الأستاذ عبد الوهاب حسين
27 رجب 1425 هـ – 12 سبتمبر 2004 م.
أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي الأمارة بالسوء، ومن شر الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
و
الحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على النبي المصطفى محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
اللهم ارحمنا بمحمد وآل محمد، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة.. يا كريم.
اللهم معهم.. معهم.. لا مع أعدائهم.
السلام عليكم أيها الأحبة… أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}
آمنا بالله.. صدق الله العلي العظيم. (الإسراء: 1).
أيها الأحبة الأعزاء:
الإسراء والمعراج رحلتان وليست رحلة واحدة، وتعتبر هاتين الرحلتين من أهم الأحداث في حياة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولهم دلالاتهما الكبيرة وتأثيرهما في العقيدة الإسلامية والعرفان الإسلامي والسيرة الشريفة المطهرة للرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسيرة الإسلامية المباركة في حياة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.. وبعد وفاته.
وكانتا الرحلتان في مساء الأحد – ليلة الاثنين 27 رجب 1 قبل الهجرة حسب المشهور.
الرحلة الأولى رحلة الإسراء:
وهي رحلة أرضية، أخذ الله السميع البصير فيها عبده ورسوله وحبيبه المصطفي (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف، مهبط الرسالات وقبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين في فترة زمنية قصيرة جداً.. جداً، وزار فيها مواضع عديدة في المسجد، وتفقد بيت لحم – مسقط رأس المسيح عليه السلام – وتفقد منازل الأنبياء وآثارهم الشريفة وصلى في بعض محاريبهم.. في كل محراب ركعتين، وصلى بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى.
والمشهور بين علماء الإسلام أن رحلة الإسراء كانت بالروح والجسد، وقليلون منهم قالوا: أنها كانت بالروح فقط.
وقد ذكرت هذه الرحلة في القرآن الكريم في سورة الإسراء…
قول الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}. (الإسراء: 1)
الرحلة الثانية رحلة المعراج:
وهي رحلة سماوية علوية، أخذ الله الجليل فيها عبده ورسوله وحبيبه المصطفي (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم، من المسجد الأقصى متجاوزاً السماء الدنيا إلى السماوات السبع العلا، إلى سدرة المنتهى – عندها جنة المأوى – حيث توقف جبرئيل عليه السلام، وتقدم الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم منفرداً مخترقاً حجب النور حتى بلغ السبحة: (مصدر الرحمة الإلهية الواسعة على الخلق والأنوار والفيوضات الربانية)، وقد قال الأمام الصادق عليه السلام حينما سؤل عنها.. بأنها: “جلال ربي” (قال ذلك ثلاثاً)، وقد فهم العلماء من قوله.. أنها: الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق، فقد بلغ الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ذروة الكمال للمخلوقين، والقرب من الله ذي الجلال والإكرام، فلا يمكن لأي مخلوق أن يتجاوز هذا الحد من الكمال، ولا يمكن لأي مخلوق أن يكون أقرب إلى الله سبحانه وتعالى أكثر منه.
وعند هذا المكان تنقطع علوم الخلائق ومشاهداتهم، ولا يعرف غير الله الجليل ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه عليهم السلام حقيقة هذا المكان وكنهه!!
وقد شاهد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة نظام السماوات والأرض في هذا العالم (عالم الدنيا) ونظام الوجود كله، وأطلع على أسراره وآثار القدرة الإلهية المطلقة فيه، وعجائب الجمال والعظمة والجلال، وتحدث مع الأنبياء والملائكة في السماوات العلا، ورأى الجنة والنار ودرجات أهلهما.. ورأي حقيقة الأعمال وعواقبها.
ولما بلغ السبحة كلمه ربه رب العزة والجلال والعظمة والإكرام، وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، وهي أعظم هدية قدمها الرب المحمود لعباده في هذه الرحلة الميمونة المباركة.
ثم عاد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من حيث أتى إلى بيت المقدس، ثم قفل عائداً إلى مكة قبل الفجر وصلى فيها صلاة الصبح.
وقد ورد ذكر المعراج في القرآن الكريم في سورة النجم.. قول الله تعالى: {وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أتمارونه على ما يرى . ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى}. (النجم: 7 – 18).
ويرى العلماء بأن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد تأخر في الإخبار عن رحلة المعراج، فلم يخبر عنها مع إخباره عن رحلة الإسراء، رغم أنهما كانتا في ليلة واحدة، وقد رأينا أن ذكرهما قد جاء في سورتين مختلفتين: الإسراء والنجم.
والمشهور بين علماء الإسلام أن رحلة المعراج كانت بالروح والجسد، وقال بعضهم: أنها كانت بالروح فقط.
ومن المفيد أن نذكر: بأن بعض العلماء الذين قالوا بأن الإسراء كان بالروح والجسد، قد ذهبوا إلى القول: بأن المعراج كان بالروح فقط.
وكانت الرحلتان الميمونتان: بصحبة جبرئيل عليه السلام، إلا أنه تخلف عن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في نهاية رحلة المعراج قهراً عند سدرة المنتهى.. وقال: لو تقدمت أنملة لاحترقت!!
أيها الأحبة الأعزاء:
إن وراء الرحلتين (فلسفة وعبر ودروس)، وسوف آخذ منهما ما يتيسر لنا من معالم الإسلام ورسالته في الحياة، ما نهتدي به في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى، وما يضيء لنا دروب الحياة المظلمة ودروب الدعوة إلى الله تعالى، وسوف أبتعد – قدر الإمكان – عن الجدل الدائر بين العلماء في المسائل النظرية الخاصة بالإسراء والمعراج، وأسأل الله الكريم التوفيق والتسديد.. إنه نعم المولى ونعم النصير.
وسوف أجعل الحديث في ثلاثة محاور:
المحور الأول: أتكلم فيه حول الرحلتين معاً.
المحور الثاني: أتكلم فيه حول رحلة الإسراء وبعض أحداثها.
المحور الثالث: أتكلم فيه حول رحلة المعراج وبعض أحداثها.
المحور الأول – الحديث عن الرحلتين معا ً – وفيه عدة نقاط:
النقطة الأولى:
بعد الفراغ من التصديق بصدق النبوة، فإن رحلتي الإسراء والمعراج تكشفان عن الحقيقة المقررة في عالم الوجود للكمال الوجودي المنجز للنبي المصطفى: (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه أكمل مخلوق على الإطلاق، وأن له الهيمنة والسيطرة التامة على المسيرتين الوجوديتين: المسيرة التاريخية للإنسان والمسيرة الكونية.. بحكم كماله الوجودي المنجز، فقد بلغ السبحة التي هي الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق، ولم يكن أي مخلوق أكمل منه أو أقرب منه إلى الله تعالى.. ولن يكون، حتى جبرئيل عليه السلام تخلف عنه عند سدرة المنتهى، وقال: لو تقدمت أنملة لاحترقت!! وبالتالي فهو أكمل المخلوقين وأقواهم وأوسعهم وجودا وعلماً، وأكثرهم هيمنة وسطوة على الوجود، وانه يتفوق في ذلك حتى على الأمين جبرئيل عليه السلام، وهذا ما أهله لتلقي الكتاب الجامع الكامل المنزل، وحمل الرسالة الكاملة الخاتمة، التي هي رسالة لكل البشر، وفيها كل ما يحتاجونه حتى نهاية المسيرة البشرية على الأرض، وهذا ما جعله الشاهد على الأنبياء والأوصياء والأمم جميعاً، والقدوة الحسنة لهم، والحجة عليهم إلى يوم القيامة.
ومن البديهي أن يشاركه المكانة – عدا النبوة – خلفاؤه عليهم السلام، لأنهم شركاؤه في حمل الكتاب الجامع والرسالة الخاتمة، ولهذا سوف يتقدم الإمام الحجة عليه السلام على نبي الله عيس بن مريم – وهو من أولي العزم – في الصلاة بعد الظهور العظيم، كما أجمع على ذلك كافة علماء الإسلام.. ونطقت به الأحاديث الشريفة.
ونستفيد من هذه النقطة الدروس التالية…
الدرس الأول: أن نقتدي بالرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في السير الدؤوب إلى الله تعالى، وأن نعلم بأن الوصول إلى المكانة العالية عند الله تعالى تحتاج إلى اليقين والجهاد في سبيل الله تعالى بالنفس والنفيس وخدمة العباد والإخلاص لله تعالى.. في الدين والعمل.
قول الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. (الأنعام: 162 – 163).
الدرس الثاني: حاجة العاملين إلى التقوى والتزود بالوقود الروحي لكي يستمروا بصمود وثبات واستقامة في المسيرة، وإذا لم يتزودوا روحياً باستمرار، فإن ما عندهم ينفذ ويكونوا بين خطرين:
الخطر الأول: الضعف.
الخطر الثاني: الميل والانحراف عن الصراط المستقيم.
النقطة الثانية:
كان الإسراء والمعراج في عام الحزن الذي فقد فيه الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أعظم ناصرين له في مكة.. وهما: عمه وكفيله أبو طالب وزوجته الوفية المخلصة خديجة عليهما السلام، حيث أستضعفه الأعداء واشتدت عليه هجماتهم الشرسة ولاقى ما لاقى من العناء والمشقة والعذاب والتكذيب، وكان ذلك بعد اثنا عشر عاماً من البعثة، وقبل الهجرة إلى المدينة بعام واحد، أي أن رحلتي الإسراء والمعراج وقعتا في منتصف الطريق من عمر الرسالة في عهده الشريف المبارك الذي أمتد لمدة (23: عاماً)، وبالتالي فإن هاتين الرحلتين قد أدتا وظيفتين رئيسيتين من جهة الرعاية الإلهية للرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
الوظيفة الأولى – علاج متاعب الماضي: وتطييب نفسه صلى الله عليه وآله وسلم والترويح عنها، ليبدأ عهداً جديداً مفعماً بالأمل.
الوظيفة الثانية – الإعداد للمستقبل: وتزويده بالوقود الروحي والمعنوي ومنحه السكينة والعزم والمدد لتثبيته وإعداده لمواجهة تحديات الواقع المنحرف والجهاد العظيم المقدس القادم في المرحلة التالية في المدينة المنورة، فقد منحه الله تعالى عطاءً روحياً عظيماً ليعلم انه بعين الله ولن يتخلى عنه طرفة عين أبداً.
ومن شأن رؤية حقائق المعارف الكونية والتاريخية أن تؤدي إلى النتائج الايجابية التالية:
النتيجة الأولى: تحصيل اليقين والثقة بالله تعالى وحسن العاقبة.
النتيجة الثانية: تصغير جموع الكافرين وتوهين كيدهم ومعرفة سوء عاقبتهم.
النتيجة الثالثة: القوة والثبات والصلابة في المواقف.
ونستفيد من هذه النقطة الدروس التالية:
الدرس الأول:
أن الجهاد والصبر في المحن والتضحية في سبيل الله تعالى والشكر على النعم، تسوق الإنسان المؤمن إلى باب الله تعالى والحصول على رحمته وكرمه والوصول إلى أعلى الدرجات في الجنة ورضوان الله تعالى والقرب منه والزلفى لديه سبحانه وتعالى. وهذا من شأنه أن يحملنا على الثقة بالله تعالى الذي أمرنا بالجهاد في سبيله والدعوة إليه، وأمرنا بالصبر والاحتساب، وضمن لنا الأجر والثواب والحفظ من الأعداء والنصر عليهم، مما يحملنا بدوره على التصدي للمحن والعقبات بقوة وصلابة، ومتابعة السير في صبر واستقامة وثبات، لتبليغ الرسالة وتأدية الأمانة على أحسن وجه وأكمل صورة، من غير ضعف أو ميل أو انحراف، وأن لا نستسلم ولا نقبل بالذل والهوان.
قال الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (محمد: 7).
الدرس الثاني:
أن الجهاد والصبر والتضحية هم الطريق إلى النصر والظفر بالأعداء والحصول على العزة والكرامة وتحقيق الأهداف الجوهرية الكبيرة والمكاسب الحقيقية، وبدونهم لا يمكن أن يتحقق ذلك، فقد وهب الله تعالى إلى المسلمين الحياة الكريمة وذاقوا طعم العزة والكرامة والتقدم في الحياة بفضل جهاد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأخيار المنتجبين.. وبفضل تضحياتهم العظيمة وإخلاصهم لله الواحد القهار.
الدرس الثالث:
أن كل من يخلص لله تعالى فإنه يتولاه ويرعاه ويرحمه.
الدرس الرابع:
أن الألطاف المعنوية والفيوضات الربانية.. على العبد، ذات قيمة حقيقية وجوهرية عالية جداً.. جداً، وأن رؤية العبد لها وإيمانه بها في الدنيا، يسهل عليه تحمل كل الصعاب والمشاق في الحياة مهما عظمت.
النقطة الثالثة – التأهيل الرباني للرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
لقد قام الله تعالى بتأهيل نبيه التأهيل الكافي وإعداده الإعداد الكامل لحمل الرسالة السماوية العظيمة والتبليغ بها إلى الناس جميعاً، وكان الإعداد والتأهيل على أربع مستويات رئيسية:
الأول – المستوى العلمي النظري: وتكفل به الوحي والكتاب المنزل من عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا التعليم عدة خصائص لا يتسع الوقت لذكرها.. منها على سبيل المثال: الحفظ وعدم الخلط.
الثاني – المستوى العلمي التجريبي: فلم يكتفي رب العالمين بتعليم عبده ورسوله المعارف والأحكام، وإنما أراه حقائقها كما هي في الوجود، وهذا هو أنفع أنواع التعليم وأشدها رسوخاً وتأثيراً في النفس، وذلك ليكون الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على يقين كامل فيما يدعو إليه، فأراه الحقائق التاريخية من خلال الإسراء، وأراه الحقائق الكونية من خلال المعراج، واليقين بطبيعة الحال يورث القوة والصلابة والثبات في المواقف.
الثالث – المستوى النفسي والروحي: من أجل استخراج كنوز النفس وتفعيلها ليحصل الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على كماله الإنساني الفعلي، وليتأهل لحمل الرسالة وأدائها على أحسن وأكمل وجه، وقد تكفلت الابتلاءات والعبادات بهذه المهمة.. لا سيما صلاة الليل، قال الله تعالى: {يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص من قليلاً . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً} (المزمل: 1- 6).
الرابع – المستوى الاجتماعي: وهو الوعي بعناصر المجتمع وتفاعلاتها ونتائجها ومؤثراتها، والقدرة على التفاعل مع الناس والتأثير فيهم والصبر عليهم والاهتمام بقضاياهم والحرص على مصالحهم، وقد كشف عنه قول الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفوا عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران: 159).
وقول الله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128).
والخلاصة:
أن رحلتي الإسراء والمعراج قد شاركتا في تأهيل الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على مستوى التعليم التجريبي، وهو أنفع أنواع التعليم وأشدها رسوخاً وتأثيراً في النفس – كما سبق بيانه.
ونستفيد من هذه النقطة الدروس التالية:
الدرس الأول – ضرورة إعداد القادة وتأهيلهم:
إننا يجب أن نتعلم من رحلتي الإسراء والمعراج ضرورة الاهتمام بالتعليم والتدريب عموماً، والاهتمام بالتعليم والإعداد والتدريب والتأهيل الشامل للقيادات خصوصاً، فهذا من شروط النجاح، حيث يشترط في القائد الإلمام الكامل بما يدعو إليه، واليقين في صحة الخط والمنهجية والاطمئنان لحسن العاقبة، وأن يتحلى بحسن الإدارة وحسن الأخلاق وحسن المعاملة مع الآخرين، ويتصف بالقوة والصلابة في المواقف والدفاع عن الحق والعدل، وعلينا أن نعلم بأن لعدم تأهيل القيادات وإعدادهم سلبيات خطيرة.. منها على سبيل المثال: التكبر والانغلاق وأتباع سياسة الإقصاء والضعف في المواقف.. الخ وبالنهاية.. الفشل.
الدرس الثاني – الاهتمام بالتعليم التجريبي من أجل التقدم وتطوير الحياة:
كما في رحلتي الإسراء والمعراج، حيث أوقف الله تعالى عبده ورسوله (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم على حقائق المعارف والأعمال وعواقبها.. ورآها جميعاً بالمشاهدة، وأن لا نكتفي بالتعليم النظري كما هو حال مدارسنا وجامعاتنا التي تكتفي بالتعليم من الكتب وتجتر نتائج تجارب العالم في العلوم.. ولا تأتي بشيء جديد، مما أدى إلى جهلنا ببيئاتنا الطبيعية وأوضاعنا الاجتماعية.. وتخلفنا في فهمها وفي تطويرها وفي كافة العلوم، وسوف نبقى كذلك ما لم نلجأ إلى التعليم التجريبي حتى في تعليم العلوم النظرية.. كالعقائد والتأريخ، وذلك من خلال السعي لإيقاف الطلبة والمتعلمين على الآثار والظواهر الكونية لمشاهدتها والتفاعل معها والتعلم منها، كما فعل الله تعالى مع عبده ورسوله (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم في رحلتي الإسراء والمعراج، فهذا هو أنفع أنواع التعلم وأرسخها في النفس وأشدها تأثيراً وأفضلها في الوصول لأحسن النتائج.
النقطة الرابعة – الحث على الثورة والتعامل الرشيد مع الكون والتاريخ والنظر فيهما بمسؤولية كبيرة:
حيث دلت رحلتا الإسراء والمعراج على عدة أمور.. منها:
الأمر الأول: عمق التاريخ وسعة الوجود وما يشتملا عليه من حقائق عظيمة، مما يدفع العقل للنظر والتأمل والبحث عن الحقائق فيهما.
الأمر الثاني: الإشارة إلى الوسائل غير المألوفة في المعرفة والانتقال السريع، مما يدفع العقل والوجدان للثورة على الواقع وقوى التخلف والظلام من أجل التغيير والتطوير فيه، وعدم الجمود على المألوف والقبول للأمر الواقع والاستسلام إليه. وهذا ما أخذت به أوربا بالثورة على الكنيسة والإقطاع، وتقدمت بسببه علمياً وتكنولوجياً وحضارياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتخلفنا نحن العرب والمسلمون بصورة شاملة، بسبب جمودنا على المألوف، وتحكم الطغم الحاكمة المستبدة بمصائرنا، وتفاخرهم باحترام العادات والتقاليد فيما يؤدي إلى تثبت أوضاعهم السياسية المنحرفة عن الحق والعدل.. ولا يعود على الناس بشيء من المنفعة، وإهانتها بالكامل وتجاوزها من أجل مصالحهم غير المشروعة، وإشباع شهواتهم وغرائزهم الحيوانية.
الدرس الذي نستفيده من ذلك:
ونستفيد من هذه النقطة: أن شرف العلم وقيمة العلماء ليس (فقط) في تدارس العلوم وتدريسها، وإنما في توظيفها عملياً في تطوير أوضاع المجتمع وتحسينها، والثورة على الأوضاع المنحرفة على كافة الأصعدة، وعدم القبول بها والاستسلام إليها.
وهو خلاف ما نجده في واقعنا: من اهتمام الأكاديميين براحتهم وميلهم إلى الدعة والسكون وعدم القيام بدورهم التاريخي المتميز في الثورة والإصلاح، وترك المسؤولية فيهما إلى عامة الناس، مما أدى إلى الوقوع في أخطاء كبيرة واستمرار التخلف.
أيها الأحبة الأعزاء:
إن مشاركة الأكاديميين والعلماء بمختلف أصنافهم في الثورة والإصلاح هو من شرف العلم وأداء حقه، وهو شرط ضروري من أجل النجاح في ذلك، وأرى بأن الإسلام من أشد المحرضين للعلماء والأكاديميين على المساهمة في الثورة على الظلم والانحراف والتخلف، وأن القدوة الحسنة لهم في ذلك: هو الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والشاهد عليه سيرته الطاهرة، ويتجلى ذلك من خلال رحلتي الإسراء والمعراج.. في أنصع صورة.
أيها الأحبة الأعزاء:
إن واقعنا لمؤلم حقاً وحقيقة، فنحن لفرط تخلفنا، بدلاً من الثورة على المألوف والسعي لتطوير وسائل المعرفة والتكنولوجيا في مجتمعنا من أجل تقدم أوضاعنا، نقوم بتسييس المناصب الأكاديمية، ولا ننفق على التعليم إلا النزر اليسير من فاضل ما ننفقه على شهواتنا!!
النقطة الخامسة – تربية القاعدة الجماهيرية:
إن رحلتا الإسراء والمعراج كانتا امتحاناً قاسياً للناس، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
ونستفيد من ذلك الدرس التالي: ضرورة بناء القاعدة والتزام الشفافية والصدق معها لتمضي في الطريق عن إيمان وبصيرة، ولقد كانتا رحلتا الإسراء والمعراج سبيلاً لتمحيص القاعدة وبنائها عل أسس صحيحة وقوية، مما مهد الطريق لانطلاق الرسالة على أرضية صلبة ثابتة ويقين بالهدف والرسالة لدى أبناء الإسلام والمؤمنين به على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومهدت لقيام دولة الإسلام في المدينة المنورة وانتشارها في أرجاء الأرض، ولا زال تأثير الأيمان في بقاء الدين وانتشاره قائم إلى وقتنا الراهن.
إن أخطر ما يهدد مسيرتنا، هو عدم التزام القيادات الوضوح مع الجماهير، وخوفهم من اكتشاف الجماهير لحقيقة مواقفهم وطروحاتهم!!
النقطة السادسة – العناية بالتربية الجمالية والذوق الجمالي:
وذلك من أهم العناصر في التربية الإسلامية، وأرى بأن الوصول إلى المستويات العالية من القرب والزلفى، لا يتحصل إلا لمن يمتلك درجة عالية من التذوق الجمالي، ونجد الحرص على العناية بالتربية الجمالية في الآيات التي صورت الأجواء الجمالية المثيرة المحيطة بالحدث في رحلتي الإسراء والمعراج، مثل لفظ (ليلاً) و (باركنا حوله) وقد رسمت آيات سورة النجم التي تناولت المعراج، صوراً في غاية الروعة والجمل والإثارة لهذا الحدث.. فراجعها.
المحور الثاني – رحلة الإسراء:
تدل رحلة الإسراء على هيمنة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على المسيرة التاريخية وتزعمها وقيادتها إلى غايتها ونهايتها، ويتناول الحديث عدة نقاط:
النقطة الأولى – دلالة الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى:
إن لرحلة الإسراء والمعراج عدة دلالات.. منها:
أولاً – مكانة المسجد الأقصى:
إن رحلتا الإسراء والمعراج قد أعطتا المسجد الأقصى مكانة متقدمة في الإسلام ولدى المسلمين، وربطتا المسجد الحرام والمسجد الأقصى بمصير مشترك واحد، ولا يقلل توجه المسلمين في صلاتهم إلى المسجد الحرام من مكانة المسجد الأقصى، ويجب أن تكون نظرة المسلمين إليهما واحدة، وأن ينظروا إلى الاعتداء على المسجد الأقصى كالاعتداء على المسجد الحرام تماماً.
وأما عن توجه المسلمين للمسجد الحرام في صلاتهم: فإنه لا يقلل من قيمة المسجد الأقصى.. ولكن له دلالة عظيمة ينبغي على المسلمين التوقف عندها.
إنني أرى – بالإضافة إلى أمور أخرى – بأن تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام كان رحمة بالمسلمين، إذ لو كانت قبلتهم إلى المسجد الأقصى ثم وقع عليه ما هو واقع الآن، لكانت في ذلك نهايتهم التاريخية والروحية والثقافة والحضارية، ولكن الأمر الحالي يجب أن يستنفرهم ليغضبوا ويثوروا على واقعهم، فهم لا زالت لهم بقية، ولكن وجودهم مهدد، ومكانتهم منقوصة، وكرامتهم مهدورة، وأن الفرصة متاحة لهم لتغيير الواقع، واسترداد مكانتهم المتميزة، ودورهم التاريخي والحضاري المتميز، وكرامتهم الإنسانية وعزتهم الدينية العالية، ولن يتحقق لهم ذلك إلا بتحريرهم القدس الشريف!!
ثانياً – تحويل النبوة عن بني إسرائيل:
لقد كانت النبوة في بني إسرائيل، وكان بيت المقدس مهبط الوحي والتنزيل ومبعث النور الإلهي في الأرض، ثم استخف بنوا إسرائيل بكرامة الوحي والتنزيل واسقطوا أحكام السماء، فغضب الله عليهم.. وحول النبوة والقيادة الروحية في العالم التي كانت في ذرية يعقوب (إسرائيل) عليه السلام إلى ذرية إسماعيل إلى يوم القيامة، وكانت رحلة الإسراء إيذاناً بهذا التحول في مركز النبوة والإمامة والقيادة الروحية، وورث (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إلى يوم القيامة.
ولكن بنوا إسرائيل بدلاً من أن يتعضوا ويتلقوا الدرس على أحسن وجه، تمادوا في غيهم وسارعوا إلى التكذيب ومبارزة الرب وإنكار الدين الجديد، قال الله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين} (البقرة:90)
ولم يتراجع بنوا إسرائيل عن غيهم إلى اليوم.. بل زادوا فيه، مما يهددهم بالفناء – غير مأسوف عليهم – كما في سورة الإسراء، قال الله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً . ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً} (الإسراء: 4- 7).
وهنا يجب أن نسدي النصح للعرب الذين أنزل القرآن عليهم ثم هجروه وجعلوه وراء ظهورهم واتبعوا الشرق والغرب، فإن ذلك يهددهم وينذرهم بأن يحل عليهم ما حل ببني إسرائيل من الغضب والاستبدال!!
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}. (المائدة: 54)
وقد جاءت الروايات الكثيرة من المدرستين: بأن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية الشريفة المباركة، ضرب على فخذ سلمان الفارسي، وقال: (هم قومك).
ثالثاً – أن المسجد الأقصى رمزا لعزة المسلمين وكرامتهم:
وأن احتلال الصهاينة لهذا المسجد المقدس العظيم، يمس المكانة الروحية والتاريخية والحضارية والثقافية والمعنوية للمسلمين، ويجب عليهم أن يغضبوا لذلك ويهبوا جميعاً من أجل الدفاع عن مقدساتهم وعزتهم وكرامتهم ومكانتهم ودورهم الديني والتاريخي، ولا يجوز لهم السكوت فيلبسوا لباس الذل والمسكنة والهوان.. ولا ينبغي لهم ذلك، لأن الإسلام العظيم يأبى لأبنائه أن يرضوا بالاستكانة والقبول بالذل والهوان أمام أي جبار أو مستكبر أو طاغية كان، فضلاً عن الاستكانة والذل والهوان أمام الصهاينة أعداء الدين والإنسانية الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله على غضب.
قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} (المنافقون: 8).
وقال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
(آل عمران: 139)
وقال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “من أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره.. فليس مني“.
أيها الأحبة الأعزاء:
إننا نشعر بالغصة والمهانة والمرارة أمام الواقع المأساوي المؤلم جداً الذي تعيشه الأمة الإسلامية مع أعدائها في ظل احتلال فلسطين وأفغانستان والعراق ومحاربة الدين وتهديد حركات التحرير تحت عنوان مقاومة الإرهاب، وصمت الحكومات العربية وقمعها للشعوب وإحباطها لكل حركات الإصلاح والتطوير.. وأأكد: بأن الطريق الوحيد لتحرير القدس واستعادة المسجد الأقصى إلى أهلة والحصول على العزة والكرامة ومعاقبة المجرمين من بني صهيون على جرائمهم، هو الجهاد والمقاومة والاستشهاد، وليست المساومات السياسية.
إن المكانة المتميزة والريادة التي تفترضها الرسالة الإسلامية الخاتمة للمسلمين، وتتجلى رسالتها في رحلتي الإسراء والمعراج، لا وجود لهما في واقع المسلمين المعاصر، فالمسلمون اليوم واقعون تحت هيمنة الاستعمار الغربي وسطوته، وفي ظل حكومات مستبدة ظالمة، ويعيشون التخلف الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والصناعي، ويعيشون على فتات الآخرين وتحت رحمتهم، والمفتاح لتغيير أوضاعهم واسترداد مكانتهم ليقوموا بدورهم وينهضوا بمسؤولياتهم أمام الله تعالى والتاريخ في أوطانهم والعالم، هو الإخلاص للدين وتنفيذ تعاليمه بدقة وصرامة، والمؤشر على ذلك هو مقدار ما يحققوا من نجاح في التخلص من الاستبداد والاستعمار في أوطانهم.. وتحرير القدس.
يجب علينا كمسلمين أن تشغل بالنا أحوال الأقصى وما يجري على شعب فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والشيشان.. الخ.
أيها الأحبة الأعزاء:
الأقصى أسير بيد الصهاينة المجرمين، وهم يفعلون الأعاجيب في إخواننا من أهل فلسطين، ويمارسون الأدوار القذرة ضدهم، فهم يسفكون دماءهم، ويهدمون بيوتهم ومزارعهم، ويدمرون تاريخهم وتراثهم، في ظل الانحياز الأمريكي والغربي لصالح الصهاينة، ضاربين في ذلك بالقيم والمباديء الإنسانية الرفيعة عرض الحائط، ومخالفين شعاراتهم التي يتشدقون بها.. مثل: حقوق الإنسان وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال وتقرير المصير، ويحدث ذلك في ظل سكوت الحكومات العربية الذي يشبه في الظاهر سكوت المقابر، وفي الحقيقة هو سكوت الأموات روحيا ومعنوياً وإنسانياً، فهم قد فقدوا حسهم الإسلامي، وتجمدت مشاعرهم الإنسانية والقومية والوطنية، ولا خير يرتجى منهم.. أبداً.. أبداً.
أما الشعوب الإسلامية: فهي تعاني من الكبت والاستبداد والتخلف، مسلوبة الإرادة والحول والقوة، وتعاني القطاعات المثقفة فيها من حالة اختلال في التوجه واختلافات الرأي وسوء الإدارة وتضييع للهدف العظيم والانشغال بسفاسف الأمور وصغائرها، وتنتظر من أمريكا والغرب أن ينقذوها من مخالب الصهاينة والحكام المستبدين.. فهم: كالمستجير من الرمضاء بالنار.
رابعاً – أن قضية القدس هي قضية المسلمين جميعاً وليست قضية فلسطينية خاصة:
ويترتب على ذلك عدة نتائج.. منها:
النتيجة الأولى: لا يجوز للفلسطينيين شرعاً أن يقبلوا بأي سيادة لغير المسلمين على المسجد الأقصى، ولا أن يقدموا أي تنازل بشأنه، ولا يجوز لهم التفريط ولو بشبر واحد من الأرض.
النتيجة الثانية: يجب على كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تقديم الدعم الشامل والمساندة بجميع أنواعها للفلسطينيين بما يضمن صمودهم ونجاحهم في تحرير فلسطين والأقصى وتطهيرهما من دنس الصهاينة المجرمين ورجسهم.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} (الصف: 10 – 13).
النقطة الثانية – صلاة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء عليهم السلام في المسجد الأقصى:
إن لهذه الصلاة عدة دلالات، منها:
الدلالة الأولى:
الكشف عن مكانة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كحقيقة مقررة في عالم الوجود والهداية، وأنه خاتم الأنبياء وأفضلهم ووارثهم والمسؤول عن تكملة البناء الذي بدؤوه، وان الأنبياء يمثلون حقيقة رسالية ربانية واحدة، ويصدق بعضهم بعضاً، ويمهد السابق منهم للاحق، وأنهم جميعاً مهدوا للرسالة الخاتمة التي جاء بها خاتم الأنبياء والرسل (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم، وأصبح إمامهم والشاهد عليهم.
قال الله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين. فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرها وإليه يرجعون} (آل عمران: 81 – 83).
الدلالة الثانية:
أن الأمة المسلمة هي خير أمة أخرجت للناس، وأنها وارثة أمم الأنبياء السابقين، وتتحمل المسؤولية كاملة في مواصلة مسيرتهم في الدعوة إلى الحق وهداية كافة الأمم، والدفاع عن تراث الأنبياء ومقدساتهم التي تركوها.
وبالتالي لا يجوز لهذه الأمة أن تضعف أمام الصهاينة والاستكبار العالمي وطواغيت الأرض والحكام المستبدين والانصياع لإرادتهم الشيطانية المدمرة، وتتخلي بذلك عن دورها القيادي ومسؤوليتها الدينية والتاريخية التي تفرضها عليها رسالة السماء الخاتمة.. التي تحملها، وقد جسدتاها أمامها رحلتا الإسراء والمعراج أحسن تجسيد وفي أنصع وأوضح صورة.
الدلالة الثالثة:
ربط الأمة الإسلامية بخط الأنبياء عليهم السلام، وجعل الأمة الإسلامية الامتداد الطبيعي الممتد لأممهم عليهم السلام، ودمج الكل في حقيقة رسالية تاريخية واحدة. ومن الممكن التأسيس في ضوء ذلك – لو خلصت النيات – إلى تفاهم أصحاب الأديان السماوية وتعاونهم على القواسم المشتركة.
قال الله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران: 64).
النقطة الثالثة – الارتقاء من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى:
إن لذلك عدة دلالات، منها:
الدلالة الأولى:
أن الارتقاء المادي والمعنوي يحتاج إلى أرضية صالحة في المجتمع، وأن ارتقاء المسلمين وتقدمهم المادي والمعنوي وتسلمهم زمام القيادة الدينية والتاريخية في العالم لن يحدث ما لم يستعيدوا عزتهم وكرامتهم بتحرير أنفسهم من الاستبداد والاستعمار.. وتحرير القدس الشريف، والاقتراب من المكانة المعنوية التي يجسدها الإسراء والمعراج، فبين التحرير والارتقاء.. تلازم لا يمكن إلغاؤه.
الدلالة الثانية:
أن تحرير القدس لن يحدث إلا على أيدي مؤمنة طاهرة وفق رؤية الإسلام ومنهجيته الجهادية في التحرير، ولن يكون التحرير وفق رؤية علمانية أو بواسطة المساومات السياسية والاتكاء على وعود أمريكا حليفة الكيان الصهيوني.
وعلى الأعم: فإن الأمة الإسلامية بأسرها لا يمكن أن تتقدم وتتحرر من هيمنة الأعداء إلى في ظل الإسلام وعلى ضوء منهجيته الجهادية وشريعته السمحة المقدسة، وأن الله تعالى لا يمكن أن يبارك المناهج العلمانية وأعمالها، ولا يمكن أن يكتب النصر على أيدي العلمانيين.. فهذا خلاف العقل والبديهة الدينية.
المحور الثالث – رحلة المعراج:
وفيه عدة نقاط:
النقطة الأولى:
لقد كشفت رحلة المعراج عن الهدفية العميقة لعالم الوجود ومراتبه وارتباطه بخالقه الغني الحميد، وأضاءت الطريق للسالكين إلى الله ذي الجلال والإكرام بقدم الطهارة والمعرفة والمشاهدة، مقتدين في ذلك بإمام الكونين (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لم يسبقه في ذلك سابق.. ولن يلحق به في ذلك لاحق.
الدرس الذي نستفيده من هذه النقطة: هو النظر بعمق وروية في عالم الوجود، والبحث عن أسراره وآياته، والتعامل معه بمسؤولية كبيرة، فإنا لم نخلق عبثاُ، وأن أمامنا طريق صعب، وأننا كادحون في هذا الطريق، وأن المصير إلى الله تعالى.. لا محالة.
قال الله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}
(الانشقاق: 6).
وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (الحشر: 18).
النقطة الثانية – دين الفطرة:
جاء الأمين جبرئيل عليه السلام بإناءين إلى الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: إناء من اللبن.. وإناء من الخمر، فأخذ إناء اللبن وترك إناء الخمر، فقال الأمين جبرئيل عليه السلام: “هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك“.
وقد ذكرت بعض الروايات بأن هذا الأمر حدث في رحلة الإسراء، وبعضها ذكر بأنه حدث في رحلة المعراج، والتحقيق في ذلك خارج دائرة الاختصاص والموضوع، وسوف أذهب للبحث في الموضوع حسب المنهج الذي سرت عليه من أول البحث.
إن لهذا الحث دلالات عظيمة جداً ينبغي علينا الوقف عندها لنتزود منها في حياتنا ونتعلم منها معالم ديننا الحنيف.. منها:
الدلالة الأولى: أن سلامة الفطرة هي لب الإسلام وحقيقته.
الدلالة الثانية: أن سلامة الفطرة هي مفتاح أبواب السماوات والعروج إلى أعلى الدرجات.
الدلالة الثالثة: أن أبواب السماء لا تفتح للفاسدين والظالمين والمجرمين.
ونستفيد من ذلك الدرس التالي.. وهو:
الحذر من تغيير الفطرة وتلويثها، فالخمر تغيير للفطرة.. لماذا؟ لأنه يحول العنب وهو من الرزق الحلال الطيب إلى الخمر الخبيث!!
وعلى هذا الأساس: فالزنا تغيير للفطرة.. وأسوء منه اللواط، والسرقة تغيير للفطرة.. وأسوء منه الظلم… الخ.
والخلاصة:
أن الذين يشربون الخمر، والذين يزنون ويلوطون، والذين يسرقون ويظلمون وكل من يعمل على شاكلتهم، لا تفتح لهم أبواب السماوات.. ولا يعرجون فيها، وهم محرومون من الألطاف المعنوية والفيوضات الربانية، فالواجب علينا أن نحذر من الكون معهم وفي زمرتهم.
النقطة الثالثة – فرض الصلوات الخمس:
وأختم بها الحديث.. وأسأل الله تعالى بحق الصلاة وأفضل من صلى أن يحسن لنا العاقبة…
أيها الأحبة الأعزاء:
لما بلغ الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم السبحة، كلمه ربه وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، وهي أعظم هدية من الله تعالى إلى عباده في هذه الرحلة الميمونة، التي جاءت بالرحمة والبركة على الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.. وعلى أمته.
ونستفيد من هذه النقطة الدرس التالي:
أن الصلاة معراج المؤمن إلى الله تعالى، وأنها تفتح أبواب المعرفة وأبواب المشاهدة أمام العبد لرؤية آيات ربه تعالى، وأنها تستوعب مسيرة الإنسان التكاملية بالكامل، فلا يستطيع أحد من المؤمنين – مهما بلغت منزلته وقربه من الله تعالى – وعلمه وثقافته، أن يدعي بأنه خارج دائرة الاستفادة من الصلاة في بناء نفسه وتكميلها وتهذيبها، فقد فرضت الصلاة على الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أمته وهو في أعلى مستويات القرب من الله عند السبحة، وهي الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق، وليس هناك محل يكون فيه العبد أقرب إلى الله تعالى من المحل الذي فرضت فيه الصلاة علي النبي الأمين (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أمته، وكانت ترجمة لتلك المنزلة وكانت قرة عينه في هذه الحياة.
فينبغي علينا جميعاً – أيها الأحبة – أن نقتدي بالرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الاهتمام بالصلاة واتخاذها معراجاً إلى الله ذي الجلال والإكرام.
أيها الأحبة الأعزاء:
إن قيمة الصلاة بقدر ما يستفيد منها المصلى في بناء روحه وكمال إنسانيته.
فمثلاً: من فائدة الصلاة وقيمتها أن ترفع صاحبها من عالم المادة إلى عالم القيم والمباديء العالية، ومن عالم الأوهام والشبهات إلى عالم العلم واليقين والمشاهدة، ومن عالم الشهوات وأوحالها إلى عالم الروح والطهارة وشرفات الجنان الواسعة ودرجات القرب والرضوان، ومن الاهتمام بسفاسف الأمور وصغائرها إلى الاهتمام بمعالي الأمور وأعاظمها.
وينبغي علينا لكي ننتفع بالصلاة.. أكثر.. وأكثر، أن نتعرف على أسرارها وحكمتها وآدابها وأحكامها، بحيث نكون في بداية المشوار: شديدي الحرص على صحتها من خلال تعلم الأحكام الشرعية الخاصة بالصلاة والالتزام العملي بها، لأن ذلك من شروط القبول والعروج من خلالها إلى منازل القرب، ثم نتعلم حكمتها التي.. منها: السيطرة على الشهوات والعروج في مدارج الكمال الإنساني، ونتعلم آدابها.. ومنها: الخشوع ودوام توجه المصلى إلى الله وعدم الانشغال أو الغفلة عنه، ونتعلم أسرارها.. ونعني بها: الحقائق الوجودية الباطنية التي تؤول إليها الصلاة، وهي مستويات، منها على سبيل المثال: أن القيام في الصلاة يعني سعي المصلي للقيام بالقسط والعدل بين الناس في الأرض، ومقاومة الهوى وقوى الاستكبار والظلم والظلام، فمن ظلم أو أعان ظالماً أو استسلم للهوى أو لقوى البغي والظلم والاستبداد والاستكبار، فلم يقم حقيقة القيام في الصلاة، وإن وصل صلاة الليل بصلاة النهار. وأن الركوع يعني الخضوع لله تعالى والتسليم لأمره، وأن مد المصلي عنقه في الصلاة يعني إيمانه بالوحدانية ولو ضربت عنقه، فمن استسلم لقوى الكفر والظلم والفساد في الأرض خوفاً من القتل.. أو غيره من أنواع الإرهاب، فهو لم يركع حقيقة الركوع في الصلاة مهما طال ركوعه. وان السجدة الأولى في الصلاة تشير إلى أصل الإنسان ” منها خلقناكم ” والجلوس منها يشير إلى النشأة الأولى ” هو أنشأكم من الأرض ” والسجدة الثانية تشير إلى العودة ثانية إلى الأرض ” وفيها نعيدكم ” والجلوس منها يشير إلى النشأة الآخرة ” ومنها نخرجكم تارة أخرى ” أو ” ثم الله ينشي النشأة الآخرة ” والتشهد بعد السجدتين هو أداء له بين يدي الله تعالى في يوم القيامة، فمن لم يذكر في سجوده أصل خلقته والنشأتين ويتفاعل مع ذلك تفاعلاً إيجابياً، فهو لم يسجد حقيقة السجود في الصلاة مهما طال سجوده.. الخ.
أيها الأحبة الأعزاء:
أكتفي بهذا المقدار.
واستغفر الله الرحيم الكريم لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.