ورقة مهترئة بقلم الدكتور جعفر الهدي

الدكتور جعفر الهدي
الدكتور جعفر الهدي

 

ورقة مهترئة

جعفر الهدي/ قصة قصيرة

وقف المحقق متأملاً، دخان البارود لا زال يتماوج، الدمار يملأ منطقة بوابة مديرية الجوازات، كل شيء تمزق، الأشلاء تناثرت، شعر المحقق أن الهواء قد تصدع أيضاً، كان انفجاراً هائلاً، هو يفكر كيف سيحصي الجثث وبعض أجزائها عالق بالجدران المتصدعة، قال في أعماقه: يا للهول أحقاد التاريخ كلها صبت هنا، كل شيء صامت إلا الموت فهو يصرخ حتى يصم الآذان ويدمي القلوب.

ورقة مهترئة
ورقة مهترئة

جمع فريقه وأشار لهم بيده، لا يريد أن يكسر هيبة السكون، اكتفى بإشارة من يده ليذكرهم بالتعليمات، وقف منتصباً كتمثال وأخذ يراقب عمل الفريق، في الأثناء لمح ورقة مهترئة لم تحترق، خطى خطوتين نحوها، وجدها ترقص مع الموتى، انحنى لها وأمسكها بعناية بالغة، قال لها دون أن ينبس: الرقص والموت لا يجتمعان، ثم وضعها على راحة يده وهو يخشى أن تتلاشى، لمح اسماً يتصدر الورقة ” سيد إبراهيم “، إذن هي وثيقة واحدة لهذه الأشلاء الممزقة.

نادى مساعده: ناولني مغلفاً بلاستيكياً لأحفظ هذه الورقة، وضعها بالمغلف وأخذ يقرأ، إنها خطاب من مديرية الجوازات للسيد إبراهيم، فكر ملياً: ترى من يكون “سيد إبراهيم” ولماذا جاء إلى حتفه هنا أمام بوابة مديرية الجوازات حيث وقع هذا الانفجار المدوي فسمعته المدينة كلها.

استمر في مراقبة الفريق وهو يجمع بقايا الأشلاء والأوراق، شعر إنه يجمع أشلاء الزمن الذي بعثره الانفجار، استمر عملهم حتى نهاية النهار، جمعوا كل شيء حتى تلك البقايا العالقة بالجدران، استراحوا في زاوية أمام الساحة المتهتكة لبعض الوقت، كأنهم أرادوا أن يجمعوا بقايا أنفسهم، ثم مضوا لمقر عملهم حيث وضعوا كافة الوثائق في مكان أعد لذلك.

المحقق الذكي واصل العمل طوال الليل لينهي كل أعماله، لقد ضرب موعداً مع الورقة المهترئة، كان يريد أن يختلي بها، ربما أراد أن تخرجه من صدمة ولدت بأعماقه، كان اسم “سيد إبراهيم” يقلقه ويصعد شيئاً فشيئاً ليسيطر على عقله ومشاعره، لماذا هذا الاسم بالذات، لا يكاد الاسم يغادره لحظة، عشرات قتلوا في تلك الساحة، لقد امتزجت أشلائهم ببعضها، فلماذا هذا الاسم بالذات، أخذا يتصفح الشهادات المسطرة على جدار مكتبه، كلها تشيد بمهارته كمحقق، لكنه الآن يضع الورقة المهترئة على مكتبه وقد شعر بالعجز، ماهي إلا ورقة مهترئة فلماذا أحتفظ بها بعناية ؟ ما سر هذه الورقة؟ هل هي نوع من السحر؟ أم أنه بدأ يبالغ في حاسته كمحقق، لينظر لورقة لا قيمة لها وكأنها وثيقة كونية، هل يعني ذلك أن تأثير الانفجار أفقده صوابه وأدخله في نوبة هلوسة؟

أمضى الليل وهو يعيد قراءة الورقة، ليس فيها الكثير سوى أنها رسالة للسيد إبراهيم تعلمه بضرورة الحضور لبدء الإجراءات القانونية، وإن يكن فكل هذه الأشلاء الموزعة حينما كانت مجتمعة جاءت صباح اليوم لتتابع إجراءات قانونية، الكل يأتي هنا للمتابعة والسيد إبراهيم ليس سوى واحداً من هؤلاء، آه … لقد نسيت أن السيد لم يعد واحداً، لقد أصبح أشلاء كثيرة، بهذه اللحظة غفت عينا المحقق والورقة المهترئة بقيت ساهرة على المكتب.

في الصباح جمع الفريق ووزع المهمات ثم أخرج الورقة وقال لمساعده: أنت معي لتتبع هذه الورقة، نصف ساعة قطعاها بين الأزقة ليصبحا في مواجهة بوابة منزل قديم، لم يمهلا أصحاب المنزل حتى أصبحا بينهما، المحقق يتصفح الوجوه، شعر إنه يتصفح ملامح “سيد إبراهيم” في تلك الوجوه، إذن هؤلاء أبناءه وبناته وهذه زوجته التي توقف وجهها عن النبض، أصبحت بلا ملامح، لم تعد باكية، ربما جفت دموعها ونفذ نحيبها، أحس المحقق إنه وصل في وقت خاطئ، قرر المغادرة لكنه تذكر الورقة المهترئة فاستعاد اندفاعه، كاد يسأل المرأة: اين هو “سيد إبراهيم” لكنه أمسك وقال: عظم الله أجرك في “سيد إبراهيم”… إنه زوجي، تركني مع أربعة أولاد وثلاث بنات أكبرهم هذا عمره سبعة عشر سنة… صمتت وهو لم يجد ما يقول فانضم إلى صمتها الحزين.

بعد برهة من ذلك الصمت المختلط بأنفاس البنات والأبناء ونحيب متجمد في قلب تلك المرأة أخرج الورقة المهترئة، بمجرد أن رأتها انتفضت وملأت المنزل العتيق بصرخة مفجعة، كأنها رأت السيد وقد عاد واحداً بعد أن أصبح أشلاء بلا عدد، توقفت صرختها المدوية وبقي صداها في ذلك المكان، سألته: كيف وجدتها؟

قال: كانت هناك في موقع التفجير … لكنني سمعت أن التفجير قطع كل شيء… نعم لكن هذه الورقة بقيت كما هي … ربما تكون معجزة؟ طيب أخبريني ما قصة هذه الورقة؟

هي الورقة الأخيرة التي يجمعها، كان يضم الأوراق ورقة بعد ورقة، يقول إن تلك الأوراق طريقه إلى موطنه، كان قبل أن ينام بكل ليلة يخرج أوراقه كلها ومنذ أن حصل على هذه الورقة كان يضعها فوق كل الأوراق ويقول: لا بد أعود إلى موطن أجدادي!!!

ولكن أليس هذا موطنه وموطن أجداده؟

لم تأبه لسؤاله وواصلت حديثها: البارحة كما كل ليلة أوصاني أن أسلم هذه الأوراق لولده الكبير كما فعل أبوه معه، كان يخشى أن يموت نائماً، بكل ليلة وقبل أن يضع رأسه على المخدة يعبث بشعر لحيته الأبيض ويستسلم للنوم، عندما يستيقظ يصلي وهو فرح بأنه أفلت من الموت، يشرب الشاي بسعادة غامرة ويقول: شكراً لك ربي أن وهبتني يوماً آخر لأتذكر موطني، يتخيل إنه انتصر على الموت، فهو لا يخشاه إلا حينما ينام، يخشى أن يباغته، لم يكن يتخيل أن الموت يمكن أن يأتيه وهو مستيقظ، حتى أنا صدقت قناعاته، لذلك لم أصدق أنه مات في التفجير أمس، حتى ساعة مجيئك كنت غير مصدقة وكنت على أمل بأن يعود بأي لحظة، لكنك حينما أخرجت الورقة عرفت أن الموت خادعه فأتاه صباحاً وهو في قمة سعادته.

استرسلت وكأنها نسيت مصيبتها: هو واحد من أجيال تضم هذا الحلم، جيل بعد جيل يتوارثون حلماً اسمه ” العودة” سيد إبراهيم كان ذاهب أمس لاستلام أمر المحكمة وكافة الأوراق الرسمية التي تثبت موطنه الأصلي، لكنه كما ترى سافر قبل تحقيق ذلك الأمل، ربما يحقق ابنه ذلك الحلم.

الآن عرفت الآن عرفت لماذا كان الورقة ترقص؟ وكيف ترقص الورقة؟ لا عليك خذي هذه الورقة واحفظيها حتى إذا كبر ابنك اعطها إياه فإنه سيبقى يحن للعودة لموطنه فلسطين.

شارك برأيك: