زراعة الكذب بقلم الاستاذ رياض سند

الأستاذ رياض سند
الأستاذ رياض سند

زراعة الكذب

         عندما كنتُ تلميذًا في مدرسة المعامير الابتدائية للبنين، كانت الحياة أكثر بساطة وأقل تعقيدًا ولكنها كانت تعلمنا أكثر مما تعلمه لهذه الأجيال، في أحد المرات تأخر إبراهيم في الدخول للصف بعد انتهاء حصة الرياضة. لقد أكمل إبراهيم جولته ما بين الملاعب ودورة المياه والمقصف المدرسي. وعندما أراد أن يعود للصف خشي من عقاب المعلم فطلب من صديقه الصدوق يوسف- خرج من الصف بحجة الذهاب لدورة المياه- بأن يعضه في ذراعه بقوة حتى تكون حجة غياب مقنعة بعد استجواب المعلم.

         وبالفعل عضّ يوسف صديقه الصدوق إبراهيم عضةً كاد أن يصرخ فيفتضح أمره لولا أنه كتم صرخته على مضض. ولم يتأخر إبراهيم بعدها فدخل الصف يتأوه من شدة الألم. وعند استفسار المعلم عن سبب تأخره أشار لذراعة التي كانت تتساقط منها بعض القطرات من الدماء فقد غارت اسنان يوسف في ذراع إبراهيم.

         تأثر المعلم كثيرًا واجلس إبراهيم بعد أن اطمأن على حالة ذراعه، ولم يخبر إبراهيم المعلم بالطبع عن صاحب العضة وتذرع بعدم معرفة من قام بها بسبب الازدحام الشديد على منطقة شرب الماء.

         نهض أحد التلاميذ وقال بأن يوسف هو من قام بعض إبراهيم وأنه شاهد العضة. نزل حديثه كالصاعقة علينا، وبعد برهة تحرك المعلم نحو إبراهيم وربتّ على كتفه وقال له بأنه بطل لأنه لم يكشف عن صاحب العضة حفاظًا على صداقته مع يوسف، وأنّ هذا مثال التضحية على الرغم من قوة العضة التي زرعها يوسف في ذراعه.

         صفق التلاميذ مقلدين تصفيقة المعلم، وبسرعة انتشر الخبر في المدرسة فأصبح إبراهيم حديث الساعة، الكل يتغنى بتضحياته وليس تضحية واحدة فقط، وبدأ كل تلميذ يسرد على زملائه قصة حدثت معه كان بطلها إبراهيم. العجيب في الأمر أن إبراهيم تقمص الشخصية الجديدة، وأضاف الإبهارات بحلوها وحرارتها على قصص زملائه.

         نأخذ من هذه القصة بأننا نضع بذرة كذبة بسيطة لوقت معين وتنتهي، ولكن ما لا يعرفه البعض بأن هذه الكذبة تزرع وتنمو كالنبات حتى تصبح كالشجرة جذورها ثابتة ومتينة تمتص كل الكذب من هنا وهناك، بينما أغصانها وأوراقها هي الكذبات التي نشأت من الكذبة الرئيسية.

         فكم شجرة كذب زرعنا لحد الآن؟ وكم شجرة سنزرع؟ وكم شجرة قطعناها بعد أن ندمنا؟ قد يفسر بعضنا الكذب بأنه حماية لنا ويبدأ بإعطاء المبررات والتي هي كذب ٌ أيضًا. وبعضنا لديه مزرعة من اشجار الكذب.

         ذات مرة قررت أن أُدَون الكذب لمدة اسبوع فتفاجأتُ من عددها، فالموظفة تذرعت بعدم استطاعتي مقابلة المسؤول لأنه (مسافر- أو عنده اجتماع) ،وصديقي يكذب على ابنه الصغير عندما اتصل به وأخبره بانه في طريق العودة، والبائع يقسم بحلاوة واحمرار البطيخة (الجحة) على الرغم من انها مغلقة وقد تكون بيضاء ولا طعم لها، والقائمة تطول ، ولك عزيزي القارئ أن تجرب القائمة بنفسك.

         لا ادعي بأن لا صدق في حياتنا ولكن بتنا نستخدم الكذب اسلوب حياة بحجة المبررات.

كبرنا الآن وتنوعت الان اساليب زراعة وري اشجار الكذب، بينما يوسف مازال يحاول أن يقول الحقيقة ولكن لا أحد يسمعه.

شارك برأيك: