إعداد الأستاذ يوسف مدن
أدَّى أهالي قرية النويدرات في القرنين (الرابع عشر والخامس عشر الهجريين) وبخاصة النساخين والخطاطين، أدواراً ومهمات وأدواراً حيوية حفظت بعض ما تعرفوا عليه من النتاج الثقافي لنفر من علماء بربورة، وساعدهم في ذلك ما كان بين أهالي القريتين من مشاعر المودة، وصلة الرحم، والقرابة، والعلاقات التاريخية ما يجعلهم أشقاءً في الجوار، وتحمل معاناة الحياة ومتاعبها، والمصير المشترك، فقد اتصل تاريخ “النويدرات” منذ نشأتها وبداياتها الأولى بتاريخ “
بربورة”، وجرى بين أهاليهما من التفاعل والعلاقات وتقديم الخدمات المتبادلة في مجالات عديدة.
ونقصد ((التراث الثقافي)) حصراً، وكما حددناه في عنوان هذه البحث المختصر، والقصير بعض: (ما خلَّفه علماء بربورة من آثار ثقافية كحفظ الرسائل، ونسخ كتبهم، وكتابة وإعداد دراسات ثقافية عن نتاجات عدد من علماء هذه البلدة في القرون الثلاثة الهجرية المتأخرة، أمَّـا الخطَّاطون، فهم منْ نسخوا الرسائل، والكتب، والأوراق، والوثائق بخط أيديهم، ووصلنا عن طريقهم بعض هذا الإنتاج، وجمع من الوثائق الخطية.
العلاقة الثقافية الوطيدة بين خطاطي النويدرات والتراث الثقافي لبربورة
لا يوجد تاريخياً بين قريتي “بربورة” و”النويدرات” حدود جغرافية فاصلة بنحو واضح، فنخيل القريتين متداخلة ومتشابكة، وننتذكر أننا في صغرنا المبكر نعبر المسافة بينهما، ونحن لا ندرك موقعنا أكنَّا في “أراضي بربورة” بعد أم دخلنا في حدود النويدرات نظراً للتداخل والتشابك، وبعد عبور الحدود المتداخلة، واقترابنا من البيوت في كلتيهما نعرف أننا في حدود “بربورة” أو أننا في أراضي وريثتها التاريخية قرية “النويدرات”، وهكذا عاش الناس من أهالي القريتين في سياج قرابة تاريخية، وثقافية وروحية ومذهبية طوال قرون القريتين، بل واستمر الروح بين أهالي النويدرات ميَّالة إلى حب “بربورة ” كحبهم العاطفي لقريتهم النويدرات، وترتب على ذلك في حياة الناس من الأهالي نشوء علاقة حب ومنافع منذ ذاك التاريخ، ولهذا يمكن القول بكل ثقة بأن العلاقة تاريخية كانت بين أهالي بربورة والنويدرات وطيدة ومتينة وقويَّة البناء والأساس.
وارتكزت هذه العلاقات على أسس الأخوة الدينية والوحدة الثقافية والمذهبيَّـة بين أهالي القريتين، والجوار المشترك، وعلاقات العمل، وتبادل المصالح والمنافع التاريخية القائمة بين الناس منذ النشأة التاريخية للقرية الأولى (النويدرات) وارتباطها بالقرية الأم بربورة، ومما لا شك فيه أن أنماط العلاقة بين أهالي القريتين لم تقتصر على جانب واحد من جوانب الحياة الاجتماعية بين الأهالي، بل امتدت لكل جوانب معيشتهم المادية والمعنوية، وأنشطتهم، وأنظمة حياتهم، بل وتم تأسيس بعض أنماط هذه العلاقات على بعضها بتراكم مصالح وتشابك منافع بين أهالي القريتين، ومن المؤكد أن هذه العلاقة قد عبرت عن نفسها بأشكال من الروابط والمصالح المتعددة والمتنوعة، وتجسدت في أعمال اقتصادية، وارتباط بالأرض والنخلة، والسكن، والهموم المشتركة، وبعلاقات الزواج والمصاهرة، وحضور مجالس الذكر، وبأشكال أخرى من العلاقات الوطيدة بين أهالي القريتين المتجاورتين ((بربورة والنويدرات)).
وما يهمنا من ذلك سوى الإشارة للعلاقة الثقافية بين بربورة، وتراثها الثقافي ومدى انعكاساته الإيجابية على قسم واضح من الحياة الثقافية في النويدرات بخاصة في سنوات القرن الرابع عشر الهجري كاهتمام بعض النساخين فيها بكتابة ونسخ بعض مخطوطات التراث الثقافي لعلماء بربورة كما سنوضحه في طي هذا الفصل لاحقاً، وما تكشف لنا في قرائن مادية وتاريخية حقيقية خاصة بهذا التراث المُضَيَّع، لكن بعض معالمها وآثارها – لحسن الحظ – لا تزال قائمة حتى الآن، وذلك مثل الاهتمام ببعض ما تعرف عليه الناس من مخطوطات علماء بربورة، والعناية بمساجدها وإعادة بنائها، وإدارة دور العبادة فيها، وإقامة أنشطة ثقافية بين حين وآخر في هذه الأماكن العبادية من باب إحياء شعائر التقوى في هذه المؤسسات الطاهرة.
أهداف دراسة العلاقة بين مخطوطات النسخ في النويدرات ومظاهر التراث في “بربورة”
يعنينا من هذه الدراسة، وفي هذا المجال منها تأكيدها على أهداف هامة نذكرها بإيجاز كما يأتي:
- بيان وتوضيح جوانب من العلاقة الثقافية المتبادلة والحميمية بين القريتين.
- كشف بعض معالم وملامح ومظاهر التراث الثقافي للقريتين بخاصة في بربورة بعد غيابها عن الوجود الاجتماعي – التاريخي.
- تأكيد دور النساخين وخطاطي النويدرات وغيرهم من أبناء القرى البحرانية في كشف بعض مخطوطات علماء بربورة ورسائلهم المعرفية.
- تسليط الضوء على بعض ما توافر لنا من مخطوطات علماء بربورة، وإحيائها بالنشر والقراءة والتداول الثقافي.
- توجيه من بحوزته هذه المخطوطات نحو مسئولياته في المحافظة عليها والمساعدة على نشرها ما أمكنهم في ذلك سبيلاً.
- توجيه أنظار بعض الباحثين المهتمين بالتراث البحراني للاستفادة من بعض وثائق التاريخ الثقافي لأهالي بربورة والنويدراات وغيرهم لكشف جوانب العلاقة الثقافية التبادلية.
وسنركز في ثنايا مبحثنا هذا على أشكال ملحوظة من العلاقات، والمناشط، والأدوار الثقافية في تاريخ بربورة، وما ذكرته بعض وثائق النساخين من أهالي النويدرات ومن خطاطي القرى البحرانية الأخرى الذين وجدوا أنفسهم بين أهالي قريتين لا تنفصل أفكارهم ومشاعرهم الوجدانية وسلوكياتهم عن بعضهم البعض، فذكروا “بربورة” اسماً ولقباً ومؤسسة روحية في عدد من الوثائق بخاصة ما نسميه بـ”وثائق النسخ”، فهي في نظرنا، وبالنسبة لكل من اهتم بتاريخ القريتين بمثابة “مستندات تاريخية” تقطع شكنا دائماً باليقين، وتتقول كلمة “الفصل” لمن جادل في هذا التاريخ أو من خضعت نفسه للحقائق فآمن وصـدَّق وأيْقَـن قلبه للإيمان وقبول الحقيقة التاريخية.
وسنمر على صور من الأدوار الثقافية التي تحملها أهالي النويدرات في حفظ تراث أهالي بربورة، وليس غرضنا من تحديد مهمات خطاطي ومثقفي أهل النويدرات في هذا المبحث الصغير تحقيق كسب هدف دنيوي عاجل، وإنَّما نشر بعض أنشطتهم الثقافية، ورد جميل ما فعله علماء “بربورة” في هذا المجال، مما يفتح لهم فرصة معرفة الأجيال الحاضرة، وتأكيد مشاركتهم التربوية والثقافية في تجربة بلادهم البحرين ونهضتها، وتأصيل هويتهم الحضارية – التاريخية.
مجالات حفظ ونشر التراث الثقافي لعلماء بربورة
الملحوظ أنَّ عدداً من أهالي النويدرات بذلوا كثيراً من جهدهم في حفظ ونشر جوانب من تراث علماء بربورة، وقد تمكن باحث هذه الدراسة بعد تجربته مع مخطوطات أهالي النويدرات المتوافرة، والمؤرخة بتواريخ سنوات من القرن الرابع عشر الهجري، اكتشاف بعض الأدوار التي اضطلع بها عدد من أهالي النويدرات في مجالات عديدة، وغاياتهم حفظ تراث علماء بلدة بربورة، والتعريف به، ويمكن تحديد أهم مجالاته كما يراه الباحث.
وهذه المجالات الثقافية التي يراها الباحث هي ما يأتي:
- مجال الخدمات الثقافية والروحية.
- مجال جمع الوثائق الخطية.
- مجال تأليف الكتب وإعداد الرسائل والمقالات عن علماء بربورة وتراثهم الثقافي.
- في مجال تحقيق بعض المخطوطات.
- مجال نسخ الكتب والرسائل وخطها.
أولاً: الخدمات الروحية والثقافية:
كما كان أسلافهم قبل اندثار بلدة “بربورة”، فَقَد تجشم بعض أهَـالي قرية النويدرات منذ سنوات بعيدة عناء مسئوليات رعاية المساجد والعناية بها في بلدة “بربورة” التاريخية، وتنظيفها، ورعاية شئونها، ومتابعة بنائها، وحمايتها والدفَـاع عنها، وإشراف بعضهم على قيمومتها وشئونها، وكذلك إحيَـاء بعض الليالي المباركة، وإقامة الأهالي منهم للأنشطة الثقافية كما في احتفالات مواليد أئمة أهل البيت عليهم السلام، وأيضاً إقامة مجالس الذكر، ومناسبات وفياتهم.
ونجحوا بحمد الله بعد إهمال طويل في إعادة (اعمَـار مبانيها، وتجديد أنشطتها)، ولا ينسى أحد من أبناء القرية وغيرها صديقنا الفاضل الحاج علي بن الحاج إبراهيم بن الحاج حسين آل إسماعيل، وجمع من معاونيه المتفاني في تقديم الخدمات المستمرة لهذه المساجد.
ثانياً: البحث عن الوثائق، وجمعها ونشرها:
تحمل هذه المسئولية بعض الباحثين، وعدد من المهتمين بالتراث الثقافي لبلدتي ((بربورة والنويدرات)) معاً، ومنهم خادم تراب المؤمنين (هكذا يسمى نفسه)، ويوسف مدن، والخطاط أحمد بن عبد الله سرحان، وأستاذنا الدكتور عبد علي بن محمد حسن عبد الله (بترقيق اللام)، وغيرهم من الشباب المتحمسين، وبعض العاملين في المجموعات الالكترونية كبوَّابة النويدرات، وبالرغم من بعض القصور في عمليات البحث، فإنَّه قد تم جمع عدد مقبولٍ من وثائق التاريخ الثقافي لبلدة بربورة وتراثها المتفرق في مصادر هنا وهناك كالمخطوطات وكتب التراجم وغيرها.
ثالثاً: في مجال تأليف الكتب وإعداد الرسائل والمقالات عن علماء بربورة وتراثهم الثقافي:
منذ بأ اهتمام بعض الباحثين بالتاريخ الثقافي لبربورة، والتفتيش عن تراثها العلمي ظهرت عند كتابات متفرقة، يمكن جمعها في نهاية في ملفات ثقافية – تاريخية، وقد تشكل أكثر من مجلد تاريخي، ونتذكر من هذه المقالات والأبحاث، والدراسات مجموعة مثل:
- مقال بعنوان (علماء بربورة الحبيبة) كتبه خادم تراب المؤمنين، ونحتفظ به في حيازتنا، وهو أول جهد بحثي في هذا الموضوع لأحد أبناء قرية النويدرات المخلصين، وتم نشره إلكترونياً بالعنوان السابق نفسه.
- وكتب قبل بضع سنوات خلت أستاذنا الدكتور منصور بن محمد سرحان النويدري مقالاً مهمَّاً في تاريخ بلدة بربورة، وعنوانه (بربورة كما أتذكرها)، وكان مكوَّناً من صفحات خمس أو ست، وقد نشر هذا المقال في أحد أعداد صحيفة من صحف الرأي العام في البلاد، وقدَّم فيه بعض المعلومات عن البلدة وأهلها.
- أمَّـا الأستاذ يوسف مدن، وهو أكثر منْ اهتم بـ ” تراث بربورة وتاريخها الثقافي”، وشغل كثيراً من وقته للكشف عن المزيد منه، فقد انتهي جهده التراكمي في إعداد وكتابة مجموعة أبحاث ودراسات، كان أحدها منشوراً في صحيفة الوسط البحرانية، وبعضها الآخر في النت، وظل غيرها غير منشور حتى الآن.
ومن دراساته في هذا الصدد مَـا يأتي:
- دراسته الأولى التي نشرتها جريدة الوسط يوم الاثنين، وبتاريخها (١٣ من يولية ٢٠٠٩م)، وفي عددها (٢٥٠٢)، وعنوان هذه الدراسة (بربورة قرية مندثرة) ضمن سلسلة الكتاب للجميع، الحلقة الثامنة، وكانت ملحقاً للعدد المذكور.
- وأعد دراسته الأوسع (بربورة وشهادة التاريخ وأدلة ثبوتها التاريخية)، ونشرت منها بعض الأجزاء.
- دراسة ثالثة عن (علماء بربورة، ومصنفاتهم، وانجازاتهم)، وهي غير منشورة سوى فصل واحد منها نشرته بوابة النويدرات.
- قيام الأستاذ يوسف مَـدَن صف حروف مخطوطة رسالتي الشيخ علي بن عبد الله البربوري البحراني، وهما: (وفاة النبي يحي بن زكريا، ورسالته في ذم الدنيا والتحذير منها)، وتعليقه على مادتها النصية المخطوطة.
- دراسة عن الشيخ علي بن عبد الله البربوري، آثاره الثقافية (منشور في نسخة إلكترونية ببوابة النويدرات).
- دراسة الأستاذ يوسف مدن عن موضوع (الشعر عند الشيخ علي بن الشيخ عبد الله البربوري البحراني)، لم ينشر بعد لا كتابياً، ولا الكترونياً.
رابعاً: في مجال تحقيق المخطوطات:
ترك علماء “بربورة” في القرون المتأخرة بعض مخطوطاتهم الفقهية والأخلاقية والتاريخية (تائهة هنا وهناك)، ومحفوظة لدى بعض الناسخين وخطاطي الرسائل والكتب وفي مراكز المخطوطات الشيعية، وتنبه بعض الباحثين، والمهتمين بتراث علماء هذه القرية إلى أهميتها، وضرورة البحث عنها بخاصة بعد تزايد الاهتمام بالقرية وتاريخها بين أفراد الجيل الجديد، وتمكن أكثر من باحث نويدري من العثور على مخطوطتين، إحداهما من مؤسسة العلامة كاشف الغطاء لإحياء التراث الإسلامي بمدينة النجف الأشرف، والأخرى مطمورة بين كتب ومجلدات مخطوطة قديمة لدى بعض مآتم قرية النويدرات، وتم بعد ذلك نشر الإبلاغ عن المخطوطتين في دراسات نشر إلكترونية.
والمخطوطتان هما:
- مخطوطة الشيخ ناصر بن عبد الله بن ناصر البربوري البحراني، وهي رسالة في (فقه الحج) كتبها في القرن الثالث عشر الهجري خارج بلاده البحرين، وتمكن أخونا الفاضل الأستاذ محمد بن أحمد عبد الله سرحان من التواصل مع مؤسسة كاشف الغطاء قبل وأثناء زيارته للنجف، وتسليمه نسخة إلكترونية منها، ورَغِبَ في تحقيقها، وتطلب مشروع تحقيقها دخول الأستاذ محمد سرحان دورة تدريبية في تحقيق المخطوطة لمدة أسبوع، وقد صفَّ الأستاذ سرحان حروف المخطوطة المذكورة ونصها الفقهي، ونشر جزءً من مادتها في موقع إلكتروني،وبذلك أضاف جهداً ثقافياً من الأعمال الثقافية لعلماء بربورة وتراثهم عـلى إسهامات أهالي النويدرات وانجازاتهم وخدماتهم للتراث العلمي البربوري البحراني.
- أمَّا المخطوطة الثانية فهي باسم (وفاة النبي يحي بن زكريا)، وتضم بين جنبيها رسالتين علميتين، إحداهما في حادثة مصرع النبي يحي عليه السلام، والأخرى (رسالة أخلاقية وتربوية وتوجيهية في ذم الدنيا، والتحذير من الإفراط في الارتباط بها)، وقد تعرَّف عليها الأستاذ يوسف مدن في ثلاثة مجلدات من المخطوطات التي كانت بحيازة أهالي قرية النويدرات، والمحفوظة في بعض مآتمها (آل إسماعيل، والبربوري)، وقام (أ – يوسف مدن) عام (٢٠٠٨م) بصف حروف مادتها الثقافية في جهاز الكمبيوتر، ووضع عليها بعض التعليقات والتوضيحات، والشروحات اللازمة، وإجْـراء بعض الدراسات عليها فيما بعد كموضوع (الشعر عند الشيخ علي بن عبد الله البربوري البحراني)، وقد نسخها نفر من خطاطي أهالي النويدرات، وتمكن يوسف مدن من التأكد من ثلاث نسخ لها بخط ثلاثة خطاطين سنذكرهم فيما بعد خلال هذه الدراسة التعريفية بالنشاط الثقافي البربوري.
خامساً: مجال نسخ المخطوطات (كتب ورسائل ووثائق):
وكانت كتابة المخطوطات إحدى أهم الأنشطة والخدمات المتبادلة بين أهالي القريتين حتى زوال بربورة في العقد الثاني من القرن العشرين وما بعده، فكما خدمت حركة النسخ في المجتمع النويدري وتاريخه الروحي والثقافي حركة العلم والثقافة بجدارة ملحوظة في سنوات القرن الرابع عشر الهجري، وهو أزهى عصور حركة النسخ بالنويدرات، فكذلك صبَّت هذه الحركة خيرها العميم على أهالي بربورة وتراثهم الروحي والثقافي حينما كانت قائمة بوجودها التاريخي وعامرة بأهلها الأطياب، وذلك لأن الوحدة الثقافية والروحية والمعيشية ونمطية الحياة الاجتماعية بين القريتين كانت متماثلة إلى حد كبير، وتقود بالضرورة إلى تقْديم نسيج مشترك من الخدمات الثقافية والروحية بينهما، فيترتب عن ذلك نتائج موحدة في الفكر والعقائد والوجدان والنشاط.
ومن هذا التداخل، والإحساس الصادق بالوحدة بينهما في المصالح والمنافع المتبادلة والأنشطة والفعاليات المختلفة تداخلت حركة نسخ المخطوطات بين الساكنين في القريتين، وأخذت هذه الحركة الميمونة والمباركة بتعزيز النشاط الثقافي فيهما وتقوية تحقيق الأهداف المشتركة لأهالي القريتين بخاصة في سنوات القرن الرابع عشر الهجري، وقد تسللت أشكال من حركة نسخ المخطوطات ككتابة الرسائل والكتب والشعر واللطميات وتصديقات ختم القرآن وبعض الأدعية إلى الواقع الثقافي للقريتين فساعدت في إثراء الحياة الروحية والثقافية بين الأهـالي، ولعل أحد أسباب عناية بعض الناسخين من أهالي النويدرات، وممن ساهم في دعم وتعزيز الأنشطة الروحية لمآتمها، ومجالسها الحسينية باستخدام حركة النسخ أنها كانت تستهدف حفظ مكونات هامة من النشاط الثقافي للقريتين خاصة بلدة “بربورة” وتعزيزه حتى بعد أن اندثـار القرية تماماً وهجرها من قبل أبنائها قبل عام ١٩٢٠م، بينما كانت إحساسات هؤلاء الناسخين، وما يزال أبناؤهم حتى يومنا تتفاعل في وجدانهم، وتشعر بأن القرية المذكورة ما تزال عامرة بحبهم ومشاعر قلوبهم، وكأن أهلها بينهم حتى اللحظة الحاضرة من حياتنا.
وقـد كتبوا ما أمكنهم، ونعني هنا النساخين وخطاطي النويدرات، في خدمة من تبقى في قرية ” بربورة ” في تلك الفترة قبل قرن من الزمان، وقبل أن يهجرها الأهالي ويرحلوا عن ترابها، ونحن اليوم بعد مضي حوالي قرن من اندثارها الفعلي نكتب بحنين وشوق إلى تاريخها، ونبحث العلاقة بين جهود الخطاطين والنساخين من أهالي النويدرات، وبين مظاهر التراث الثقافي وجوانبه لقرية ” بربورة ” عسى أن نرد بعض الجميل لهؤلاء النساخين، ونكشف جوانب من غاياتهم النبيلة، ومدخل بعض هذه الاثارات هي الزاوية الوجدانية التي نرى أنها تعكس بصماتها الروحية والوجدانية على ما تبقى من التراث الثقافي لهذه البلدة.. بربورة الغالية، وقد أراد لها البعض أن تمحى وكأنه لا تاريخ لها، ولم تكن يوماً من قرى البحرين وبلداتها العامرة، فأبى الله ذلك، وكانت مخطوطاتهم التي كتبها خطاطو النويدرات أحد المظاهر الدالة على تذكير الناس بتاريخها المجيد.
نساخو النويدرات وتراث علماء البحرين.. ومنهم ((علماء بربورة))
لعل من أبرز الحقائق المهمة في اطلاعنا على نماذج، وجملة من الرسائل والكتب الخطية التراثية التي نسخت في مجتمع قرية النويدرات البحرانية وقوفنا على عدد من أسماء وعنـاوين عدد من المخطوطات والرسائل والكتب الخطية التي نسخها بعض الخطاطين من أهالي النويدرات، ومن غيرهم سواء من سترة وتوبلي وكرزكان، والبلاد القديم وغيرها، ومعرفة أنها مصادر معرفية تراثية كتبها وصنفها علماء بحرانيون وغير بحرانيين من العلماء الشيعة الإماميَّة عبر عصور مختلفة من الزمان، وهي ذات صلة بتاريخ أهل البيت ومصائبهم، وعلوم الإسلام في الفقه والتاريخ وغيرهما من المعارف.
ولاحظنا كذلك أنَّ بعض هذه الكتب المخطوطة كانت في حالة جيدة ومقبولة مكنتنا من الاستفادة العلمية منها، إذ احتفظت هذه المخطوطات بعناوين بارزة، وبأسماء مؤلفيها، ومصنفيها، وتواريخ نسخها، وبعض صيغ الوقف الشرعي لها لهذه الجهة أو تلك من مآتم النويدرات، بينما كانت بعض الرسائل والكتب الخطية الأخرى تعاني من التمزق والتلف، وضياع بعض أوراقها، وصفحاتها، ونقصان بعض بياناتها الأساسية والمهمَّة التي يحتاجها الباحث، سواء الخاصة بالمصنف أو الناسخ أو المأتم، أو أي شيء آخـر مفيد، وبذلك فقدنا الاستفادة الكاملة منها كما ينبغي، أو الحصول على معلومات قليلة ومحدودة لا تغني من الحقيقة، ولا تسمن من جوع.
ومن أسماء العلماء الشيعة الإمامية الذين عثرنا على أسمائهم، وكتبهم ضمن عدد من المخطوطات التراثية النويدريَّة الشيخ علي بن عبد الله بن حسين بن أحمد بن جعفر البربوري الأوالي البحراني،وكذلك ورد ذكره ضمن مجموعة علماء بحرانيين، ومنهم الشيخ حرز العسكري الشهدائي البحراني، والشيخ حسن الدمستاني، والشيخ حسين بن محمد العصفور الدرازي البحراني، والشيخ جعفر بن محمد أبو المكارم وعدد آخر من العلماء، ومنهم كذلك علماء غير بحرانيين مثل أبي مخنف (لوط بن يحي)، صاحب كتاب (مقتل الإمام الحسين) المشهور.
وجاء ذكر الشيخ علي بن عبد الله بن حسين البربوري في سياق الرسائل والكتب التي نسخها أهالي النويدرات لمجتمعهم النويدري، ولوحظ أيضاً أنَّ الإشارة لهذا العالم الجليل ورسالته العلمية التاريخية المذكورة (مقتل النبي يحي بن زكريا) عليهما السلام، ورسالته الأخلاقية في ذم الدنيا والتحذير منها جاء في ثلاث نسخ لمخطوطة كتابه المذكور آنفاً كما سيأتي توضيحه في هذا البحث، حيث تعرفنا على اسمه، وعنوان كتابه في نسختين خطهما الحاج حسين بن علي القيِّم النويدري البحراني، والملا الحاج حبيب بن يوسف بن الحاج أحمد بن الشيخ يوسف، بينما وجدنا صعوبة في نسخة المخطوطة الثالثة التعرف على أهم بياناتها الأساسية كعنوان الكتاب واسم مصنفه، بل وحتى اسم ناسخه، وتاريخ نسخ المخطوطة ذاتها، واعتمدنا على تاريخ نسخ المجلد الخطي الذي وجدت فيه أوراق وصفحات لمخطوطة كتاب الشيخ البربوري، وكما سيأتي بيانه فالناسخون في النويدرات (من أهلها ومن غيرهم) استهدفوا ضمن جملة أهدافهم النبيلة خدمة الأهالي في مجتمع قريتي (النويدرات وبربورة)، وتلبية مطالبهم الروحية والدينية والثقافية، والعمل من أجل تعزيز الثقافة الدينية والمحلية لمجتمعهم الناشئ.
وكان أملنا أن نوفق في الحصول على أكثر من مصدر وكتاب من مصنفات علماء بربورة، وكان لنا ذلك في كتاب البربوري (وفاة النبي يحي)، وكتب أخرى، ولكن من نسخ علماء آخرين غير نويدريين، وخارج البحرين، وليست موجهة لأهالي بربورة ومجتمعها آنذاك، وهكذا فعملية النسخ بالمجتمع النويدري خدمت أهله، ومجموعة علماء، كان بعضهم من علماء بربورة.
وثمة كتب تراثية مخطوطة، ومطبوعة من تراث علماء بربورة، فقد تعرفنا لحسن حظنا خلال بحثنا المستمر عن مظاهر هذا التراث على كتابين مهمين لم يقدر لنساخي وخطاطي النويدرات نسخهما، وإعادة خطهما من جديد في القرن الرابع عشر الهجري ولا قبله سواء كان الناسخون من أهاليها أو من القرى البحرانية الأخرى التي تضافرت جهودهم في خدمة تراثي بلدتي (بربورة والنويدرات) معاً كما فعلوا مع كتاب “مقتـل النبي يحي بن زكريا” عليهما السلام ومصنفه الشيخ علي بن عبد الله بن حسين البربوري البحراني، ومع هذا الحرمان من هذا الفضل العلمي، فقد آثرنا الإشارة إليهما كي يكون القارئ الكريم على أقل تقدير على علم ودراية واطلاع بتراث علماء هذه القرية.
فالكتاب الأول في وفاة الزهراء عليها السلام بعنوان (مثير الزفرات ومجري العبرات في وفاة فاطمة الزهراء) للشيخ محمد بن جعفر بن محمد بن جعفر بن علي العكري – البربوري البحراني، ونسخة مجهولة الناسخ، وقد طبعها السيد محمود الغريفي تحت رقم (٣٣) من سلسلة دار حفظ التراث البحراني عام ١٤٣١هـ، ولهذا الكتاب نسخة خطية ثانية نسخها عام (١٢٩٧هـ) الشيخ محمد بن موسى بن حسن الصحاف البربوري أصلاً، والأحسـاني مسكناً.
أمَّا الكتاب الآخر من كتب علماء بربورة فعنوانه (ثاني المصائب والشهاب الثاقب على رؤوس المناصب في وفاة الزهـراء)، وصنَّفه العالم البربوري الشيخ محمد بن ناصر المعلم البربوري – الأحسائي البحراني، ونسخه (أحمد بن محمد بن حبيل المهزي أصلاً، وسفالي منزلاً ومنشئاً ومسكناً.. مهزة وسفالة قريتان من جزيرة سترة البحرانية)، وهو لحسن حظ قد طبع كذلك عام (١٤٣١هـ) تحت رقم (٣٢) مع كتاب الشيخ العكري – البربوري السابق الذكر ضمن سلسلة دار حفظ التراث البحراني في مدينة قم المقدسة، وكلاهما بتحقيق السيد محمود الغريفي البحراني، بيد أن نساخي قرية النويدرات ممن اهتموا بتراث علماء “بربورة” لم يتمكنوا من نسخ الكتابين، ولم يتداولهما الناس في مآتم قريتي (النويدرات وبربورة)، وربماَّ كان بسبب أنهم لم يعثروا على الكتابين، فضاعت منهما فرصة نسخهما، وإن كسب المؤمنون علماً بهما وبوجودهما كأثرين من آثار الثقافة الإسلامية في قرية “بربورة” البحرانية.
مظاهر التراث الروحي والثقافي لـ “بربورة”
في وثائق نساخي النويدرات
ذكر اسم “بربورة” مراراً في قصاصات ورقية قبل تاريخ نسخ بعض المخطوطات من قبل خطاطي أهالي قرية النويدرات، وكذلك وجدت طريق الإشـارة المتكررة في مجموعة وثائق غير قليلة من صفحات بعض الكتب الخطية في التراث الثقافي للنويدرات وبربورة، ويثبت هذا وجود علاقة ثقافية وروحية متشابكة وقوية بين أهالي القريتين المذكورتين، وما تزال القصاصات الورقية ووثائق المخطوطات تدلان على قوة العلاقة التاريخية بين القريتين، واستمرار الروابط بين الأهالي فيهما بخاصة في القرنين الهجريين (الثالث عشر والرابع عشر).
وسنمر في هذا الفصل على نماذج من إشارات الناسخين رحمهم الله عز وجل سواء كانوا من أهالي النويدرات أو من أبناء القرى المجاورة أو ممن شاركوا بفعالية وصدق إرادة في دعم حركة نسخ الكتب والرسائل الخطية بقريتي “بربورة والنويدرات” معاً، وهي مظاهر محدودة، وبقدر ما تيسَّر لنا من توافر بعض وثائق النسخ التي تركها المهتمون بكتابة مخطوطات للقرية (النويدرات العامرة).
- تحديد النساخين بأهالي النويدري والقرى المجاورة:
وتحديداً فالنساخون المعنيون هم كُـثْرٌ ذكرناهم في دراستنا عن (حركة نسخ المخطوطات في قرية النويـدرات) ممن ساهموا في إثراء حركة النسخ بقرية النويدرات وشقيقتها “بربورة” في فترة سابقة من تاريخهما، وعددهم (٢٢) ناسخاً، وهم باختصار كل منْ أشرنا لاسمه ومساهماته في هذه الدراسة، وفي دراستنا لحركة النسخ بالنويدرات سواء كان من أهالي النويدرات، وينتسب لعوائلها ووطن نفسه لخدمة تراثها الثقافي والروحي، أو كل من امتهن هذه الصناعة من قرى أخرى من علماء دين وخطباء، ونساخين كانت لهم علاقات مع أصحاب المآتم في النويدرات كآل اسماعيل، وآل معراج والبربوري فصنعوا بعلاقتتهم واقعاً ثقافياً جسدته حركة النسخ بقريتي (بربورة والنويدرات) في القرنـين (١٣ – ١٤) الهجْـريين.ونعتقد أنَّ القارئ الكريم – وبخاصة المهتمين بالتراث من أهالي النويدرات – لا يحتاج أكثر من هذا التحديد، فأسماؤهم مدونة في فصول سابقة من هَـذه الدراسة، وأدوارهم مكشوفة بحدود ما علمناه عن بعضهم، وسنذكر في هذا المبحث بعضهم فقط.
- ذكر بربورة في وثائق نسخ مخطوطة:
ثمة عدد من الوثائق المرتبطة بحركة نسخ المخطوطات في القريتين تذكر بلدة “بربورة” واسمها، واللقب المتفرع عنها، وقد اخترنا فقط من هذه الوثائق اثنتين يتوافر فيهما المقصد المراد توضيحه، وبتأمل وثيقتين مهمتين نجد أنهما ذكرت مباشرة “بلدة بربورة” بالاسم، وباللقب الذي يسمى به كل من انتسب لهذه القرية التاريخية والعريقة التي عاشت مع الزمان، فقسى عليها بعض الطغاة.وكان هذا الاستخدام من بداية تاريخ حركة النسخ في قريتي “بربورة والنويدرات” معاً، فالوثيقة الأولى الأقدم وبتاريخ عام ١٣١٨هـ أسمت الحاج محمد بن عبد الله الدولابي بالبوري أصلاً، وبـ”البربوري” مسكناً، أي عرف بهذا اللقب بعد أن سكنها، وكان أصله من قرية “بوري” التاريخية، أمَّا في الوثيقة الثانية وتاريخها عام ١٣٥٩هـ في آخرها، يظهر اسم بلدة “بربورة” ومأتم “بربورة” كذلك، ومعهما اللقب (البربوري) على الحاج علي بن عيسى البربوري رئيس مأتم “بربورة”، وكان ذلك في صيغة وقف شرعي لكتابين نسخهما الستري الوادياني، واسمهما واضحان في نص صيغة الوقف الشرعي، ومما لاشك فيه أن هذه الإشارة للبلدة باسمها واللقب المرتبط بها أتى عن طريق جهد ناسخين مؤثرين في حركة “نسخ المخطوطات للمأتم البربوري” الذي انتقل إلى النويدرات بعد هجرة أهالي بربورة عن بكرة أبيها، والملحوظ المستخلص من نص الوثيقتين، ومضمون محتواها المعرفي كما سيأتي توضيحه، وكلتاهما – بطابع روحي وثقافي محض – أنَّهما وثيقتان تؤكدان على ذكر بعض الأنماط الثقافية والروحية من تاريخ بلدة “بربورة” مثْـل:
١. الإشارة إلى ذكر اسم بربورة، فقد ذكر بعض الخطاطين والنساخين قرية بربورة (اسماً ولقباً ومأتماً) في صفحات متفرقة من كتبهم التي نسخوها بخط أيديهم، وبالتحديد في الصفحات الأولى والأخيرة منها، وفي وسط المجلدات الخطية.
٢. الإشـَارة المتكررة إلى لقب “بربوري” وشيوعه في وثائق النسخ التي خطها النساخون من أهالي النويدرات أو من أبناء القرى الأخرى إلى كل من انتسب لهذه البلدة سواء من نساخي نويدريين أو خطاطي ونساخي القرى البحرانية التي تعاملوا مع مآتم النويدرات وبربورة بأسمائها مباشرة، أو من خلال استعمال اللقب الذي يحدد الانتماء، والهوية فيقال على سبيا إنسان “بربوري” أو “البربوري” في بعض صيغ الوقف الشرعي الملحقة بالكتاب المخطوط سواء كانت الصيغة موجودة في الصفحة الأولى من الكتاب المخطوط أو كانت على غلاف المجلد المخطوط أو في آخرة صفحاته بعد الانتهاء من كتابة ديباجة المخطوط.
٣. أشارت إحدى الوثيقتين كما سيأتي بيانه إلى ذكر “مآتم بربورة” كأهم مؤسسات بلدة بربورة التاريخية في تلك الفترة الزمنية، وهو المأتم المعروف الآن في قرية النويدرات بـ “المأتم البربوري” حماه الله من غوائل الدهر وطوارق الزمن.
٤. ذكر أنماط من الحياة الثقافية في مجتمع قرية بربورة كمخطوطاتها، ومنها مخطوطة كتاب الشيخ علي البربوري رحمه الله تعالى حول مقتل ووفاة النبي يحي بن زكريا عليه الصلاة والسلام، و سنمر على بعض التفاصيل الخاصة بإحدى المخطوطات التي صنَّفها عالم الدين المذكور، والأديب والشاعر الشيخ علي البربوري، وهو من علماء “بربُـورة” التَّاريخية.
الوثيقة الأولى تذكر اللقب ((بربوري))
الوثيقة الثانية تذكر بلدة “بربورة” باسمها، ولقب “بربوري”
وتحتوي في الوقت نفسه على صيغة وقف شرعي لكتاب يستفاد منه في “مأتم بربورة”
خطاطو النويدرات ومخطوطات بربورة
إذا ما تمعنَ الواحد بنظره في جملة من الوثائق الثقافية المحلية، والمعروضة في مواضع متفرقة من مباحث كتابنا (حركة نسخ مخطوطات النويدرات) فسوف يجد بوضوح تنوعاً في اهتمامات خطاطي ونساخي النويدرات، ومن ذلك اهتمامهم بنسخ بعض كتب علماء قرية بربورة، وتراثهم، وتنشيطه، وهو شأن نتج عنه اهتمام، وزيادة مساهمتهم في العناية بالتراث الثقافي لبلدة “بربورة” التَّـاريخية بتقديم عـدَّة خدمات جليلة:
- لمآتمها، ومجالس الذكر فيهـا، وإعداد كتب مخطوطة للقراءة المسبقة فيما يعرف بقراءة “الحديث” قبل صعود الخطيب لمنبر الخطابة الحسينية، والنعي.
- والمشاركة في تزويدها بالمخطوطات التي تنظم فعاليات هذه المآتم والحسينيات، وبخاصة من الكتب الخطية، وكتب اللطميات والمراثي، والسرد التاريخي لمصائب أهل البيت عليهم السلام بخاصة ما جـرى عليهم في كربلاء.
- ونسخ بعض تصديقات ختم القرآن.
- ونسخ وخط بعض أدعية الذكر.
- وأتيحت لبعض هؤلاء الخطاطين من أبناء النويدرات فرصة نسخ بعض الكتب والرسائل التي صنَّفها علماء من بربورة، وكانت خدمتهم لأهالي هذه القريـة كخدمتهم لأشقائهم من أهالي “قرية النويدرات” المحروسة بعنايته تعالى.
مع تجارب خطاطي النويدرات في نسخ مخطوطة كتاب الشيخ علي البربوري
يعتبر انشغالنا بالبحث عن التراث الثقافي والروحي لبربورة وأعلامها الكرام ما بين سنوات (٢٠٠٨ – ٢٠١٧م) خطوة متطورة علمياً، ومفيدة، وضرورية في التعرف على مزيد من المعلومات التاريخية المهمَّة عن هذا التراث، وأعلامه الأتقياء، والأخيار بحدود ما توافر لنا من مصادر خطية.
وكان من أهم ما تعرفنا عليه خلال السنوات الثمان الماضية هو اكتشاف ثلاث مخطوطات لكتاب واحد صنفه أحد علماء بربورة في القرنين (١٢ – ١٣) الهجريين، وهو المرحوم الشيخ علي بن عبد الله بن حسين بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر البربوري الأوالي البحراني كما جاء في الصفحات الأولى من مخطوطته المباركة، وقد صنفه عليه الرحمة قبل زمن أكثر من مائتي عام، وكان عنوان هذا الكتاب القيم (مقتل النبي يحي بن زكريا) عليهما السلام، وذلك قبل هجرة العالم الجليل عن بلده البحرين، وقريته ((بربورة) اضطراراً، كما يبدو، لترافق وجوده يومئذ خارج البلاد في جنوب غرب إيران عام ١٢٠١هـ مع أحداث أمنية بالمنطقة، بل ولا يستبعد أنَّ هجرته ارتبطت في هذا التاريخ بأحداث أمنية في داخل جزر البحرين نفسها، كدخول آل خليفة لجزر البحرين، ولعل ذلك أحد أسباب هجرته من بلاده للخارج، وقد تكون تحت تأثير أكثر من سبب دفعه للهجرة ومغادرة البلاد.
وقد نسخ كتاب الشيخ علي البربوري، بحسب علمنا، ثلاثة من الخطاطين والنسَّاخين من أهالي النويدرات، وممن امتهنوا جميعاً صناعة وحرفة نسخ الكتب الخطية في تلك الفترة الصعبة، وتعرف عائلتي اثنين منهما بوضوح تام في المجتمع النويدري إلى يومنا الحاضر، أمَّا الناسخ الثالث فما يزال أمره غامضاً لم نصل فيه بعد إلى قرار حاسم وفاصل.
ولا يتجاوز الفاصل بين تجارب نسخ الكتاب المذكور الثلاث ما بين ((عشر سنوات متصلة، أو أقل من خمس عشرة سنة))، وكان تاريخ المحاولة (١٣٣٨هـ)،وهي الكشف الأول لنا لا يقل عن قـرن كامل أو (مائة عام)، بينما محاولتنا الثانية في كشف نسخة أخرى لمخطوطة الشيخ البربوري، وهي الأسبق والأبعد زمناً من الأولى بحوالي عشر سنوات، وبالتحديد في عام (١٣٢٨هـ)، أمَّا التجربة الثالثة لنسخ هذا الكتاب فكان تاريخها عام (١٣٤١هـ)، وتعتبر، نقصد (محاولة نسخ الثالثة)، ذات عمر أقل من المحاولتين السابقتين، فعمرها لا يتجاوز من تاريخ زماننا الآن (٩٦) سنة هجرية من تاريخ عامنا الذي نكتب فيه هذه الدراسة سنة ١٤٣٧هـ، وقد تمت في زمن وجود الناسخين الأول والثاني الحاج حسين القيم، والملا الحاج حبيب آل الشيخ يوسف رحمهما الله سبحانه.
وبصرف النظر عن التباين في تاريخ نسخ هذه المخطوطة فجميعها تمثل أحد أهم مظاهر حفظ التراث الثقافي والروحي لعلماء “بربورة”، واهتمام خطاطي النويدرات بنسخ بعض علماء هذه البلدة، فالكتاب تصنيفاً ونسخاً وتداولاً هو في حقيقته قرينة تاريخية وثقافية هامة على وجود علماء لهذه القرية، وقد تعبنا في البحث عنهم لسنوات، وكذلك هو دليل آخر على وجود نشاط ثقافي يشكل أحد معالم التراث الثقافي والروحي لهذه البلدة التاريخية في قرون سابقة.
وقد عثرنا بعد معاناة، وفجأة، وبتوفيق الله سبحانه وهدايته على النماذج الثلاث من نسخ مخطوطة هذا الكتاب المهم في أوقات متفرقة، وهو المنسوب في صفحاته الأولى للشيخ علي بن عبد الله بن حسين البربوري البحراني رحمه الله بنص صريح، إذ تعتبر تجارب النسخ الثلاث لثلاثة من خطاطي قرية النويدرات بالقرن الرابع عشر الهجري علامة كبيرة على وجود علاقة وطيدة وقوية الأواصر بين أهالي النويدرات والتراث الثقافي والروحي لـ “بربورة” باعتبارهم الوريث الثقافي لهذه القرية بعد غيابها عن الوجود الاجتماعي والتاريخي، وبعد اندثار كيانها، ونزوح أهلها إلى مناطق متفرقة ومجاورة من المعمورة كانتشارهم في مدن وقرى جنوب العراق، والجنوب الغربي من إيران، وبعض المناطق في شرق الجزيرة العربية.. الأحساء والقطيف، وفي مناطق داخل جزر البحرين كوجودهم في قرى النويدرات، والهملة، والمعامير، وسترة، ووجود عائلتي الصحاف الأحسائي – البربوري البحراني في القرن الثالث عشر الهجري.
كما أن من فوائد الكشف لتجارب النسخ المباركة حفظ مخطوطة الكتاب بواسطة بعض نساخي النويدرات رحمهم الله سبحانه، ولولا مثل هذه التجارب في نسخ مخطوطة كتاب “وفاة النبي يحي عليه السلام” لأصبح الآن في خبر كان، ولدفن هذا الأثر الثقافي والمهم كحال بعض كتب ورسائل علماء بربورة، وجهد الإنسان فيها في عالم المعرفة الذي أراد المرجفون التطاول عليه وإخفاءه عن عمد وسبق إصرار في إقصاء تاريخها، ونسف مقوماته وبُنْيَتِه، وتأسيس تاريخ جديد لا علاقة له بالقرية وهويتها التاريخية، ولكانت مخطوطة هذا الكتاب المذكور الآن في عالم النسيان وزواياه المقبورة، وضاع – بضياعه – أحد مرتكزات الهوية الروحية والثقافية للقرية المندثرة.
وبالتأكيد لم نكن على علم بالظروف التاريخية التي دفعت بعض خطاطي ونساخي النويدرات وهم (الملا والحاج حبيب والحاج حسين القيم، والناسخ الثالث مجهول الاسم) على نسخ الكتاب بأكثر من نسخة مخطوطة متباعدة في الزمن، وبحدود تتراوح بين (١٠ – ١٣ سنة) هجرية تقريباً، بيد أن النسخ المخطوطة الثلاث كانت في نهاية الأمر سبباً في وصول نسخ مخطوطة الكتاب إلينا، ونحن في حاجة إليها، وفي ظرف صعب يتعمد المرجفون إخفاء تراث بربورة وثقافتها، وطمس معالم وجودها العلمي، وإغفال تاريخ أعلامها ومساهماتهم الفكرية، وكان من قدر الله وتوفيقه مع العلماء وأخيار هذه القرية أن احتفظ بالمخطوطات الثلاث للكتاب بعض الأفراد، وبحيازة مأتمين من مآتم النويدرات، ولعل ثمة نسخ أخرى موجودة عند أفراد آخرين لم يدركوا بعد مقاصد أعداء تراثنا الثقافي، وخطأ إخفائهم لهذا الكتاب أو غيره من مصنفات علماء بربورة وغيرها.
والمهم أن الله سبحانه وتعالى أسبغ الله بعد هذه المعاناة نعمة الاطلاع على هذه النسخ المخطوطة للكتاب المذكور بثلاث تجارب نسخ منفصلة زمنياً، ومكانياً:
- فكان عمر الأولى والأقدم منها (مائة عام وعشر سنوات)، أي في عام (١٣٢٨هـ).
- وعمر الثانية قرن هجري أو مائة عام من تاريخنا الآن، وتاريخها (١٣٣٨هـ).
- أما تاريخ التجربة الثالثة لنسخ هذه المخطوطة فيقدر عمرها بستة وتسعين من أعوام التاريخ الهجري وسنواته، أي في عام ١٣٤١هـ.
ومما لا شك فيه أنه جرت في السنوات الفاصلة بين أعوام (٢٠٠٩ – ٢٠١٧م) محاولات لمعرفة جوانب من التاريخ الثقافي لبلدة “بربورة” وقرأ بعضهم معرفة متفرقة هنا وهناك عن بعض علمائها، وتوطدت علاقة الناس بماضيهم وبتراثهم، وباءت محاولات المرجفين محو هوية هذه البلدة حتى بعد اندثارها وشتات أهلها في بلاد الله داخلها وخارجها، فظلت ذكراهم في وجدانهم، وذاكرتهم، وبدأ تاريخ هذه القرية – بواسطة وعيهم الجديد – في استرداد بعض مظاهر هويتها الثقافية، واستعادة جوانب مضيعة من تراثها المبعثر هنا وهناك، وشاء الله عـزَّ وجل أن يجعل قدر بعض النساخ والمثقفين من أهالي النويدرات، ويكون لهم نصيب في البحث عن تاريخها الثقافي ولملمة جراحاته الحزينة، وهكذا كان حقاً على الله سبحانه أن يحفظ جهد العلماء ويثبت جذور علمهم راسخة في الأرض، والتاريخ بتجارب ثقافية متفرقة، ومنها تجارب النسخ الثلاث من خطاطي النويدرات بالقرن الرابع عشر الهجري.
وهي كما يأتي:
١. تجربة النسخ الأولى (١٣٢٨هـ):
وكان التعرف على النسخة الخطية لكتاب الشيخ علي البربوري في (وفاة النبي يحي بن زكريا ومصرعه) قد تم فجأة وبعد تعب مرهق، وقد ظننت منذ سنوات خلت، وبفرح كبير أن مخطوطة الشيخ البربوري التي خطها بقلمه الملا والخطيب الحسيني الحاج حبيب بن يوسف بن الحاج أحمد رحمه الله عز وعلا شأنه هي النسخة الوحيدة من كتابه الأول الذي عرفناه حتى الآن، وانتابني آنذاك شعور بالفخر والعزة، وغمـرني إحساس كبير بالسعادة يومئذ بتوفيق الله سبحانه لنا في الكشف عن أحد معالم التراث المخطوط في قرية بربورة، والنجاح في بعض جوانب مهمتني الثقافية في الدفاع عن الوجود التاريخي لهذه القرية، وعن تراثها الروحي.
وإذا أنا أفاجأ من جديد، وبحمد الله عز وجل، وبعد مضي أكثر من ثمَـان سنوات بوجود (مخطوطتين أُخْرَتَيْن) للكتاب نفسه في مجلدين خطيين متفرقين عن بعضهما مكاناً وزمناً، وأحدهما كان محفوظاً في “المأتم البربوري” بقرية النويدرات اليوم، وتاريخها ١٣٤١هـ، وأمَّا المجلد الخطي الثاني فموجود لدى أحد أحفاد المرحوم الناسخ الحاج حسين بن علي القيم، وبعمر زمني أطول لإحداهما من عمر نسخة الحاج حبيب، وبتاريخ أقدم وبخط ناسخ آخر هو المرحوم الحـاج حسين بن الحاج علي بن حسين القيم النويدري البحراني، وكانت هذه المخطوطة محفوظة مع كتاب آخر في مجلد خطي آخر، مع كتاب (مقتل أمير المؤمنين) للشيخ حرز العسكري الشهدائي الأوالي البحراني، وتاريخها عام ١٣٢٨هـ، بينما تجربة النسخ الثالثة، وهي محفوظة في مجلد آخر، وتاريخه عام (١٣٤١هـ / ١٣٤٢هـ)، وهي أقل من عمر نسخة الحاج حسين القيم بثلاث عشرة سنة، ويعادل عمرها حوالي (٩٧) عاماً هجرياً من تاريخ هذا العام ١٤٣٨هـ.
وقد ذكرنا ذلك في حديثنا بالحلقة الخاصة، وبالأدوار الثقافية لبعض نساخي قرية النويدرات خلال القرن الرابع عشر الهجري، وبالتحديد أثناء حديثنا في كتابنا (حركة نسخ المخطوطات في قرية النويدرات) عن دور المرحوم الناسخ الحاج حسين القيم النويدري رحمة الله عليه.
وعدد صفحات هذه المخطوطة الأبعد زمناً من نسخ كتاب الشيخ البربوري، ونعني النسخة التي خطها الحاج حسين القيم النويدري وبخط يده حوالي (٤٩) صفحة متقابلة من صفحات كراسة مدرسية، أي صفحتان متقابلتان (يمنى ويسرى)، وهذا ما يعادل (٩٨) صفحة منفردة بين (يمنى ويسرى) متقابلتان، ولوحظ أن عدد أسطر كل صفحة من مخطوطة الحاج حسين القيم ليست متساوياً، بل متفاوتة ما بين (١٤) سطراً إلى (١٨) سطراً بتفاوت الصفحات، ونقصد أن أسطر بعض الصفحات تكون إمَّا بحدود (١٤) سطراً، أو يتراوح عدد الأسطر فيها بين هذا العدد و(١٥، ١٦، ١٧، ١٨) في الصفحة الواحدة، وتخلل نص المخطوطة آيات قرآنية كريمة، وروايات شريفة، وقصص وأبيات شعر من نظم المصنف أو من نظم آخرين.
