيامة، هي الأعمال التالية:
العمل الأول: قول الله تعالى: {الذين هاجروا}:
أي خروج المؤمنين باختيارهم من أوطانهم، وترك أموالهم وأهليهم قربة لله تعالى، وذلك حين لا يكون في وسعهم أن يقيموا شعائر دين الله في الوطن الذي يقيمون فيه، فيخرجوا منه من أجل الإبقاء على دينهم.
أو يخرجوا من وطنهم باختيارهم، لأنهم يجدون في خارج وطنهم فرصة أفضل لخدمة الدين والدعوة إلى الله جل جلاله.
قال الله تعالى: {إن الذين توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً. ومن يهاجر في سبيل الله يجد مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً} (النساء: 97 – 100).
وقد هاجر المسلمون على عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة. وقد أوضحت في حديث قريب سابق أهداف الهجرة، وبالتالي لا حاجة إلى التكرار، وإنما أذكر أهمها بإيجاز شديد في سبيل تحصيل الدروس منها، وأهم الأهداف هي:
- الهدف الأول: تخفيف الضغط على المسلمين وعلى القيادة.
- الهدف الثاني: نشر الدعوة في أماكن لا توجد بين أهلها وبين الدعوة وأصحابها أية حساسية تحول بينهم وبين الاستماع للدعوة والإيمان بها.
- الهدف الثالث: توفير الأرضية لانطلاقة أفضل للدعوة في الحياة.
قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس هاجروا وتمسكوا بالإسلام، فإن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد).
وأفضل من ذلك: الإقامة في الداخل وإعلان كلمة الحق والعدل والصدق.
قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (لمقام أحدكم في الدنيا يتكلم بحق يرد به باطلاً، أو ينصر به حقاً، أفضل من هجرة معي).
وقد رأينا في واقع الحياة أن البعض ينصر الحق والعدل وهو مقيم في الخارج ، ولكنه لا يستطيع الصمود أمام الإغراءات والتحديات وهو مقيم في الداخل، مما يكشف لنا عن حقيقة قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي ينبغي لنا أن نتعلم منه دروس الجهاد، وحقيقة المجاهدين الصادقين!!
وقد أفتى فقهاء الإسلام بتحريم المقام على المسلم في بلد الكفر الذي لا يستطيع أن يؤدي فيه الشعائر الدينية وما افترضه الله جل جلاله عليه من الفرائض، وأوجبوا عليه الهجرة والرحيل إلى بلد يستطيع أن يؤدي فيه ما أوجبه الله جل جلاله عليه من الفرائض والواجبات، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، إلا في حالة العجز وعدم القدرة فإن الله خير العاذرين.
وفي هذا التكليف الشرعي بالهجرة درس عميق.. عميق: حيث يدل على الصلة بين الدين وإقامة الشعائر الدينية من جهة، وبين كرامة الإنسان وقيمته الإنسانية الوجودية ومصيره الوجودي يوم القيامة من جهة ثانية. وهي مسألة في غاية الأهمية، بل هي مسألة يجب أن تبقى في ذروة الأهمية والاهتمام، ولا يجوز للإنسان بما هو إنسان أن يتسامح أو يتساهل بشأنها، إلا بمقدار ما يعجز عنه فعلاً لا اعتذاراً.
ظاهرة مثيرة للدهشة والاستغراب، بل مثيرة للحيرة والألم: حيث نجد بعض المسلمين لاسيما في صفوف الأغنياء والمترفين، يشدون الرحال إلى بلدان في الشرق والغرب، لا من أجل العلم والمعرفة والبحث والتدبر، ولا من أجل الجهاد ونشر دين الله العظيم في الأرض الواسعة وهداية الخلق إلى دين الله، وإنما من أجل الفسوق والفجور والعصيان!!
وأغرب من ذلك أن يوجد الفسوق والفجور والعصيان لله جل جلاله في الظاهر والعلن في بلدان المسلمين تحت عنوان تشجيع السياحة وغيره!!
فبدلاً من حضور السياح إلى البلدان الإسلامية من أجل التعرف على دين الله العظيم وأخلاق المسلمين وتراثهم الديني والتاريخي ومظاهر التقدم عندهم، يحضرون إلى البلاد الإسلامية من أجل الفسوق والفجور والعصيان!!
وأعجب من ذلك كله أن يخرج المسلم من بلده الإسلامي، لكي ينجو بدينه الإسلامي، ومن أجل المحافظة على كرامته وإنسانيته، ثم يجد الملجأ والأمان والحماية في البلاد غير الإسلامية!!
فأي خيانة لدين الله وللإنسانية وللشعوب الإسلامية وكرامتها أكبر من هذه الخيانة؟!
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!
العمل الثاني الذي يضاعف الله جل جلاله للمؤمنين عليه الثواب: قول الله تعالى: {وأخرجوا من ديارهم}:
أي إخراج المؤمنين من ديارهم، وتهجيرهم من أوطانهم بغير وجه حق، إلا أن يقولوا ربنا الله سبحانه وتعالى، ويطالبوا بحقوقهم المشروعة كمواطنين.
وإخراج الطواغيت والمستكبرين للمؤمنين من ديارهم وأوطانهم، في سبيل إخلاء الساحة من الأناس الشرفاء المجاهدين، وحرمان الساحة من إفاضاتهم وعطاءاتهم على أرض الوطن، لكي تخلو الساحة منهم، وتصفو لذئاب الظلم والبطش بالإنسان الضعيف والمستضعف، ولكي تغرق الأوطان في الظلم والظلام. وهذا يدل على أن سياسة الحكام المستبدين، وقوى البغي والظلم والطغيان في التهجير، سياسة قديمة باقية ما بقي الظلم والاستبداد، وما بقيت مقاومة وجهاد على وجه الأرض.
العمل الثالث: قول الله تعالى: {وأوذوا في سبيلي}:
أي إيذاء المؤمنين بسبب إيمانهم وبسبب مطالبتهم بحقوقهم العادلة من قبل الطواغيت والحكام المستبدين في الأرض.
إيذاءهم بالسجن والتعذيب والمطاردة والحرمان من حقهم في العمل والرزق الحلال وبالتشويه الإعلامي والحرب السياسية القذرة، وبكل أذية في أنفسهم وأهلهم وأموالهم ومحبيهم.
إلا أن صبرهم على الأذى وتحملهم لمسئولياتهم في المطالبة بحقوقهم، يمهد الطريق أمامهم لتحقيق النصر والحصول على الحقوق المشروعة العادلة والكرامة الإنسانية في الحياة الدنيا، والحصول على الأجر والثواب في الآخرة – كما سيوضح أكثر بعد قليل.
وفي الحديث الشريف: (يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً أشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقيقاً أبتلي على قدر دينه، ولا شيء أعظم أجراً عند الله من احتمال الأذى في دين الله والصبر عليه).
وفي هذا الحديث الشريف دلالتين رئيسيتين، وهما:
- الدلالة الأولى: الدلالة على ما ذكرته قبل قليل من حقيقة الإيمان وارتباطه بالجهاد والتضحية في سبيل الله، وأن الجهاد والتضحية هما سبيل أولي الألباب والصديقين والأبرار وعباد الله الصالحين في الحياة، وأن الله جل جلاله قد امتدحهم على سلوكهم هذا الطريق النوراني المشرق في الحياة، طريق ذات الشوكة، طريق إعزاز الحق والعدل وإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
قال الله تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} (الأنفال: 8).
- الدلالة الثانية: أن ابتلاء المؤمنين هو صورة أو انعكاس لمواقفهم في الحياة، فكلما كانت المواقف صادقة وقوية، كلما كان الابتلاء أعظم والثواب أجزل، وكلما كانت المواقف رخوة، كان الابتلاء والثواب أقل. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (ما ترك لي الحق من صديق).
اللهم اجعلنا من الصابرين الصادقين في إيمانهم!!
العمل الرابع الذي يضاعف الله جل جلاله الثواب للمؤمنين عليه: قول الله تعالى: {وقاتلوا وقتلوا}:
أي قاتلوا في سبيل الله تعالى وليس في أي سبيل وعلى أي طريق كان، واستشهدوا في القتال أو الجهاد، فقد وقع أجرهم على الله جل جلاله.
وقد أوضحت في أحاديث سابقة: ضرورة ربط العمل من أجل القضايا الوطنية والشهادة من أجلها بالدين، لكي نستحق الثواب عليها من عند الله جل جلاله في يوم القيامة.
قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (فوق كل بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله عز وجل فليس فوقه بر).
وقد ذكرت في حديث الأسبوع الماضي فوائد الشهادة وحرص أولي الألباب الشديد عليها، وقلت: بأن من يريد أن يسلك طريقهم في الحياة، فعليه أن يقتدي بهم في كل شيء أمتدحهم الله جل جلاله به، بما في ذلك مسلكهم في الجهاد والتضحية!!
وفي الآية الشريفة المباركة دلالة على فضل الجهاد وعظمة المجاهدين في الحياة وعند الله جل جلاله، لأن المجاهدين أغنياء في إنسانيتهم، صادقين في إيمانهم، وبجهادهم يحفظ الله جل جلاله الدين والحقوق، وتستقيم الحياة، وتصلح أحوال الناس والمجتمعات والأمم، وتمهد الأرض للنبات الطيب الذي يريد الله جل جلاله أن ينبته فيها.
وفي ذلك تعزيز للروح الإيمانية الجهادية الصادقة لدى كافة المؤمنين من الرجال والنساء على حد سواء.
قول الله تعالى: {لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخنهم جنات تجري من تحتها الأنهار}
بعد أن أشار الله جل جلاله إلى أفضل الأعمال في الفقرة السابقة، يشير في هذه الفقرة إلى الثواب والآثار المترتبة على تلك الأعمال الفاضلة الراقية.
الأثر الأول: قول الله تعالى: {لأكفرن عنهم سيئاتهم}:
لأكفرن: لأغفرن لهم سيئاتهم وأسترها عليهم فلا أفضحهم بها.
سيئاتهم: السيئات هي صغائر المعاصي كما أوضحت سابقاً.
أول ما يقابل الله جل جلاله به أولي الألباب من الإحسان والثواب على جهادهم وتحملهم للمتاعب والمشاق، هو أن يغفر الله جل جلاله لهم برحمته وكرمه، أن يغفر لهم ذنوبهم ليطهرهم من رجسها، وليدخلنهم بعد تطهيرهم إلى الدرجات الرفيعة في الجنة العالية الطيبة.
ولهذا الفقرة من الآية الشريفة المباركة، عدة دلالات مهمة، أذكر منها التالي:
- الدلالة الأولى: أن تكفير السيئات كان استجابة لدعاء أولي الألباب.
قول الله تعالى على لسانهم: {ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا} - الدلالة الثانية: أن تكفير السيئات عنهم، إنما كان بسبب ما تحملوه من المتاعب والمشاق في حياتهم الجهادية.
- الدلالة الثالثة: أن تكفير السيئات عنهم يعني أنهم قد طهروا أنفسهم من الذنوب الكبيرة، إما باجتنابها أو بالتوبة منها، وبالتالي: فإن تكفير السيئات، وهي المعاصي الصغيرة، ومحوها من كتاب أعمالهم، يعني تأهيلهم إلى الدرجات العالية في الجنة.
- الدلالة الرابعة: أن الدخول إلى الجنة وإلى رحاب القرب من الله ذي الجلال والإكرام، يقتضي تطهر الإنسان من الذنوب: إما بالاجتناب، وإما بالتوبة، وإما بالمغفرة والرحمة، وقد يتطلب تطهير البعض، دخولهم إلى النار لبعض الوقت، قد يطول وقد يقصر، حسب درجة الخبث والتلوث الكامن في أنفسهم.
الأثر الثاني: قول الله تعالى: {ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار}:
بعد أن يطهرهم الله ذي الجلال والإكرام من رجس السيئات، فإنه يؤهلهم لدخول أعلى الدرجات في الجنة، وسوف تأتي تفاصيل مهمة عن هذا الثواب بعد قليل.
قول الله تعالى: {ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب}
لقد أشارت الفقرة السابقة إلى تكفير السيئات وإدخال أولي الألباب إلى الدرجات العالية في الجنة، وهذا هو الثواب. وتشير هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، إلى ثواب أعظم من ذلك الثواب جزاءً لأولي الألباب على تضحياتهم الجسيمة في سبيل الله. فقد نسب الله جل جلاله الثواب إلى نفسه، فهو ثواب عظيم بالغ إلى أقصى مرتب العلو والشرف والعظمة، ثواب يليق به سبحانه وتعالى في علياء كمال جماله وجلاله، وهو ثواب لا يمكن وصفه للناس، وهو ثواب لا يقدر عليه غير الله جل جلاله بأي حال من الأحوال.
وتكرار ذكر الثواب وتكرر ذكر اسم الجلالة في الآية الشريفة المباركة، يدل على ذلك أيضاً.
ومن الملاحظ: أن الثواب مقرون بالتبجيل والاحترام والتقدير، كما يدل عليه نسبة الرب إليهم في قوله تعالى: {فاستجاب إليهم ربهم}.
وكما يدل عليه خطاب الله جل جلاله إليهم في قوله تعالى {أني لا أضيع عمل عامل منكم}.
وكما يدل عليه نسبة ثوابهم إلى الله جل جلاله في قوله تعالى {ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب}. ولذلك عدة دلالات مهمة، أذكر منها الدلالات التالية:
- الدلالة الأولى: فضل الأعمال التي ذكرها الله جل جلاله كأساس للثواب العظيم، والتي تمثل مسلك أولي الألباب والصديقين والأبرار وعباد الله الصالحين، وترسم صورتهم الوضاءة النورانية المشرقة في الحياة.
والأعمال هي: الهجرة والإبعاد عن الوطن والجهاد وتحمل الأذى والشهادة في سبيل الله.
- الدلالة الثانية: عظمة المهاجرين والمجاهدين والمضحين الذين يتحملون الأذى والشهداء في سبيل الله وفي سبيل الحق والعدل والكرامة.
- الدلالة الثالثة: المبالغة في التحريض على هذه الأعمال الجهادية العظيمة الراقية، وتربية المؤمنين عليها.
- الدلالة الرابعة: إيثار الدين والوطن على النفس والنفيس.
ولهذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة التي نحن بصدد بحثها، عدة دلالات أذكر منها الدلالات التالية:
- الدلالة الأولى: الثواب العظيم المشار إليه في الآية الشريفة المباركة، مرتبط بالهجرة والجهاد وتحمل الأذى في سبيل الله سبحانه وتعالى، وبالتالي: فالإسلام يمحو الفوارق بين الرجال والنساء الذين يأتون بهذه الأعمال التي وعد الله سبحانه وتعالى عليها أحسن الثواب للرجال والنساء على حد سواء.
وفي هذه الآية الشريفة المباركة تعزيز لدور المرأة ألجهادي في الحياة، وتعزيز لاهتمامها بالشأن العام، شأنها في ذلك شأن الرجل.
قال الله تعالى: {المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (التوبة: 71).
- الدلالة الثانية: تدل هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة على وجود فروق كبيرة نوعية بين جنة المطيعين و جنة الأبرار.
قال الله تعالى: {والسابقون السابقون . أولئك المقربون . في جنات النعيم . ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين . على سرر موضونة . متكئين عليها متقابلين . يطوف عليهم ولدان مخلدون . بأكواب وأباريق وكأس من معين . لا يصدعون عنها ولا ينزفون . وفاكهة مما يتخيرون . ولحم طير مما يشتهون . وحور عين . كأمثال اللؤلؤ المكنون . جزاءً بما كانوا يعملون . لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً . إلا قيلاً سلاماً سلاماً . وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين . في سدر مخضود . وطلح منضود . وظل ممدود . وماء مسكوب . وفاكهة كثيرة . لا مقطوعة ولا ممنوعة . وفرش مرفوعة . إنا أنشأنهن إنشاءً . فجعلناهن أبكاراً . عرباً أتراباً . لأصحاب اليمين . ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين}. (الواقعة: 10 – 40).
وقال الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . ذواتآ أفنان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما عينان تجريان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما من كل فاكهة زوجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . كأنهن الياقوت والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . هل جزاء الإحسان إلا الإحسان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . ومن دونهما جنتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . مدهامتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما عينان نضاختان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما فاكهة ونخل ورمان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهن خيرات حسان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . حور مقصورات في الخيام . فبأي آلاء ربكما تكذبان . لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} (الرحمان: 46 – 78).
ولا يتسع المقام لتوضيح وشرح تلك الفروق بين جنة المطيعين وجنة الأبرار، وحسبنا الآن: أن نلتفت إلى إشارة الآيات الشريفة المباركة إلى وجود تلك الفروق بين الجنتين وذكرها.
وفي ختام المطاف مع هذه الآيات الشريفة المباركة، نتعرف على بعض أهم الدروس والعبر فيها، وهي ترسم لنا الصورة الإيمانية النورانية المشرقة لأولي الألباب، وتشوقنا إليها وترغبنا فيها، وتحثنا على الإقتداء بهم، وهم يتنقلون من التفكر والتدبر والبحث عن الحقيقة، إلى العمل والجهاد والدعاء الصادق الخاشع إلى الله جل جلاله، ويطلبون العون والتسديد، مما يدل على صدقهم وخوفهم من الانحراف عن طريق الله سبحانه وتعالى، وشدة تعلقهم بالله خالقهم ومربيهم، وحرصهم على التقرب إليه والكون في جواره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
ونستفيد من هذه الصورة المشرقة التي رسمها لنا القرآن الكريم لأولي الألباب، عدة دروس – بالإضافة إلى ما سبق ذكره – أهمها الدروس التالية:
- الدرس الأول: الحث على العلم والمعرفة والبحث عن الحقيقة النظرية والعملية بموضوعية ونزاهة، لأن الطريق إلى الله جل جلاله، لا يمر إلا عبر هذا الطريق النوراني العظيم.
- الدرس الثاني: الدعوة إلى قيادة الحياة على أساس العلم والمعرفة والخبرة أو التجربة في الحياة، وليس على أساس الأماني والرغبات والخبط العشواء.
- الدرس الثالث: أن صبغة أولي الألباب التي أمتدحهم القرآن الكريم عليها وأثنى عليهم بها، هي الصبغة التي يندمج فيها الفكر بالشعور والوجدان ويتحولا إلى سلوك وعمل وجهاد في الحياة.
إن أولي الألباب لديهم رؤية يقينية واضحة حول علاقتهم بالله رب العالمين جل جلاله.
ولديهم رؤية يقينية واضحة حول علاقتهم الوجودية المصيرية التي تربطهم باليوم الآخر.
ولديهم إحساس ضخم بكرامتهم وإنسانيتهم.
ويعلمون علم اليقين بأن إنسانيتهم وكرامتهم الإنسانية لا يمكن أن تحفظا إلا في سلوكهم طريق الله جل جلاله والآخرة، وأنهم كلما توغلوا في هذا الطريق أكثر كلما كانت إنسانيتهم أكثر غناءً وأكثر قيمة.
ويعلمون علم اليقين بأن طريق الجهاد والشهادة والتضحية يختصر لهم الطريق ويقربهم إلى الله جل جلاله زلفى، فسلكوه بوله العاشقين متهافتين على نور الله ذي الجلال والإكرام.
وقد بينت في حديث سابق قيمة الشهادة لدى أولي الألباب.
وبالتالي: فإن التدين الحقيقي والتقرب إلى الله جل جلاله، ليس من خلال دراسة الكتب أو تدريسها، وليس من خلال ملازمة المحراب والصلاة والدعاء والصيام والحج فحسب، وإنما هو: علم وعمل ودعاء وبذل للمال وجهاد وتضحية واستشهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى وتقديم القرابين إليه جل جلاله.
إنني أرى في الآية الشريفة المباركة: إلى جانب الصورة المشرقة لأولي الألباب التي يتحول الفكر عندهم إلى شعور وقيم، ويتحول الشعور وتتحول القيم إلى عمل ومواقف مبدئية صادقة قوية، أرى إلى جانب تلك الصورة المشرقة، الصورة البائسة المظلمة والحالة المؤلمة، لؤلئك النفر التعساء من الناس، الذين يعيشون باسم الدين الاسترخاء والأكل ونعيم المال والنساء، بعيداً عن الألم والتضحية، في الوقت الذي تموج فيه الساحة الإسلامية والوطنية بالتحديات والظلم والظلام.
وأقبح منهم صورة وأسوء منهم حالاً: أولئك النفر من الناس الذين يتنعمون على حساب دماء الشهداء ودموع الثكالى وآلام المحرومين وآهاتهم وأنين المعذبين.
إن هؤلاء هم المحرومون حقاً والأخسرون أعمالاً.
أما الشهداء فهم السعداء عند ربهم، {فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (آل عمران: 170).
إننا ندعو أولئك المحرومين للتدبر في هذه الآية الشريفة المباركة التي ترسم الصورة المشرقة لأولي الألباب الذين يعيشون الدين: علماً وعملاً وجهاداً، ولم يسقطوا تحت تأثير الأذى والمغريات، ولم يتعقدوا من الجهاد وصعوباته، ولهذا كانت لهم أعلى الدرجات في الجنة، ولهم فوق ذلك القرب من الله ذي الحلال والإكرام، ومن الثواب ما لا يمكن وصفه للبشر في عالم الدنيا، جزاء تضحياتهم وصبرهم في سبيل الله سبحانه وتعالى.