أحدث المواضيع

إبن معراج والمهمة الصعبة (1)

IMG_5622إعداد الأستاذ يوسف مدن

مقدمة الدراسة
منذ طفولتي كنت على قرب من شخصية ابن معراج، فبيني وبينه صلة رحم وعلاقة روحية ومعرفية لم تطل لسوء الحظ أكثر من عشر سنوات، فقد أدركت وجوده قبل أربعين عاماً، وهو زمن بعيد نسبياً، وتعلمت من هذا الرجل العصامي بقدر ما حتى وإنْ لم أدرك آنذاك جوانب مهمة من حياته وسيرته الذاتية إلاَّ بعد سنين من وفاته في عام 1970، فقد توقفت مؤقتاً – بعد رحيله إلى بارئ السموات والأرض – علاقة التعلم المباشرة بيننا، بيد أني أقر له بحسن معروفه وجميل صنعه معي في الصغر في تكوين اتجاهاتي الثقافية والروحية، حيث أسبغ علينا من فضل الله سبحانه ببعض توجيهاته في الشأنين الروحي والثقافي، وكان منطقياً أن أظل على الوفاء له في الارتباط النفسي والمعرفي به، وقد كَبٍرْتُ على هذا الشعور الوجداني، وما أزال بحمده سبحانه وفيَّاً لهذه العلاقة الوجدانية، وأردت تجسيد هذه العلاقة وأنقلها من عالم القلب إلى عالم الحركة والشهود الحي.

أما الآن وقد منَّ الله تبارك وتعالى علينا بالقدرة على الكتابة فأحسست من فيض عطائه بأنه حان الوقت لتوثيق تاريخ هذه الشخصية وكتابة ما تيسَّر لنا من معرفتنا بقدر من سيرته الذاتية وتاريخه الروحي ونشاطه الثقافي، وهو في نظرنا جوهر كيان كل إنسان أن يكون المرء عالماً أو متعلماً أو مستمعاً لهما أو محباً، فالجانب الثقافي هو جوهر الشخصية الإنسانية ومركزها لقدرة هذا الجانب على توجيه وإدارة الذات في حركة الحياة، بالإضافة إلى تنمية جوانبها الأخرى وبخاصة الروحي الذي يستكمل جوهر الإنسان المؤمن ويضفي جمالاً متألقاً عليه، إذ تتحرك الذات البشرية بتأثيرات أبعادها وجوانبها وفي صدارتها الثقافي والروحي لتحدد في النهاية نمطها الأساسي البارز.

image006وبعد مضي أكثر من أربعين عاماً من معرفتنا بالرجل فكرت – كباحث – في لحظة معرفية وانفعالية هادفة وبعمق تاريخي أن أكتب ما تيسر لنا عن أحد أبرز عناصر هذه الشخصية الاجتماعية والوطنية، فمن حقه علينا، وحق أجيالنا الحاضرة بخاصة من أهالي قريته التي أنجبته أن نستحضر شخصيته من جديد ونضعها ما أمكننا ذلك بين الأجيال الجديدة، إننا لا نكتب تاريخ الشخصية تحت تأثير الإعجاب فحسب، بل تحت ضغط الإحساس بالواجب والرغبة العلمية في توثيق الحقائق أيضاً، ولا نبالغ في قولنا بأن تأثير الإعجاب والإقرار بالحقائق سببان رئيسيان في صنع هذه الدراسة وإعدادها رداً للجميل وإقراراً بما صنعه رجالات قريتنا الحبيبة النويدرات وبأدوارهم الثقافية وغير الثقافية كابن معراج وغيره، فعندما يكتب الباحث عن شخصيات هذه القرية ورجالاتها إنما يكتب جانباً من تاريخها ليُمَكٍّن الأجيال الحاضرة من الاتصال غير المباشر بهذا التاريخ ويربطهم معها في سياقات ثقافية جديدة تعمق إحساسهم بأصالة الوجود والانتماء.

وجدنا في تاريخ ابن معراج وحياته وسيرته الذاتية أبعاداً إنسانية متعددة كاهتمامه بالعلم والعلماء، والتطبيب، ورعاية النشاط الديني وتنميته، وجهاده السياسي، واتصاله الحيوي بالمستضعفين من أبناء قريته ووطنه، وشجاعته في نصرة قضايا الناس وحل مشكلاتهم الاجتماعية ومنازعاتهم فاستحق منَّا دراسة شخصيته لا لتوثيق الحقائق الثقافية في حياته فحسب، وإنما إقراراً بأدواره الإنسانية بجوانبها المتعددة التي أرساها في حياته الشخصية والعامة على حد سواء.

وتتجه هذه الدراسة صوب جوهر كيانه، ونقصد انجازاته الثقافية، ولكني مضطراً سوف أمر على محطات توثق الأبعاد الإنسانية في شخصية ابن معراج، وسيرسو قلمي أو يراعي عند شواطئها عسى أن أتمكن من تعريف أبنائنا من الأجيال الحاضرة بانجازات هذه الشخصية ومواقفها في أكثر من اتجاه مع التركيز على إسهاماتها في الشأن الثقافي بنحو مكنته من تحقيق المهمة الصعبة التي جعلته أحد أبرز من صنع تاريخنا الثقافي في هذه القرية وبخاصة في القرن الرابع عشر الهجري.

وتتكون دراستي من عناوين ((كبرى وفرعية)) هي في الإجمال مكوناتها الأساسية، بعضها من صنعنا وجهدنا نحن، وبعضها الآخر من صنع الوجيه الحاج أحمد ابن معراج نفسه أو صنع آخرين كتبوا عنه أو أشاروا إلى شخصيته أو كانوا على صلة به، فتشكلت هذه الدراسة وتم إعدادها من خيوط هذا النسيج المتشابك.

وبوجه مجمل تتكون دراستنا من مجموعة حلقات متتابعة، ويمكننا تعريف القارئ الكريم بدراستنا المكونة من ثمان حلقات هي كما يأتي:

مدخل عام للدراسة تناولته الحلقة الأولى لدراسة تراثنا الثقافي لقريتنا النويدرات ومناهجه في القرن الرابع عشر الهجري، وأشرنا لجوانب أخرى كاتجاهات دراسة هذا التراث ومصادره، وما تواجهه المخطوطات على وجه الخصوص من محنة حقيقية تضع التراث كله في محنة، وقد كتبنا في نهاية هذا المدخل بعض صعوبات دراسة هذا التراث.

  • وتطرقنا في الفصل الثاني لموضوع الدراسة وأدواتها، وفترتها الزمنية، ومنهجها التاريخي – التحليلي ومكوناتها، وأخيراً مصادر دراسة السيرة الذاتية لابن معراج الذي نكتب سيرته في هذه الحلقة.
  • وفي الحلقة الثالثة عرضنا مختصر السيرة الذاتية لابن معراج، وقد كتبه مشكورا ًابنه الأستاذ علي بن أحمد معراج بناءّ على طلبنا، وربما قد أعده سابقاً فزودنا به حين الطلب.
  • أما في الحلقة الرابعة فتناولنا بعد المدخل مظاهر وجوانب البعد الإنساني في شخصية ابن معراج، وقدرته على تطوير علاقته بمصادر المعرفة لتحقيق الانجاز الثقافي، والتمكن من أداء المهمة الصعبة التي وضعها هدفاً منشوداً في حياته.
  • وعرضنا في الحلقة الخامسة لنسب ابن معراج العائلي واسمه الحقيقي كما حدده بنفسه في بعض مخطوطاته، وتناولنا بشيء من التفصيل ما أسميناه بالعوامل المؤثرة في شخصيته وبخاصة عنصر ” التكوين الثقافي ” وتأثير هذه العوامل على انجازه للمهمة الصعبة.
  • وتابعنا في الفصل السادس من دراستنا الحديث عن السيرة الذاتية لابن معراج، فتناولنا بعض أعماله الثقافية وانجازاته في هذا المجال كشجرة النسب العائلي لأهالي النويدرات وعوائلها، وتأسيس أول مكتبة منزلية في النويدرات كما يري البعض، واشتراكه في عمليات ((الشبيه)) وتأسيس مآتم متنقلة، ومجموعة انجازات ثقافية بارزة في المجالين الثقافي والسياسي.
  • وانتهينا في الفصل قبل الأخير للإشارة لاثني عشر عملية ثقافية باشرها ابن معراج في فترة طويلة من حياته، وجميعها تجسيد لاهتمامه بالعلم.
  • وفي آخر حلقات دراستنا انتهينا إلى عرض جمع مجموعة مصورة من الوثائق مستمدة من مصادر ذات صلة بحياة ابن معراج وتاريخه الثقافي، وقد قسمناها لنوعين من الوثائق.. بعضها مخطوط قد اقتطعناه من كتب نسخها بخط يده، وبلغت عشراً، وبعضها الآخر أخذناه من مصادر مطبوعة، وبلغت خمس نماذج وثائقية، وقد أشارت لشخصية لابن معراج بطريقة مباشرة حيناً، وبطريقة غير مباشرة حيناً آخر.

وأخيراً نسأل الله أن نكون قد نجحنا في تقديم شخصية ابن معراج للناس بعد أن غاب عنهم أو إعادة اتصال أبنائهم بتاريخه وتاريخ قريتهم الذي ما يزال مغيباً، فهناك رجال ما يزالون في النسيان، والله يوفق الباحثين لنفض الغبار عنهم.

الرابع من محرم 1432هـ
10 من ديسمبر 2010م
يوسف مدن

شارك برأيك: