من حياة الإمام السجاد (ع) للأستاذ عبد الوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين
الأستاذ عبد الوهاب حسين

كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين بمناسبة مولد أبطال كربلاء عليهم السلام وتكريم طلبة الدروس الصيفية بمأتم آل رضي بمركوبان.

الثلاثاء ليلة الأربعاء
4 شعبان 1427هـ
29  أغسطس 2006م


أعوذ بالله السميع العليم، من شر نفسي الأمارة بالسوء، ومن شر الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم.

اللهم معهم.. معهم لا مع أعدائهم.

السلام عليكم أيها الأحبة: أيها الأخوة والأخوات في الله، ورحمة الله تعالى وبركاته.

في البداية: أرفع أسمى التهاني وأطيبها إلى مقام إمامنا ومولانا وسيدنا وشفيع ذنوبنا يوم القيامة الحجة بن الحسن العسكري (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) وإلى مقامات مراجع الأمة وفقهائها وعلمائها، وإلى كافة المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإليكم أيها الأحبة الأعزاء، بمناسبة الذكرى السنوية المباركة للمولد السعيد لأبطال كربلاء (عليهم السلام)


أيها الأحبة الأعزاء: لقد اخترت أن يكون حديثي في هذه الليلة المباركة حول الإمام السجاد من بين أبطال كربلاء (عليهم السلام) الذين نحتفل بذكرى مولدهم المبارك في هذه الليلة العظيمة.. وهـم: الإمام الحسين، والإمام السجاد، وأبـو الفضل العبـاس، وعلي الأكبر (عليهم جميعا السلام).

الإمام السجاد (عليه السلام): هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو الإمام الرابع في سلسلة أئمة أهل البيت الأثنا عشر (عليهم السلام) وهو أول إمام لم يكن موجودا على عهد الرسول الأعظم الكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد سبقه في الإمامة: جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمه الحسن بن علي بن أبي طالب، وأبوه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم جميعا السلام).

وقد ولد الإمام السجاد (عليه السلام) في المدينة المنورة في زمن خلافة جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) بتاريخ: (5 شعبان 38 هـ) أي أنه عاش مع جده أمير المؤمنين (سنتين فقط) حيث كانت شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) بتاريخ: (21 رمضان 40هـ).

وتولي الإمام السجاد (عليه السلام) زمام الإمامة بعد شهادة والده الإمام الحسين (عليه السلام) بتاريخ: (10 محرم 61هـ) وله من العمر (23 سنة) وكان (عليه السلام) حاضرا في كربلاء، إلا أنه لم يستشهد لأنه لم يقاتل بسبب المرض، وقد حفظه الله (جل جلاله) من الأعداء رغم محاولاتهم المتكررة لقتله.. وهنا ينبغي أن تعلموا: بأن الدنيا لو اجتمعت كلها لقتل الإمام السجاد (عليه السلام) في كربلاء فلن تستطيع، لأن بقاء الدين الحنيف واستمراره يتوقف على وجوده، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على عهـد الرسـول الأعظـم الأكـرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ونفس الحال بالنسبة إلى ولده الإمام الحجة بن الحسن العسكري (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) فلو اجتمعت مخابرات الدنيا كلها لكشفه والقضاء عليه لفشلت، لأن بقاء الدين وتحقيق الوعد الإلهي متوقـف على وجوده وسلامتـه. فإذا عجزت الأسباب الطبيعية عن حفظة، فإن الله (جل جلاله) يتدخل عن طريق الإعجاز لحفظه وسلامته.. كما يدل على ذلك العقل والنصوص القرآنية. وقد استشهد الإمام السجاد (عليه السلام) بتاريخ (25 محرم 95 هـ) بعد أن دسّ له الوليد بن عبد الملك السم في طعامه بواسطة أخيه سليمان وله من العمر (57 سنة) ودفـن في البقيع إلى جانـب قبر عمّه الإمام الحسن بـن علي (عليهم جميعا السلام) فكانت مدة إمامته (34 سنة).

وقد واجهت الإمام السجاد (عليه السلام) في إمامته ثلاث تحديات أساسية.. وهي:


التحدي الأول ـ إثبات مكانته كإمام:
حيث كان أول إمام لم يكن موجودا على عهد الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالتالي لم تعرف له تلك الكرازمية التي عرفت للأئمة الثلاثة الذين سبقوه.. وهم: جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمه الحسن بن علي بن أبي طالب، وأبوه الحسين بن علي بن أبي طالب، حيث قال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم الكثير من الأحاديث الشريفة التي تبين فضلهم ومنزلتهم، وكان يتصرف معهم بصورة متميزة تدل على مكانتهم ومنزلتهم عند الله (جل جلاله) ورسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانوا معروفين بفضلهم ومنزلتهم لدى الصحابة، وانتقل ذلك التراث من السنة النبوية: القولية والفعلية إلى التابعين.. وبقي خالدا لدى المسلمين إلى وقتنا الحاضر. وقد تطلب ذلك من الإمام السجاد (عليه السلام) أن يثبت مكانته التي تضعه في مصاف من سبقه من الأئمة (عليهم السلام).

أضف إلى ذلك: أن الإمام السجاد (عليه السلام) واجه تحديا خطيرا، فقد جاء بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وكان مطالبا بالمحافظة على وهجهـا بين المسلمين، وفي نفس الوقـت كان مطالبا (بحسب إستراتيجية عمل الأئمة عليهم السلام) بالانتقال إلى مرحلة جديدة تقوم على أساس النشاط العلمي والتربوي والاجتماعي والعمل السياسي السلمي، بعيدا عن العمل الثوري والمواجهة العسكرية، والتوفيق بين الأمرين يحتاج إلى براعة سياسية وحركية وإدارية فائقة لا تتأتى لكل أحد.

وقد نجح الإمام السجاد (عليه السلام) فعلا في إثبات جدارته واستحقاقه لمنصب الإمامة، وفرض وجوده العلمي والمعنوي والاجتماعي والسياسي على كافة الأصعدة: على النخبة من الصحابة والفقهاء والمفكرين، وعلى الجماهير الإسلامية، وعلى النخبة السياسية من الرسميين والمعارضين، فقد رأوا فيه من الناحية المعنوية: التجسيد الحي لقيم الإسلام، وبحسب الكفاءة: الامتداد القيادي والرسالي المشرق لجده الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد امتاز (عليه السلام) بقوة الشخصية وبعد النظر وحسن القيادة والإدارة والتصرف، ولم يعرف في زمانه من يضارعه أو يجاريه في علمه وحكمته وحسن تدبيره وورعه وتقواه وشدة إنابته إلى الله (ذي الجلال والإكرام).

وقد حكت سيرته سيرة الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) فقد شابه المسيح (عليه السلام) في زهده وإنابته إلى الله (ذي الجلال والإكرام) وشابه النبي أيوب (عليه السلام) في بلواه وصبره، وشابه الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في علمه وسمو أخلاقه وقوة شكيمته.

وكان له الدور الكبير في إنارة الفكر الإسلامي بشتى العلوم والمعارف الإسلامية. فقد بدأ بعد واقعة كربلاء العظيمة وعودته إلى المدينة المنورة في إقامة حلقات الدرس بشكل يومي في مسجد الرسول العظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقبل الناس بلهفة على طلب العلم ودراسته، وكان الجمهور الأعظم من تلامذته من القرّاء (أي حملة القرآن والحديث) الذين أخذ يحدثهم بصنوف المعرفة الإسلامية، ويفيض عليهم من علوم آبائـه الطاهـرين (عليهم السلام) في الحديث والفقه والتفسير وعلم الكلام والفلسفة والعرفان والتربية والاجتماع والسياسة والأخلاق، وقد تخرّج على يديه عدد كبير من القيادات العلمية من الفقهاء والعلماء والمفكرين والمربين الذين تحرروا من قيود السلطة الغاشمة وهيمنتها الفكرية والروحية والسياسية، وعملوا باستقلالية أو من خلال الارتباط الفكري والروحي والقيادي بالأمام السجاد (عليه السلام) وقد حملوا العلم والمعرفة والإرشاد إلى كافة البلاد الإسلامية.. منهم: سعيد بن المسيّب الذي وصفه الإمام نفسه: بأنه أعلم النّاس وأفهمهم في زمانه، وأبو حمزة الثمالي الذي وصفه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): بأنه سلمان زمانه، وسعيد بن جبير الذي قيل عنه لكثرة علمه: “ليس على وجه الأرض من هو مستغن عن علم ابن جبير”، وقد أحصى الشيخ الطوسي في رجاله وغيره من المؤلفين في الرجال أكثر من مئة وستين من الصحابة والتابعين كانوا ينهلون من معينه ويروون عنه في مختلف العلوم.

وهكـذا نمت ببركـة الإمام السجاد (عليه السلام) الشجـرة العلمية الزيتونية المباركة التي غرسها الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث كانت تلك الحلقات العلمية المباركة الأساس للحركة الفكرية الناشطة في العالم الإسلامي، والمنطلق لنشأة مدارس الفقه الإسلامي المستقلة عن السلطة السياسية، وبداية عهد جديد انفصلت فيه الحركة العلمية عن السلطة السياسية، وهو واحد من أهم الأهداف المباركة لعمل الأئمة (عليهم السلام) التي ترمي إلى تطويق عوامل التحريف للفكر الإسلامي ومحاصرتها. فكان الإمام السجاد (عليه السلام) بحق من ألمع المؤسسين للكيان العلمي والحضاري في دنيـا الإسلام الحنيف. ويكتسي الـدور العلمي للإمام السجاد (عليه السلام) أهمية خاصة لكونه جاء في وقت انفتاح الأمة الإسلامية على الحضارات الأخرى والثقافات المتنوعة، مما يهدد أصالتها ويعرضها إلى التميّع والذوبان وفقدان الهوية، ما لم تشهد الساحة الإسلامية عملا علميا أصيلا يؤكّد للمسلمين أصالتهم الفكرية والروحية، ويحفظ هويتهم الإسلامية المتميّزة المستمدة من الكتاب والسنّة. وقد اهتم الإمام السجاد (عليه السلام) اهتماماً بالغاً بالتربية الروحية والأخلاقية.. وذلك: لأنه رأى انهيارا في الحالة الإسلامية: الروحية والأخلاقية، وابتعادا من الناس عن دينهم الحنيف، بفعل الحكم الأموي الذي حمل معول الهدم على جميع القيم الأخلاقية والروحية الإسلامية، وظهور موجات الرخاء المادي والانسياق وراء زخارف الحياة الدنيا وملذاتها والإسراف في زينتها، مما أدى بطبيعة الحال إلى ضمور الشعور بالقيم الروحية والأخلاقية الإسلامية. وقد اتّخذ الإمام زين العابدين (عليه السلام) من الدعاء وسيلة لمواجهة ذلك الخطر الكبير الذي يهدد الشخصية الإسلامية ويهزّها من الداخل، ويحول بينها وبين الاستمرار في حمل الرسالة الربانية والسعي إلى العمل بها وتطبيقها كمنهج شامل في الحياة. وهكذا كانت (الصحيفة السجادية) تعبيراً صادقاً عن عمل فكري وروحي واجتماعي هادف تطلبته المرحلة. إضافة إلى كونها تراثاً ربّانياً خالدا تحتاجه البشرية على مرّ الدهور، وتزداد الحاجة إليه كلّما ازدادت النزعة المادية في الحياة، وازداد التكالب على زخارف الحياة الدنيا الفانية والتنافس على حطامها الزائل، وازداد إغراء الشيطان للإنسان على وجه الأرض.

أيها الأحبة الأعزاء: لقد ملك الإمام السجاد (عليه السلام) القلوب والعواطف بعلمه وتقواه وأخلاقه الإسلامية الرفيعة وحسن تدبيره وإدارته وتصرفه، ونجح في أثبات وجوده كإمام معصوم يمثل الامتداد الفكري والروحي والأخلاقي والقيادي للرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمة الإسلامية العظيمة. فهتفت الجماهير باسمه، واعترفت النخبة بفضله وتميزه، وتوجوه بتاج الإمامة والرئاسة، فكانوا لا يرون غيره أهلاً لقيادتهم الفكرية والروحية والسياسية، وأقرت السلطة أيضا بفضله، إلا أنها عمدت إلى اغتياله كما اغتالت غيره من أئمة المسلمين وأعلام الإسلام الذين كانوا يشكلون خطراً جديا علي نظامها المستبد الظالم والمنحرف عن طريق الإسلام الحنيف.

وفي سبيل توضيح مدى النجاح الذي حققه الإمام السجاد (عليه السلام) في إثبات وجوده أذكر المؤشرات التالية:

المؤشر الأول ـ على الصعيد الشعبي:
حجّ هشام بن عبد الملك وطاف حول البيت وحاول استلام الحجر الأسود فأخفق من شدّة الزحام، فجلس ينتظر، ووقف حوله أهل الشام. وفي هذه الأثناء أقبل الإمام السجاد (عليه السلام) وهو يفوح طيبا، فطاف بالبيت، فلمّا وصل إلى الحجر الأسود، انفرج له الناس، ووقفوا له إجلالا وتعظيما، حتى إذا استلم الحجر الأسود وقبّله وانصرف عاد الناس إلى طوافهم. وكان أهـل الشام لا يعرفون الإمام السجـاد (عليه السلام) وعندما رأوا ذلك المشهد أثارهم فسألوا عن هويّته.. فقال هشام باستياء: لا أعرفه. وكان الفرزدق (الشاعر المعروف) حاضرا، فارتجل قصيدة تعدّ من روائع الأدب العربي..قال فيها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة أن كنت جاهله
بجـده أنبـياء الله قد ختـم

المؤشر الثاني ـ على الصعيد الرسمي:
روي أن الإمام السجاد (عليه السلام) كان جالسا في مجلس عمر بن عبد العزيز، فلما خرج سأل عمر من في المجلس: من أشرف الناس؟
فقالوا تزلفا: أنتم يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: كلا!! أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفا، من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد.

المؤشر الثالث ـ على الصعيد النخبوي:
سؤل محمد بن شهاب الزهري: هل لقيت علي بن الحسين؟
فقال: نعم!! لقيته وما لقيت أحدا أفضل منه، والله ما علمت له صديقا في السر ولا عدوا في العلانية.
فقال السائل: وكيف ذلك؟
فقال الزهري: لأني لم أر أحدا وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحدا وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه.


التحدي الثاني ـ الحفاظ على وهج ثورة الإمام الحسين:
وهو واحد من أهم الأهداف الرئيسية التي عمل أهل البيت (عليهم السلام) عليها وفق إستراتيجية عملهم، وكان للإمام السجاد (عليه السلام) دور التأسيس لتحقيق هذا الهدف الرباني المقدس. فقد استطاع بمهارته السياسية والإدارية والحركية الفائقة، ومن خلال الرؤية الإستراتيجية الواضحة، أن ينهض بمهام الإمامة، ويحقق أهدافها المرحلية المطلوب منه تحقيقها على أكمل وجه، رغم القيود والرقابة الأمنية المشددة التي فرضها الأمويين عليه. واستطاع ببراعة سياسية وحركية وإدارية خارقة للعادة: أن يوفق بين الانتقال إلى المرحلة الجديدة التي تقوم على العمل السياسي السلمي (وفق إستراتيجية عمل أهل البيت عليهم السلام) وبين المحافظة على وهج ثـورة الإمام الحسين (عليه السلام) وقد برز الإمام السجاد (عليه السلام) على مسرح الحياة الإسلامية كسياسي لامع ومتميز، لا يجاريه في براعته السياسية سوى آبائه (عليهم السلام).

أيها الحبة الأعزاء: سوف أتحدث الآن عن دوره (عليه السلام) في المحافظة على وهج الثورة.. ثم أتحدث بعد ذلك عن الانتقال إلى المرحلة الجديدة.

لقد سعى الإمام السجاد (عليه السلام) لتكريس حياته كلها لتخليد ثورة أبيه المظلوم الإمام الحسين (عليه السلام) وتحقيق أهدافها الرسالية العظيمة على المدى البعيد، ومواجهة المشروع الأموي الذي كان يشكل الخطر الأكبر على الإسلام على المدى القريب. وقد تجلّى دور الإمام السجاد (عليه السلام) في عدة مجالات برزت فيها الشجاعة والبطولة والحس القيادي وحسن التدبير والتصرف في أروع الصور وأبهاها.. منها:

أولا ـ خطبته في الكوفة والشام:
فقد دخل موكب سبايا الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة وقد احتشد الناس لاستقبال الموكب، وأهل الكوفة يعلمون جيداً من هم هؤلاء السبايا، لذلك أراد الإمام السجاد أن يصوّر لهم حجم المأساة التي تسبّبوا بها بخذلانهم إمامهم الحسين (عليه السلام) فخطب فيهم قائلا:
أيها النّاس!! أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته ونُهب ماله وسُبي عياله، أنا ابن من قُتلَ مظلوماً عند شط الفرات، بلا دم أراق، ولا حق أضاع.

أيها الناس!! بالله عليكم: أما كتبتم إلى أبي تدعونه ليجيء الكوفة فلما جاءكم قتلتموه؟

أيها النّاس!! كيف بكم إذا رأيتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة يقول لكم قتلتم أهل بيتي ولم ترقبوا حرمتي فلستم من أمتي؟ “

فاضطرب أهل الكوفة لسماعهم كلمات الإمام السجاد (عليه السلام) وهاجوا وماجوا، وأخذوا يبكون ويتلاومن: أن هلكتم وأنتم لا تعلمون.

وهكذا نجح الإمام السجاد (عليه السلام) في هز ضمائرهم، وتحريك وعيهم وعواطفهم إزاء المأساة المروعة وتثويرهم ضد النظام الأموي الفاسد.

ثم انتقل الموكب إلى الشام حيث كان يزيد غارقا في نشوة النصر، وقد أقيمت الأفراح في كل مكان من أرض الشام، فلم يكن أهل الشام يعرفون الحقيقة، فانبرى سليل النبوة الإمام السجاد (عليه السلام) ليكشف لهم الحقيقة بحضرة يزيد.. فقال:
أيها الناس!! أعطينا ستا وفضلنا بسبع: أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين ‏.. وفضلنا: بأن منا النبي المختار محمدا ومنا الصديق ومنا الطيار ومنا أسد اللَّه وأسد رسوله ومنا سبطا هذه الأمة. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي..

أيها الناس!! أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الحجر بأطراف الردا، أنا ابن خير من أحرم وطاف وحجّ وسعى، أنا ابن من اُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من أوحى الله له ما أوحى، أنا ابن الحسين المقتول بكربلاء، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المضرج بالدماء.. ولم ‏يزل يقول: أنا.. أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد من انقلاب الوضع عليه، فأمر المؤذن بالأذان ليقطع عليه الكلام..

فلما قال المؤذن: اللَّه ‏أكبر اللَّه أكبر.
قال (عليه السلام): لا شي‏ء أكبر من اللَّه.
فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا اللَّه.
قال (عليه السلام): شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي.
فلما قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول اللَّه.

التفت (عليه السلام) من فوق المنبر إلى يزيد.. فقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد؟! فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي، فلم قتلت عترته؟!

وهكذا كشف الإمام السجاد (عليه السلام) حقيقة الأمر لأهل الشام، وفضح ببيانه الحكم الأموي الفاسد، وعراه تماما أمامهم، فغادر بعضهم المسجد ولم يحضر صلاة الجماعة بإمامة يزيد.

ثانيا ـ إقامة العزاء البكاء:
فقد قرأ الإمام السجاد (عليه السلام) مصرع أبيه على الصحابي الجليل: جابر بن عبد الله الأنصاري عند قبر الإمام الحسين (عليه السلام) عندما التقى به في يوم الأربعين.. فقال: يا جابر!! ها هنا والله قتلت رجالنا وذبحت أطفالنا وسبيت نسؤنا وحرقت خيامنا. ولما رجع إلى المدينة المنورة لم يدخلها وإنما نزل قريبا من حدودها، وطلب من بشر بن جذيم أن يدخلها وينعى الحسين (عليه السلام) ففعل، فخرج أهلها إليه وهم يبكون ويندبون، فخرج إليهم وفي يده خرقه يمسح بها دموعه، فتعالت أصواتهم بالبكاء من حوله يعزونه بأبيه، فأومأ إليهم بيده أن أسكتوا وخطب فيهم وقال بعد الحمد والثناء على الله:

“أيها القوم!! إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس!! فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن إنهمالها، وأي قلب لا يتصدع لقتله، وأي فؤاد لا يحن إليه، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم.

أيها الناس!! أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار، من غير جرم أجرمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هذا إلا اختلاق. والله لو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأكظها وأفظعها وأمرها وأفدحها، فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام “

وكان من مظاهر تخليده للثورة الحسينية كثرة بكائه على ما حل بأبيه وأهل بيته وأصحابه من أهوال يوم الطف الفجيعة، فقد بكى على أبيه طوال حياته (عليه السلام) وكان كلما وضع بين يديه طعام أو شراب بكى.. ويقول: كيف آكل وقد قتل أبو عبد الله جائعا؟ وكيف أشرب وقد قتل أبو عبد الله عطشان؟

وكان كلما اجتمع إليه جماعة أو وفد عليه وفد من الخارج يردد عليهم أخبار فاجعة كربلاء. وكان يخرج إلى السوق أحيانا، فإذا رأى جزارا يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويسأله: هل سقيتها الماء؟
ويكون الجواب بحسب العادة: نعم يا ابن رسول الله، إنا لا نذبح حيوانا حتى نسقيه ولو قليلا من الماء..
فيبكي عند ذلك ويقول: لقد ذبح أبو عبد الله عطشان.

وقال مخاطبا أحد ضيوفه بحضور جمع من الناس: أترى لو أصابك الموت وأنت غريب عن أهلك، هل تجد من يغسلك ويدفنك؟
فقال الجمع: يا ابن رسول الله!! كلنا يقوم بهذا الواجب.. فبكى وقال: لقد قتل أبو عبد الله غريبا وبقي ثلاثة أيام تصهره الشمس بلا غسل ولا كفن. وكان لهذا الأسلوب الأثر الكبير في إدخال الثورة إلى الوجدان الإسلامي وعواطف المجتمع وأحاسيسه، ودفع المسلمين نحو التحرر من الظلم والعبودية والطغيان.

وهكذا شحنت حركة الإمام السجاد (عليه السلام) النفوس في الكوفة والشام والمدينة المنورة ضد النظام الأموي الظالم المستهتر بالدين والقيم وحقوق الإنسان، وفتحت الباب على مصراعيه لثورات متلاحقة ضده. فكانت ثورة المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة الأنصاري الذي طرد آل أمية من المدينة. ثم جاءت ثورة مكة بقيادة عبد الله بن الزبير التي لم تنتهِ إلاّ بعد محاصرة مكة ورميها بالمنجنيق، ثم جاءت ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي تحت شعار: وجوب التكفير عن ذنبهم لعدم نصرتهم الحسين عليه السلام، ثم جاءت ثورة المختار الثقفي الذي تتبَّع قتلة الحسين (عليه السلام) فقتل منهم مائتين وثمانين رجلاً منهم عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد والشمر بن ذي الجوشن. وتوالت الثورات ضد النظام الأموي الغاشم حتى تحطمت دولتهم وسقطت في مزبلة التاريخ بدون رجعة. واستمرت الثورات التي تقودها روح كربلاء العظيمة تطحن الظالمين والمستكبرين والمفسدين في الأرض طول التاريخ، وكان آخرها ثورة الإمام الخميني العظيم في إيران، والمقاومة الإسلامية في لبنان، وإني لأرجوا أن تثمر الروح الكربلائية لدي أبناء شعب البحرين المسلم الغيور: حركة مطلبية إصلاحية مستميتة تمنحهم الحرية وحق تقرير المصير، وتقيم العدل والمساومة بينهم، وتضعهم على طريق الرقي والتقدم بين شعوب العالم.

وقد أدرك عبد الملك بن مروان خطورة تحركات الإمام السجاد (عليه السلام) التي أثمرت في توسيع القاعدة الشعبية المتعاطفة معه، فاعتقله وأحضره إلى دمشق مقيدا ً، لكن قوّة شخصية الإمام (عليه السلام) أثارت الاحترام في نفسه فأمر بإطلاق سراحه وإعادته سالماً إلى المدينة، ثم قرّر الوليد بن عبد الملك تصفيته، فأوعز إلى أخيه سليمان فدسّ له السم وقضى على حياته المباركة.


التحدي الثالث ـ الانتقال إلى مرحلة جديدة في عمل الأئمة:
يعمل أهـل البيت (عليهم السلام) وفق إستراتيجية واضحة الأهداف والمراحل، وقد اقتضت الإستراتيجية أن يلجأ الإمام السجاد (عليه السلام) إلى النشاط العلمي والتربوي والاجتماعي والعمل السياسي السلمي، في الوقت الذي يحافظ فيه على وهج ثورة أبيه الإمام الحسين (عليهما السلام) ومواجهة المشروع الأموي التخريبي سياسيا. فقد عمل الإمام علي بن أبي طالب، والإمامين: الحسن والحسين (عليهم السلام) على سحب بساط الشرعية الدينية من تحت الخلفاء، غلب لتحقيق ذلك الهدف الجانب العلمي والوجداني على دور الإمام علي بن أبي طالب، والجانب السياسي على دور الإمام الحسن، والجانب الثوري الاستشهادي على دور الإمام الحسين.. ليثبت بصورة نهائية قاطعة: بأن الخليفة فاقد للشرعية، ولا يمثل المرجعية الدينية والروحية للأمة. وقد وضح فيما سبق من البحث مدى النجاح السياسي الذي حققه الإمام السجاد (عليه السلام) في المحافظة على وهج الثورة ومواجهة المشروع الأموي، وفي نفس الوقت انطلق ببراعة متميزة وفق إستراتيجية عمل الأئمة (عليهم السلام) إلى المرحلة الجديد في نشاطه العلمي والتربوي والاجتماعي، بهدف توسيع بنـاء الكيان الإسلامي الشيعي الموالي لأهـل البيـت (عليهم السلام) والتبليغ بأطروحتهم الفكرية الشاملة على كافة المستويات والأصعدة: عقائديا وفقهيا وفي التفسير والأخلاق والسيرة وغيرها من مجالات الفكر والثقافة. كما نجح في خلق انطلاقة فكرية نشيطة على مستوى الأمة، مستقلة عن الحكام الفاسقين والظالمين، قادها الفقهاء وأئمة الحديث وقادة الفكر من الفلاسفة والمفكرين، وكانت ترمي (بحسب خطة عمل الأئمة عليهم السلام) إلى تطوير حرية التفكير في البحث عن الحقيقة، والحد من تأثير السياسة المنحرفة على الفكر الإسلامي، وتطويق عوامل التحريف ومحاصرتها.. مع التأكيد من ناحية المبدأ: على المرجعية الدينية الشاملة: الزمانية والروحية لأهل البيت (عليهم السلام) في الأمة الإسلامية.

وقد استخدم الإمام السجاد (عليه السلام) أدواة عديدة لتحقيق أهدافه.. منها: حلقات الدرس والحوار والكتابة والمراسلة والدعاء والسعي في قضاء حوائج الناس لاسيما الفقراء والمحتاجين وشراء العبيد وتحريرهم بعد تعليمهم وتربيتهم وفـق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وحقق نجاحا باهرا في تحقيق أهدافه الرسالية في المجال محل البحث كغيره من المجالات التي خاض غمار العمل فيها.. وقد ذكر ما يدل على نجاحه فيما سبق من البحث.


وفي ختام الحديث:
أشير إلى أهم النتائج التي يمكننا التوصل إليها من خلال تحليل الدور الذي قام به الإمام السجاد (عليه السلام) في حياته المباركة.. منها:

النتيجة الأولى:
أهمية البصيرة، والإستراتيجية الواضحة، والشخصية القوية، والجرأة والبطولة والشجاعة والتقوى (ضمن شروط أخرى) في تحقيق النجاح في العمل الرسالي والسياسي.. وأن نسبة النجاح والفشل تتحدد بحسب نسبة وجودها أو غيابها.

النتيجة الثانية:
أن الإمام السجاد (عليه السلام) كان يتمتع بشجاعة وبطولة فائقة، وأنه لم يكن مسايرا للنظام الأموي الغاشم.. مع التنبيه: أن الإمام (بحسب العقل والنص) لا يمكن أن يفترق ولو قليلا مع القرآن الكريم (بما هو عليه من الكامل) في فكرة أو سلوك أو موقف، فهو في ذروة الكمال والعصمة من جميع الوجوه وعلى كافة المستويات ومع القرآن الكريم دائما في فكره وسلوكه ومواقفه لا يتخلف عنه فيها بأي حال من الأحوال. وأن إرادته لا يمكن أن تفترق أو تختلف مع إرادة الله (جل جلاله) في شيء كبير أو صغير، وأنه لا يقع حتى فيما وقع فيه الأنبياء السابقين (عليهم السلام) من المآخذ التي ذكرها القرآن الكريم عنهم.. وهي لا تخالف العصمة بالطبع. لأنه كالرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقهم في درجة العصمة والكمال، وأن كماله وعصمته فوق كل كمال وعصمة لمخلوق بشري أو غير بشري سوى الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

النتيجة الثالثة:
أن الدور العلمي والتربوي والاجتماعي والعمل السلمي لا يعني بالضرورة مسايرة النظام الحاكم الفاسد أو المنحرف.

النتيجة الرابعة:
أهمية النشاط العلمي والتربوي والاجتماعي في الرسالة الإسلامية ودوره في تحقيق أهدافها المقدسة العظيمة. وهذا مما يعطي القيمة الكبيرة للتكريم الذي نقوم به الليلة لطلبة الدروس الصيفية. وإني أطلب منهم بذل المزيد من الجهد والوقت والمال لطلب العلم وتحصيل الخبرة، لأنهم بالعلم والخبرة يستطيعون أن يخدموا دينهم ووطنهم أكثر. أسأل الله العلي القدير أن يجعلهم من الذين ينتصر بهم لدينه، ويعز بهم نصر وليه، وأن يوفقهم لخدمة وطنهم العزيز، وأبناء شعبهم المستضعف المظلوم.

النتيجة الخامسة:
أن الحالة الإسلامية الفكرية والروحية والأخلاقية الصافية، تصب دائما في خدمة العدالة والعزة والكرامة والتحرر للشعوب.. ولا يمكن أن تكون غير ذلك. ولهذا خدم البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) كما خدم الدعاء (في أقصى حالات الإخلاص لله جل جلاله) والسعي في قضاء حوائج الفقراء والمحتاجين وتحرير العبيد قربة لله تعالى ثورة الأمة ضد الظلم والظالمين والمفسدين في الأرض، لأنها تلتقي معها في الجوهر والطريق.. وعليه فإن كل طرح بخلاف ذلك: هو طرح ملوث لا يلتقي مع حقيقة عقيدة التوحيد وروحيتها.

أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار، واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم، واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

شارك برأيك: