لماذا يستبد الحكام؟ لماذا يظلم الطغاة؟ لماذا يتسلط الجبابرة على رقاب الناس فيسوقونهم عبيداً لهم، يركبون على ظهورهم، ويتفاخرون بهم؟ فهل وُلد الحاكم طاغية والناس عبيد؟!.
عندما يبني الحاكم قراره على هواه ولا توجد شريعة تقيّده وتراقبه، أو توجد هذه الشريعة ولكن لديه القوة على إبطالها -كما هو حال أنظمة اليوم- فإن هذا الحاكم سرعان ما ينقلب إلى طاغية في ليلة وضحاها حتى وإن كان في بادئ الأمر يحكم بالعدل؛ لأن نفس الإنسان لا تكاد تتركه من وساوسها وإرضاء شهواتها، تلك النفس التي جعلت النمرود يتجبّر ويبلغ به الغرور إدّعاء الألوهية، والتي جعلت قابيل يقتل أخاه هابيل، ففي حين يرى هذا الظالم أن الطريق مفتوح ناحية الاستبداد ولا يرى أي ردة فعل من أولئك المظلومين فإنه يتشجع ويزيد في غيّه ويدوس أكثر على أجساد المستضعفين ويسحق عظام من يتكلم منهم بالحق بسياط السجن والتنكيل تحت عنوان عريض هو “حفظ الأمن والإستقرار في البلاد”.
ولا ضير إن قلنا أن الظلم وتسلط الطغاة هو نتيجة مترتبة على تعاطي الناس أنفسهم مع الواقع الذي يعيشونه حين تكاسلوا عن إقامة الحق وإلجام المستبد، فجعلوه كالكلب المتوحش من غير رباط لمّا تهيأت له الأجواء وغفل عنه صاحبه انقض عليه بمخالب ظلمه وأذاقه سوء العذاب، وهذه نتيجة واقعية عندما يُغفل عن المطالبة بالحق -الأمر بالمعروف- ويُقبل بالظلم -النهي عن المنكر- فبالتالي سيعم الظلم في البلد وستنتشر الفوضى، وهو مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر، أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم فيسومُنّكم سوء العذاب، ثم ليدعو خياركم فلا يستجاب لهم، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليبعثنّ الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم”.
وفي ذات الجانب، يبين التاريخ أنه في معظم الممالك والأمم يكون الحاكم من جنس الناس فالمستبدون لا يحكمهم إلا مستبد والأحرار لا يحكمهم إلا حر؛ لأن الحر لن يهنأ له عيش بوجود ذلك الظالم وسيقاومه حتى ينال حريته أو يستشهد في سبيل ذلك، بينما الجنس الآخر -المستبدون- لو بحث المتسائل في حقيقتهم ودقق في تفاصيلهم لوجد أنهم مستبدون في أنفسهم ولو قدر لهم لجعلوا الناس منقادين لرأيهم وأمرهم، فقد قيدهم الجهل من جهة والقبول بالاستبداد من جهة “كما تكونوا يولّى عليكم”. ولو كان للناس
*موقف صريح مترجم على أرض الواقع من ظلم الحاكم وأخطائه
*وجعلوه مقيّداً بسلطتهم لا بسلطته
*وفرضوا عليه شريعة لا يتجاوزها
لكان الحال على غير هذا الحال، ولما أهلك الحرث والنسل وضاعت الكرامة والإنسانية، ولما اضطر الأحرار أن يقدموا التضحيات حتى تلونت الأرض بالدم الأحمر القاني؛ لأن الوقاية خير من العلاج، والإستعداد إلى الحرب واجب، فلو رأى هذا الظالم منجلا بيد ذلك المظلوم لما تجرأ عليه.
إن الطاغية فرد واحد ومن خلفه فئة مجرمة صغيرة نسبيا لها مصالح مشتركة معه ما إن تزول فإنهم يزولون، ودائماً ما يعيش هذا الطاغية في خوف وترقب من اللحظة التي ينفجر فيها المظلومون، وهو لا يملك إلا وسيلتين ليسيطر بها على الناس فتارة يستخدم الترهيب لكسر شوكة المستضعفين والتنكيل بهم، فتزهق الأرواح، وتنتهك الأعراض، ولا يمتثل أمر الله في الناس، وكل ذلك لعين الحاكم، وتارة أخرى يستخدم الترغيب لسد أفواه الجائعين، وشراء ذمم العلماء والمثقفين وأصحاب الشأن، وهذا هو طبع الطغاة يحكمون الناس بالتجبر ويقودونهم بالكرم المزعوم، يُظهرون أنفسهم أمام الناس مظهر الكريم ذو العقاب، ويكاد لا يبقى أي طاغية لم يعطي نفسه لقبا يشارك الله فيه، فهو صاحب الجلالة، والمعالي، والعظمة… فأما الأمة الحرة الواعية لن ينال منها الترهيب ولن تخدع بالترغيب وستسعى من أجل الحرية والكرامة، وأما الأمة المنحطة الجاهلة ستبقى في فضاء الظالم ذليلة، مكسورة، لها الخزي والعار.
يقول أحد الحكماء في توصيف العلاقة بين المستبد والمستضعف: »المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة، وكالكلاب تذبلا وتملقا، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خَدمت، وإن ضُربت شرست، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصيد كله، خلافا للكلاب التي لا فرق عندها أطمعت أو ُحرمت حتى من العظام. نعم على الرعية أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة لحاكمها، تطيعه إن عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف، أم هي جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها! والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه فإن شمخ هزت به الزمام وإن صال ربطته.
مما سبق نصل إلى نتيجة مفادها أن الناس بيدها أن تصنع الطاغية وتفرّخه أو تصنع العادل وتحكّمه.