بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
تعريف الصيام
الصيام هو الامتناع الإرادي عن المفطرات الشرعية مثل الأكل والشرب والجماع، من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، بنية الامتثال إلى أمر الله (تبارك وتعالى) والتقرب إليه (جل جلاله).
وقد خصص الله (تبارك وتعالى) شهر رمضان المبارك لأداء هذه الفريضة العظيمة، ويعتبر صيام شهر رمضان ركن من أركان الإسلام، وضرورية من ضروريات الدين. وأول ما فرض الله تعالى الصيام على المسلمين كان في السنة الثانية بعد الهجرة الشريفة.
وتشير الآية الشريفة المباركة التي تلوتها في بداية الحديث إلى نقطتين أساسيتين.. وهما:
النقطة الأولى:
أن الله (تبارك وتعالى) قد فرض الصوم على أمة الرسول الأعظم الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما فرضه على أمم الأنبياء السابقين (عليهم السلام) وعليه: فإن الصيام ليس بعبادة جديدة، وإنما هو موجود في الرسالات السماوية العظيمة السابقة، وإن لم يكن بنفس الكيفية.. ولهذا دلالات مهمة منها:
الدلالة الأولى: الأهمية الأكيدة والكبيرة للصيام في بناء الأمم وإعدادها لحمل الرسالات السماويـة العظيمة وتحقيق أهدافها السامية والمقدسة في الحيـاة.
الدلالة الثانية: عناية الله (جل جلاله) بهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجها للناس، وأنه أراد لها أن تستكمل جميع الفضائل التي ساقها للأمم السابقة، فلم يترك فضيلة أو نعمة أنعم بها على أمة من أمم الأنبياء السابقين (عليهم السلام) إلا وأنعم بها وساقها إلى هذه الأمة العظيمة.
النقطة الثانية:
أن الغاية من الصيام هو حصول الصائمون على ملكة التقوى وتحقيق كمال العبودية لله (ذي الجلال ولإكرام) وهذا شيء في غاية الوضوح: فمن أراد الاتصال بعالم القدس والطهارة والارتقاء في سلم الرفعة والكمال، فإن أول ما يلزمه هو إتباع العقل والدين، وإمساك النفس عن الاسترسال في لذات الجسم وشهوات النفس.. وهذا ما يحققه الصيام بكل تأكيد: فالصائم يترك شهوات النفس استجابة لأمر الله (تبارك وتعالى) والصيام يصفي النفس ويهذبها، ويسمو بالروح ويرفعها إلى عالم الملكوت الأعلى، ويسكنها في ساحة القدس والطهارة، ويبعد الإنسان عن المعاصي والأعمال غير الصالحة وعن كل ما يبعده عن ربه تبارك وجهه الكريم، ويدفعه نحو الخير والأعمال الصالحة وكل ما يقربه إلى ربه الكريم (عز وجل) والصيام يجعل الله (ذي الجلال والإكرام) حاضرا في عقل الصائم ليشرق بنور الحق، وفي قلبه ليشرق بالخير والمحبة، وفي نفسه لتشرق بالعدل والصدق والاستقامة، لينطلق في تعمير الحيـاة وبنائهـا وتطويرهـا على خط الله (تبارك وتعالى) وهديه بقوة واستقامة وثبات، لا يميل ولا يهن ولا يضعف.
وتدل الآية الشريفة المباركة: على أن المصالح المادية التي تترتب على الصيام كالصحة وغيرها، إنما هي مقصودة بالتبعية لغاية التقوى.. وعليه: يجب التركيز على التقوى الذي يجب أن يظهر أثرها في شخصية الصائم من خلال الأخذ بالأسباب التي توصله إليها فعلا، وإلا فإنه لا حقيقة لصيامه، ولا نصيب له من الصيام إلا الجوع والعطش.
والتقوى أيها الأحبة الأعزاء: غاية عظيمة ومقدسة في جميع الرسالات السماوية العظيمة، بدليل أن الله (تبارك وتعالى) قد أوصى بها أمم الأنبياء السابقين (عليهم السلام).
قال الله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (النساء: 131).
وهنا أرغب في التنبيه إلى لطيفة فكرية وروحية مهمة.. وهي: أن التقوى من الوقاية، وهذا يدل على أن هناك أخطارا جدية محدقة بالإنسان وتهدد وجوده الفردي والمجتمعي: المادي والمعنوي، وأنه يستطيع أن ينجو منها بالصيام. فالصيام ـ أيها الأحبة الأعزاء ـ ينجي الإنسان من أخطار كثيرة.. منها: خطر السقوط في مستنقع الشهوات والغرائز الحيوانية، وخطر السقوط في نار الغضب المستعرة في داخل النفس، وخطر الخضوع إلى حكومة الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وما يترتب على تلك الأخطار من تداعيات خطيرة في حياة الإنسان.. وبالجملة: الصيام ينجي الإنسان من خطر الشقاء في الدنيا وخطر الشقاء الآخرة.. ولهذا جاء في الأحاديث: الصيام جنة.
خصائص الصيام
أيها الأحبة الأعزاء: لكي نكتشف الأهمية الأكيدة والكبيرة للصيام في تحقيق أهداف الرسالات السماوية، ودوره في خلق ملكة التقوى لدى الصائمين، فإننا نحاول أن نتعرف على أهم الخصائص التي يتميز بها الصيام من بين سائر العبادات.. وهي كثيرة منها:
الخاصية الأولى: أن الصيام كف أو إمساك، وهذا من شأنه أن يعزز حالة الإخلاص في العبادة. فالمؤمن حينما يصلي فإن الناس يرون صلاتـه، وحينما يحج فـإن الناس يرون حجه، وحينما يزكي ويتصدق فإن الناس يرون زكاته وصدقته.. أما الصيام: فهو إمساك عن المفطرات الشرعية، وهي حالة لا تختلف من الناحية الظاهرية عن الإمساك في حالة غير الصيام.. وعليه: فإن الصيام لا يرى، مما يساعد العبد المؤمن الصائم على تعزيز حالة الإخلاص والصدق في نية العبادة، ويكون ذلك له نورا يهتدي به بين دروب الحياة إلى الصراط المستقيم والنهج القويم، وسلما يعرج فيه إلى أعلى درجات العبودية والكمال الإنساني. وهذا ما ينبغي أن يركز عليه العبد المؤمن في الصيام، ليكون عمله خالصا لوجه الله الكريم، ليس في الصيام فحسب، وإنما في كل العبادات، بل في كل حركة وسكون إرادي منه.. كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162).
والخلاصة: أن الصيام مظهر من أبرز مظاهر الطاعة والخضوع والعبودية لله (ذي الجلال والإكرام) التي يتجسد فيها الصدق والإخلاص في النية في أجلى وانصع صورهما، حيث يقهر الصائم شهواته ويترك لذاته المادية استجابة لأمر الله (جل جلاله) في السر بينه وبين ربه (عز وجل) وعلى هذا الأساس فهم العلماء الأجلاء الحديث القدسي القائل: “كل عمل بني آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به”.
الخاصية الثانية: أن الصيام يستمر من بين كل العبادات لفترة زمنية طويلة: شهر كامل كل يوم: من طلوع الفجر الصادق حتى غروب الشمس. والإنسان المؤمن الصائم يعيش فيها حالة مراقبة مستمرة لنفسه ومحاسبتها على طريق العبودية والسير إلى الله (ذي الجلال والإكرام) وطاعته فيما يعمل وفيما يترك. فهو لا يترك المفطرات لعدم وجودها أو لعدم الحاجة إليها أو لعدم رغبة النفس فيها، وإنما يتركها استجابة لأمر الله (تبارك وتعالى) وهذا يجسد حالة العبودية الصادقة لدى المؤمنين بحقيقتها العقلية والإرادية والنفسية، ويكتسب الصائم خلـق المراقبة والمحاسبة للـذات بنية القربة لله (ذي الجلال والإكرام) فإذا صحت المراقبة والمحاسبة للنفس، وصار الإنسان المؤمن يراقب نفسه ويحاسبها من أجل الله (جل جلاله) الذي يعلم السر وأخفى، ويعلـم خائنـة الأعين وما تخفي الصدور، في جميع عباداته ومعاملاته، وفي كل شأن من شؤون حياته: الخاصة والعامة، وصار يعبد الله (سبحانه وتعالى) كأنه يراه، فإنه قطعا يحصل على ملكة التقوى واحترام النظام والقانون، مما يؤثر إيجابيا في تطهير النفس من الأخلاط الرديئة وتهذيبها وتزكيتها، وتصفية الروح وتنقيتها، والتزهيد في الدنيا وزخارفها، والترغيب في الآخرة وسعادتها، والارتقاء بالأخلاق الكريمة لدى الإنسان المؤمن الصائم، وتنمية الوعي والتعقل، وبناء الإرادة القوية والصمود، وتنمية ملكة الصبر والانتصار على اللذة والشهوة والمتعة، وضبط النفس والتحكم في مداخلها ومخارجها، وتصعيد المقاومة ضد عوامل الشر والانحراف في داخل النفس وخارجها، واستكمال الإيمان وزيادة المحبة لله (ذي الجلال والإكرام) والتوكل عليه والاحتساب إليه (عز وجل) حيث يترك الصائم لذاته وشهوات نفسه حبـا لله (جل جلاله) وشوقا إلى رضاه ورغبة في ثوابه، فينتصر حب الله (جل جلاله) على رغبات النفس وحب الـذات، ويجـد الصائم في نفسه لذة التقرب إلى الله (جل جلاله) وفرحة نيل رضاه، ويستبدل اللذات المادية الفانية، باللذات الروحية الخالدة، ويشعر بالسمو الروحي والعروج في سلم الكمال الإنساني، فيصلح بذلك شأنه الخاص والعام، ويرتقي في سلم الأخلاق وكمال العبودية، ويكون مصدرا للخير والنور والعطاء والبناء والتعمير في الأرض والحياة، فيصلح بذلك المجتمع وتصلح الدولة التي ينتمي إليهما ويسعد الناس والخلق به.. وهذا يدل أيها الأحبة الأعزاء: على أن الإسلام لا يسعى لقيادة الإنسان بالقوة والحديد والنار، وإنما بالوعي والإرادة والاختيار، والتحريك الذاتي للمقاصد عن وعي وإيمان.
ومن جهة ثانية: فإن الصائم يقوم بمراقبة الأوقات، لارتباط الصيام بها ارتباطا وثيقا في الإمساك والإفطار. فلو تناول الصائم شيئا من المفطرات متعمدا بعد الفجر أو قبل الغروب ولو بوقت قصير جدا، فإن صومه يكون باطلا.. أضف إلى ذلك مراقبة أوقات الصلاة. مما يربي لدى الصائم ملكة احترام التزاماته العامة والخاصة واحترام الوقت والنظام والقانون الشرعي، ويرشد حركته في الحياة ويضبطها ويسيرها على الصراط المستقيم والنهج القويم ويقودها بسلاسة ولطف. ولو أجاد المسلمون تعلم هذا الدرس من الصيام الذي يجعل من احترام الوقت والنظام والقانون والالتزامات العامة والخاصة للأفراد والجماعات عملا عباديا مقدسا، لتقدموا قطعا على جميع الأمم وتفوقوا عليها في جميع ميادين الحياة.. كما كانوا في أول تاريخهم.
الخاصية الثالثة: أن الصيام هو في الحقيقة عملية مجاهدة ومقاومة ضد الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء والشهوات والملذات التي يتطلبها الجسد ويلح عليها بهدف الاستعلاء عليها والسمو فوقها وضد عوامل الشر في داخل النفس وخارجها لصالح العقل والقلب والروح والخير والحق والعدل في المجتمع. وهذا يؤدي إلى قوة التعقل وبناء الإرادة الصلبة والقوة والصمود والثبات والصبر في المواقف ومواجهة كافة التحديات والعقبات والصعوبات والمزالق: الداخلية والخارجية التي تواجه الإنسان في الحياة حتى ينجح في تحطيمها والانتصار عليها.
أيها الأحبة الأعزاء:
حينما تمور حياة الإنسان بالحركة، ويلفها التحدي والصراع مع الطبيعة وبين الأفراد والقوى على كافة الأصعدة والمستويات، تبرز أمام الإنسان صعوبات وعقبات ومشكلات ومزالق ومغريات كثيرة، يسعى لمواجهتها والتغلب عليها بعفوية حينا، وبوعي وإبداع حينا آخر، لكي يحقق الانتصار عليها ويشق طريقه من بينها إلى المستقبل الزاهر بقوة وثبات، ويبني كيانه الفردي والمجتمعي: المادي والمعنوي بكفاءة عالية وشموخ واستقامة. وهو في جميع الحالات يحتاج إلى القوة والصبر والثبات والصمود والمقاومة والتضحية والفداء لكي يحقق هذا الانتصار.
والصيام هو خير وسيلة لتزويده وإمداده بكل تلك العوامل المعنوية اللازمة لتحقيق الانتصار المطلوب.. وعليه: فإنه لا غرابة أن يفرض الله (تبارك وتعالى) الصيام على هـذه الأمة الوسط المجاهدة في سبيل الله (عز وجل) التي أراد لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله (جل جلاله) وتقود البشرية قاطبة إلى النور والهداية والصراط المستقيم والخير والعدل والرفاهية والصلاح والكمال الفردي والمجتمعي للإنسان: المادي والمعنوي.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).
وقال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: 110).
ومن جهة ثانية: فإن الصائم من خلال الشعور بالجوع والعطش، يدرك حجمه الطبيعي وفقره إلى الله (عز وجل) وينتبه إلى النعم العظيمة والكثيرة التي أنعم الله الكريم بها عليه من خلال الامتناع عنها في فترة الصيام، فيلتفت بوعي وعمق إلى وجودها وقيمتها وحاجته الماسة التي لا غنى له عنها في حياته، ويتفاعل معها على هذا الأساس، فتقوى لديه المعرفة بحقيقة عبوديته لله الأحد الصمد الغني الحميد، ويخبت قلبه، وتصفو نفسه وروحه، ويقوى إيمانه، ويقوى حبه لربه الكريم، ويزيد شكره له، وتضعف لديه نوازع الشر والظلم والعدوان والطغيان، وتقوى لديه نوازع الخير والعدل والإحسان، ويزداد لديه الإحساس بآلام الفقراء والمساكين والمحتاجين، ويزداد لديه الباعث على العطف والشفقة والرحمة في التعامل والتعاطي مع كافة الناس، مما يؤدي به إلى السير في طريق العبودية لله (الواحد القهار) والسمو والرفعة إلى أعلى الدرجات عند الله (ذي الجلال والإكرام) والحصول على المزيد من فيوض الرحمة والبركة والتوفيق في الدنيا والفوز بالجنة والرضوان في الآخرة.
ومن النتائج المهمة لهذه الخاصية: أن سيطرة الإنسان على شهواته ورغائب نفسه، يشعره بالقوة والحرية والرفعة والشموخ، حيث لا يملكه ولا يأسره شيء في هذه الحياة، إلا مالك الملك ورب الأرباب رب العزة والجلال. وهذا مما يزيده قوة على قوته، وشموخا على شموخه، وعزة على عزته، وكرامة على كرامته، ويمنحه المزيد من الحرية وقوة الحركة واستقامتها وقوة الانطلاقة في الحياة.. أما الشخصيات الكبيرة والمهمة: فإنه يمنحها المزيد من التواضع والتجانس مع الناس والاقتراب من همومهم ومشاكلهم ومعاناتهم. حيث يشعرهم الصوم بالعبودية والفقر والحاجة إلى الله (جل جلاله) ويساوي بينهم وبين الآخرين، ويهذب أنفسهم ويروضها، ويكسر نوازع الشر والغرور والاستكبار لديهم، ويشعرهم بحاجات الناس ومعاناتهم، فيتحركوا إلى العطف عليهم والشفة والرحمة بهم ومساعدتهم على حل مشاكلهم، وليس تعقيدها والإضرار بهم كما يفعل الأشرار من أصحاب القوة والسلطة والنفوذ.
ومن النتائج المهمة أيضا لهذه الخاصية: أن الإنسان قد يعرف الحق والخير والعدل والعمل الصالح، ولكن نفسه تضعف عن التمسك بهذه القيم والعمل بمقتضاها، وتميل نفسه بسبب الضعف إلى الباطل والظلم والشر والعمل القبيح، فيأتي الصيام فيقوي إرادته ويصلبها في الاتجاه الصحيح الذي ترتضيه الفطرة والعقل والدين وتقتضيه المصالح الجوهرية للعباد، ويثبته على الصراط المستقيم والمنهج القويم في الحياة، ويبعده عن طريق الضلال والشر والظلم والعدوان والطغيان.
وقد بين لنا القرآن الكريم أن الصبر هو الطريق إلى محاسن الأخلاق والحصول على الدرجات الروحية والمقامات المعنوية الكبيرة.
قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 34 ـ 35) فهذه الآيات تبين لنا أن الصبر هو الطريق إلى تهذيب النفس وكمال الأخلاق.
وقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُـمْ أَئِمّـَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَـا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) وهذه الآية تبين لنا أن الصبر هو الطريق إلى الدرجات الرفيعة والمقامات المعنوية العالية كالإمامة والقيادة الشرعية.
حقائق ودروس
أيها الأحبة الأعزاء:
مما سبق نتوصل إلى حقائق مهمة عديدة تتعلق بالصيام.. منها:
الحقيقة الأولى: أن الصائم بثورته على الهوى والشهوات والنفس الأمارة بالسوء وعلى جاذبية الأرض وزينتها وزخارفها وعلى الشيطان وعالم المادة والقيم الهابطة الدنيئة، لصالح العقل والقلب والوحي والتطلع لعالم الروح والقدس والطهارة ولصالح الحرية الإنسانية الحقيقة والقيم السامية والرفيعة في الحياة، فإنه يتشبه بالملائكة ويفضل عليهم، لأن الملائكة عقول بلا غريزة، أما الإنسان فهو عقل وغريزة، وقد انتصر بإرادته لعقله على غريزته، فهو في هذا أفضل من الملائكة بالتأكيد. وهذا لا يعني ترك الإنسان لحاجات الجسد وإهمالها، وإنما إشباعها بطرق شرعية مع الاعتدال: أي بدون إفراط أو تفريط.
الحقيقة الثانية: أن الصيام يؤكد على أن جوهر الإنسان وقيمته في الروح وتحقيق مطالبها وليس في الجسد وتحقيق مطالبه. لأن الجسد من تراب، ويدفن في التراب، ويتحلل ويعود إلى أصله وهو التراب. والإنسان لا يختلف في هذا عن أية حشرة أو نبتة أو حيوان في الأرض. أما الروح فهي تسمو إلى الملكوت الأعلى في حالة تزكيتها وتستقر في مقعد صدق عند مليك مقتدر بالعلم والإيمان والعمل الصالح، أو تنسلخ من إنسانتها وتفقد كرامتها وتهبط إلى أسفل الجحيم، إذا أفسد الإنسان فطرة النفس واتبع الهوى والشيطان.. فالصوم أيها الأحبة الأعزاء: يهذب النفس ويسمو بالروح ويعلو بالهمة، ويتعلم الإنسان منه أنه خلق لغاية سامية وهدف كبير، وهو عبادة الله (تبارك وتعالى) وتقواه، ويسلك به هذا الطريق بقوة ونشاط، بحيث يصل وهو الذي خلق من التراب ومن نطفة حقيرة إلى درجة عالية في كماله الروحي والمعنوي، ويصير في مقعد صدق عند ملك الملوك بما هو عليه من الكمال المطلق في الجنة.
كما نخلص من الصيام إلى الكثير من الدروس المهمة.. منها:
الدرس الأول: أن الصيام يعلمنا مقاومة عوامل الشر في داخل أنفسنا وفي خارجها. فكما يعلمنا الصيام مقاومة الهوى والنفس الأمارة بالسوء والشهوات المحرمة ويؤدي إلى تطهير النفس وتزكيتها، فإنه يعلمنا مقاومة الظلم والطغيان والاستبداد والاستكبار والتخلف والفساد في المجتمع، ويؤدي إلى امتلاك المجتمع لإرادة التوجه نحو الحق والخير والعدل والتقدم والجمال والعمل الصالح، وتعاون أبنائه بهدف تنميته وتطويره وتطهيره من الجريمة والأحقاد، لينعم بالرحمة والرضوان في ظل طاعة أبنائه لله الواحد القهار.
والخلاصة: من يرضى بالدنية، ويقبل بالأمر الواقع، ويستسلم للظلم والطغيان والتخلف والاستبداد والاستكبار والفساد في المجتمع والدولة، فهو لم يتعلم حكمة الصيام، ولم يصل إلى غايته.
الدرس الثاني: أن الصائم يتعلم من الصيام الاعتدال في إشباع حاجاته المادية. فهو لا يفرط في الطعام والشراب والنكاح وغيرها من رغبات النفس والملذات الحلال بعد الإفطار في شهر رمضان أو بعد انقضاء شهر رمضان المبارك. ومن يفرط في إشباع حاجته المادية بعد الإفطار في شهر رمضان أو بعد انقضاء شهر رمضان المبارك، فهو لم يتعلم الحكمة الربانية من الصيام، ولم يصل إلى غايته. وأن تعلم هذا الدرس من الصيام والعمل بمقتضاه، من شأنه خلق التوازن والاعتدال في شخصية الصائم.
الدرس الثالث: أن الصائم لا يمتنع فقط عن الطعام والشراب والنكاح وسائر المفطرات الشرعية، وإنما يمتنع عن كل قبيح يحكم العقل والشرع بقبحه.. مثل: الغيبة والنميمة والكذب والبهتان والفحش وقول الزور وإيذاء الخلق والسرقة والنظر بشهوة إلى ما حرم الله (تبارك وتعالى) عليه، وأن يتوجه للعمل الصالح كالصدقة والدعاء وتلاوة القرآن وإسداء المعروف إلى الناس. فينبغي على الصائم ـ أيها الأحبة الأعزاء ـ أن يجعل صيامهم طهارة للنفس والجوارح، وان يضع التدابير اللازمة لتهذيب النفس وتزكيتها والارتقاء بها إلى عالم الملكوت الأعلى. ولهذا جاء في الحديث عن الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه “.
الدرس الرابع: أن الصيام كما يحرر الإنسان من عبودية الهوى والنفس الأمارة بالسوء والشيطان، فكذلك يحرره من عبودية الطواغيت والمستكبرين والمستبدين والظالمين والمفسدين في الأرض. وكما أن الصائم ينتصر بصيامه لحكومة العقل والقلب في داخل وجوده على حساب الهوى والنفس الأمارة بالسوء، فإنه يجب أن ينتصر لحكومة أئمة الهدى (الأنبياء والأوصياء والفقهاء العدول) في المجتمع على حساب حكومة الطواغيت والمستكبرين والمستبدين والظالمين والمفسدين في الأرض، ويخلص لأهدافها في الحياة.. مثل: إقامة القسط والعدل بين الناس، وتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع والدولة، وتحقيق التقدم والرخاء والازدهار لكافة المواطنين.. ومن لم يفعل: فإنه لم يتعلم حكمة الصوم، ولم يصل إلى غايته.
وفي الختام: أرغب في التنبيه إلى أن الصيام يمثل موسما روحيا كثير الخصوبة. ومن خلال تتبع أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) حول هذا الشهر المعظم وأدعيتهم فيه، أجد أنهم (عليهم السلام) يسعون لتوظيف هذا الشهر لترسيخ بعض الأمور المهمة في حياة المؤمنين وتفكيرهم واهتماماتهم.. أذكر منها:
الأمر الأولى: توثيق الارتباط بولي الله الأعظم الحجة بن الحسن العسكري (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) والتذكير بدولته: دولة العدل الإلهي العالمية. وهذا يتطلب أن يتمسك الإنسان المؤمن قولا وعملا بخط الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وبالبراءة من أعدائه المجرمين، وأن يتمسك بقيم دولته ومبادئها، ومناهضة القيم والمبادئ المضادة لها، وأن يكون سلوكه في الحياة متوجها لإقامتها وخدمتها على كافة الأصعدة والمستويات.
الأمر الثاني: توثيق الارتباط بأهل البيت (عليهم السلام) والدعوة للتمسك بولايتهم وبخطهم في الحياة وبالقرآن الكريم وليلة القدر والإكثار من الدعاء ولفت الانتباه إلى أهمية الحج والحرص على التوفيق إليه في جميع الأعوام ولفت الانتباه إلى القيمة الدينية والإنسانية العالية جدا للجهاد والشهادة في سبيل الله (عز وجل) وبالجملة: تعميق الشعور بالعبودية المطلقة لله الواحد الأحد الصمد في أبعادها العقلية والإرادية والنفسية والالتزام العملي في التعبير عنها في كافة مناحي السلوك والمواقف الخاصة والعامة في الحياة.
الأمر الثالث: التنبيه إلى أهمية الأخلاق الكريمة والحث عليها وعلى السعي في قضاء حوائج المؤمنين ومساعدة الفقراء وأصحاب الحاجات وعلى صلة الرحم والتحنن على الأيتام.
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم وأسأله قبول أعمالنا
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته