قصة السيدة مريم ( عليها السلام )
( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
آل عمران ٣٥ سورة المائدة
🔹 كيفية ولادة مريم :
هاتان الآيتان تشرعان بالكلام ( عن ) مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه السيدة العظيمة .
جاء في التواريخ والأخبار الإسلامية وأقوال المفسرين أن ” حنة ” و ” أشياع ” كانتا أختين، تزوجت الأولى ” عمران ” أحد زعماء بني إسرائيل،
وتزوجت الأخرى ” زكريا ” النبي.
مضت سنوات على زواج ” حنة ” بغير أن ترزق مولودا ، وفي أحد الأيام بينما هي جالسة تحت شجرة، رأت طائرا يطعم فراخه. فأشعل هذا المشهد نار حب الأمومة في قلبها، فتوجهت إلى الله بمجامع قلبها طالبة منه أن يرزقها مولودا، فاستجاب الله دعاءها الخالص، ولم تمض مدة طويلة حتى حملت .
🔹بشارة من الله إلى عمران :
ورد في الأحاديث أن الله قد أوحى إلى ” عمران ” أنه سيهبه ولدا مباركا يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيي الموتى بإذن الله، وسوف يرسله نبيا إلى بني إسرائيل. فأخبر عمران زوجته ” حنة ” بذلك. لذلك عندما حملت ظنت أن ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أن ما في بطنها هي أم الابن الموعود ” مريم ” فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت الله ” بيت المقدس “. ولكنها إذ رأتها أنثى ارتبكت ولم تدر ما تعمل ، إذ أن الخدمة في بيت الله بيت المقدس كانت مقصورة على الذكور ، ولم يسبق أن خدمت فيه أنثى .
والآن نباشر بالتفسير من خلاله نتعرف على تتمة الأحداث
( إذ قالت امرأة عمران….)
🔸هذه الآية إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنها تهب ابنها خادما في بيت المقدس، لأنها كانت تظنه ذكرا بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها عمران ، ولذلك قالت ” محررا ” ولم تقل ” محررة ” ودعت الله أن يتقبل نذرها ، ( وقالت ) 🙁 فتقبل مني إنك أنت السميع العليم )
🔸 ” المحرر ” من التحرير، وكانت تطلق في ذلك الزمان على الأبناء المعينين للخدمة في المعبد ليتولوا تنظيفه وخدماته، وليؤدوا عباداتهم فيه وقت فراغهم. ولذلك سمي الواحد
منهم ” المحرر “، إذ هو محرر من خدمة الأبوين .
وكان ذلك مدعاة لافتخارهم .
🔸قيل إن الصبيان القادرين على هذه الخدمة كانوا يقومون بها بإشراف الأبوين إلى سن البلوغ ، ومن ثم كان الأمر يوكل إليهم ، إن شاؤوا بقوا ، وإن شاؤوا تركوا الخدمة .
🔸 ويرى البعض أن إقدام امرأة عمران على النذر دليل على أن عمران توفي أيام حمل زوجته، وإلا كان من البعيد أن تستقل الأم بهذا النذر .
( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى )
🔸هذه الآية تشرح حال أم مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد أنثى، وراحت تخاطب الله قائلة:
إنها أنثى، وأنت تعلم أن الذكر ليس كالأنثى في تحقيق النذر، فالأنثى لا تستطيع أن تؤدي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها دخول المسجد ،
مضافا إلى أن قواها البدنية ضعيفة، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك.
( وليس الذكر كالأنثى )
🔸ويظهر من القرائن في الآية والأحاديث الواردة في التفاسير أن هذا القول ( وليس الذكر كالأنثى ) هو قول أم مريم، لا قول الله كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين .
🔸والجملة المعترضة ( والله أعلم بما وضعت )
( هي ) من قول الله أي لم يكن يلزم أن تقول إنها ولدت أنثى، لأن الله كان أعلم منها بمولودها منذ انعقاد نطفته وتعاقب مراحل تصوره في الرحم.
( وإني سميتها مريم….)
🔸يتضح من هذه الجملة أن أم مريم هي التي سمتها بهذا الاسم عند ولادتها. و ” مريم ” بلغتها تعني ” العابدة “. وفي هذا يظهر منتهى اشتياق هذه الأم الطاهرة لوقف وليدها على خدمة الله. لذلك طلبت من الله – بعد أن سمتها – أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين، وأن يرعاهم بحمايته ولطفه . قال تعالى ؛ ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )
( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )
تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. وقد أشرنا من أن أم مريم لم تكن تصدق إمكان قبول الأنثى خادمة في بيت الله لذلك كانت تتمنى أن تلد مولودا ذكرا ، إذ لم يسبق أن اختيرت أنثى لهذا العمل
🔸ولكن الآية تقول إن الله قد قبل قيام هذه الأنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية ، لأول مرة .
يقول بعض المفسرين :
إن دليل قبولها لهذه الخدمة هو :
- أنها لم تكن ترى العادة الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطر إلى ترك الخدمة .
- أو أن حضور طعامها من الجنة إلى محرابها دليل على قبولها .
- وقد يكون قبول النذر وقبول مريم قد أبلغ للأم عن طريق الإلهام.
🔸وكلمة ” أنبتها ” إشارة إلى تكامل مريم أخلاقيا وروحيا. كما أنه يتضمن نكتة لطيفة هي أن عمل الله هو ” الإنبات ” والإنماء. أي كما أن بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهدها المزارع ، كذلك توجد في الإنسان كل أنواع الاستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربين الإلهيين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقق الإنبات بمعناه الحقيقي .
( وكفلها زكريا … )
🔸” الكفالة ” ضم شئ إلى آخر. لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد الأطفال اسم ” الكافل ” أو ” الكفيل “، أي أنه يضم الطفل إليه .
🔸في هذه الآية يقول القرآن :
اختار الله زكريا كي يتكفل مريم، إذ أن أباها عمران قد ودع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها أمها إلى بيت المقدس وقدمتها لعلماء اليهود وقالت :
هذه البنت هدية لبيت المقدس، فليتعهدها أحدكم، فكثر الكلام بين علماء اليهود ،
وكان كل منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر ،
وفي احتفال خاص – اختير زكريا ليكفلها .
جلالة وعظمة السيدة مريم عليها السلام :
وكلما ( كانت مريم قد ) شبت وتقدم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حد يقول القرآن عنها : ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا )
🔹ماهو المحراب و لماذا سمي بهذا الإسم ؟
🔸” المحراب ” هو الموضع الذي يخصص في المعبد لإمام المعبد أو لأفراد من النخبة.
وذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم أوجه كثيرة، أوجهها ثلاثة أسباب وهي :
- إن المحراب من ” الحرب ” سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والأهواء .
- إن المحراب تعني صدر المجلس ، ثم أطلق أيضا على صدر المعبد .
- انه يطلق على كل المعبد، وهو المكان الذي يخصص للعبادة ومجاهدة النفس والشيطان.
مريم المرأة الغارقة في العبادة
كبرت مريم تحت رعاية زكريا ، وكانت غارقة في العبادة والتعبد. بحيث إنها – كما يقول ابن عباس – عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة الله حتى أنها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها .
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد
عندها طعامًا :
🔸وعندما كان زكريا يزورها في المحراب يجد عندها طعاما خاصا ، فيأخذه العجب من ذلك.
سألها يوما : يا مريم أنى لك هذا ؟
فقالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
🔸الآية لا تذكر شيئا عن ماهية هذا الطعام ومن أين جاء ، لكن بعض الأحاديث الواردة في تفسير العياشي وغيره من كتب الشيعة والسنة تفيد أنه كان فاكهة من الجنة في غير فصلها تحضر بأمر الله إلى المحراب. وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف الله عبدا تقيا .
🔸كما أن اعتبار ” الرزق ” طعاما من الجنة يتبين من القرائن التي نراها في ثنايا الآية
وهذه القرائن :
- كلمة ” رزقا ” النكرة دليل على أن زكريا لم يعرف نوع هذا الرزق .
- جواب مريم التي قالت ” من عند الله ” دليل آخر .
- انفعال زكريا وطلبه ولدا من الله – كما نقرأ في الآية التالية – دليل ثالث على ذلك.
🔹 وها نحن نقرأ في تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما ملخصه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل يوما على ابنته فاطمة عليها السلام ،وهو يعلم أنها لم تكن تملك طعاما يذكر منذ أيام، فوجد عندها طعاما وافرا خاصا، فسألها عنه، فقالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) :
ألا أحدثك بمثلك ومثلها ؟
قال: بلى، قال: مثلَ زكريا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا .
قال: يا مريم أنى لك هذا ؟
قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب… .
————————
راجع الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – ج ٢ – الصفحة ٤٧٧