إعداد الأستاذ يوسف مدن
الجزء الخامس
التكوين الثقافي ونمو شخصيته
بعد أن نقلنا النص الكامل ((لمختصر السيرة الذاتية لا بن معراج)) الذي كتبه ابنه الأستاذ علي أيده الله بقدرته وسداده الدائم، نعود مرة أخرى لمتابعة كتابة جوانب أخرى من السيرة الذاتية لأبيه الحاج أحمد بن معراج رحمه الله تعالى، فبعض التفصيلات لنقاط سابقة التي وردت في مختصر السيرة لا نراها كافية في رسم الصورة، لذلك أضفنا بعض المعلومات التي لم يتطرق لها ابنه الأستاذ علي، ونتوقع أن يذهب بعض من يعرف الحاج أحمد بن معراج إلى الرغبة في توسعة الترجمة لأن بعض جوانب السيرة لحياته قد غفلنا عنها، وهذا ديدن الحياة، فالباحث يحمل في جنبيه الشعور بقصور النظرة حينما يكتب أو يفسر، ويطوي في داخله دائماً الرغبة في إكمال الشيء كلَّما استشعرنا القصور.
وتضمنت كتاباتنا الإضافية التي بين يديك عزيزي القارئ:
- مقدمة لهذا البحث تناولت تراثنا وأهمية كتابته، والمدخل المنهجي لدراسة شخصبة بن معراج.
- تدوين بعض التفصيلات الإضافية كمادة ثقافية في سيرته الذاتية على النحو الذي دوناه في هذا الجزء من دراستنا عن شخصية الحاج أحمد بن معراج بن حسن بما اقتضاه واجبنا الأخلاقي والوطني في تعريف الناس من الأجيال الجديدة بشخصيته وانجازاتها وبخاصة الثقافية والروحية، ومساعدة الشباب والناشئة على العلم والدراية بشيء يسير من تاريخهم الثقافي والاجتماعي.
- وثائق تؤكد وجود مادة البحث والدراسة النظرية، وهي كما سيأتي وثائق مخطوطة، ومعززة بوثائق مطبوعة.
والإضافات التي نعنيها هنا ليست بالضرورة معلومات جديدة في كل معالجة، وإنما قد تكون معلومات تفصيلية لإشارات وردت في ” مختصر السيرة الذاتية ” للحاج أحمد بن معراج والتي أعدها ابنه الأستاذ علي، فعلى سبيل المثال ذكر الأستاذ علي أن والده استنسخ بعض الكتب الدينية والتاريخية المطلوبة للمجتمع أو له ديوان شعر أو قام بجمع شعر ابن فائز رحمه الله، لكنه لم يتوسع في تفصيلها، وبذلك نضطر إلى تفسيرها بمعلومات إضافية قد تكون جديدة بالنسبة لغالبية القراء وبخاصة من أفراد الأجيال الحاضرة لعدم وجود اتصال برجالات الجيل السابق ومنهم المرحوم الحاج أحمد بن معراج بن حسن بن علي بن مال الله النويدري البحراني كما كان يعرِّف نفسه للناس في معظم مخطوطاته وأدبياته الثقافية التي اطلعنا عليها، وقد تكون مألوفة ولكن بمعالجة تفصيلية أوسع.
إنَّ ” الإضافات ” على مختصر السيرة الذاتية هي بالنسبة إلينا ضرورة معرفية حتى وإنْ لم تأتِ لقارئ ما بمعلومات جديدة لأنها تساعد على تفسير بعض العبارات التي وردت في ” مختصر السيرة الذاتية ” أو توضيح حقيقة غائبة أو مغيَّبة أو مجهولة لسبب ما عن أذهان الأجيال الجديدة، بل إنَّ الإضافات هي رؤية اجتهادية لكاتب في فهم أعمق لشخصية عرفها بنفسه وأدرك شيئاً من تراثها الثقافي كحالنا مع الحاج أحمد بن معراج بن حسن بن علي بن مال الله النويدري البحراني[1].
نسبه العائلي:
تنطلق عملية الترجمة لحياة شخص معين والحديث عن سيرته الذاتية من تحديد النسب العائلي للشخص المترجم له، ففي ذلك تحديد لهوية ” المترجم ” له، والملحوظ أنَّ الحاج أحمد بن معراج كان كسائر النساخين يذكر دائماً نسبه العائلي في نهايات كل كتاب مخطوط ينتهي من نسخه سواء كان من كتب الوفيات أو من كتب المواليد، وهذا التقليد من عوائد النساخين في النويدرات وفي غيرها من قرى البحرين، بل هو تقليد ثقافي معتاد، فيذكر ابن معراج اسمه أحمد، ثم اسم أبيه معراج، ويتدرج بنسبه من الجد الأول حتى جده الثالث فيتوقف.. هكذا وجدنا في مخطوطاته التي كان ينسخها، ويضيف على ذلك لقبه ” النويدري البحراني “أسوة بكل الأفراد البحرانيين آنذاك حين يقومون بتعريف أنفسهم وتحديد هويتهم الشخصية وانتسابهم الوطني، فلقب البحراني شائع في زمانهم وفي الأوساط والمحافل العلمية خارج البحرين.
وكان الحاج أحمد بن معراج بن حسن رحمه الله سبحانه وتعالى يذكر نسبه الكريم بأكثر من صيغة كما هو في عدد من المخطوطات التي نسخها بيده في ستينات القرن الرابع عشر الهجري، إلاَّ أن الغالب في ذلك كتابة الصيغة التالية لتحديد نسبه، فيقول عن نفسه بعد أن يفرغ من كتابة المخطوط محدداً اسمه بنسب خماسي على النحو التالي:
” أحمد بن معراج بن حسن بن علي بن مال الله النويدري البحراني “.
وأحياناً يضيف ابن معراج كلمات قبل كتابة اسمه الأول مثل كلمة السبحاني، الصمداني، الفقير إلى ربه، وغريق ذنبه، أحقر العباد، الحقير لله، أقل العباد عملاً، العبد الآثم، وهذه الكلمات المتكررة في مخطوطاته تجسد تقليداً ثقافياً وروحياً تاريخياً اعتمده النساخون من أهالي النويدرات ومن غيرها، فعندما يفرغون من كتابة ما ينسخونه من كتب العلماء ورسائلهم سواء كانت مواليد أو وفيات أو قصائد وجلوات تجدهم يكتبون في نهاية الكتاب المخطوط كلمات من هذا القبيل تواضعاً منهم لله تعالى وإقراراً له بالصغر أمام عظمته سبحانه وتعالى.
شخصية ابن معراج والعوامل المؤثرة في نموها:
وفقاً لمبادئ النمو التي تحكم دورة الحياة لدى الكائن الآدمي تنمو كل شخصية بشرية في سياقاتها الطبيعية المنبثقة عن كيانها الذاتي أو عن تأثير مجموعة من العوامل مباشرة وغير المباشرة وأهمها التكوين الوراثي والبيئة الداخلية والتدخل البيئي الخارجي، فالشخصية البشرية تنمو بتأثير هذه العوامل وتفاعلها مجتمعة، بالإضافة إلى عوامل فاعلة كالجنس والعمر والتجارب الذاتية التراكمية.
ومما لا شك فيه أن شخصية المرحوم الحاج أحمد بن معراج رحمه الله ليست خارجة عن هذا النظام الطبيعي في دورة النمو الإنساني، فقد تأثرت في حركتها النمائية بمجموعة عوامل ربطت قدراتها الداخلية الذاتية بالتأثيرات البيئية الخارجية، وتجلت مظاهر هذا النمو في ظروف تكوين ثقافي سنمر عليها في تضاعيف هذه الدراسة، وتداخلت هذه العوامل في تكوين نسيج ثقافي وروحي واجتماعي وأخلاقي لشخصيته، وقد ترتبت عنها بالضرورة انجازات بارزة في المجال الثقافي، وهيأته لفرصة نجاح في القيام بالمهمة الصعبة التي أسهمت في الاهتمام بالإنسان والدين والمجتمع، وكانت ثمرة حياته.
ومع أن شخصية الوجيه الحاج أحمد بن معراج لم تتعرض لقياس قدراتها الذاتية أو سلوكها الخارجي، وهذا غالب ما كان عليه آنذاك سائر الناس، إلاَّ أنَّ انجازات الرجل هي في حد ذاتها تعبير بارز عن قياس لأدائه السلوكي وبخاصة في موضوع الدراسة.. انجازاته الثقافية، كما أن مواقفه السلوكية ومواقفه الشخصية المختلفة تعزز قبول هذا الاتجاه، فنوعية الفعل كما قال الإمام علي ” يدل على ” كمية العقل[2] “، ويعني هذا أن نمو القدرات العقلية لدى الفرد، ونوعية الأداء الصادر عنه مرتبط بالذكاء وسلامته وطرائق تنميته.
ويمكن – إجمالاً – تحديد العوامل التي تركت أثرها على نمو شخصية ابن معراج، وحصرها في عاملين رئيسيين كما يأتي:
- قدراته الذاتية وبخاصة خصائص تكوينه الذهني والعقلي، فابنه يصفه بحدة الذكاء وحضور البديهة حتى أن العلامة الشيخ محمد بن سلمان بن عبد الله الستري البحراني كان يصطحبه للقطيف لهذه الخصائص العقلية، لذلك يقول ابنه: ” وقد تتلمذ على يد مجموعة من علماء الدين الأفاضل في البحرين منهم المرحوم الشيخ محمد بن سلمان الستري والد المرحوم الشيخ منصور الستري، الذي كان يصطحبه في زياراته للخارج بالقطيف، حيث وجد فيه حدة الذكاء وحضور البديهة، وكانت هذه المصاحبة ذات أثر عظيم وبارز في تنمية شخصيته الدينية والاجتماعية وتنمية ملكاته العقلية كما ساعدته على تفهم أحكام الشرع الإسلامي الحنيف.
- عامل التأثيرات البيئية الإيجابية وتجاربه الذاتية التي تشمل جوانب فرعية كنمط تربيته الثقافية لشخصيته مثل تعلمه المبكر في كتاتيب قريته النويدرات، ومجالسته للعلماء واصطحابهم، واهتمامه المبكر بالعلم والتعلم الذاتي، وشجاعته الأدبية، وصبره على تحمل مشاق العمل، وقدرته على تقبل مبدأ الاحباطات المستمرة وإدارتها في حياته بنظرة إيجابية.
لقد قال عنه ابنه:
” نشأ في بيت فاضل، حتى إذا بلغ السادسة من العمر أدخله والده إلى مكاتب التعليم الديني (الكتاتيب) ليكتسب مهارة القراءة وقراءة القرآن الكريم وسيرة النبي وآل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام. وقد تتلمذ على يد مجموعة من علماء الدين الأفاضل في البحرين منهم المرحوم الشيخ محمد بن سلمان الستري والد المرحوم الشيخ منصور الستري، الذي كان يصطحبه في زياراته للخارج كالقطيف حيث وجد فيه حدة الذكاء وحضور البديهة، وكانت هذه المصاحبة ذات أثر عظيم وبارز في تنمية شخصيته الدينية والاجتماعية وتنمية ملكاته العقلية كما ساعدته على تفهم بعض أحكام الشرع الحنيف “.
وفي موضع آخر من مختصر سيرته قال عن والده:
” لقد كان رحمه الله صديقاً للعلماء المشهورين في البحرين، وقد تلقى العلوم الدينية على أيديهم، وقد قاده ذلك إلى تنمية ملكاته العقلية، فأصبح شغوفا بالعلم واكتساب المعرفة شغوفا بالقراءة والاطلاع على الكتب الدينية والأدبية والتاريخية ولديه ميول لقراءة الشعر وبالذات المراثي أو ما اصطلح على تسميته بأدب الطف، وهو شاعر متمكن سخر شعره وحافظته وقلمه الناسخ في خدمة العقيدة التي يدين بها “.
ويتابع ابنه ذلك – وهو يحدد أثر العلماء على تكوينه الثقافي[3] – فيقول:
” ومن علماء البحرين الذين رافقهم وتشرف بصحبتهم (الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد صالح، الشيخ محمد علي المدني، الشيخ إبراهيم المبارك، الشيخ عبد الله المصلي، الشيخ حسن المعاميري، الشيخ علي بن الشيخ عيسى، الشيخ جعفر القطيفي، الشيخ علي بن الشيخ جعفر القطيفي، الشيخ عباس الجزيري، الشيخ حسين بن عباس الجزيري.. وآخرون).
وقد حظي ((ابن معراج)) بثقة هؤلاء جميعا وكانوا يعجبون بالأفكار والآراء التي يبديها الحاج أحمد بن معراج في كثير من القضايا الاجتماعية والشرعية التي يطلب منه الناس الفصل فيها، وكانت له مراسلات مع المرجعيات الدينية خارج البلد في الشأن الديني، وقد قام باستنساخ بعض الكتب التي كان يرى أنها ذات قيمة معرفية وشأن ديني، وعرف بأن له محاورات مع العلماء والخطباء حتى أضحى مهاب الجانب وكان الكثير من الخطباء على حذر مما يقولونه على المنبر حين حضوره، وكانت تربطه علاقة صداقة ومحبة متميزة مع الخطيب والشاعر الكبير الملا عطية بن علي الجمري ونجله الملا الحاج يوسف، وكانا طيلة سنوات خطيبان رئيسيان للمأتم الوسطي والذي يحمل اسمه، ويقال أحياتناً مأتم آل معراج.
