جعل الله سبحانه وتعالى منذ بدء الخليقة سننًا وقوانين كونيّة تحكم حياة المجتمعات البشريّة على اختلافها وتنوُّعها، وتتعلّق هذه القوانين بإرادة الخالق عزّ وجلّ وسنّته في خلقه. ما يجب أن نعرفه هو أنّ تلك القوانين والسنن الإلهيّة لا تتغيّر بتغيُّر الزمان والمكان، ولا يمكن لأحد أن يُعطِّلها أو يُبدِّل فيها إلّا واضعها جلّ شأنه، كما ذكر تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [سورة فاطر/ 43].
تلك السنن – أو كما يسمُّونها بالنواميس- لا تتخلّف في حال تحقُّق شروطها الموضوعيّة، وبطبيعة الحال فإنّ مسألة تحقُّق الشروط أو عدم تحقُّقها هي بيد أفراد المجتمع أنفسهم؛ فنرى أنّ المسلمين – مثلًا- كانت غايتهم في كلِّ معاركهم مع المشركين النصر والفتح، ففي معركة أُحد حين لم يُحقّقوا الشروط الموضوعيّة للنصر لم ينصرهم الله، أمّا في معركة بدر لمّا اجتهدوا في توفير الشروط الموضوعيّة للنصر وتحقيقها فقد انتصروا وبكلِّ جدارة. وللتوضيح أكثر، في أُحد كان المسلمون قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النصر لكنّهم تخلّفوا عن تنفيذ تعليمات نبيِّهم الذي لا ينطق عن الهوى حين أمر فرقةً منهم بالمرابطة على الجبل وعدم النزول؛ فأخلُّوا بشرطٍ من الشروط الموضوعيّة، ما جعلهم يخسرون المعركة، أمّا في بدر فعلى الرغم من قلّة العدد والعتاد والسلاح فقد انتصروا، لأنّهم اجتهدوا في توفير شروط النصر من داخل أنفسهم.
ولكي نستنتج أنّ هذه السنن لا تختصُّ بالزمان والمكان المُحدّد، نتأمّل فيما أصاب الأمم السابقة من عذابٍ وهلاكٍ نتيجة استهزائهم وتكذيبهم لتلك النواميس الإلهيّة عبر التاريخ، كعاد وثمود وجميع الأقوام الخالية، يقول الله سبحانه: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف/ 96]، ويقول تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، فعاد وثمود وسائر الأقوام المعذّبة قد خالفوا القوانين الإلهيّة، وكذّبوا بها، ولم يستقيموا على الطريقة التي أرادها الله، فجرت عليهم السنن الإلهيّة ونزل العذاب بهم.
من هنا نفهم أنّ مصير كلَّ مجتمعٍ إنّما يتحدّدُ بمدى سعيه واجتهاده في تحقيق الشروط أو إهمالها، فالمجتمع الذي يريد أن يرتقي عليه أن يُحقِّق الشروط، والمجتمع الذي يريد أن ينتصر للحقّ ويتخلّص من براثن العبوديّة للطغاة والمستكبيرن عليه أن يُحقِّق شروط ذلك النصر المنشود، وهكذا تتمّ حركة التغيير من حالٍ إلى حالٍ في المجتمعات عبر التاريخ.
وقد وضع الله سبحانه وتعالى سُننًا إلهيّة عامّة يجب على كلِّ مجتمعٍ أراد أن يُغيِّر من واقعه الفاسد البعيد عن ملامح خلافة الله في الأرض، أن يسعى لتحقيق شروطها الموضوعيّة الأساسيّة، وأوّل تلك الشروط هو البدء بالإصلاح الفرديّ الذي هو مدخل يُمهِّدُ للتغيير المجتمعيّ، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد/ 11]. وبعد الإصلاح الفرديّ يمكن للمجتمع أن ينطلق نحو حركته التغييريّة فيُصحِّح من إيمانه ويُقوِّي من عقيدته، ويلتزم بتعاليم دينه وينتهي عن نواهي خالقه.
الشرط الثاني هو عدم ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ إنّ لتركها آثارًا سلبيّة بل كارثيّة على الأمّة، فعن الرسول الأكرم صلَّى الله عليه وآله: ((لا يزال الناس بخيرٍ ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت عنهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء)). فتركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شأنه أن يسمح بإشاعة الرذيلة والفُحش والمنكر في المجتمع، وتسليط الظلمة وأعوانهم على المستضعفين، وبالتالي يكون المجتمع ضعيفًا واهنًا بعيدًا عن القيم والمُثُل والمبادئ التي أراد لها الله سبحانه أن تسود في الأرض.
والشرط الثالث هو الوحدة وعدم التفرّق، فالقرآن يُصرِّح بوجوب تحقيقها بين أفراد وجماعات المجتمع الإسلامي، فالتفرُّق والتنازع والشتات في المجتمع مآلها إلى السخط الإلهيّ والعذاب الشديد واستبدال الأمّة بغيرها وتسافلها بين الأمم، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران/ 105]. ولا يعني ذلك أن يُحجَر على التعدديّة الفكريّة وحريّة الرأي واختلاف التوجهات؛ فالاختلاف من سنن الله في خلقه، بل القصد ألّا يتحوّل إلى فرقة وخلاف وتنازع بين الأفراد والجماعات، بما يُهدِّد أمن المجتمع وسكينته ويعيق حركة نموِّه وازدهاره، ويشغل الأمّة عن أعدائها الذين يتربّصون بها السوء.
فإن استطاع المجتمع أن يُحقق الشروط الثلاثة سالفة الذكر، يبقى أمامه الشرط الرابع وهو الاستقامة والثبات على طريق الحقّ، والصمود أمام أعداء المجتمع الإسلاميّ، وخلق المناعة ضدّ المؤامرات التي يحيكها الأعداء فكريًّا وعقائديًّا وثقافيًّا، وينبغي التنبيه على أنّ هذا الأمر يستدعي بالضرورة الإعراض دائمًا وأبدًا عن الركون لأعداء الله من الطواغيت والمستكبرين والمفسدين في الأرض، وعدم اتخاذهم أولياء من دون الله، فعاقبة ذلك الخسران في الدنيا والخزي في الآخرة.
فإن كُنّا نريد أن نرتقي بمجتمعنا الإسلاميّ إلى السموّ الروحيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، علينا أن نُحارب العوامل الفاسدة التي تؤدِّي إلى العقاب والعذاب الإلهيّ، ومن ثَمَّ أن نأخذ بالأسباب والقوانين التي تؤول بالمجتمع نحو الرُقيّ والتغيير الإيجابيّ.