بقلم: جاسم حسين آل عباس
١١ مارس ٢٠٠٩م
يوم كانت جنة..
لا يذكرها المؤرخون إلا بنخيلها وعيونها. يسميها البعض «سيحة شباثة». وصفها الشيخ محمد علي التاجر في كتابه «عقد اللآل في تاريخ أوال»: سابية وجنوبها شبافة وكلتاهما ذات مياه جارية ونخيل باسقة.
وفي دليل الخليج، يقول لوريمر: شبافة (شباثة) تبعد ثلاثة أميال شرق الرفاع الشرقي تحوي ينبوعاً، وفيها حدائق النخيل التابعة لأهل النويدرات الذين يخيمون بها صيفا، وقرية صلبا (سلباء) أقرب القرى لها.
وقال عنها الشيخ المبارك في حاضر البحرين: «شباثى» بفتح الشين والباء المخففة مقصورة وهي الآن خراب.
لماذا دوحة؟ الدوحة في اللغة تعني المظلة العظيمة، وأطلق القدماء لفظ الدوحة على شباثة لكثرة نخلها الكثيف الباسق. كان النخل يظلل كامل مساحتها فلا تصل الشمس إلى الأرض إلا في أماكن قليلة. هذا ما يؤكده كبار السن في المنطقة.
كانت أشهر المناطق الزراعية القديمة في جزيرة البحرين. تضم عدداً كبيراً من مزارع النخيل. تعود ملكيتها إلى أهل النويدرات والقرى القريبة منها كالمعامير والعكر والرفاع وحالة أم البيض سابقاً.
في القديم كانت منطقة شباثة الزراعية تقع ضمن الحزام الأخضر المحيط بسواحل جزيرة البحرين من الجهة الغربية والشمالية والساحل الشرقي الممتد من المنامة وجدعلي وتوبلي والنبيه صالح وسند والعكر والمعامير ثم شباثة والسبابي والفارسية وسلبا وزويد وأبوجرجور وصولاً إلى أطراف عسكر.
الخرائط القديمة التي بينت المواقع الزراعية في جزيرة البحرين، تبين أن شباثة كانت مرصوصة بالنخيل الباسقة ولم يكن الفراغ يتخللها، عدا منطقة جبال سعود القريبة من ينبوع الخريص المحاذي للساحل القريب من حالة أم البيض وهي مساحة صغيرة.
لم تكن دوحة شباثة تحوي بيوتاً. لكن أصحاب المزارع والنخيل يظعنون فيها في فصل الصيف. لذلك كان كل ما تحويه من أماكن للسكن هي عبارة عن مظاعن وعرش. قبل الخمسينات كان يظعن فيها بعض البدو أصحاب المواشي والرعاة؛ لأنها غنية بأنواع الحشائش والمياه.
حيث كانت..
على الساحل الشرقي لجزيرة البحرين. يوضح لوريمر أنها تبعد ثلاثة أميال شرق الرفاع الشرقي، وهي تقع جنوب المعامير، وتحديداً شرق شركة نفط البحرين (بابكو). حدودها القديمة تمتد من أطراف النويدرات القريبة من بربورة مروراً بمنطقة الشريعة (دوار النويدرات) التي كانت عبارة عن مجمع لمياه الجداول الممتدة من بربورة إلى شباثة وكان الماء يتجمع في منطقة الشريعة ثم يتوزع على فروع عدة وجداول مياه إلى المزارع والنخيل القريبة، ومن الجهة الشمالية تبدأ من أنابيب النفط جنوب المعامير إلى الجنوب قرب قرية سلباء وقرية الفارسية المهجورتين وتحديداً قرب ساحل حالة أم البيض، ومن الغرب تحدها مصفاة التكرير (بابكو). وقبل العشرينات كانت منطقة بابكو تقع ضمن حدود شباثة.
نخل وماء..
لم تكن تحوي غير النخيل. لكن بعض المزارعين كانوا يزرعون بعض المحاصيل البسيطة في مواسم معينة كالطماطم والبقل والبطيخ. نخيلها مقسمة إلى مناطق عدة كالجوابير والسبابي والصرم والنخيل. الصرمة هي المربع المزروع بالنخيل وإن اختلفت أضلاعه قليلاً. أما السبابي فهو جمع الساب وهو الجدول أو النهر وجمعها بالعامية «سبابي» وتسمى السبابي لكثرة جداول المياه فيها.
يذكر لوريمر أن سابية وشباثة هما عينان ذواتا مياه عذبة وقنوات مياه تحت الأرض (ثقب) وتقومان بري العديد من النخيل والمزارع القريبة منهما، ويذكر أن النخيل والمزارع تعود إلى أهل النويدرات وبعض الذين يظعنون بالقرب من العينين.
يؤكد المعمرون أن دوحة شباثة كانت تحوي عيوناً طبيعية قديمة، وقبل أعوام عدة وقفتُ على إحدى الدراسات التوثيقية تتحدث عن طرق الري في البحرين وتذكر أن منطقة شباثة تحوي عيناً أو عينين طبيعيتين. الثابت أن شرق شباثة كان يوجد فيها «ينبوع الخريّص» الذي كان موجوداً منذ القدم، وهو عبارة عن «كوكب» ذي مياه عذبة، ويمتد منه جدول يصب في بركة مبنية بالحجارة البحرية وتستخدم البركة للشرب وري النخيل ومازالت آثارها باقية حتى يومنا.
لماذا سميت بالخريص؟
لانتشار الحشائش الكثيفة والأسل حول الينبوع، ولذا كان يطلق عليه باللهجة العامية «الخريّص» أي المكان الوعر.
الحاج علي بن كاظم النويدري، يذكر أن نخيل شباثة كانت تعتمد على مصادر المياه المتصلة بعيون منطقة بربورة كعين كبرى وعين صغرى وعين الحرامية، حيث كانت الأنهار والجداول تخرج من بربورة وتتصل بالنويدرات وتمتد إلى شباثة، وهذه الأنهار كانت آثارها باقية حتى فترة السبعينات، وقد شاهدها كثير من الناس، وآثار الأنهار كانت موجودة بين بربورة وشباثة وكانت تمر على شارع مجلس التعاون القديم ومصفاة النفط (بابكو).
هجرة شباثة..
هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى هجرة الناس من شباثة، وبالتالي تصحر المنطقة وموت النخيل. فبعد إنشاء شركة بابكو قامت بابكو بحفر بعض الآبار العميقة، ما أدى إلى تأثر المياه الجوفية القريبة من الشركة، حيث نضحت أغلب العيون القريبة منها. وبعد أعوام قليلة من تشغيل شركة بابكو التحق العديد من المزارعين بشركة نفط البحرين، ما أدى إلى إهمال النخيل، وبالتالي تصحر المساحات المزروعة. كما تلوثت المياه الجوفية بنسبة عالية من مادة الكبريت وبعض المواد النفطية. قام بعض المزارعين في الخمسينات بحفر بعض الآبار العميقة، لكنهم وجدوا المياه تحوي نسبة كبيرة من الكبريت الذي يقتل الزرع. تسبب معمل التكرير (بابكو) بتلويث التربة السطحية المحيطة بالمنطقة، لاسيما القريبة منها مثل شباثة والفارسية وزويد التي كانت مكتظة بالزرع والنخيل.
من ناحية أخرى، كان لظهور المهن الجديدة بعد اكتشاف النفط، تلك المهن الأقل كلفة وجهداً والأكثر فائدة من مشقة المزارع والنخيل، كان لها دور في إهمال الناس للدوحة والزراعة فيها. الأهم أنه لم يكن يتوافر أي دعم حكومي للمزارعين، بل كانت هناك ضرائب ومشكلات كثيرة ترتبط بمهنة النخالوة والمزارعين.
الجنة الآن..
الآن.. شباثة لم تعد جنة، وليس فيها من الجنة إلا أثرها المقاوم للزمن. لكن يبدو أن هذا الأثر لن يبقى يقاوم طويلاً، طالما أن هناك عوامل تعرية طبيعية وعوامل جرف صناعية. تحولت إلى أرض متصحرة خالية من الزراعة والعيون والجداول. أصبحت جزءاً من مساحة قرية المعامير ويطلق عليها «جنوب المعامير». إدارياً، تتبع المحافظة الجنوبية. قبل عقدين كانت محمية لكثير من أنواع الطيور المحلية والمهاجرة وكان يقصدها كثير من الناس للصيد. أما اليوم فقد هجرتها الطيور بعد أن هجرها الإنسان، ولم تعد تجد فيها غير آثار الأنهار وبقايا جذوع النخيــــل، والأنقاض، والشمـــس الغاضبةــــ على موت الحياة فيهــا.
كثير من أهالي المنطقة كانوا يعتبرونها آخر متنفس القرية، فهي خالية من المصانع والشركات ويتخذها كثير من الأهالي مضماراً للمشي والركض. لكن المصانع زحفت عليها قبل أربعة أعوام، فتم ردم نصف مساحتها تمهيداً لتحويلها إلى قسائم صناعية.