واشتهر رحمة الله عليه – كما يقول ابنه في ترجمته – بالجرأة والشجاعة وقول الحق والدفاع عن المظلومين وإصلاح ذات البين مهما كانت قسوة الظروف التي تحيط بموقفه، وكان يهتم كثيرا بحل النزاعات التي تنشأ بين أفراد المجتمع وكان ما يصدر عنه مقبول من الناس لثقتهم الكبيرة في رجاحة رأيه، وكان مجلسه مفتوحا يؤمه القاصي والداني ويحضره العلماء والعامة.. كما أن هذه المواقف قد حببته في قلوب عامة الناس.
تكوينه الثقافي:
يولد الإنسان باستعدادات داخلية زوده الله سبحانه بها، واقتضت حكمته تعالى أن تظل كامنة مستعدة للتأثر بالعوامل الخارجية، وهي في سياق ذلك تنمو بالتدخل البيئي والتوجيه التربوي وتتحول الاستعدادات الفطرية الكامنة إلى قدرات حقيقية وفاعلة في واقع الأفراد وحركتهم الاجتماعية، وشدد المشرع التربوي الإسلامي على هذا التلازم كحقيقة كبرى من حقائق الوجود الإنساني، ولذلك جاء في أحد نصوص الإمام علي عليه السلام أن للإنسان عقل فطري وآخر مكتسب تجريبي واجتماعي، يقول الإمام علي عليه السلام في نصوصه التربوية التالية:
- العقل عقلان: ” عقل ولادة وعقل إفادة[4] “.
- وفي نصوص أخرى قال الإمام علي عليه السلام:
- ” العقل ولادة، والعلم إفادة[5] “.
- ” العقل عقلان، عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي إلى المعرفة[6] “.
- ” العقل عقلان، عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي إلى المنفعة[7] “.
- وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ” العلم علمان..علم مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع[8] “.
فأمَّا الأول ((ونقصد عقل الطبع أو عقل الولادة)) فهو الذكاء الفطري أو القدرة العقلية العامة التي يزود بها الإنسان من خالقه سبحانه، وتلك قسمة إلهية بين الناس على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم وألوانهم، وقد أطلق الإمام علي عليه السلام مصطلحات تعبيرية شديدة الدلالة مثل ” عقل ولادة، عقل الطبع، والعلم المطبوع “، ولكن هذا النوع من العقل لا ينمو بذاته، وإنما يحتاج إلى تدخل بيئي وتوجيه المربي باستمرار كي يتخذ الذكاء الفطري مساره الصحيح.
أمَّا القسم الآخر من العقل الإنساني المؤثر في نمو الشخصية فهو العلم المكتسب بالخبرة، ويتم بالتجارب بعد توقف النمو في خلايا الذكاء الفطري، وهذا ما أسمته النصوص المتقدمة بأسماء ومصطلحات مثل ” عقل التجربة، والعقل المسموع، وعلم الإفادة، وعلم مستفاد، وعقل المنفعة “، ودور هذا العامل مساعدة الذكاء الفطري على النمو في مساراته المطلوبة من قبل المربين في البيت والمدرسة ومؤسسات المجتمع.
وبصرف النظر عن مدى تميز شخص معين عن غيره من الأفراد في هذه القدرة وتلك، فهذه سنة الله في خلقه فإن لكل فرد من الناس ظروف تاريخية محددة تسهم في تكوينه الثقافي وتنمية الجانب العقلي من شخصيته، وبن معراج ليس بدعاً عن هذا التقليد الثقافي في النمو الشخصي للأفراد، ومع اعتقادنا أن ابن معراج رحمه الله يتميز بخصائص ذاتية جعلته معروفاً بالنبوغ كحدة الذكاء وسرعة وحضور البديهة لديه إلاَّ أن تكوينه الثقافي مرَّ بظروف مماثلة لنظائره من أفراد النخبة المثقفة التي عاشت في زمانه، وقد هيأته هذه الظروف الصعبة إلى أخذ موقعه الثقافي والاجتماعي، بل والسياسي كذلك، وهذا ما يجهله كثير من الناس في أيامنا الحاضرة.
لقد بدأ المرحوم الوجيه الحاج أحمد بن معراج تكوينه الثقافي من بيت شرب الإيمان الديني وذاب حباً في آل البيت عليهم السلام، وآمن لحمه ودمه وعظمه بالقرآن الكريم وتعاليمه العظيمة، وكانت تجربة تعلمه بالكتاتيب هو الخطوة الأولى في تكوينه التربوي والثقافي بعد عمليات التدريب المعتاد في أسرته التي اهتمت بتكوين أساسيات شخصيته في المجالات الروحية والمعرفية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية، وبعد تخطي هذه المرحلة.. مرحلة التعليم القرآني الكتاتيبي.. اكتسب ابن معراج بوحي قدراته الذاتية التي زوده الله بها مهارات القراءة والكتابة، وقواعد التعلم الذاتي بخبراته الشخصية وبقراءته الذاتية المستمرة، وتتابع هذا التكوين الثقافي لشخصيته بأساليب حياتية موفقة، فعقد صداقات مميزة مع علماء دين ولازمهم كالعلامة الشيخ محمد بن سلمان بن عبد الله الستري البحراني والد الشيخ منصور الستري، وكذلك ابنه الشيخ منصور قاضي الشرع الجعفري في البحرين لأكثر من خمسين عاماً وبخاصة عند ما سكن النويدرات وحضر معه جلسات حوارية في الدين والاجتماع والمعرفة السائدة وشئون الحياة السائدة والمتصلة بهموم الناس وأفراحهم، بالإضافة إلى صداقاته الشخصية مع علماء الدين ذكرهم ابنه في مختصر سيرته الذاتية.
ويبدو لنا من تاريخ حياته المدون في وثائق مكتوبة أن الوجيه الحاج أحمد بن معراج أقام علاقات وطيدة ومبكرة مع عدد من العلماء والخطباء وشعراء الرثاء الحسيني، وفي مقدمتهم صديقيه الحميمين ملا علي بن فايز والحاج عطية بن علي بن عبد الرسول الجمري البحراني شاعر أهل البيت الكبير وخطيب البحرين الكبير، وكذلك مع مهتمين آخرين بالشأن الثقافي والروحي، وقد أثرت هذه العلاقات شخصيته في نموها الاجتماعي، وأنمت قدراته العقلية والأدبية والروحية والاجتماعية، وصقلت سلوكه الوجداني.
وفي فترة من حياته وبخاصة في عقد الستينات من القرن الرابع عشر الهجري المنصرم نشط الحاج بن معراج سائر النساخين في قرية النويدرات في التصدي لمهمة ثقافية كان المجتمع الروحي بحاجة إليها وهي مهمة نسخ الكتب وإعادة خطها باليد ليستفاد منها في أنشطة المآتم والحسينيات من جهة، ولتحفظ ثانياً مادتها الثقافية للأجيال القادمة – كما نحن – فنقوم باستثمارها وإعادة طبعها ونشرها، وقد نسخ عليه الرحمة عدداً وافراً من الكتب المخطوطة فأثرى فكره الثقافي وأسدى لمجتمعه آنذاك خدمات روحية وفكرية، وجعل بعمله هذا من المهام المستحيلة مهاماً صعبة، لكنها في متناول اليد.
ومما لا شك فيه أن انجاز هذه ” المهمة الثقافية ” الحيوية والشاقة قد ترك في حياته الثقافية بصمات إيجابية ومؤثرة، ويكفي أننا اليوم نكتب جزءً يسيراً من تاريخه وسيرته الذاتية اعتماداً على هذا الإرث الثقافي الذي تركه أحمد بن معراج لنا بعد وفاته، فصنع من ذلك – لنفسه ولقريته وللعلماء الذين خدمهم – ميراثاً ثقافياً وروحياً يصعب شطبه أو حتى تجاوزه ما دامت المدونات الثقافية كالمخطوطات بين أيدي الناس يتداولونها زمناً بعد آخر، وما تزال بعض المطبوعات تحمل بصماته كديوان ابن فايز، وكتيب الشيخ عبد المجيد السيهاتي.
وقد تعمَّق التكوين الثقافي لشخصية أحمد بن معراج رضوان الله عليه من خلال أدوات تنمية ثقافية متاحة آنذاك مكنته من النمو التدريجي لشخصيته وبخاصة في المجال الثقافي كملازمة العلماء ومصادقة الخطباء والشعراء ومنهم المتميزون كابن فايز والحاج عطية الجمري، وعقد المساجلات الحوارية معهم، والقيام بمراسلات معرفية كما وجدنا ذلك في وثيقة الكتيب المطبوع المسمى (الأجوبة السيهاتية في المسائل النويدرية) الذي كان محصلة مراسلة علمية بينه وبين العلامة الشيخ عبد المجيد بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر السيهاتي البحراني، وكذلك تأسيس أنشطة الرثاء ومراسم العزاء على أهل البيت في المظاعن خلال أشهر الصيف كما في الجَبَلَة بقرية ” بربورة[9] ” الشامخة وأرضها الخضراء، حيث كان مع أفراد من عائلته والمؤمنين يقيمون هذه المراسم، فأتباع أتباع أهل البيت أينما حلوا حلَّ معهم حزنهم على هذا البيت الكريم وما عانوه من فواجع الدهر وطوارق الزمان على أيدي الأشرار وحكام الجور والبغي والعدوان من الأمويين والعباسيين وزبانيتهم في كل مكان وزمان.
أخلاقيات بن معراج في المجال الثقافي:
كما ذكرنا يؤدي التكوين الثقافي والروحي والاجتماعي لشخصية ابن معراج إلى نتائج، فثمة ترابط بينه وبين الطابع الأخلاقي لشخصية ابن معراج، ولهذا نقول بأنه من آثار تكوينه الروحي والثقافي نمو خصائص أخلاقية في شخصيته، فهناك لابن معراج – كسائر عباد الله – أخلاقياته الشخصية والعامة بنحو تطبع شخصيته بنمط محدد يتصل بإيمانه الروحي وتفكيره الديني وبنمط العيش الاجتماعي في أسرته ومجتمعه وفي علاقاته بدوائر اجتماعية أوسع، ولكن ما يعنينا هو الإشارة إلى أخلاقياته في نشاطه الثقافي ومنها:
1. سلامة النقل والأمانة العلمية:
يحتاج المرء في عمله الثقافي إلى التقيد بقواعد علمية لضمان استقامته، وانضباطه العلمي، ومن ذلك أمانة النقل العلمي، ونقل مادة الكتاب المخطوط كما هي، فلا يزيد ولا ينقص حتى وإنْ تعارضت أفكار المؤلف مع معتقدات الناسخ واتجاهاته الفكرية والروحية، فمن متطلبات الأمانة العلمية أن تصل بأمانة تامة المادة الثقافية لأي كتاب تم نسخه من هذا الناسخ أو ذاك، بحيث يتجرد الناسخ موضوعياً من نوازعه الذاتية وعواطفه الشخصية فيكتب الكتاب بكلماته وحروفه وفصوله وتنظيماته المنهجية، ولا يكتب زيادة عليه أو ينقص منه.
ولهذا فإن اعتذار النساخين – على اختلافهم – من احتمال الغلط والزيادة والنقصان والسهو هو ليس تعبيراً فحسب عن تواضع علمي بطبيعة أخلاقية محضة، بل هو تعبير عن التزام أخلاقي وروحي بالأمانة العلمية التي ينبغي أن تكون من أخلاقيات النساخين وكل من يهتم بالنشاط الثقافي سواء في مجال التأليف أو النسخ والخطابة وتداول الكلمة شفوياً أو مكتوبة، ومن هنا نفهم أن الأمانة العلمية هي جزء من نسيج أخلاقي في شخصية ابن معراج وبخاصة في نشاطه الثقافي، وهو لذلك يساوي نفسه بالعاملين في النشاط الثقافي سواء كانوا من مصنفي كتب أو رسائل أو ممن كان يهتم بعملية نسخها وإعادة كتابتها بخط اليد لتوضع في خدمة المجتمع النويدري ومؤسساته الروحية القائمة.
ونستطيع أن نلمح هذا الاتجاه الأخلاقي في النقل العلمي في كتابات ابن معراج وما نسخه من كتب بخط يده مع فرضية واقعية بأنه إنسان يجري عليه ما يجري على كل البشر، فقد يخطئ سهواً أو غلطاً في النقل، وكان من الممكن وبسهولة أن ينسب بن معراج لنفسه قصائد بن فايز أو بعضها لنفسه أو يزيد عليها أو ينقص، وقد لا يدرك أحد منهم هذا الفعل طالما لا توجد لديهم أدلة على وجود شعر لابن فايز أو أدلة على وجوده عند غيره، لكن تقواه الداخلي وأمانته العلمية وسمو خلقه وحرصه على إعطاء كل ذي حقه يمنعه من أن ينسب لنفسه ما أنتجه الآخرون من شعر وما أبدعوه.
ولذلك نجد ابن معراج وغيره من ناسخي أهالي النويدرات يقولون في نهاية كل مخطوط فرغوا من كتابته عبارات تدل على اعتذارهم المسبق عن كل خطأ أو تقصير أو زيارة أو نقصان لاحتمال وقوعه ووقوع غيره من النساخين الآخرين في السهو والخطأ والزيادة غير المقصودة أو النقصان غير المتعمد، ويمكن للقارئ الكريم ملاحظة ذلك من الوثائق المعروضة في هذه الدراسة من النسخ المصورة لما خطه من كتب مخطوطة.
2. التواضع الأخلاقي في عملية نسخ الكتب:
تدل إشارات واضحة من ابن معراج على تواضعه في نسخ الكتب المخطوطة التي كان يكتبها عن نسخ سابقة، وهذا التقليد الأخلاقي يكاد يكون واحداً يميِّز الناسخين كجماعة تهتم بأحد وجوه النشاط الثقافي في المجتمع النويدري وبخاصة في فترة نشاطه بالقرن الرابع عشر الهجري، فالمعتاد في جهد الناسخين من أبناء القرية أو من غيرها أنهم بعد الانتهاء أو الفراغ من نسخ كتاب معيَّن تقديم اعتذار مسبق على تقصيرهم ونسيانهم واحتمال غلطهم في نقل المادة الثقافية للمخطوط، بل ويتواضع الناسخ لمستوى أن يصف نفسه بكلمات مثل قوله: ” فرغ منه الأقل الحقير، أقل العباد، العبد الجاني، الغارق في الذنوب، الغائص في لجج الآثام ” وكلمات مماثلة من هذا القبيل، ولم يخرج ابن معراج عن هذا النمط من التواضع الفكري والأخلاقي، إذ يصف نفسه بعبارات أو كلمات من هذا القبيل بالرغم من أنهم من عباد الله الصالحين وممن يسعى إلى تحقيق تقوى الله في نفسه والالتزام بأخلاقياتها الروحية، ولكن آثار تواضعهم الأخلاقي ينسحب على أعمالهم الثقافية وغيرها.
3. الجرأة وشجاعة القول:
يحتاج النقل العلمي بأمانة، وكذلك الشعور الدائم بالتقصير إلى جرأة مع الذات، وإلى قول الحق بنحو لا يخشى فيه لومة لائم، فالتواضع للناس، والإيمان بتقصير الذات، والالتزام بالنقل العلمي مظاهر للجرأة الأدبية والمعنوية، وهذا ما جعل ابن معراج يمارس النقد مع نفسه فيصف ما نسخه باحتمال وقوعه في السهو والخطأ والزيادة والنسيان.
4. دقته في نقل الآخرين للروايات:
عرف عن الحاج أحمد بن معراج معارضته السريعة لكل خطيب ينقل روايات بطريقة خاطئة أو يعرضها على المستمعين بنحو مشوه، ويؤثر على فهم المعاني الصحيحة لقيم القرآن ومبادئ السنة وفكر أهل البيت عليهم السلام، وينقل المعمرون أنه يعترض على بعض الخطباء إذا ما كانوا غير دقيقين في نقل النصوص الروائية أو حاولوا تفسيرها بنحو مشوه وضار بمعناها الأدبي والديني، وبالغ البعض في صرامته أنه يحذر بعض الخطباء من ركوب أعواد المنبر الحسيني وهم ينقلون للناس معرفة مغلوطة على لسان أئمة أهل البيت عليهم السلام، لهذا نقل ابنه في مختصر سيرته الذاتية ما يفيد هذا المعنى ويؤكده.
إن الدقة في نقل النصوص الروائية مسئولية والتزام معرفي وروحي لديه لا يتساهل بشأنه أبداً حتى أنه كما ينقل البعض من المعمرين وكبار السن يطلب من الخطيب التوقف عن الخطابة إذا كان غير مستعد للنقل الأمين لأفكار القرآن أو كلام أهل البيت عليهم صلوات الله وسلامه، وإذا كان لا يتحرى الدقة في النقل والتفسير، ولهذا أصبح مهاب الجانب يحذر منه الخطباء، فابن معراج قارئ جيد للفكر الديني من مصادره الأساسية والفرعية، فمكتبته المنزلية مزودة بالتفاسير القرآنية وكتب الحديث والرثاء الحسيني وكتب الأدب واللغة والتاريخ غيره.
5. الانفتاح الثقافي:
ثمة أكثر من مؤشر على انفتاح شخصيته، ونلحظ ثلاثة أنماط من الانفتاح الروحي والثقافي، ففي الانفتاح الأول أنه من مقلدي الشيخ عبد الله بن الشيخ عباس الستري وينسخ بعض كتبه، ومع ذلك كان على صلة بمراجع دين في النجف هم في غالبهم يختلفون مع الشيخ عبد الله في قضايا فقهية، فلم يحمله تقليده لفقيه أن يراسل مراجع دين وفقهاء آخرين كبار ويستفيد من علمهم، أما النمط الثاني فيدل على انفتاحه – بدرجة عالية – على معارف مختلفة ما يتحفظ به ابن معراج من كتب ومصادر معرفة في مكتبته المنزلية الخاصة في الدين واللغة والأدب والتاريخ كالتفاسير القرآنية ودواوين الشعر ومعاجم اللغة وقواميسها والكتب التاريخية، فابن معراج يقرأ بمسئولية وهدفية ما يصل إليه من مصادر المعرفة بمختلف أنواعها المتوافرة.
ويتجلى انفتاحه من النوع الثالث في الجانب الاجتماعي، فقد تحمل معاناة العمل السياسي من أجل وطنه وخدمة مجتمعه وهموم الناس، وبرز هذا النوع من الانفتاح في خدماته الاجتماعية المتعددة وبخاصة في مجالات تعليم الناس وحل مشكلاتهم وانخراطه في التطبيب المجاني، ومصاحبة أفراد عاديين ونخب متميزة من علماء دين وشعراء وخطباء وغيرهم.
6. الخدمة الثقافية التطوعية للمجتمع:
لم يكن ابن معراج فيما أعلمه يتقاضى أي مبلغ عن أنشطته الثقافية سواء كان لمأتمه أو لمآتم أخرى، فقد نسخ بعض كتب العلماء وجمع شعر بن فايز في ديوان معروف أسماه ” فوز الفائز ” مجاناً قربة لله سبحانه وتعالى، بل أنه عليه رحمة ربه اكتفى بأخذ مجموعة نسخ من ديوان ” فوز الفائز ” من الناشر بلغت عشراً وقام بتوزيعها وترك الباقي للناشر ليقوم ببيعه على الناس حباً منه في نشر شعر بن فايز، وينقل عنه أنه احتفظ بنسخة من ديوان بن فايز ووزع مجاناً ما تبقى في يده من نسخ الديوان المذكور، وتساوى في هذا عمله التطوعي في خدمة الناس بين تطبيبه لهم من مرض الخنَّاق وبين خدمته لهم في نشاطه الثقافي من نسخ كتب وتخصيصها للمآتم وجمع شعر ابن فايز في ديوان وحفظ تراثه الشعري في حياة الناس، ومساعدته لهم في الطواف حول البيت الحرام خلال مواسم الحج التي يشارك فيها، والدفاع عن الناس في الحصول على أراضي السكن وغير ذلك من الحقوق المختلفة.
[1] انظر بعض وثائق النسخ في آخر حلقة من البحث، فاسمه بهذه الكيفية واضح تماماً، وقد حددنا نسبه العائلي بناءً على هذا التحديد المستمد من وثائق النسخ المخطوطة التي كتبها بخط يده، وكنا نتمنى أن يتقدم ابن معراج في تحديد نسبه العائلي بذكر مزيد من أجداده.
[2] محمدي ريشهري، ميزان الحكمة، ج 6 ص 424
[3] سنناقش فيما بعد مزيداً من ظروف التكوين الثقافي لابن معراج، والآثار المترتبة عليه، وبتحقق التفاعل الإيجابي بين التكوين والانجازات تكون شخصية بن معراج قد اقتربت من القيام بالمهمة الصعبة بقدر نسبي، والسمو بإيجابية على الظروف القاهرة التي قد تجعل تحققها أمراً متعذراً، ولكن بتتابع الصلة والترابط بين التكوين الثقافي والانجازات تم تحقيق وحدة الشخصية وإبراز قدرتها على أداء وظيفتها العبادية كما يريد الله سبحانه وتعالى.
[4] انظر كتابنا ” التعلم والتعليم في النظرية التربوية الإسلامية “، الفصل الرابع ص 176، 203، وكذلك ميزان الحكمة، محمدي ريشهري، ج6 ص 413.
[5] ميزان الحكمة، ج6 ص 413.
[6] ميزان الحكمة، ج6 ص 413.
[7] ميزان الحكمة، ج6 ص 413.
[8] نهج البلاغة، ج4 ص 497، وكتاب ميزان الحكمة، ج6 ص 413.
[9] بربورة قرية بحرانية اندثرت قبل تسعين عاماً في نهاية عقد العشرينات من القرن العشرين، وتقع في الشمال الغربي من قرية النويدرات، وبين قريتي سند والنويدرات، وتبعد كيلوين ونصف عن الرفاع الشرقي،وقد أشار إلى وجودها في مطلع القرن العشرين بعض المؤرخين والجغرافيين والشعراء الأجانب والبحرانيين مثل لوريمر وروبرت جيرمان، والشيخ علي بن عيسى بن عبد الله آل سليم الستري، وصاحب ديوان شعلات الأحزان ابن سليم السهلاوي وكتاب تراجم كالعلامة طهراني صاحب الذريعة في أعلام الشيعة وآخرون، وقد أشار بعض علماء التراجم إلى وجود علماء من أهالي بربورة شاركوا في النهضة الثقافية للبحرين خلال القرون الهجرية الأربعة الممتدة من القرن العاشر حتى الثالث عشر منه.