وابتدأ الناسخ بقول المصنف في مخطوطة كتابه هذا:
الحمد لله الذي حبَّب إلى أوليائه الصـبر على البَـلاء….
وختم المؤلف كتابه كما نقل الناسخ الحاج حسين القيم النويدري البحْـراني بقوله:
فقتل أزبيل زوجة الملك، والملك جب لعنهما الله تعالى جميعاً في بستان مزدكي، فلم يزالا جسميهما ملقيان في الجنة، يعني بستان الرجل المؤمن مزدكي إلى أن بليت لحومهما، ورميت أعظامهما، وغـدت أرواحهمـا إلى النَّـار وبئس القـرار
وأضاف ناسخ مخطوطة الشيخ البربوري بعد ذلك، وفي الصفحة قبل الأخيرة بقوله:
وهذا آخِـر ما انتهى إلينا ووجدناه مسطوراً من وفاة النبي يحي بن زكريا عليهما السلام على التمام والكمال، ونستغفر الله عن الزيادة والنقصان، والسهو والغلط والنسيان، إنه غفور منَّان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
أمَّا الصفحة الأخيرة من المخطوطة فهي ما أضافه الناسخ الحاج حسين بن علي القيم النويدري البحراني بجهده الذاتي رحمه الله تعالى في عملية نسخ وخط كتاب “وفاة ومقتل النبي يحي بن زكريا” عليهما السلام، حيث قال القيم النويدري عليه الرحمة:
تمت هذه الوفاة الشريفة بقلم الفقير لله العلي عبده حسين بن علي القيم النويدري البحراني عفى الله عنه، وعن والديه، وعن معلمه، وعن قاريها وناشديها، ومستمعيها، وعن المؤمنين والمؤمنات برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، حرر باليوم الثالث عشر من شهر ربيع الثاني سنة الثامنة والعشرين وثلاث مائة وألف من الهجرة النبوية على مهاجرها أفضل الصلاة وأكمل التحية.
ثم كتب الناسخ بيتين من الشعر قال فيهما:
الخط يبْـقى سنيناً بعد كاتبه وكاتب الخط تحت الترب مدفوناً
وتبْـقى خطوطي بعد موتي إلـى أن يواري لحـودي جندل
وحمد الحاج حسين القيم النويدري ربه الله سبحانه في نهاية ما سطَّره من نص المخطوطة بقوله:
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين
ونظراً لأهمية هذه المخطوطة لدينا من الناحيتين ((المعرفية والتاريخية))، ومن حيث أقدمية نسخها أولاً، وبسبب وضوح خط الناسخ فيها، وقلة الأخطاء فيه، فقد عملنا منها نسخة إلكترونية، ونسخة خطية ورقية أخرى من أجل الاحتفاظ بها، وسرعة تداولها، ونشرها، وانتفاع الباحثين الجادين من مادتها المعرفية فيما بينهم، ويمكن لبوَّابة النويدرات “نشرها” على الباحثين.
٢. والتجربة الثانية للحاج حبيب بن يوسف بن الحاج أحمد بن الشيخ يوسف (١٣٣٨هـ):
وسردنا هذه التجربة بحديث مفصل عن ((حادثة الكشف الأولى)) وكشف ومعرفة نص مخطوطة الكتاب المذكور للشيخ علي بن عبد الله بن حسين بن أحمد بن جعفر البربوري البحراني عام (٢٠٠٨م / ٢٠٠٩م)، وكان ناسخ مخطوطته آنذاك المرحوم الملا والخطيب الحسيني الحاج حبيب بن يوسف بن الحاج أحمد آل الشيخ رحمة الله عليهم جميعاً عام ١٣٣٨هـ، وذلك عندما نشرنا كتابنا (بربورة قرية مندثرة) الذي نشرته صحيفة الوسط البحرانية يوم ١٣ يوليو من عام ٢٠٠٩م، ولا حاجة لتكرار وصف حالة الكشف الأولى، وتذكير القارئ بظروف التعرف عليها، ويمكنه قراءتها من صفحات وأسطر كتابنا السابق الذكر المنشور في قنوات الشبكة العالمية للمعلومات.
بيد أن الحاجة لوصف الكتاب في حالته الخطية وتحديد موضوعه ومادته المعرفية يتطلب إشارة موجزة ليدرك القارئ الكريم دور الناسخ النويدري وأهميته في حفظ تراث بربورة، ومخطوطة هذا الكتاب، وترسيخ بعض مظاهر التاريخ الثقافي والروحي لهذه البلدة “بربورة” العريقة بخاصة وأن عدداً من علماء التراجم البحرانيين، ولسوء الحظ، قد أغفلوا وضع تراجم، وذكر سير ذاتية لعلماء قرية “بربورة” وكأنها لم تعرف وجود علماء بين أهلها، بينما ساعد بعض علماء التراجم من غير البحرانيين على الإشارة بإيجابية أفضل في الكشف عن أعلام “بربورة” والكشف عن أنشطتهم الثقافية، ومكنوا بعض الباحثين على بضرورة دراسة سيرتهم الذاتية.
والكتاب المخطوط كما خطه الحاج حبيب بن يوسف آل شيخ يوسف رحمه عام ١٣٣٨هـ لا يتجاوز زمنياً الآن (مائة سنة) كما أشرنا، ومن المؤسف أن الحاج حبيب رحمه الله لم يذكر لنا مصدر ونوع المخطوطة التي نقل عنها، وهكذا فعل قبله المرحوم الحاج حسين القيم النويدري، حيث نقل كلاهما نص مخطوطة الكتاب بلا تحديد للنسخة الخطية التي نقلوا عنها، ولكننا نتوقع ذلك لتباعد الزمان بين الناسخين في القرن الرابع عشر الهجري، وبين زمن مصنف الكتاب الشيخ البربوري في (القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين)، وما نحتمله أن النسخ الثلاث التي وصلتنا كانت منقولة عن نسخة خطية ليست هي (الأم أو النسخة الأصل)، ولا هي مأخوذة من نسخة المؤلف مباشرة، وإلاَّ ذكر النسَّاخ ذلك، بل نقل الثلاثة (القيم والحاج حبيب، والناسخ المجهول) عن نسخة سابقة، ومتداولة في عصر الناسخين في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، فالبعد بين زمن وجود المؤلف والناسخين أكثر مائة عام.
وبصرف النظر عن النقل فالناسخون الثلاثة رحمهم الله حفظوا لنا تراثاً ثقافياً ومهماً من تراث علماء بربورة الأبرار، وجعلوا من بعض مخطوطات علماء بربورة تصل لأيدينا بعد أكثر من قرنين من الزمان ليربط تاريخ القريتين (بربورة والنويدرات) في وحدة ثقافية وروحية مشتركة ومتصلة إلى حاضرنا بحمد الله، وجعلنا نحن المتأخرين فخورين بهذا الدور الثقافي الذي اضطلع به الناسخون الثلاثة (القيم، والملا والخطيب الحاج حبيب بن يوسف بن الحاج أحمد، والناسخ المجهول.. رحمهم الله تعالى)، وكاد هذا الأثر الثقافي الجليل كما أشرنا أن يضيع في وسط هذا النسيان والإهمال لولا جهود هؤلاء الناسخين الأفاضل من نساخي النويدرات وبجهودهم الميمونة، وجهود بعض مآتم النويدرات كالمأتم البربوري وآل إسماعيل، وبواسطتهم وصلنا بحمد الله وتوفيقه هذا المخطوط ككنز معرفي يدخل الراحة والسعادة على قلوب المؤمنين.
وعدد صفحاته (٨٠) صفحة بين يمنى ويسرى من حجم كراسة مدرسية متوسطة الحجم، واعتيادية كما في دفاتر الطلاب الدراسية، وهذه النسخة الخطية كما لاحظنا مكونة من رسالتين قصيرتين نسبياً، ونرى أن موضوع الأولى يمهد لموضوع الثانية.
والرسالتان بإيجاز هما:
أ. الرسالة الأولى:
ودار موضوعها الأساسي حول موقف الشيخ علي البربوري من الدنيا وتحذيره من الإفراط في شهواتها، وجعلنا عنوان هذه الرسالة باقتراح منَّا (التحذير من الدنيا وذم الإفراط فيها) ومن ملذاتها وشهواتها بخاصة الحرام منها، ومضى الشيخ علي البربوري في شرح مضمون رسالته الأخلاقية والتربوية تمهيداً للدخول في موضوع رسالته الثانية هي حادثة (استشهاد وقتل النبي يحي بن زكريا عليه السلام).
ب. والرسالة الثانية:
وناقشت هذه الرسالة في موضوعها الرئيسي تفاصيل حادثة مصرع واستشهاد النبي يحي بن زكريا عليهما السلام على يد ملوك اليهود، وظروف الصـراع بين هذا النبي الكريم المدافع عن الحق وتعاليم السماء وبين طاغية زمانه، وظلم وبغي إحدى زوجاته العاهرات، وجنودهما اللئام المطيعين لهما في إيذاء نبي الله يحي، وعباد الله وبخاصة أنبيائه الكرام، وقد حشد المؤلف رحمه الله تعالى لهذا الكتاب المخطوط جملة من الآيات والنصوص القرآنية، وعدداً من الأحاديث الشريفة المأخوذة من مصادر معتبرة، واختلطت النصوص الشرعية من آيات وروايات بشيء من أبيات شعر متفرقة في باطن الرسالتين سواء من نظمه أو من نظم شعراء آخرين.
وكان غرض الشيخ علي بن عبد الله بن حسين بن أحمد بن جعفر البربوري الأوالي البحراني رحمه الله عز وجل استثمار المادة المعرفية والتاريخية والأدبية للرسالتين لانجاز مهمته العبادية، وأداء وظيفته التربوية والدينية بمحددات إيمانية تقدس الأنبياء وتحترمهم، وكان حجم الرسالة الأولى في تقديرنا الشخصي بأقل من نصف المخطوطة، وعدد صفحاتها أقل من عدد صفحات الرسالة الثانية، وما تبقى منها توزع في الصفحات المتأخرة للمخطوطة على نص الرسالة الثانية الذي سرد تفاصيل مقتل النبي يحي عليه السلام، وأفردنا لها دراسة مستقلة.
٣. والتجربة الثالثة: محاولة ناسخ مجهول نسخ مخطوطة الكتاب (١٣٤١هـ):
وهي كما لاحظنا من أحد المجلدات الخطية التي احتفظ بها (المأتم البربوري حرسه الله من طوارق الزمان، وهي منسوخة في مجلد خطي مشترك بين ثلاثة ناسخين.. هم:
- الحاج حسين بن الحاج علي القيم النويدري البحراني.
- والحاج أحمد بن أحمد بن عيسى بن عبد الله بن إبراهيم آل سليم الستري – العكري البحراني.
- وناسخ ثالث مجهول لم نستطع التعرف على اسمه لتلف صفحات الكتاب الأولى، وضياع بعضها، وعدم ذكر الناسخ لاسمه في الصفحتين السابقتين عليها، ولعله المرحوم الحاج علي بن حسين بن علي النويدري البحراني.
ومن سوء حظنا فهذا المجلد (في نسخ الكتب الثلاثة التي احتواها) كانت ممزقة، ومهترئة ومتفرقة في صفحاتها وأوراقها، وقد اختلط فيها الحابل بالنابل، وتعرفنا على اسمي القيم والحاج أحمد بن أحمد آل من صفحات ممزقة ومتفرقة ومنزوعة عن بعضها، لكننا فشلنا في معرفة اسم الناسخ الثالث لهذه المخطوطة بدقة، إلاَّ أنه بتقديرنا نميل إلى القول بأن خط بعض الصفحات المتبقية من ((وفاة النبي يحي)) في هذا المجلد هي أقرب إلى خط المرحوم الحاج علي بن حسين بن علي النويدري البحراني)) لتقارب خطه مع خطه في وثيقة ثانية، وهو مع ذلك غير واضح في انتسابه لعائلة معلومة باسمها، والله سبحانه هو العالم.
وإذا صح تقديرنا الافتراضي في نَسْبِ (النسخة الخطية للمرحوم علي بن حسين بن علي النويدري)) فكتاب الشيخ البربوري في وفاة النبي يحي بن زكريا عليه السلام قد نُسِخَ حتى اللحظة الحاضرة (ثلاث مرات)، إحداها نسخة القيم عام (١٣٢٨هـ)، ونسخة متأخرة للملا والخطيب الحاج حبيب بن يوسف عام (١٣٣٨هـ)، والنسخة الثانية للحاج حبيب تتوسط زمنياً بين تجربتي القيم والناسخ المجهول، وأمَّا التجربة الثالثة لنسخ هذا الكتاب فتمت بواسطة ناسخ نويدري مجهول لم نتبيَّن بعد اسمه بدقة، ونميل إلى أنه المرحوم علي بن حسين بن علي النويدري سنة ١٣٤١هـ لتقارب خط يده مع خطه في وثيقة أخرى كتب اسمه عليها بوضوح، وجميع هذه النسخ أنجزت خلال القرن الرابع عشر الهجري.
وثيقة بخط الناسخ مجهول الاسم
وثيقة بخط المرحوم الحاج علي بن حسين بن علي النويدري البحراني
من كتاب (حديث الثأر من قتلة الإمام الحسين)
ويمكن للقارئ أن يلاحظ وضعنا لصفحتين من النسخة الثالثة مجهولة الناسخ لكتاب (وفاة النبي يحي، وتاريخها عام ١٣٤١هـ)، وناسخها مجهول للأسباب التي ذكرناها، وذكرنا احتمال سقوط اسمه من هاتين الصفحتين بسبب تلف ورق المخطوط أو سقوط الصفحة بكاملها وضياعها، بينما الصفحة الثالثة الأخيرة (وثيقة قديمة) وهي بدون تاريخ، وناسخها معلوم هو المرحوم الحاج علي بن حسين بن علي النويدري البحراني، وما استدعانا لوضع الصفحات (الثلاث) ما اعتقدنا من تقارب الخط بين سطورها وتشابه نوع الخط فيها، مما يحملنا على نحو مؤقت على المقارنة بين شكل الخط في الصفحات الثلاث، وهذا قد توحي لنا مؤقتاً بأن الخط في صفحتي (وفاة النبي يحي بن زكريا) عليه السلام تشابه الخط في الصفحة الأولى التي أبرزت اسم ناسخها المرحوم علي بن حسين بن علي النويدري البحراني في موضوع آخر(حديث أخذ الثَّـأر)، ولهذا نميل إلى نتيجة مؤقتة بأنه صاحب تجربة النسخة الثالثة لكتاب “وفاة النبي يحي بن زكريا” عليه السلام هو علي بن حسين النويدري البحراني ناسخ حديث أخذ الثأر، ويبقى ذلك مجرد احتمال لا يمكن القطع به، والله أعلم.
وبالرغم من وصول النسخ الثلاث لمخطوطة الكتاب إلينا في السنوات الثمَـان السابقة، فما تزال قضية شيوع هذا الكتاب وانتشاره الثقافي بحاجة لبذل مزيْـد من الجهد كي يصل بعض الناس إلى العلم به ومعرفته، وبموضوعه التاريخي، فلا نجد لسوء الحظ سواء من مثقفي قريتي “النويدرات” أو خطباء المنابر أو بعض من يكتب تراجم الرجال من يذكر هذا الكتاب أو أصحاب المدونات الالكترونية، بل أنهم لسوء الحظ، أو لتقصير منَّا لا يذكرون اسم مصنف هذا الكتاب ولا مادته المعرفية، مع أننا بذلنا جهدنا بنشر مخطوطة الكتاب ومادته التاريخية والروحية في أكثر من مصدر إعلامي كصحيفة الوسط البحرانية الذي نشرت دراسة عن بربورة ضمن سلسلة كتاب “للجميع”، وكذلك ذكرنا اسم هذا الكتاب في مواقع إلكترونية سريعة الوصول إلى القارئ الكريم، وهي مواقع حيوية، وذات اهتمام بالتراث الثقافي لقريتي “النويدرات وبربورة”، وحاولنا إرساء جذور العلم به.
وبعد عمليات نسخ الكتاب المتكررة بمخطوطات ثلاث أدى بعض الخطاطين دورهم الثقافي وحفظوا شيئاً من الأمانة العلمية والأخلاقية، وأصبحت الحاجة إلى نشْـره وطبعه ضرورة لاستكمال الجهد، وإنصاف مؤلفه رحمه الله في زماننا نحن المتأخرين، وقد سعينا في الفترة السابقة لبذل محاولات ترسيخ ذكر هذا الكتاب من صف حروف الكتاب في منضدة الحاسب الآلي، والتعليق على بعض ما جاء في مادته الفكرية، وإعْـداده للطباعة والنشر الحديث وتداوله، وما تزال الأمُـور عند هذا الحد المحزن، ونأمل أن يرى هذا الكتاب النور مطبوعاً بإذنه سبحانه وتعالى، وما ذلك على الله عـز وجل ببعيد، إنَّه سميع مجيب.