شهرٌ يمرُّ مرًّ السّحابْ بقلم الأستاذ عبد الإله قمبر

الأستاذ عبد الإله قمبر
الأستاذ عبد الإله قمبر

 

(الفرصةُ) هي لحظة .. يتحول فيها ما هو شائك متجعّدٌ إلى ناعم أملس، ويلينُ ماهو شاقٌ متعبٌ ليظهرَ أريَحيّاً مِطواعاً، وتتغير فيها اللعبةُ ليصبح الثمرُ المرتفعُ عنْ يدِ إمكاناتك هابطاً للقطاف وفي متناولك، وهي لحظة أُنجبتْ أمامكَ في غير إرادة منكَ ولاتخطيطٍ وإن كانتْ هي من صلبِ أمنياتك ومتطلباتك، إذ لم تضعْ لها موقعاً حين هندستَ برنامجك، فيلزمُ منكَ اغتنامها واستغلالها بأسرعٍ وقتٍ فتكونَ في المكان المناسبِ قبلَ موتها عنك، إذ هي لحظةٌ قد تستطيعَ أن تستنتسخَ نفسها وقد لاتستطيع.

ولأنّك تبحثُ دائماً عن نجاحكَ واستقرارك وانتصارك، تجد هناك صراعًا بينك وبين الأشياء، في مناوشات ومشادات تحول وتكدرُ وصولكَ للفرصة، فحاذر بُطأكَ وتفحّص محيطك، وأبطِل مفعول الملغمات والفخاخ المدسوسة حولك، وسارع في القنص والرمي، فإن الفريسة قد لاتدومُ أمام عينكَ، فتندمَ وتتحسّر، وتلامَ فيما بعد على ضياعها!

وحياتنا مشحونة مشبعة بالفرصِ والغنائم، لأنها رحمةُ الله للبشر، وموضع ابتلائهم ومساءلتهم، فمتى ما وعيتَ بأنّ التي أمامكَ هي فرصةٌ نيّرةٌ تُهمّكَ أو غيركَ، لحاضرِك ومستقبلِك، فتحرّكتَ تجاهها، وأقبلتَ لنيلها ومحاصرتها، نجحتَ وربحتَ وقيلَ عنكَ محظوظٌ لما استغليتهُ وظفرتَ أو فزتَ به من الفرصة التي قابلتك!

وإن كانت عروض المحلات التجارية من تخفيضات وهدايا وبطاقات سحبٍ تُشكلُّ صوراً مادية لمفهوم (الفرص)، فإنّ الفرص المعنوية أدقُّ وأولى وأخطرْ، حيثُ توفّرُ لك دفاعات قوية، واستعدادات مُطمئنة، ومكاسب شمولية، إذ لم يغفل إسلامُنا المحمدي المربّيَ أهمية (الفرصة) وضرورة استغلالها، فجاء منبِّهاً ومعتنياً وموجهاً الإنسانَ بهدفِ صياغتهِ وصناعتهِ بروحية برَّاقة رابحة قبل الموتِ وبعد الحياة، حيثُ جاء عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّهُ قالْ: “اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”. من كتاب (دعوات الراوندي).

فالفرصُ هنا فرصٌ لاتَطبعُ نفسها ولاتُعوّضُ إن غابت أو اندثرت، فحياةُ المتاعِ والغرور هي فرصتكَ الوحيدةُ لتحدد مصيرك بعملكْ، إما جنةُ طاعته وخيره أو نار معصيتهِ وهجرهِ، فتصبحُ حينها نقطة نزاعٍ بينَ ربكة الاختيار، وضعفك في اتخاذ القرار.

ولمّا فرضَ اللهُ العبادة على النّاس، جعل لها مواقيتَ وأماكن شرّعها بحكمتهِ، فنثرها فُرصاً، وفاضل بينها، وكرَّم بعضها كفرصٍ ذات منافذ أوسع، وطرقٍ لوصولٍ أسرعْ، فجعلَ من الأماكنَ أشرفها، ومن الأشهر أفضلها، ومن الأيام أميزها، ومن الساعات أنبلها وأطيبها!

وشهرُ رمضانَ هو من أفضلِ الشهور وأعلاها عند الله، وهو فرصةٌ روحيةٌ متَّقدة، ومحطّة عظيمة فيّاضة، ومنبع طاعة متفجّرة، فكلُّ شيء فيهِ أصبحُ يقاسُ بـــ ميزانٍ أعمق رحمة، وأكرم تجاوزاً، وأدق لطفاً، وما كان في الأشهر الخوالي ليس بذي مكسبٍ، غدى في هذا الشهر ذا مغنمٍ وثواب، فعملُك الذي كان يحتملُ القبول والرفض، صار ذا قبولٍ ورضا، والدعاء الذي لاتعلمُ أيستجابُ أم لا، أصبح مجاباً مقبولا، وأنفاسُكَ الاستهلاكية التي يفترضُ أنها حركة فسيولوجية طبيعية لديك صارت مقابل ثوابٍ وحسنات، ونومُك المنهيُ عن الإكثار منه تحوّل لرحمةٍ في رصيدك وكتابك!!

وقد أوضح الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في (خطبة استقبالِ شهر رمضان) حدود هذه الفرصة ومساحتها المترامية، فعيّنَ أن تكون مقدمة التوفيق للعمل هو دعاؤك وتوسلك لله بنية صادقة وقلب طاهر، إذ ما أضيقَ مسالك الطرق إن لم يكنِ الله دليلك ومعينك، فحثَّ بالتركيز على باقةٍ منها، ما ينفعكَ ومجتمعك، لدنياك وآخرتكَ، كالتصدّق بالمال والابتسامة والكلمة الطيبة، وتوقير الشيخ الهرم، وحفظ اللسان عن الخطأ والخطل، وغض البصر عن العورات المحرّمة، وحفظ السمع عن المفاسد والزلل، ودعائك لنفسك ولغيرك بالمغفرة والتوبة، وإفطارك الصائمين، ومراقبة أدبك وخلقك وماتُقَدِّم، واللطف بمن هو تحت يدك من زوجة وخدم، وكف الشر والأذى قولاً وفعلاً، والتحنن على اليتيم وإكرامه وإعانته، ووصل الرحم بالزيارة والنهي عن القطيعة، والتطوع بالمستحب وأداء الفروض والواجبات، والصلاة على محمد وآل محمد، وترتيل القرآن وتلاوته، وأفضل من كلّ ذلك ولأجل كلِّ ذلك (الورع عن محارم الله).

ومنْ هنا صار (الشقي) هو من يتخلّف عن اقتناصِ هذه الفرصة الذهبية ليعود إلى ربّه ويتقرّب منهُ بعد أحد عشر شهراً قُضيتْ في الاغتراب عنهُ سبحانه، فمن يحرم المغفرفة ورضا الله في شهر ذي فرص وعروضٍ كبيرة وعملاقة ووفيرة، فقد خسر وشقى …
فإنْ لم تكنْ تملكُ حنكة الصيد والمثابرة والاجتهاد فكن قناصاً بارعاً متيقظاً، لأنّ الفرص تمرّ مرّ السحاب.

شارك برأيك: