عبقرية مبكرة سحرت العقول وأنطقت الخصوم بقلم الشيخ علي مدن

*عبقرية مبكرة سحرت العقول وأنطقت الخصوم*

في تاريخ الإسلام، لا يندر أن يبرز العلماء في سنّ متأخرة بعد تجربة وتحصيل، لكن أن يظهر إمامٌ في سنّ الصبا، يناقش الكبار، ويبهت الخصوم، ويصنع الحيرة في قلوب المخالفين قبل المؤالفين، فذلك ما تجلّى بوضوح في شخصية الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام.

لقد شكّلت مناظرات الإمام الجواد عليه السلام وحواراته العميقة في بلاطي المأمون والمعتصم نقطة تحوّل في المشهد العلمي والفقهي لذلك العصر، فقد تصدّى لكبار المتكلّمين، وأجاب عن أعقد الإشكالات، بأسلوبٍ جمع بين عمق الدليل وسعة العلم، مما أدهش الحاضرين، وأرغمهم على الإشادة به، رغم اختلافهم المذهبي معه.

وقد نقل عدد من أعلام الفرق الإسلامية مواقفهم من هذه الشخصية الاستثنائية:

يقول السبط ابن الجوزي: «لقد كان في علمه وتقواه وزهده وعفوه على سرّ أبيه»، في إشارة إلى الامتداد الروحي والعلمي للإمام الرضا عليه السلام.

ويشهد الجاحظ المعتزلي، مع كونه من مخالفي أهل البيت عليهم السلام، قائلاً: «إن الإمام الجواد هو العاشر من الطالبيين الذين كانوا جميعًا علماء، زهادًا، عبادًا، شجعانًا، أسخياء، أنقياء، أطهارًا»، وهو وصف نادر يصدر من رجل له مكانته في الفكر والأدب.

أما ابن حجر الهيثمي، فينقل أن المأمون خاطب الإمام الجواد ذات مرة قائلاً: «أنت ابن الرضا حقًا»، ثم بالغ في إكرامه، لما لمس من نبوغه وعلمه رغم حداثة سنّه، حتى بلغ به الإعجاب أن زوّجه ابنته أم الفضل.

ويضيف الفتّال النيشابوري: «كان المأمون قد شغف بأبي جعفر عليه السلام لما رأى من فضله مع صغر سنّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان».

وهكذا، لم يكن الإمام الجواد عليه السلام إمامًا بالوراثة فحسب، بل كان إمام عقلٍ وبرهان، رفع راية الحجة، وأثبت أن العلم لا يُقاس بالأعمار، وأن الإمامة مقامٌ إلهي، لا يصنعه إلا الاصطفاء والكمال المبكر.

لقد أسهمت تلك المرحلة التي خاضها الإمام الجواد عليه السلام في البلاط العباسي، بكل ما حفلت به من مناظرات ومساجلات علمية، في ترسيخ مبدأ الإمامة بوصفها مقامًا ربّانيًا لا يُقاس بالأعمار ولا يخضع لمقاييس السلطة والنسب وحدهما، بل يتجسّد في الكمال العلمي والروحي الذي يتجلّى حتى في سنّ الطفولة. فالإمام الجواد عليه السلام كان حجةً في صغره كما في كبره، ونقش حضوره العلمي والعقلي في قلوب الناس من كل الطوائف، مما عمّق موقع الإمامة في الوجدان الإسلامي، وأكّد أن أهل البيت عليهم السلام هم معدن العلم، وأمناء الرسالة، وأئمة الهدى الذين اختارهم الله هداةً لعباده إلى يوم الدين.

الشيخ علي مدن
٢٩ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ
الثلاثاء 27-5-2025م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *