إبن معراج والمهمة الصعبة (10)

يوسف مدناعداد الاستاذ يوسف مدن

الجزء السابع: العمليات والأساليب الثقافية
مدخل للعمليات والأساليب الثقافية:
ليس أمراً صعباً أن يكتشف باحث معين من ((سجل السيرة الذاتية)) لشخصية ما كابن معراج أو من أدبيات حياته أو من مجموعة الوثائق المخطوطة والمطبوعة نوع الأساليب والعمليات الثقافية التي جعلت من الحاج أحمد بن معراج شخصية متألقة قادرة على تحقيق الانجاز الثقافي في الظروف الصعبة التي عاشها، كما أن اكتشاف شبكة الأساليب والعمليات الثقافية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ناجمة من بروزها في الحركة الثقافية من لشخصيته، ويمكن لباحث فَطِنٍ أن ينفذ ببصيرته الثاقبة إلى عمق السيرة الذاتية لابن معراج، ويلامس نوع العمليات التي شكلت نشاطه الثقافي في فترة حياته واجتاز بها المهمة الصعبة التي حمل أعباءها بين الناس المحيطين به اجتماعياً لتحقيق أهداف عبادية يتطلع إليها.

وإذا ما عدنا إلى سجل السيرة الذاتية للحاج أحمد بن معراج وتاريخها المكتوب والمنقول لفظاً أدركنا بعض العمليات الثقافية والأساليب التربوية البارزة في تراثه الثقافي، فهذه المهمة لا يتطلبها سوى إدراك ومعرفة التراث الثقافي لشخصية المترجم له ومتابعته، ويمكننا أن نوجز ما لحظناه من عمليات ثقافية تجلت أمام أنظارنا في سياق أدائه للمهمة الصعبة من أجل تحقيق الانجاز الثقافي.

وهذه الأساليب والعمليات هي كما يأتي:

  • التعلم الذاتي.
  • الحوار والمساجلات الفكرية.
  • المراسلات الثقافية.
  • إثارة تساؤلات تتطلب إجابة.
  • الحفظ والتحفيظ عن ظهر قلب (الاستظهار)).
  • نسخ الكتب المخطوطة.
  • نظم الشعر وجمعه.
  • مجالسة العلماء والمهتمين بالثقافة.
  • الترغيب وتنشيط دافعية التعلم بالتحفيز النفسي والمعززات.
  • كتابة حواشي مستقلة.

التعلم الذاتي:
يمكن للمرء أن يتعلم بنفسه أو بمعاونة آخرين كالمعلمين والمربين والمرشدين وعلماء الدين أو أي طرف آخر شرط أن تكون لديه مهارات أولية وأساسية تمكنه من ” التعلم “، فالقراءة والكتابة ضرورية للتعلم الذاتي، وإذا ما تعلم الفرد المهارتين السابقتين يستطيع التعلم الذاتي بوجود معززات أولية كالذكاء، والرغبة الداخلية بأي مقدار في التعلم، والمحفزات بأشكالها المختلفة، والصبر على أداء السلوك التعليمي والقيام به وتحمل مشقته، ونعتقد أن هذه الشروط متوافرة بقوة في شخصية ابن معراج، فتمكن تدريجياً من التعلم الذاتي حتى بلغ قدراً من التعلم الذي مكنَّه من تحقيق ” انجاز ثقافي ” مميَّز بالنسبة للفترة الزمنية التي عاشها ابن معراج، فالرجل عرف بحدة الذكاء والفطنة وحضور البديهة، فاصطحبه العلامة الشيخ محمد بن سلمان الستري البحراني في أسفاره إلى القطيف تدريباً له في المجال المعرفي، وتقديراً لقدراته العقلية.

ومن المؤكد أن ابن معراج أتقن في عهد مبكر في حياته وفي مرحلة التعليم الكتاتيبي مهارتي القراءة والكتابة اللازمتين للتعلم، والتعلم الذاتي بوجه خاص، وكذلك تحقق شرط دافعية التعلم أو الرغبة الشديد فيه من مظاهر عديدة لحظناها في تراثه الثقافي، فابن معراج لديه رغبة قوية في التعلم بمفرده أو بمعاونة من يختارهم من أصحابه العلماء والخطباء والشعراء، وقوة الدفع الداخلي عنده مكنته تدريجياً من التعلم والصبر على التحصيل المعرفي، وعبَّر ابن معراج عن رغبته في التعلم الذاتي برغبة بأشكال متعددة من الأداء التعليمي الذي جعل مسـار نموه المعرفي في تصاعد مستمر، فاقتنى الكتب التي احتاجها، وكوَّن مكتبته المنزلية الخاصة ليكون قريباً من التعلم، وقرأ كثيراً من الكتب والمصادر كالتفاسير وكتب الحديث والتاريخ والأدب العربي والرثاء ليحقق لنفسه تعلماً ذاتياً فعالاً يمده بالقدرة على أداء المهمة الصعبة وتحقيق الانجاز الثقافي.

وعزز نشاطه في مسيرة التعلم الذاتي بمجالسة ” العلماء ” ومصاحبتهم، فهم بالنسبة إليه كالكتاب المقروء يزوده بالعلم والمعرفة، وعقَد صداقات مع علماء دين وخطباء وشعراء فأضفى على تجربته الذاتية مزيداً من النمو المعرفي الهادف، وسعى إلى جمع الشعر ونظمه، وتجلى تعلمه الذاتي في كتابة الحواشي ومساجلاته الفكرية وانتقاء مختاراته الثقافية، تلك صور معبرة عن التعلم الذاتي في شخصيته، وهذه الصور مؤشرات ” تمكين ثقافي ” في شخصيته بما تيسر لها في عصره، وترتب عن ذلك نمو معرفي تصاعدي لقدراته العقلية، وفسح هذا التعلم المجال لديه ليحقق ” الانجاز الثقافي ” ويتغلب على نفسه وظروف عاشها ليقترب من ” المهمة الصعبة ” التي اعتبرها تحدياً سمت نفسه لتجاوزها، وقد كانت خطواته بحمده تعالى ناجعة تمثلت أنشطته الثقافية المتعددة التي أشرنا إليها في تضاعيف هذه الدراسة.

وهكذا دلت كل المؤشرات أن ابن معراج اعتمد بقوة شديدة هذا الطريق في التعلم وتحصيل معارفه، وتعلم برغبة ذاتية شديدة،وطلب المعرفة بدافع داخلي، ودخل بوهج هذه الدافعية في ميدان الثقافة، كما أن إشباع رغبته في التعلم بدافعية متألقة عن طريق نشاطه الذاتي أو نشاط أصحابه هيَّأه لأداء وظيفته العبادية في الميدان الثقافي.


الحوارات والمساجلات:
اختار ابن معراج هذا النمط الثقافي بثقة كبيرة، وعقد حوارات مع عدد من أصدقائه من علماء الدين والشعراء، فهو شديد الاهتمام بالجانب الثقافي وأنشطته، وعرف بأن له محاورات مع العلماء والخطباء حتى أضحى مهاب الجانب وكان الكثير من الخطباء على حذر مما يقولونه على المنبر حين حضوره، وكانت تربطه علاقة صداقة ومحبة متميزة مع الخطيب والشاعر الكبير الملا عطية بن علي الجمري ونجله الملا الحاج يوسف، وكانا طيلة سنوات خطيبان رئيسيان للمأتم الوسطي والذي يحمل اسمه كما يقول ابنه.

وكان العلامة الشيخ محمد بن سلمان بن عبد الله الستري البحراني يصطحب ابن معراج وهو في سن الشباب لتدريبه على النشاط الثقافي – الروحي، كما كانت حواراته مع صديقيه الشاعرين بن فايز والحاج عطية معروفة كما نقل لنا بعض المعمرين، بل إن الخطباء يتهيبون حضوره في المجلس الحسيني بمأتمه أو حسينية غيره لتوقعهم أن يحاورهم فيما طرحوه على أعواد المنبر من قضايا وأفكار ومواقف.


المراسلات الثقافية:
عرف عنه كما يقول من عاصره أنه يكاتب العلماء ومراجع الدين في قضايا روحية أو اجتماعية أو فكرية، وأن له اتصالات بمراجع الدين وعلماء الطائفة كما يقول بعض كبار السن، وخير مثال على ذلك مراسلته للشيخ عبد المجيد بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر البحراني أصلاً والسيهاتي مسكناً، فقد بعث إليه بثلاث مسائل طلب منه الجواب عنها، وترتب عن هذه المراسلة الثقافية ظهور وتصنيف كتيب عنوانه ” الأجوبة السيهاتية في المسائل النويدرية ” كتبه الشيخ عبد المجيد السيهاتي رداً على تساؤلات ابن معراج، وقد طبع هذا الكتيب في مكتبة الآداب بما يزيد عن أربعين وأبعد، وهذا التاريخ تقدير شخصي لأني وجدت الكتيب في المكتبة المنزلية لابن معراج قبل أربعين، ولا نملك تقديراً لعمر هذا الكتيب وتاريخ صدوره.


إثارة الأسئلة الجادة الهادفة:
أدرك الحاج أحمد بن معراج أن الوصول إلى المعرفة يمر في أحد قنواتها بإثارة السؤال وطرحه على العلماء، وأنه كان يطرح أسئلته بدقة استدعت من عالم جليل كالشيخ عبد المجيد أن يرد كتابياً ويوثق إجابته في كتيب أضحى أحد مصنفاته، وقد عرضنا في صفحات سابقة من هذه الدراسة نموذجاً للمسائل التي أثارها ابن معراج للشيخ عبد المجيد بن الشيخ علي السيهاتي راجياً الإجابة عنها، ويمكن للقارئ الكريم مراجعة المسائل الثلاث التي عرضنا نصها كاملاً.

إن طرح الأسئلة عند ابن معراج خطوة ضرورية للمعرفة وتحصيلها، ولكنه كما في خطوته مع الشيخ عبد المجيد السيهاتي ومراسلاته مع مراجع الدين قد أرسى منهجه في كسب المعرفة، وأرسى لنفسه طريقاً لبلوغها بتعلم ذاتي أو بمعاونة آخرين، وإثارة ابن معراج للأسئلة هي تعبير عن إشكاليات في ذهنه، وهو يستهدف ليس تحصيل المعرفة وحده وإنما توظيفها في تحقيق هدفه العبادي المكلف بتحقيقه في حياته، وبذلك فإن طرح التساؤلات عملية ثقافية هادفة لبناء شخصيته وخدمة مجتمعه بالتزام ديني محض وبرغبة في تحقيق لذة عقلية تشبع نهمه وتحقق حاجته في المجال المعرفي، ومن هنا لحظنا أن أسئلته التي أثارها دارت حول قضايا مسئولة لها علاقة بمسئولياته العبادية التي أنيطت به كإنسان عابد لربه.


الحفظ والتحفيظ والتشجيع عليه:
وفيما أتذكره – وأنا صغير – كنت أتردد على بيته عليه الرحمة وبخاصة في الفترات المسائية أو في بعض الإجازات، وهو يقوم بين حين وآخر بكتابة أبيات وقصائد شعرية سواء من ديوان المرحوم الحاج عطية الجمري المعروف بـ ” الجمريات ” أو من ديوان صديقه الحميم بن فايز، أو من شعره الخاص أو بعض الأحاديث والنصوص القرآنية، ثم يكلفني أنا مع ابنه علي ومعراج حسن علي معراج والمرحوم الأستاذ أحمد حسن عيسى مال الله بقراءة ما كتبه من قصائد للشاعرين الكبيرين.. بن فايز والحاج عطية بن علي بن عبد الرسول الجمري البحراني أو نصوص القرآن والأحاديث، وكان على الدوام يشجعنا على قراءتها وحفظها، بل ويحاسبنا على ذلك وكأنه يطوي في داخله رغبة أصيلة يعمل على تحقيقها في حياتنا وفي أنفسنا، ويحاول ربطنا بأهداف تربوية والعمل على صقل الجانبين الروحي والثقافي في شخصية كل واحد منَّا.

وقد اعتمد ابن معراج هذه الطريقة كسابقين من المربين والمهتمين بالعمل الثقافي، ونفذا في نطاق حياته أولاً قبل مطالبته الآخرين باستخدامها، فلولا قدرته على الحفظ لما وجدنا نحن المتأخرين شعراً مكتوباً لابن فائز نطمئن إليه، فهو لم يستلم شعراً مكتوباً من ابن فايز، وإنما سمعه منه فحفظ قصائده وأبقاها في ذاكرته ثم جمعها وكتبها، فحفظ بذلك التراث الشعري لابن فايز فجزاه الله عنَّا خيراً.


نسخ الكتب المخطوطة:
كما تقدم فإن من أبرز العمليات الثقافية التي أنجزها المرحوم الحاج أحمد بن معراج في حياته المليئة بالصعاب، وجعلته يقوم بانجاز مهمته الصعبة وبخاصة في فترة استقراره ما قام به من نسخ عدد من الكتب والرسائل العلمية وخطها بخط يده، وقد وقفنا على نسخ خمسة عشر كتاباً لعلمائنا الإمامية من البحرين وغيرها، ونشرنا بيانات عن هذه الكتب المخطوطة بيده في فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات متتابعة من 1365 إلى 1367هـ، وقد ضم الجدول رقم (1) بيانات عن هذه العملية الثقافية الضخمة التي حفظت بعض تراثنا الثقافي، وساعدت على تلبية بعض احتياجات المجتمع في الجانبين الروحي والثقـافي.


نظم الشعر وجمعه:
سبق القول بأن الحاج أحمد بن معراج اهتم بالشعر بطريقين يكمل أحدهما الآخر، فقد نظم الشعر بقريحته وإبداعه وعبَّر عن همومه الروحية والدينية والاجتماعية والسياسية بأبيات من الشعر، فنظم القصائد حتى جمع منها ديواناً يقارب جزأين أو يزيد، كما أنه من جهة ثانية كان يشغله الشعر الرثائي فجمع شعر صديقه بن فايز في ديوان أسماه ” فوز الفايز “، وكان رحمه الله تعالى صديقاً حميماً للشاعر الحسيني المشهور في البحرين ومنطقتنا الإقليمية المعروف بـ (بن فايز) ومعجباً بموهبته وبأشعاره المثيرة في الرثاء الحسيني، فقام تطوعاً منه بكتابة ” النسخة الأولى لمخطوط ديوان بن فايز ” الرثائي اعتماداً على ذاكرته لأنَّ بن فايز أمي لا يحسن القراءة ولا الكتابة كما يقال، ولكنه كما أتذكر لم يرهن نفسه لمهنة النسخ مقابل أجر مادي، بل مارسها بدوافع خدمة الدين ولمجتمعه ومحبة ذاتية للمعرفة الإنسانية وقيمها الإدراكية.


مجالسة العلماء:
ذكر ابنه الأستاذ علي مجموعة من علماء عصره، وممن عرفنا بعضهم لاحقاً، وجلهم من علماء البحرين[1] الأفاضل الذين رافقهم وتشرف بصحبتهم، ومنهم كما ذكر ابنه وبعض المعمرين (الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد صالح، الشيخ محمد علي المدني، الشيخ إبراهيم المبارك، الشيخ عبد الله المصلي، الشيخ حسن المعاميري، الشيخ علي بن الشيخ عيسى، الشيخ جعفر القطيفي، الشيخ علي بن الشيخ جعفر القطيفي، الشيخ عباس الجزيري، الشيخ حسين بن عباس الجزيري.. وآخرون كالشيخ عبد المجيد بن الشيخ علي السيهاتي).

وقد حظي ابن معراج بثقة هؤلاء جميعا وكانوا يعجبون بالأفكار والآراء التي يبديها الحاج أحمد بن معراج في كثير من القضايا الاجتماعية والشرعية التي يطلب منه الناس الفصل فيها، وقد كسب صيتا طيبا طيلة حياته الشريفة، وكانت له مراسلات مع المرجعيات الدينية خارج البلد في الشأن الديني، ومما لا شك فيه أن لهذه المجالسة العلمية المثيرة (وهي متكررة في حياته معهم) أثرها الطيب في تكوينه الروحي والثقافي، وفي أدائه التعليمي، مما ساعده على تحقيق انجازاته التي أسميناها بـ ” المهمة الصعبة “.


الترغيب والتحفيز بمعززات إيجابية:
الترغيب سلوك طبيعي في التركيبة الداخلية للكائن الآدمي، فهو دافع فطري مركوز في التكوين النفسي للإنسان، ويكاد يتساوى الناس ومنهم أحمد بن معراج في إدراكه بنسب متفاوتة، بيد أن الحاجة إليه لا تتوقف عند حدود الإدراك، وإنَّما بتجاوز تلك الحدود لمستوى تفعيله لارتباط التفعيل والاستخدام بالقدرة على السخاء عند الفرد، فالقدرة على تفعيل السخاء وتوظيفها لا يتساوى فيه الناس، بل يتردد فيه بعضهم، فتفعيل مبدأ الترغيب يعني إدراك فطرية هذا الدافع في الداخل الإنساني وتوظيفه في تنشيط الدافع الثقافي، ويتطلب تفعيل مبدأ الترغيب وترشيده تجاوز إدراكه لمستوى أسمى بالتغلب على تردد النفس في السخاء وبذل العطاء، بل يمكن القول بأن كل الناس يمكنهم إدراك الترغيب واستخدامه، لكن الأهـم أن يبلغ تفعيله مستوى ” القدرة ” الفعّالة النشطة والتلقائية التي تتيح تشكيل السلوك الإيجابي بنظرة إيمانية وعبادية مؤثرة في حركة الذات الإنسانية.

هنا نجد ابن معراج ممن أدرك الترغيب كسلوك فطري لدى الآدمي وفي تكوينه الداخلي، وتمكن من ” قهر النفس ” على البذل والعطاء والسخاء للآخر حتى لشخص بعيد عنه، ومن طرائف ما يفعله استخدام ” المعزز ” الإيجابي بشيء كان ثميناً لديه، بينما الآخر لا يدرك قيمته كما ينبغي، وأتذكر أنَّنا إذا حفظنا قصيدة شعر أو نص حديث أو آية قرآنية أعقبه ابن معراج بتقديم معزز إيجابي وثمين بالنسبة إليه، فما أن ننتهي من حفظ نص أو قصيدة حتى يقول أحمد بن معراج بسهولة ” الكتاب الذي تحفظ منه يمكنك أن تأخذه لك ” فنفرح كثيراً باقتناء هذا المعزز وإنْ كنَّا لا ندرك قيمته إلاَّ أن للكتاب في نظر الواهب قيمة، وأقصد ابن معراج الذي ينظر للكتاب كشيء ” ثمين ” وبخاصة في عصره الذي لا تتوافر فيه الكتب المطبوعة بسهولة كما هو حال عصرنا، وإنما يضطر المهتمون بالشأن الثقافي إلى نسخ الكتب، وهذا يستغرق وقتاً طويلاً.

ويذكرني هذا الموقف المعزز بموقف معزز آخر لا يقل سمواً عنه حين قام أحد الأهالي بمبادلة ” أرض ” بحوزته وبيعها كثمن لشراء ” كتاب مخطوط ” يهديه بسخاء تام ورائع لأحد مآتم القرية حبَّاً لأهل البيت عليهم السلام.


كتابة الحواشي المستقلة:
الحواشي طريقة معرفية وتربوية تقليدية وسائدة في مصادر التراث الثقافي البحراني، وفي أدبيات التراث الثقافي عند المسلمين وبيئاتهم التعليمية عبر تاريخهم الطويل، وفي تجربتهم التربوية الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي في فترة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ويستخدمها بوجه عام العلماء والمهتمون بالعلم والثقافة وهم يقرؤون هذا الكتاب أو ذاك، وما تزال هذه الطريقة مستخدمة لدى المهتمين بالنشاط الثقافي لأنها تعليقات فكرية من القرَّاء وبخاصة من العلماء على أفكار مقروءة بالتأييد والمعارضة.

ولم يخرج أحمد بن معراج عن استخدامه هذه الطريقة وهو يقرأ كتب العلم والثقافة الموجودة بين يديه، وعلمنا من ابنه الأستاذ علي أن والده الحاج أحمد بن معراج كان كغيره من أصحاب الآراء يقرأ بعض الكتب فتستثيره جملة أو فقرة أو رأي معيَّن بالتأييد أو المعارضة، فيسجل تعليقاته عليها أو يكتب عن الفكرة حواشيه كما هو معتاد عند بعض العلماء أو المثقفين أو حتى بعض القرَّاء المتميزين، بيد أن طريقة ابن معراج في كتابة الحواشي – كما عرفنا ذلك من ابنه – مختلفة إلى حد ما عمَّا كان سائداً، فالمعتاد لدى العلماء وسائر المثقفين أنهم يكتبون حواشيهم في الصفحة ذاتها التي وجدوا فيها فكرة تحتاج إلى تعليق بالتأكيد أو المعارضة، ويبدو أنه يفعل ذلك للحفاظ على نظافة الكتاب من أية تعليقات أو كتابات إضافية فتشوه في نظره الصفحة بقلم حبره المغاير للأسود كالأحمر أو الأزرق.

ويكون موقع كتابة الحاشية في الغالب على أحد طرفي الصفحة أو الطرف الأعلى منها إذا اضطر القارئ إلى ذلك.. أي في مساحة الفراغ، أمَّا ابن معراج فيكتب حواشيه أو تعليقاته في صفحة مستقلة عن الكتاب، وضمن كراسة مستقلة أيضاً عن الكتاب الذي قرأ فيه الفكرة التي تطلبت تعليقاً، فالحاج أحمد بن معراج يحتفظ بكراسة يكتب فيها حواشيه عن أفكار مثبتة في كتب يقرأها، فتكون حواشيه إما إضافات أو نقد فكرة أو استدراكات معرفية لخبرات سابقة أو تجهيز لإثارة سؤال وتوجيهه.


مختارات ثقافية:
لاحظنا في مكتبته المنزلية الخاصة وجود كراسة أو دفتر، وهي من بقايا تراثه الفكري،حيث يكتب في صفحات هذه الكراسة وبتتابع مستمر بعض الآيات القرآنية الكريمة أو الروايات أو بعض الأخبار والحوادث التاريخية او القصص أو أبيات بعض الشعراء المعروفين كالأعشى والبحتري، وتكون هذه المختارات من مصادر مختارة كتفسير الصافي أو تفسير البرهان للعلامة الكبير السيد هاشم التوبلاني البحراني أو تحف العقول للحسن بن شعبة الحـرَّاني أو كتاب الأنوار النعمانية للجزائري أو الآمال للسيد المرتضى، ويرتب صفحات هذه الكراسة ترتيباً تتابعياً.

وتنظيم الكراسة بما يأتي:

  • يقوم أولاً بتسطير الجانب الأيمن من الصفحة بخط مسطرة مستقيم.
  • ثم يحدد اسم المصدر في أعلى الصفحة.
  • وبعد ذلك يذكر اسم مؤلف الكتاب إلى جانب المصدر.
  • وتحديد الجزء الأول أو الثاني أو غيرهما من المصدر وذلك في أعلى الصفحة كقوله المجلد الثالث أو الرابع.
  • ثم يكتب في جانبها الأيمن بعد تسطيرها بخط مستقيم رقم الصفحة كي يكون الرقم واضحاً وغير متداخل مع المادة الثقافية التي نقلها.
  • أما المادة الثقافية التي يختارها كرواية أو آية أو بيت شعر أو حادثة تاريخية فيكتبها في أسطر أو جزء من الصفحة أو صفحة كاملة أو اثنتين أو أكثر من يمينها إلى شمالها، وذلك بقدر حاجته مما يريد نقله من المصدر إلى الكراسة الخاصة بمختاراته التي غالباً ما تكون إمَّا مادة دينية محضة كالنصوص القرآنية والروايات النبوية الشريفة وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام أو روايات وحوادث تاريخية كرواية وصف النبي لأهل البحرين بأنهم ” خير رجال الشرق ” أو ” خير أهل الشرق ” أو أمور ذات صلة بالغة والأدب العربي.
  • ويبدأ بعد تسطير الجانب الأيمن من الصفحة فصل مادة ثقافية معينة عن مادة أخرى داخل الصفحة الواحدة كما ترى من بعض النماذج عن طريق وضع خط بين أعلى الصفحة وما دونه بعد الانتهاء من تعلقته.
  • ولضمان تسلسل تتابع الصفحات يكتب بالطريقة المتبعة آنذاك كلمات أسفل كل صفحة في الطرف الأيسر للدلالة على نفس الكلمة التي تبدأ بها الصفحة التالية، فيكتب مثلاً في أسفل الجانب الأسر من الصفحة السابقة كلمة ” دموع ” لتكون أول كلمة في الصفحة اللاحقة.

ويبدو أنه عليه الرحمة يختار هذه الآية أو تلك الرواية أو مجموعة الأبيات الشعرية لهدف ثقافي – تعليمي في نفسه فينقلها من مصدرها إلى الكراسة المستقلة في صفحات متتابعة ومتصلة ثم يتصرف معها كما يريد كأن يحفظها أو يعود إليها عند حوار أو مساجلة أو يسهل على نفسه مراجعتها أو لتذكيره بشيء آخر في ذهنه حينما يحتاجه، وهكذا كان يوظف هذه المختارات لأغراض تعليمية وثقافية، ويبدو من طريقة تسجيل المعلومات أو ما يختاره منها أنه يستخدمها لأغراض شتى، كإثارة أسئلة أو للحوار أو للتعلم الذاتي أو الحفظ عن ظهر قلب أو لسهولة الرجوع إليها في وقت الحاجة، والله أعلم.


كتابة صيغ الوقف الشرعي للكتب المخطوطة:
من ظواهر الحركة الثقافية في مجتمع قرية النويدرات أسوة بمجتمعات القرى البحرانية الأخرى إبان القرن الرابع عشر الهجري وما قبله انشغال عدد من الناس بإعداد ونسخ كتب ورسائل مخطوطة بخط اليد، فذاك واقعهم لخدمة مجتمعهم آنذاك، إلاَّ أنه يقترن بهذه العادة الثقافية عملية ثقافية أخرى هي ما كان يفعله بعض النساخين أو بعض علماء الدين أو بعض وجهاء القرية وأعيانها في النويدرات وفي غيرها من كتابة صيغ لوقف الكتاب المخطوط وقفاً شرعياً على جهة مقصودة وهي في الغالب يكون ” مأتماً حسينياً محدداً ” في قريتنا أو أية بلدة بحرانية، فعملية كتابة صيغ الوقف الشرعي للكتب المخطوطة تسند عادة إما لعالم دين معتبر أو شخصية ثقافية نافذة الأهمية ومعروف في وسطها الاجتماعي اشتغالها بهذه المهنة أو تسند للناسخ نفسه أو لناسخ آخر، وقد يرفق بالصيغة شهادة آخرين إنْ لزم الأمر.

وقد رصدنا عدداً من الصيغ المخطوطة في الكتب المنسوخة وأثبتنا بعضها في بعض دراساتنا ومنها كتابي “بربورة وشهادة التاريخ، والظاهرة الثقافية في المجتمع النويدري” وفي دراسات أخرى مثل كتاب ” مقتل النبي يحي ” الذي نقلناه من نسخته الخطيّة إلى طباعة حديثة مع إدخال تعليقات عليه تتطلبها عملية إعداده ومراجعته، فأدخلنا صيغة الوقف الشرعي لوقف الكتاب.

وأما الحاج احمد بن معراج فلم أعثر لسوء الحظ على وثيقة سوى صيغة واحدة قد كتبها كصيغة وقف شرعي لكتاب مخطوط، كما فعل العلامة الشيخ محمد بن سلمان بن عبد الله الستري البحراني والحاج حسن بن عبد الله بن سرحان والد الحاج عبد الله وأخيه جعفر بن حسن بن سرحان، ولا يستبعد أن له جهد في هذا الجانب، ولكن كما ذكرنا لم نعثر حتى الآن سوى على وثيقة الوقف الشرعي للكتاب المخطوط بخط يده، ومع ذلك فإني أتذكر قد حصلت على وثيقة صيغة وقف شرعي واحدة لكتاب مخطوط نسخه ناسخ آخر، ولحسن الحظ وفقنا الله سبحانه في العثور على وثيقة خطية كتبها ابن معراج خطها بيده الكريمة، والملفت للنظر أن ابن معراج قد كتب الصيغة الوحيدة بحسب بحثنا وشهد على عملية شراء الكتاب المخطوط والتوقيع على الوثيقة.

وتكونت هذه الوثيقة من:

  • النص اللفظي للوثيقة الذي كتبه ابن معراج، وسنعرضه في قسم الوثائق.
  • تحديد اسم ” الواقف الشرعي ” للكتاب.
  • الشهود على صحة صيغة عقد الوقف الشرعي للكتاب المخطوط.

لقد كتب ابن معراج صيغة الوقف الشرعي لكتاب مخطوط عن ” مولد النبي محمد بن عبد الله ” صلى الله عليه وآله وسلم، ومؤلفه (…………….. [2])، أما ناسخه فهو السيد شبَّر بن سيد ناصر بن سيد حسن الموسوي البلادي البحراني بتاريخ يوم السبت.. يوم النصف من شهر ربيع الثاني سنة 1363هـ، أما صيغة عقد الوقف الشرعي لهذا الكتاب فمؤرخة بيوم 18 من شهر ذي الحجة 1365هـ.

وبملاحظة بعض ما خطه من كتب وجدنا افتقارها لعبارات وصيغ وقف شرعي لأنه على ما يبدو يجعل ما يخطه وينسخه من كتب لمأتمه أو يسلم الكتاب المخطوط لمأتم آخر بدون صيغة وقف شرعي للكتاب المخطوط بيده، وهذا يعني أن الكتب المخطوطة المحددة لمأتمه أو لمآتم أخرى لا يكتب على صفحتها الأخيرة أو مقدمتها أية صيغة لوقف الكتاب إما بسبب عدم اشتغاله بهذه العملية أو أنه يحبذ وقف الكتاب مجاناً بدون صيغة أو أنه كتب بعض صيغة الوقف الشرعي للكتب المخطوطة ثم فقدت، أو لم يكتب إلاَّ نادراً، ولم نوفق في العثور على نموذج منها، والله أعلم.


[1] ترجم بعض علماء التراجم لجماعة منهم أو أشاروا إليهم في دراساتهم التاريخية، ويمكن للقارئ الكريم مراجعة ما كتبه الشيخ محمد علي التاجر في منتظم الدرين بمجلداته الثلاثة، وما كتبه الشيخ إبراهيم المبارك التوبلاني في كتابه (حاضر البحرين)، وكذلك ما كتبه الأستاذ سالم النويدري في سفره ((أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين خلال 14 قرناً)) وبخاصة في المجلد الثالث.

[2] لم نستطع لسوء الحظ العثور على اسم مؤلف هذا الكتاب عن ” المولد النبوي الشريف “، فاسم مصنف الكتاب يكتب عادة في أول صفحة منه أو في الصفحات الثلاث الأولى، ويبدو كسائر الكتب الخطية التي اطلعنا عليها أن هذا الكتاب قد سقطت منه مقدمته، ولا نعرف عدد صفحاته التالفة لأن من عادة الناسخين في النويدرات أو في غيرها أنهم لا يستخدمون الترقيم العددي المتتابع (1، 2، 3، 4، 5، وهكذا) كما نفعل اليوم في ترتيب كراساتنا أو أبحاثنا أو غيرها، وإنما يضعون في تتابع الصفحات التي يكتبونها كلمات محددة واضحة أسفل الصحة السابقة التي انتهى منها الناسخ، وذلك في جانبها الأيسر لتدل على بدء الصفحة التالية لأن الكلمة الموجودة في أسفل الصفحة السابقة هي أول كلمة في الصفحة اللاحقة لها مباشرة.

شارك برأيك: