إعداد الأستاذ يوسف مدن
الجزء الرابع البعد الإنساني في شخصية ابن معراج
يمثل البعد الإنساني الجوهر الحقيقي للشخصية البشرية وعمق وجودها، ولهذا البعد وجود فطري في داخل النفس يجسد رصيدها الوجداني والقيمي والأخلاقي، ووجود آخر في خارج الذات، ولا يظهر البعد الإنساني إلاَّ بتفاعل الجانبين الداخلي والخارجي، فالاستعداد الداخلي لهذا البعد يتفاعل مع تأثيرات المربي وقيمه وتوجهاته ومساراته السوية، فيصل البعد الإنساني إلى حالة النضج الطبيعي ويقوم بأداء وواجباته ومسئولياته العبادية، ويبلغ أداؤه العبادي لمستوى محدد من الرضا الداخلي لديه بسبب حيوية بعده الإنساني.
مظاهر من البعد الإنساني لشخصيته.
الجانب الفطري في كيان الإنسان حقيقة سيكولوجية وبيولوجية لا يحتاج المرء إلى التأكد من وجودها، وهو – كما نعتقد – أحد مصادر ما يميِّزه عن غيره من مخلوقات الله تعالى، وما يميّز بينه وبين آخرين من بني آدم من تنوع وتمايز في البعد الروحي والقيمي والأخلاقي الذي تفتقر إليه كائنات أخرى، وبروز هذا التمايز بين الإنسان والآخر في القدرات الذهنية والأنشطة والأدوار الثقافية والوجدانية والاجتماعية، ويتجلى هذا البعد في شبكة متداخلة من السمات والقدرات والأدوار المتعددة التي لحظناها في شخصية الحاج أحمد بن معراج وتأثيرها في نسج البنية الأساسية لكيانه الذاتي، وقد أدركنا وجود هذه السمات والخصائص والأدوار في كيان شخصيته من خبرتنا بالرجل كما عرفناه في السنوات القليلة التي خبرناه فيها، ومما تداولته ألسن بعض المعمرين، وكذلك مما ثبت لدينا بمعاينة مباشرة من وجود وثائق ثقافية نسجت تاريخه الثقافي وجعلته من أفراد النخبة المثقفة والروحية والاجتماعية الواعية.
ومن المؤكد أن للبعد الإنساني – كما سيرى القارئ – مصاديق ومؤثرات فعلية تتمثل في تنميته للجانب الروحي في شخصية ابن معراج، واهتمامه بالعلم والخدمات الثقافية، والخدمة الاجتماعية الطوعية المجانية للناس، وجهاده السياسي، وإيمانه بقيمة العمل والاقتناع الداخلي وبتواضع بقبول مهن متنوعة تعمق إحساسه بالكرامة والعزة، وتثري دوره الوظيفي من منظور عبادي، ثم نقل خبرته في العلم والتطبيب والخدمات الاجتماعية، وحل المنازعات التي تنشأ بين أفرد مجتمعه، وقبولهم بما يصدر عنه لثقتهم الكبيرة برجاحة عقل ابن معراج وسمو رأيه، ومناصرته بشجاعة للفقراء والمستضعفين.
وكذلك اشتراكه على نطاق واسع، وكما رأيت أنا شخصياً بأم عيني في تطبيب الناس من مرض الخنَّاق وكأنه بالنسبة إليه فرض عين لم يتخل عنه حتى في أيامه الأخيرة، وكنت – كما أدرك ذلك في سني طفولتي – يستقبل الناس في بيته من داخل قرية النويدرات ومن خارجها ليمارس مهنة الفصادة أو تخليصهم من ضغط الدم الزائد المعروف آنذاك بمرض ” الخنَّاق “، وكنت أرى بنفسي تدفق دماء مرضاه على جدار مسكنه الواقع بأقصى شمال النويدرات، وهي دماء يجب التخلص منها لتخفيف الضغط عليهم، وأنه عليه الرحمة ورضوان ربه الكريم، وتجسيداً للبعد الإنساني في شخصيته يخرج في أي وقت ولأي مكان في البحرين لأداء هذه المهمة الإنسانية، ودون مقابل مادي أو عوض أو أجر إيماناً منه بالدعوة القرآنية الواضحة بإحياء ” النفس الإنسانية ” وإنقاذها القائلة في مضمونها الروحي والمعرفي أن من أحيا نفساً كأنما أحيا الناس جميعاً، وأنَّ من قتل نفساً متعمداً إنَّما قتل الناس جميعهم كما جاء في نص قرآني كريم ورقمه (32) من سورة المائدة.
ونص القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى:
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنَّه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعاً، ولقد جاءتهم رسلنا بالبيِّنات، ثم إنَّ كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) سورة المائدة آية رقم 32
وإجمالاً تجسد – هذه الدراسة – المفاصل الأساسية للبعد الإنساني في شخصية الوجيه الحاج أحمد بن معراج، وسوف نلحظ – عزيزي القارئ – في تضاعيفها جوانب تعبيرية لهذا البعد فيما ذكره ابنه الأستاذ علي في مختصر سيرته الذاتية، وفيما تناولته إشاراتنا في تكوينه الثقافي وانجازات شخصيته في أكثر من جانب وبخاصة في المجال الثقافي، وهذا هو جوهر نجاحه في الانجاز وتحقيق المهمة الصعبة التي تصدى لها، وجوهر مفهومه للعمل العبادي في دنياه تحقيقاً لرضاه تعالى وتلذذاً في خدمة الناس من حوله، وهو أمر فتح باب العلاقات الحميمة على مصراعيه مع الناس.. يحبهم ويخلعون عليه فيوضات حبّهم الداخلي.
تطوير علاقته بمصادر الثقافة:
وهي آنذاك مصادر الثقافة الإسلامية في المقام الأول، بالإضافة إلى تجارب شخصية في مجال المعرفة، ويلحظ من سيرته الذاتية في المجال المعرفي حركة نموه التدريجي بدْءً من مرحلة التعليم الديني أو الكتاتيبي مهارتي القراءة فالكتابة لاحقاً، ففي هذه الكتاتيب تدرب على قراءة القرآن الكريم، حروفه وكلماته بالطرائق السائدة، وبعد أن أتقن القراءة والتلاوة العادية لم يتوقف عند هذا الحد، فبدأ يتعلم الكتابة، واستمر في مراحل متتابعة في الجمع بين قراءة القرآن وسيرة النبي وأهل بيته الكرام كما جاء في مختصر سيرته الذاتية التي كتبها لنا ابنه الأستاذ علي وقراءة مصادر متعددة في الأدب واللغة والفقه وبين الكتابة بخطوات متدرجة من نظم القصائد وجمع الشعر إلى عمليات النسخ إلى نظم الشعر وكتابة الحواشي والتعليقات وطرح مساجلاته مع علماء دين، ولم يكن ابن معراج وحيداً في تعلم القرآن فهو كسائر الصبيان في عصره، وإنما انفرد عنهم بتجاوز التلاوة لمرحلة أعلى نظر فيها صفحات تفاسير القرآن وقرأ منها ما أحتاجه، وتطورت الحاجة تدريجياً كلما مضى الزمان.
ولم يتوقف ابن معراج عند هذا المستوى، بل توجه إلى تطوير علاقته بالقرآن وبمصادر وكتب السيرة واللغة والفقه والشعر، فاقتنى كتباً متعددة ومتنوعة ضمتها مكتبته المنزلية الخاصة التي اشتهر بها آنذاك، ومن المؤكد أن ابن معراج لم يشتر هذه الكتب للزينة أو التلذذ بالنظر إليها أو لمجرد إحساسه بالزهو الداخلي، وإنَّما ليبني شخصيته المعرفية ويثريها بالخبرة المتجددة، وبذلك فإن ثقافته التي مكنته من تحقيق ” المهمة الصعبة ” في مجال انجازاته الثقافية التي سنعرض إلى بعضها إنما تدل على حركة تطوير تصاعدية في علاقته بالمعرفة الدينية والأدبية واللغوية والتاريخية، حيث بدأ مبكراً في القراءة في كتب التفاسير القرآنية، ويطلع على بعض كتب الحديث عند الإمامية، وتجاوز ذلك إلى قراءات لكتب اللغة والأدب والتاريخ الإسلامي.
ومن المنطقي أن ينتقل ابن معراج وبرغبة داخلية ذاتية لديه في التعلم من مرحلة تعلم الحروف في النص القرآني إلى مرحلة تعلم قراءة وفهم مفردات النص وكلماته، إلى مرحلة قراءة وإتقان نص الآية القصيرة فتعلم الآيات الطوال إلى أن أتقن تلاوتها جيٍّداً، وتجاوز المرحلة الأخيرة بالنظر في التفاسير القرآنية والبدء في قراءة ما يحتاجه، ثم عزز نموه المعرفي بتطوير علاقته بالقرآن وكتب الحديث والفقه والأدب والتاريخ على نحو تدريجي وبخبرات تراكمية تصاعدية، لذلك حقَّ لابنه الأستاذ علي أن يصفه في مختصر سيرته الذاتية بالاهتمام بالعلم والعلماء ومصادره، وهكذا مكنته مطالعاته الدائمة المستمرة لكتب التفاسير القرآنية وكتب العلوم الدينية والأدبية والتاريخية من تطوير علاقته بالثقافة وتنمية قدراته العقلية.ز قراءة وفهماً وانتاجاً.
وتسجل بعض الوثائق التي لحظناها في التاريخ الثقافي لابن معراج أمثلة حيَّة مكنته من تطوير علاقته بالعلم والمعرفة، ولنأخذ على سبيل المثال كيف طوّر علاقته بالقرآن، فابن معراج كتب مسائله الثلاث للشيخ عبد المجيد السيهاتي، وهي إشكاليات ذات صلة بنصوص قرآنية، فالمشهد يدل على تجاوز التلاوة القرآنية للآيات إلى رغبة في فهم دلالة النص، وعندما شعر بعدم حصول إجابة من بعض التفاسير، وهذا ما نتوقعه عاد للسؤال على علماء دين عسى أن يجد حلاً لاشكالياته الذهنية، فهذه المسائل الثلاث هي فعلياً إشكاليات ذهنية تحمل بين طياتها مثالً على تطوير علاقة ابن معراج بالقرآن، وهذا ما تم فعلاً فترتب عن ذلك ظهور كتيب ” الأجوبة السيهاتية في المسائل النويدرية “.
فبعد نجاحه في تعلم قراءة القرآن وتعلم حروفه وكلماته وآياته وسوره القصار والطوال على حد سواء وجد نفسه بحاجة إلى متابعة تواصله بالقرآن ولكن بمرحلة تتجاوز التعلم الأولى له فانتقل في مرحلة تعزيز جديدة إلى المداومة على تلاوته، فالتأمل والاستفهام وإثارة السؤال، ثم قراءة تفاسير قرآنية كان يحتفظ يبعضها في مكتبته المنزلية الخاصة بحثاً عن فهم لمعاني القرآن أو تفسيراً لكلماته أو حلاً لإشكاليات ذهنية، وهذا بالتأكيد مثال حي على تطوير علاقته بالقرآن وبمصادر الثقافة والمعرفة، فانتقل من التلاوة وحفظ النص القرآني لقراءة تفاسير واستخدام أساليب معرفية ككتابة التعليقات والحواشي، ولهذا حظي بثقة علماء دين صاحبهم فأعجبوا بآرائه التي كان يبديها في قضايا شرعية واجتماعية، وخلاصة القول بأن سيرته الذاتية شهدت تطويراً هادفاً لعلاقته بمصادر المعرفة السائدة آنذاك بمختلف أنواعها، فجعلته يركب الصعب، وهيأته للمهمة الصعبة، ويحقق ” الانجاز الثقافي ” وفق الإمكانيات المتاحة في عصره.
المهمة الصعبة لابن معراج:
العنوان الرئيسي المقترح لهذه الدراسة كما في صدارتها، وعلى غلافها الخارجي هو ” ابن معراج والمهمة الصعبة ” وهو – كما ترى عزيزي القارئ – مكوَّن من جزأين، فأمَّا الجزء الأول من العنوان فيشير إلى وجود شخصية عصامية قيَّض الله سبحانه وتعالى أن تعيش في الفترة ما بين 1896- 1970م بحسب ما جاء في جوازه وهي وثيقة سفره، والاسم الأول لهذه الشخصية هو أحمد واسم أبيه.. معراج بن حسن، وسوف يتكرر في تضاعيف دراستنا التي بين يديك ذكر الاسمين ((ابن معراج، وأحمد بن معراج)) لنعني الشخصية ذاتها التي عاشت كآلاف الناس قسوة غير عادية في حياتها ولكنها صعبت على الظروف فصنعت في تاريخها الثقافي والسياسي انجازاً معتبراً، وذلك هو ما نعنيه بالمهمة الصعبة التي ما يزال ثمار خيرها حاضراً الآن بين أيدينا.
وهذه المهمة هي الجزء الثاني من العنوان الأساسي لدراستنا عن هذه الشخصية التي – كما ذكرنا – عاشت ظروفاً صعبة فسمت بنفسها فأنجزت المهمة الصعبة حتى وإنْ لم يشعر بها كثير من الناس، وبخاصة ممن ينتمي للأجيال الحاضرة.
إنَّ كل شيء يوحي ب ” الحياة الصعبة ” من حول هذه الشخصية ومعها آلاف الناس من المؤمنين – أفراداً وجماعات – ممن اكتوى بالظروف القاسية المجهدة التي أحاطت بهم، وانعكس هذا كله على نشاطها ودورة العمل في انجاز المهام، بيد أن إرادة التحدي لدى ابن معراج مماثلاً للمتميزين في زمانه، وهم قلائل، مما جعل تكوين ” المهمة الصعبة ” في حياتهم أمراً واقعاً وإنجازاً نفخر به بعد أن مضى ابن معراج ورفاقه الأبرار إلى فيوضات رحمات ربهم سبحانه وتعالى.
قد لا نجد هنا أرقاماً للتعبير عن قسوة حياتهم في ذلك التاريخ[1] الغابر، ولكن مرارة أقوالهم حينما نخاطبهم ويخاطبوننا أسمى شاهد على ذلك، فالفقر وشظف العيش من علامات القسوة المعيشية، وابن معراج في هذه الحالة كسائر آلاف الناس تذوق مرارة هذه القسوة في مجتمعه الممتحن، والفقر والفاقة والعوز المادي تشغل باله وبال كل إنسان تماثل معه في ظروف المعيشة، فتحمل مسئوليته في البحث عن لقمة العيش بالسبل المشروعة المتاحة، وتراوحت نتائج جهده بين التعثر والنجاح والإبداع أحياناً، حتى كان ” الانجاز الثقافي الصعب ” الذي نعرض نماذج منه في دراستنا لابن معراج كشخصية ثقافية واجتماعية نافذة ومناضلة.
إن انجاز المهمة الصعبة، ونعني به ((تكوين ابن معراج نفسه ثقافياً وروحياً واجتماعياً وقيمياً وجسدياً وفي جوانب أخرى من شخصيته)) في ظروف صعبة وشاقة، فالاستقرار الاجتماعي والنفسي غير متوافر كما ينبغي، وأعمال الكسب المادي ليست على ما يرام، وملاحقات الاحتلال البريطاني تتعقبه، وترقب حركة رجالات وطنيين آخرين، ولكن إرادة التحدي جعلت الحاج أحمد بن معراج يصنع لنفسه فرصاً إيجابية للتحدي والاستجابة إليه، ومكنته بعض الفرص التي صنعها من إنجاز المهمة الثقافية بأدواتها المختلفة كما سترى في بطن هذه الدراسة، وظلت بصماتها في شريان حياتنا.
وكذلك كانت ظروف حياته الاجتماعية تطوق مجتمعه بأصفادها، فهي مليئة بالجهل من حوله، وتعصف بمجتمعه حالات من شيوع الأمية ومنع البنات من التعليم سوى ما كان مسموحاً على البعض منهم في التعلم بالكتاتيب، وكذلك قصر التعليم على نمطية السرد والتلقين، وباجتماع هذه المعوقات أصبح إنجاز المهمة الثقافية مهمة صعبة، إلاَّ أن الوجيه الحاج أحمد بن معراج توجه بإرادته الحديدية نحو العناية والاهتمام بذاته في محاولة منه للتمرد عليها ومعرفتها واكتشاف بعض قدراتها، وإبرازها في سياقات ثقافية متعددة في حياته، فجعل من هذه المحاولة بداية موفقة ليصنع مع آخرين أعمدة الثورة الاجتماعية الصامتة في مجتمعه آنذاك، وتخطي عوائق المهمة الصعبة الناجمة عن هذه التراكمات الثقيلة والاحباطات المرهقة.
ولا يختلف الحال في المجال الثقافي، فأدواته لم تكن تتيح لابن معراج أو للآخرين من نظائره أو من يشاركه ظروف الحياة الثقافية الصعبة أن ينجز كثيراً، فأغلب أدوات التنمية الثقافية على أداء المهمة الصعبة محدودة، ومقتصرة على فئة قليلة، لكن إرادة ابن معراج وقلائل من أصحابه نجحت بدرجة مقبولة في تحقيق الانجاز بما تيسَّر[2].
بيد أن تزايد الطلب على جهود هذه الفئة القليلة وخدماتها ترك أثراً، ومع ذلك أبى ابن معراج ونظراؤه إلاَّ أن يخوض التجربة الثقيلة للقيام بالمهمة الصعبة في المجتمع وتجاوز الضغوطات للوصول إلى مستوى عال من تحمل المسئولية الثقافية الملقاة على كاهل النخبة المثقفة المستنيرة، وإلى مستوى مقبول من العطاء والنشر الثقافي – الحضاري الذي لبَّى حاجات المجتمع النويدري ومتطلباته، وحقق له سمواً في أهدافه وفي طموحاته التي ترنو لها نفسه الطاهرة.
وخلاصة القول أن الحاج أحمد بن معراج بن حسن بن علي والنخبة المؤمنة التي كانت تشاطره الهموم الاجتماعية مكنوا أنفسهم بعد كفاح دؤوب طويل لمواجهة كل وضع صعب وتجاوز ” المهمة الصعبة ” بالإمكانيات المتاحة، وتم فيها مشاركتهم في التنمية الثقافية لمجتمعهم في وسط معوقات تحيط بهم من كل حدب وصوب.. معوقات الفقر وعوز الحاجة في جانبها المادي، وفي جانبها الاجتماعي عصفت بمجتمعه النويدري مشكلات الجهل والأمية والتعليم السردي وفقدان الأمن والخوف على الذات، وإعاقة المرأة من الحصول على نصيبها من التعليم حتى الديني إلاَّ إذا كان بشاكلته الكتاتيبية التقليدية، وفي نطاق ضيق اقتصر على بعض الفتيات والنسوة، وكذلك معوقات نمو أخرى نخرت من كيان هذا المجتمع لزمن ليس بقصير، فتطلبت من رجالاته المواجهة والعمل على تذليلها.
لقد تجرع الناس في حياتهم ألواناً من المتاعب، لكنهم التأموا في داخلهم مع أقوال الإمام علي عليه السلام وتوجيهاته القائلة
” إذا صعبت عليك نفسك فاصعب لها تذل لك[3] “
وقوله عليه السلام كذلك: ” إذا خفت صعوبة أمر فاصعب له.. أي كن قوياً عليه.. يذل لك[4] “
وأيضاً الالتزام الكامل بحكمته: ” إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم من الوقوع فيه [5]“.
وتفاعلوا مع مفاعيل هذا التوجيه ووقعوا في خضم الصعاب فحققوا الانجاز الثقافي، كله أو بعضه، ونجحوا في المهمة الصعبة لالتحامهم بهذا التوجيه السيكولوجي والأخلاقي والمعرفي، وهذا ما تسميه العلوم الإنسانية وبخاصة علم النفس بالحاجة إلى تحقيق الذات أو تقدير الذات وقيمتها، وقد عبر الإمام علي عن هذا المعنى بقوله عليه السلام:
- ” قيمة كل امرئ ما يحسن[6]“.
- وقوله عليه السلام كذلك في نص قصير ويماثله في معناه ومفرداته اللفظية: “قيمة المرء ما يحسنه”.
[1] دوَّن عدد من الباحثين والمؤرخين هذه الفترة التاريخية الحساسة من تاريخنا الوطني، وكان بعضهم ممن شارك في صنع أحداث هذه الفترة بنضاله السياسي كعبد الرحمن الباكر، وبعضهم تصدى لهذه المهمة بدوافع علمية أو وطنية أو كليهما، ويمكن للقارئ الكريم الاطلاع على تاريخ تلك الفترة العصيبة وحوادثها من مصادر عديدة، ومن هذه المصادر كتاب ” من البحرين إلى المنفى ” للمناضل البحراني المرحوم عبد الرحمن الباكر الذي انتخب كأحد أعضاء قادة الهيئة العليا الثمانية في منتصف خمسينيات القرن العشرين المنصرم خلال مؤتمر وطني مهيب عقد بمأتم بن خميس بالسنابس وذلك في يوم 13 من أكتوبر 1954م لإدارة العمل السياسي آنذاك، وكذلك كتاب ” القبيلة والدولة في البحرين ” للباحث والمؤرخ اللبناني الأستاذ الأكاديمي الدكتور فؤاد إسحاق الخوري، وكذلك كتاب ” البحرين في الوثائق البريطانية ” في فترة العشرينات من القرن العشرين المنصرم حتى عقد السبعينات منه لمؤلفه الدكتور سعيد الشهابي.
[2] انظر حلقات (2، 3، 4) من كتابنا (الظاهرة الثقافية في المجتمع النويدري)، دراسة غير منشورة.
[3] الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ج1 ص 282.
[4] المصدر السابق، ج1 ص 283.
[5] نهج البلاغة ج4 ص 42
[6] ابن شعبة الحراني، تحف العقول ص 142.