قال تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} صدق الله العلي العظيم (آية ١١٤ سورة المائدة)
لنعرف ما هو العيد:
هذا الدعاء الذي جاء به عيسى بن مريم عليه السلام جاء به بعد حوار عميق وحميم بينه وبين أصحابه، وهو الحوار الذي سجلته الآيات السابقة على هذه الآية:
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ • قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ • قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} (١١٢ – ١١٤ سورة المائدة)
الطلب الذي تقدم به عيسى عليه السلام إلى الله هو المائدة، والقصد والغاية من هذا الطلب هو أن {تكون لنا عيدا}.
إذن.. فلنعرف ما هو العيد؟
إذا تكلمنا عن العيد بصفته يوما أو موسما: فهو اليوم أو الموسم الذي تحتفل به الأمة بذكريات سعيدة، وسمي عيدا من العود، وللعود معنيان:
العودة للأصل هو العيد:
- المعنى الأول: أنه يعود عاما بعد عام.
- المعنى الثاني: أن العود هو الرجوع إلى الأصل. فمثلا، إذا تعرضت أمة إلى نكبة وعانت من مشاكل في زمن معين، ثم خرجت من هذه النكبة وتغلبت على هذه المشاكل وعادت إلى حالة الاستقرار والأمن، فتكون هذه المناسبة بالنسبة لها عيدا لأنها عادت للأصل وهو الأمن والاستقرار والرخاء، وفيما يتعلق بالأعياد الإسلامية فهي مناسبة لعودة النفس الإسلامية إلى فطرتها السليمة، لأن نفس الإنسان قد تتلوث بالذنوب والخطايا فيأتي الصوم أو الحج فيغسل هذه النفس ويطهرها من الذنوب فتعود إلى أصلها وفطرتها السليمة وطهارتها الأولى، وهنا عودة النفس إلى طهارتها ونقائها هي ذاتها مناسبة العيد.
طلب المائدة.. لماذا؟
وبالعودة إلى الآية، فقد طلب عيسى عليه السلام من الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون لهم عيدا، فما هي العلاقة بين المائدة والعيد؟ من الواضح جدا بان الحاجة إلى المائدة ليست حاجة مادية، وليس لأنهم يعيشون الجوع أو أن لديهم نقصا في الطعام ويطلبون هذه المائدة لكي يشبعون هذه الحاجة لأن بإمكانهم أن يحصلوا على غذائهم وطعامهم من الأرض، ولكنهم طلبوا مائدة من السماء، وحصول المائدة من السماء لا يكون إلا بمعجزة، ولهذه أصبحت هذه المائدة مناسبة لعدة نقاط:
فرح روحي ومكسب عظيم:
- النقطة الأولى: وفي المقام الأول، استجابة لدعائهم، لكي يعلموا بالدليل الحسي أن الله عز وجل قد استجاب لهم دعاءهم.
- النقطة الثانية: أن إنزال المائدة تعني أن هؤلاء لهم منزلة ومكانة عند الله عز وجل، وإلا لما أنزل عليهم هذه المائدة بعد طلبهم إياها، وعليه فالفرح الذي حصل عليه هؤلاء ليس فرحا من أجل شيء مادي ولا من أجل غرض مؤقت، وإنما فرح روحي من أجل مكسب عظيم حصل عليه هؤلاء، ولهذا اعتبر نزول المائدة عليهم عيدا نتيجة الفرح الروحي والمكسب العظيم الذي حصلوا عليه.
ليس حالة شخصية:
- النقطة الثالثة: {لأولنا وآخرنا} هنا.. كلمة أولنا تعني الذين حصلوا على المائدة وهم الحواريون، في حين أن العيد سيكون للأمة كلها، فما معنى ذلك؟.. معنى ذلك أن هذا الطلب ليس حالة شخصية، وأن نتائجه لا تعود على شخص النبي عيسى عليه السلام أو الحواريين فقط، وإنما نتائجه العظيمة تعود على الأمة كلها مما يعني اندماجا كبيرا بين القيادة والقاعدة، فالقيادة لا تعبر عن حاجات في نفسها وإنما تعبر عن حاجات الأمة، ويكون إشباعها لحاجات الأمة كلها، مما يدل على عمق التلاحم بين القيادة القاعدة، لأن القيادة الحقيقية هي التي تكون أعيادها أعياد الأمة وأحزانها أحزان الأمة، وهكذا ينبغي أن تكون القيادة.
ارفضوا كل محاولة لشق الصف:
كما تدل هذه العبارة على وحدة الصف، لأن الأمة كلها تحتفل بالعيد، وفي ذلك مناسبة كبيرة لوحدة الصف ووحدة الكلمة، وبالتالي ينبغي أن نرفض كل محاولة لاستثمار العيد من أجل شق الصف، وإذا وجدت محاولات لهذا الغرض فينبغي أن نرفضها لأنه لا يجوز أن نعيش العيد ونحن أمة واحدة في أجواء الفرقة والاختلاف، لأننا كالجسد الواحد أو كالبنيان يشد بعضه بعضا، فيجب أن نعيش المحبة والأخوة، وإلا إذا كنا نعيش الفرقة والعداوة والبغضاء فنحن لا نعيش العيد الذي تحتفل به الأمة كلها، وعلينا بالمحافظة على وحدة الصف الإسلامي لأن الآية لا تشير إلى وحدة الصف الإسلامي في الزمن الواحد وإنما في كل الأزمان، لأن الأمة يجب أن تشعر بوحدة كيانها منذ آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها أي بامتداد الزمن كله.