“وحيث أن في الجزع رضىً لسلطان المعاد، وغرضا لأبرار العباد، فها نحن قد لبسنا سربال الجزوع وآنسنا بإرسال الدموع، وقلنا للعيون جودي بتواتر البكاء”
ـ ابن طاووس
هل هلال المحرم وخيمت على قلوبنا اللهفة على كربلاء وما جرى فيها، وعادة الشيعة أن يتذاكروا واقعة الطف سنويا بالبكاء والحزن، في العام الماضي قرأت مقتل أبي مخنف الذي نقله الطبري، وأبي مخنف الكوفي المتوفى سنة ١٥٧هـ ويعتبر مقتله أحد أقدم الوثائق عن واقعة كربلاء لولا أن كتابه قد فقد لكن نجد الطبري المتوفى سنة ٣٠٢هـ قد نقل عنه في تاريخه، ولطالما شكك الشيعة في مصداقية ما ورد في الطبري من مقتل أبي مخنف لأن الطبري سني وأبي مخنف في الغالب ليس شيعيا صرفا، ولأن هذا الكتاب يذكر وجهة نظر سنية حول واقعة كربلاء والتي قد يعتبرها الشيعة طامات كبرى، حيث نجد فيه بأن الإمام الحسين لم يكن يعرف من البداية بأنه سيقتل، أو أن الكتاب يحسن من صورة يزيد البشعة. ومع ذلك فالكتاب أشبه بخليط شيعي أموي ممزوج وفيه شيء بسيط من كرامات الإمام الحسين عليه السلام.
لذلك قررت في هذا العام أن أقرأ في كتب المقاتل الشيعية وتحريت الأقدم قدر الإمكان، فكانت الكتب القديمة الشيعية كتب شاملة مثل كتاب الأمالي للصدوق لا تحتوي على مقتل الامام الحسين فقط وإنما أحاديث وتواريخ متفرقة، فاخترت قراءة كتاب اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس وكتاب مثير الأحزان لابن نما الحلي لأني وجدتهما كتابين متخصصين في ذكر المقتل الحسيني بالتحديد كما يراه الشيعة ولأن هذين الكتابين يحظيان باعتبار من علماء الشيعة في القديم والحديث.
الشيخ محمد جعفر ابن نما والسيد علي ابن طاووس من أعلام الشيعة المشهورين وعاشا في المكان والزمان ذاته حيث ولدا في مدينة الحلة أواخر القرن السادس الهجري وتوفيا في أواسط القرن السابع، وكان الشيخ جعفر أكبر ويبدو انه أسبق لتأليف مقتله، وأدرك السيد ابن طاووس الغزو المغولي.
وعلى أية حال فالكتابين متشابهين إلى حد كبير في الترتيب وسير الأحداث والروايات تكاد تكون هي هي لولا قليل من الإختلافات في وضع وحذف بعض الروايات، وحتى عدد الصفحات، فكلا المقتلين لا يتجاوز الواحد منهما ١٣٠ صفحة فقط، غير إن كتاب اللهوف المطبوع الآن أُلحِق به فصل عن ثورة المختار.
وبمناسبة عدد الصفحات، فالكتابان مختصران جدًا جدًا وما هكذا الظن بشيعة أهل البيت الذين دأبوا على تفصيل فاجعة الحسين عليه السلام، فها هو الطبري السني يضع في تاريخه ٢٥٠ صفحة كلها في مقتل الامام الحسين عليه السلام والخوارزمي السني يضع ٣٠٠ صفحة أيضا في ذلك غير المناقب، وربما نقول بأن الكم غير مهم، إلا أننا نجد في كتابي مثير الأحزان واللهوف كثير من الوقائع التي أتت على عجل وبدون التفاصيل التي اعتدنا سماعها في المآتم ومنها:
- لا يوجد تفصيل لوقائع ليلة العاشر وقلق السيدة زينب عليها السلام وتطمين الأنصار، وحديث الامام الحسين عليه السلام مع نافع.
- لا يوجد تفصيل لمقتل العباس عليه السلام الذي نعرفه، ما ذكر أن الامام الحسين والعباس عليهما السلام تقدما معا للوصول للفرات ولكن جيش العدو فصل بين الامام الحسين والعباس وعندها استفرد الجيش بالعباس واستشهد، مع ان الطبري يذكر العباس عليه السلام في مواقف بطولية عديدة وفصل مقتل العباس على الطريقة التي نقولها في منابرنا ويا لها من مفجعة.
- لا يوجد تفصيل لقصة حبيب بن مظاهر ومنامه والخضاب، ولكن ذكر طبعا في مقدمة الأنصار بل كان ممن أرسل الكتب للامام الحسين عليه السلام.
- لا توجد تفاصيل لمصارع الأنصار، بل لم يذكر سوى القليل من أسماء الأنصار وبدون أي تفاصيل، وبالمقارنة نجد في الطبري يذكرهم بشكل مسهب وذكر انسابهم كما ذكر الشهداء الطالبيين وانساب امهاتهم.
- يتفق ابن نما وابن طاووس على أن من احتز رأس الإمام الحسين عليه السلام هو سنان بن أنس لعنه الله.
- لا يوجد ذكر لحفر الخندق ولا توزيع جيش الإمام الحسين وإعطائه الراية للعباس مع إنه وجد في الطبري.
- لا يوجد ذكر لقصة أم البنين في زواجها بالإمام علي عليه السلام وتعاملها مع الامام الحسين والسيدة زينب ومواقفها بعد قتل الامام الحسين.
- لا يوجد ذكر لقصة ليلى أم علي الأكبر، ولا بكر بن غانم، ولا ذكر لقصة مهر علي الأكبر الذي توغل في جيش العدو ولا مهر الإمام الحسين الذي رجع للخيام.
- لا يوجد ذكر لزفاف القاسم ولوصية الإمام الحسن له بالقتال، وبالنسبة لعبد الله الرضيع جاء مقتله مختصرًا بأن الإمام الحسين حمل الرضيع كي يراه قبل ان يستشهد فجاء سهم واستقر في نحر الرضيع.
حسنا، ربما لم يفكر ابن نما وابن طاووس بضرورة الإسهاب والتفصيل في كتابيهما لحفظ التراث الكربلائي في هذا الوقت المبكر، وربما لم يريا هناك أولوية في هذا الأمر، كانت هناك أولوية أخرى أضافها الكتابان بشكل قاطع، وهي تقديم الرؤية الشيعية لواقعة كربلاء بشكل متكامل، حيث أنك عندما تقرأ الكتاب تستخلص منه هذه الرؤية الكلية المفصلة بالنقاط التالية:
- الرؤية للإمام الحسين بأنه إمام معصوم مسدد من السماء ويتبع ما أُمر به.
- ذكر معاجز وكرامات للإمام الحسين وأخبار النبي بقتل الإمام الحسين وبكاء الكون بمخلوقاته لفاجعة كربلاء وثواب البكاء على الحسين.
- الاهتمام بتوثيق خطب الإمام الحسين.
- ذكر خطب ومواقف الإمام السجاد والسيدة زينب والسيدة فاطمة الصغرى والسيدة أم كلثوم، حيث أجاد الكتابين وخاصة كتاب اللهوف في ذكر المواقف البطولية التي جرت بعد استشهاد الإمام الحسين من قبل الإمام زين العابدين وسيدات أهل البيت.
- عدم إعذار يزيد والنظر له بأنه ليس أحسن من ابن زياد وشمر بل أسوء وذكر أنه كان مصرًا على جريمته في قتل الإمام الحسين قبل وبعد أن حدثت.
وبشكل عام فهذين الكتابين على أنهما مختصران لا يحكيان الكثير، إلا أنهما أظهرا الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه بصورة أكثر قدسية بكثير مما ذكر في الطبري على سبيل المثال، وهي ذاتها الصورة التي يعتقد بها الشيعة لحد اليوم.
وجدير بالذكر بأن مقتل أبي مخنف في الطبري لا يخلو من كلام سوقي ينسب تارة للإمام وينسب تارة لأصحابه، وهو الذي لا يكاد يوجد في هذين الكتابين. وبرأيي تفوق كتاب اللهوف على كتاب مثير الأحزان في كثير من الأمور، منها دقة الخطب والروايات، ودقة الكتاب بشكل عام، وكذلك فهناك رواية موجودة في مثير الأحزان تقول بأنه عندما جاء الخبر إلى يزيد بأنهم قتلوا الإمام الحسين، فقال يزيد: “كنت أرضى بطاعتكم بدون قتله”، فكأنما كان إيراد هذا الخبر مخالفًا لاعتقاد الشيعة.
ونعود للهوف ومثير الأحزان فنرى بأن الكاتبين لم يعتنيا بذكر المصادر والرواة، مما يجعلنا الآن لا نعرف من أي كتاب جاءت هذه الرواية أو تلك، وهل اعتمدوا أساسا على كتب الشيعة أم كتب السنة أم على المقاتل الشيعية التي فقدت، فهذا الأمر يبقى في حيز التساؤل. ويبقى الكتابان يوثقان اعتقاد الشيعة منذ ٨٠٠ سنة مضت في أبي الشهداء ويذكر أن روايات مبكية وأحداث وأبطال لا نذكرها أو لا نركز عليها كثيرًا، ويوردان مصيبته المفجعة ويا لها من مصيبة ما أعظمها في الإسلام فكانت كشعلة وضاءة لا يزيدها الزمن إلا اتقادًا.
محرم١٤٤٠هـ – سبتمبر٢٠١٨م