ثقافة الالتزام عند (المرحوم)د.جعفر الهدي …. بقلم أ. فاضل عباس هلال

ثقافة الالتزام عند (المرحوم)د.جعفر الهدي …. بقلم أ. فاضل عباس هلال

  فاضل عباس هلال 

 مقدمة : حينما تعيش مع إنسان منذ بدء تفتح نظراتك ، ذلك يعني أنك سوف تتعرف ما قد يخفى على غيرك ، وإن جمعت فيه الكتب والمؤلفات ، ولك أن تحتفظ بأسرار إما عرفتها عن كثب وإما قد أعطاك إياها، فلا تذعها أبدا ، وكن حافظا أمينا عليها ، حال حياته أو بعد مماته .

وما سأقوله من كلمات نثر أو قصيدة شعر ما هو إلا واقع عشته منذ أن ترعرعت في قريتي النويدرات ، وأنا أخزن في ذاكرتي من هو (جعفر الهدي) كما عرفته ، لا ما نقل لي عنه وهو النزر اليسير عندي ، والذي سأقوله فقط كخطوط عريضة .

    ** جعفر الهدي : ابن قرية النويدرات وابن الحاج محمد الهدي الرجل السمح الذي تعلو الابتسامة وجهه والدعابة تسير أمامه ، وابن الحاجة أم عيد المرأة صاحبة الشخصية البارزة في عائلتها المحبوبة من قبل الجميع .

   ** يعني أننا وقفنا على أعظم أثر قد حمله فقيدنا الغالي أسرة تحمل دفء المودة وحب الآخر وجميل المسير ، وحسن المعشر ، وحلاوة الإيمان ، وسمو الأخلاق ، فكان النتاج (جعفر) ، والذي حمل بين جوانحه وجنباته بذور الدين والتدين حتى استوى عوده واشتد في قريتنا ، ليكون علما من أعلامها بما تحمله الكلمات من معاني وأكثر ، فتشكلت لديه ثقافة الالتزام صغيرا ، وكانت هي الظل الذي لازمه حتى أوان رحيله .

** حكى لي ذات مرة كيف ذهب إلى السعودية مع المرحوم أ. أحمد حسن عيسى صديقه المفضّل، ليسجلا في الجامعة تخصص اللغة العربية ، فاستقبلهم أحد الدكاترة هناك وقدم لهم اللغة العربية على أنها عفريت ضخم لا يمكن أن يقدرا عليها ، فقال: أ. جعفر الهدي لصاحبه سرا، دعنا نسجل كمدرسي فن ، فهذا أفضل حتى يتخرجا ، ولكن صاحبه قال له: هوِّن عليك فهذا ليس دكتورنا الذي جئنا من أجله ، وبالفعل التقيا بصاحبهم ، فتلقاهما ببشر وسرور وسجلا في اللغة العربية حتى أصبحا من خيرة المعلمين في القرية .

   ** ثقافة الالتزام:

    أن تكون إنسانا ملتزما بعقيدتك لا يعني أن تحتكر ذاتك وتنغلق عليها بل يعني أن تكون صادقا مع الله وصادقا مع خلقه،وأن تشحن ذاتك مع الله بالورع والتقوى وأن تعطي الناس كلا على قدره دون المساس بعقائدهم والإعتداء عليها …

قال الرسول الأعظم (ص) :

«المُؤمِنُ يألَفُ ويُؤلَفُ ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ وخيرُ النَّاسِ أنفَعُهم للنَّاسِ».

   ** كان أ. جعفر الهدي مصداقا لهذا الحديث الشريف فهو الإنسان المتدين وهو الذي بادر إلى الانفتاح على المجتمع والناس مع مراعاة الضوابط والحدود .

  **  كان التعليم الديني متنسفه الذي لم يكف عنه ، حيث حمل على عاتقه مع صحبته هم تعليم وتنوير الأجيال القادمة ، فتشكلت حلقات التعليم المسجدي لكي تخرِّج فتية تقرأ القرآن وتعرف أحكام الدين والصلاة ، ومع مرور الأعوام آتت جهودهم ثمار حصادها ، فقد ازدهرت مساجد القرية بالدارسين ، حلقاتٍ حلقات ، وربما لو قلت أنه كان متأثرا بالسيد فضل الله أكاد أكون محقا . فلقد درّسنا منذ الثمانينات كتاب خطوات على طريق الإسلام ..

 **  وهو كتاب إصلاحي في مجالات الفكر الإسلامي المختلفة  بطريقة السهل الممتنع والتي تعطي الإنسان المتدين والإنسان العامل بعلمه وما يحمله من فكر جميل إشارات للمضي قدما دون التأخر أو الانشغال بما هو غير مجد أو من مسببات التثبيط والتراجع.

  ** ولقد عاش أ. جعفر الهدي هموم الناس فلذلك استوعب المجتمع وأعطاه من طاقته ما قدر أن يعطيه ولذا تجد أن معظم كتاباته هي من واقع عاشه وغاص في أعماقه حتى تشكلت لبنات مؤلفاته مما عاشه .. جدار الملح ، شارع المعرض ، الطائر الأعمى، أكواخ مقمرة ، والمجتمع المدني في البحرين .

   ** ولقد كان أ. جعفر الهدي يسعى ويسعى دائما لكسب احترام الناس بهدوء وتلك سجية طبعه، ولو كانت فكرته صائبة فلا يدافع عنها لكي لا ينفر الآخر منه بل تراه يتركها على الطاولة حتى يتحقق الناس منها ثم يأخذوا بها ، لا أن يفرضها عليهم فرضا.

** فمحبُ الناسِ محترِمُهم ، محبوبٌ محترَمٌ لديهم فالمحبة عنده تأتي من خدمة الناس والبحث عن مساعدتهم أينما كانت ،غنيهم وفقيرهم قويهم وضعيفهم كبيرهم وصغيرهم .

   أجل هذا هو الدين الذي يحمله حُسنُ تعاملٍ وأدبٌ رائعٌ وثقافةٌمتنورة لا تعادي ولا تعتدي تتسع الناس بكل صنوفهم وتبحث عن القواسم المشتركة والتي تعين على تأصيل العلائق والروابط بينهم.

**   كان أ. جعفر الهدي غير غافل لأدوار الآخرين حتى أبسطِهم كان يشجعه للعمل بروح الفريق ويهتم بالبسطاء والجلوس معهم فحرص على المهرجانات الشعبية لأنها نسيج المجتمع الذي سيكبر يوما ما وسيشق الطريق الذي يؤهله للعيش المتكامل.

**    كان حريصا على مناقشة الخطباء وإبداء وجهة نظره إليهم فيما يطرحونه من مواضيع وآراء ولقد عاينته مرات عدة بكل ابتساماته يلقي الرأي الذي يحمله وينتظر الرد من الجانب الآخر .

** ولمن لا يعلم فقد أسس هو ومجموعة من أصدقائه مكتبة في القرية ( دار الثقافة ) واهتموا بالكتاب طباعة ونشرا وتوزيعا ، ونتيجة لظروف قاهرة اضطروا لغلقها أو بيعها لتكون الآن قرطاسية عامة .

 ** ولقد حكى لي ذات مرة عن تطلعه لتأسيس مجلس ثقافي في القرية ، حتى يلملم شتات الثقافات المتناثرة في القرية ، ويتم توجيهها الوجهة التي تليق بكونها قرية المثقفين ، فالوضع لم يعجبه ، ولقد جلست معه جلسات عدة في بيته إلا أن انشغالاته بالعمل أدت إلى توقف الفكرة رغم أنها تتحدث عنه كلما جلسنا صحبةً نتنادر الشعر والأدب .

** ومن بعض ثقافته التي لا يختلف عليها أحد

   كان أ. جعفر الهدي لين العريكة ، سهل الجانب ، يتعامل مع كل موضوع وآخر بكل رحابة صدر ولا انزعاج يبدو عليه حتى لو كان موضوعا كبيرا ومصيريا ، فهو بابتسامته يعطيك الرد ويقنعك بدون تضخيم للموضوع أو الرد ، بشوش حينما يلقاك ، ويحاول أن يستخرج منك إجابة لتساؤلات عنده دون أن تشعر بذلك ،

  وموضوع زواج أخي الصغير هو من المواضيع التي لا أنسى كيف طرحته عليه ، وكيف أجاب .

   فقد طلبت يد ابنته الصغرى لأخي أحمد ، فقط اتصلت به وسلمت عليه وأخبرته بالموضوع ، ولأنني لا أجد حرجا معه أو رسميات طويلة عريضة ، فقال لي أعرض الموضوع عليها ، وأبشر بالخير بحول الله ، وبالفعل بعد يوم وليلة هاتفني قائلا شرف لنا ذلك ولنقل تم على بركة الله .

 ** وأظنني غير مصدق لرحيله ، ولقد حضرت يوم تشييعه ودفانه ومجلسا واحد من مجالس الفاتحه ، وبعده ذهبت إلى دبي لتكريم ابنتي لفوزها بجائزة حمدان بن راشد للطالب المتميز ، حيث كان دائم السؤال عنها وإلى أين وصلت ، وقد فرح لها حين أخبرته عن فوزها بالجائزة ، وقال هكذا نفرح حين يعتلي فرد منا منصة التتويج ، وهي لم تقصر فقد أهدت فوزها لروحه الطاهرة .

**وختاما :إنّ ما رثيته من قصائد شعرية مختلفة لم يكن إلا النزر اليسير مما اختلجت به أحاسيسي ومشاعري ، فلقد كنت ممن عاش لحظة رحيله الأخير حتى عروج روحه لبارئها ، وبعد ذلك شاهدت فيديو كاميرا المراقبة كيف خرج سليما لممارسة كرة القدم ، وكيف عاد ليكون آخر رجوع لبيته ، وهناك الكثير الكثير من الذكريات لابد أن أحتفظ بها لنفسي كذكرى عبقة من عزيز رحل .

شارك برأيك: