السلام عليكم أيها الأحبة..
أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خيرا لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} (البقرة: 183 – 185)
أيها الأحبة الأعزاء:
الصيام واحدة من أهم العبادات الرئيسية الواجبة في الإسلام، وقد شرع الله تعالى الصيام وأوجبه على المسلمين في السنة الثانية للهجرة الشريفة.. كما فرضه على أمم الأنبياء السابقين، مما يدل على أن الصيام – كسائر العبادات الواجبة في الإسلام – حاجة ضرورية للإنسان.. لا يمكن أن تستقيم حياته وتنمو وتتطور وتتحقق الغاية من وجوده بدونها.
وقد خص الله تعالى شهر رمضان المبارك لأداء هذه الفريضة العبادية المقدسة العظيمة، وخص فيه عباده بمزيد من الرحمة والمغفرة والكرامة، وسوف أذكر بعد قليل بعض خصائص هذا الشهر الكريم.. وبعض ما يمتاز به على سائر الشهور.
تعريف الصيام
أولا: تعريف الصيام لغة: هو إمساك النفس وكفها عن الأكل أو الشرب أو المشي أو الكلام.. أو عن أي فعل إرادي آخر.
ثانيا: تعريف الصيام شرعا: هو إمساك النفس وكفها عن أشياء مخصوصة (المفطرات) من طلوع الفجر إلى غروب الشمس استجابة لأمر الله تعالى.. بنية القربى إليه.
وحسب هذا التعريف:
فإن الصيام مظهر من مظاهر العبودية والطاعة لله تعالى.. لأن الصائم إنما يصوم استجابة لأمر الله تعالى ومن أجل نيل رضاه.
الغاية من الصيام
لقد صرح القرآن الكريم بأن الغاية من الصيام هو التقوى، قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 183).
وينقسم التقوى إلى قسمين:
القسم الأول: التقوى السابقة على الهداية:
قول الله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة: 2).
فالذين يتبعون الأنبياء ويستفيدون من الكتاب.. هم الأتقياء، فهناك حاجة للتقوى السابقة على الهداية لكي يستجيب الإنسان لدعوات الأنبياء ويستفيد من الكتاب السماوية.
فالتقوى – أيها الأحبة – حالة من الرقابة الداخلية التي تدل على صفاء الفطرة ونقائها وتتحرك في أجواء شعور الإنسان بالمسؤولية الهادفة في الحياة، وتفرض عليه طلب الحق والعدل والخير والسعادة الأبدية، وتمنعه من إتباع الهوى والخضوع للشهوات والظلم والفساد وكل أشكال الانحراف.. وتدعوه إلى رفضه ومقاومته بكل أشكاله في الحياة.
وفي مقابل التقوى السابقة يوجد الختم على القلب، قول الله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} (البقرة: 6 – 7).
أيها الأحبة الأعزاء:
إن الذين ختم الله على قلوبهم، لا يستفيدون من رسالات الأنبياء.. وكتبهم، ولا تنفع معهم حجة ولا برهان ولا معجزة. فما هو ظنكم بمن يرى الناقة تخرج من الجبل.. ولا يتعظ، ويرى العصا تلقف ما يأفكون من السحر.. ولا يتعظ، ويرى البحر ينشق لموسى.. ولا يتعظ، ويرى القرآن يتلى بين يديه.. ولا يتعظ، بل يستكبرون ويصرون على مواجهة الحق ومحاربته بكل وسيلة ممكنة.
لقد صور الله لنا عناد هؤلاء للحق بقوله تعالى عنهم: {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين. ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} (الحجر: 11 – 15).
القسم الثاني – التقوى اللاحقة للهداية:
قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 183).
أقسام الصيام
وفي سبيل تسليط الضوء أكثر على موضوع التقوى وصلته بالصيام، أذكر أقسام الصيام، ثم أوضح صلته بالتقوى بإضافات جديدة إن شاء الله تعالى.
ينقسم الصيام بوجه عام إلى قسمين رئيسيين – حسب تسمية بعض العلماء الإجلاء.. وهما:
القسم الأول: الصيام الصغير:
وهو الصيام الذي يمتنع فيه الصائم عن الأكل والشرب والنكاح وسائر المفطرات المذكورة في كتب الفقه.. ولكنه لا يراعي الآداب المعنوية للصوم، وهو المقصود من الحديث: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش“.
القسم الثاني: الصيام الكبير:
وهو الصيام الذي يمتنع فيه الصائم عن المفطرات المذكورة في كتب الفقه، وفي نفس الوقت يراعي الآداب المعنوية للصيام بالانتهاء عن كافة المحرمات، ومنها: الغيبة والنميمة والكذب والحسد والتكبر والظلم والعدوان على الآخرين، والالتزام بكافة الواجبات والحرص على المستحبات، ومنها: الصدقة وإسداء المعروف للآخرين والتعاون معهم والدعاء والذكر والاستغفار والتضرع وتلاوة القرآن الكريم.. وغيرها، وسوف أذكر المزيد منها في الحديث عن آداب الصيام.
قال الإمام الصادق عليه السلام: “إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحدهما فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب وغضوا أبصاركم عما حرم الله ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تحالفوا ولا تسابوا ولا تشاتموا ولا تظلموا ولا تسافهوا ولا تضاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة والزموا الصمت والسكوت والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر واجتنبوا قول الزور والكذب والفرى والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة وكونوا منتظرين لأيامكم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم منتظرين لما وعدكم الله متزودين للقاء الله وعليكم السكينة والوقار والخشوع والخضوع وذل العبيد الخيف من مولاهم خائفين راجين، ولتكن أنت أيها الصائم قد طهر قلبك من العيوب وتقدست سريرتك من الخبث ونظف جسمك من القاذورات وتبرأت إلى الله ممن عداه وأخلصت الولاية له وصمت مما قد نهاك الله عنه في السر والعلانية وخشيت الله حق خشيته في سرك وعلانيتك ووهبت نفسك لله في أيام صومك وفرغت قلبك له ونصبت نفسك له فيما أمرك ودعاك إليه، فإذا فعلت ذلك كله فأنت صائم لله بحقيقة صومه، صانع له ما أمرك، وكلما أنقصت منها شيئا فيما بينت لك فقد نقص من صومك بمقدار ذلك” (مفاتيح الجنان. ص 248).
علاقة قسمي الصيام بالتقوى:
فإذا جئنا نبحث عن علاقة قسمي الصيام بالتقوى نجد التالي:
أولا: أن التقوى السابقة توفر الحرص على الصيام من الفساد، وتدفع الصائم لمراعاة الآداب المعنوية للصيام.. والظفر بالصيام الكبير.
ثانيا: أن الصيام الكبير يعطي المزيد من التقوى والقرب الربوبي والزلفى لدى الله تعالى، والوصول إلى الغايات الكبيرة التي تتطلع إليها أرواح الأتقياء في الحياة.
والخلاصة: أن جوهر الصيام يتمثل في العناصر التالية:
العنصر الأول: الخضوع لأمر الله تعالى ونهيه، وأمر العقل ونهيه، وفرض سلطتهما بواسطة الإرادة الحرة الواعية على شهوات النفس وانفعالاتها، وعلى سلوك الأفراد.
العنصر الثاني: تلطيف روح الإنسان وتقوية إرادته وتعديل غرائزه والارتقاء به في سلم الكمال الإنساني والقرب الربوبي.
العنصر الثالث: تقوية إرادة التحدي والمقاومة لعوامل الشر والظلم والفساد وكل أشكال الانحراف في المجتمع.. والصمود في وجهها حتى الانتصار عليها.
العنصر الرابع: تقوية عوامل العطاء والخير في داخل النفس.. وخارجها.
العنصر الخامس: تأكيد الحضور الايجابي الفاعل للمؤمنين الأتقياء في ساحات الحياة.. في كل المجالات وعلى كافة الأصعدة.
خصائص شهر رمضان
أيها الأحبة الأعزاء: هذا موضوع مهم جدا ينبغي أن نقف عنده ونحن نستقبل شهر رمضان المبارك العظيم، وسوف أكتفي فيه بذكر بعض ما جاء في خطبة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في المسلمين قبل شهر رمضان المبارك، وهي الخطبة التي يجدر بكل مسلم أن يطلع عليها قبل شهر رمضان.. من كل عام، وهي موجودة في كتب الأدعية.. مثل: ضياء الصالحين ومفاتيح الجنان والمنتخب الحسيني، لأنها تمثل دليلا مرشدا للمسلمين في التعاطي مع هذا الشهر العظيم المبارك.
أيها الأحبة الأعزاء:
من أهم خصائص شهر رمضان المبارك الخصائص التالية:
الخاصية الأولى: شهر ضيافة الله تعالى لعباده لينيلهم من كرامته، فهو شهر الرحمة والبركة والمغفرة والكرامة.. والعتق من النار.
الخاصية الثانية: شهر العبادة والطهارة والصفاء والنور.
الخاصية الثالثة: شهر الصبر والثبات والصمود والمقاومة.
الخاصية الرابعة: أفضل الشهور عند الله تعالى وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات.. وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
الخاصية الخامسة: نزول القرآن
وجاء في الأحاديث: أن التوراة والإنجيل والزبور.. جميعها نزل في شهر رمضان المبارك المعظم، وهذا يدل على أن شهر رمضان شهر تربية وتعليم، وأن التربية والتعليم لا يستغني أحدهما عن الآخر، وأن المنهج الإسلامي يزاوج بينهما دائما.. من أجل البناء الروحي والعملي للأفراد والمجتمعات على الصورة التي يرضاها الله تعالى.
الخاصية السادسة: كثرة نزول الملائكة.
الخاصية السابعة: قبول العمل واستجابة الدعاء بأيسر الشروط.
الخاصية الثامنة: أبواب الجنان فيه مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، والشياطين مغلولة.
الخاصية التاسعة: يضاعف فيه الثواب للمؤمنين.
من خصائص عبادة الصيام
الخاصية الأولى: إذابة الحرام من جسم المؤمن الصائم.. وغفران ذنوبه وقبول عمله واستجابة دعائه.
الخاصية الثانية: أنفاس الصائم تسبيح ونومه عبادة وخلوف فمه عند الله أطيب من ريح المسك.
الخاصية الثالثة: يلطف روح الإنسان، ويقوي إرادته، ويهذب غرائزه، ويرفعه من عالم البهيمية إلى عالم الروحانية، ويبعث في نفسه وعقله وقلبه الصفاء والنور، والأنس والسرور.
الخاصية الرابعة: الصائم قريب من الله تعالى، ساكن في حضرة القدس الإلهي.
الخاصية الخامسة: الصوم يسود وجه الشيطان ويبعده عن الصائم تباعد المشرق عن المغرب.
الخاصية السادسة: أن الله تعالى وكل بعض ملائكة بالدعاء للصائمين.
الخاصية السابعة: تربية الإخلاص والصدق في العبادة.
الخاصية الثامنة: التخفيف من شدائد الدنيا، ومن سكرات الموت، والأمن من الفزع الأكبر في يوم القيامة.
الخاصية التاسعة: الأمن من الجوع والعطش والبراءة من النار..
الخاصية العاشرة: أن الله تعالى يطعمه من طيبات الجنة.
الخاصية الحادية عشر: أن ثوابه العظيم لا يعلمه إلا الله تعالى.
الخاصية الثاني عشر: تحسيس المسلمين بآدميتهم وبالمساواة بينهم، وخلق الأجواء التي يشعر من خلالها المؤمنون بمعاناة بعضهم البعض الآخر.
آداب الصيام في شهر رمضان
أولا: الاستعداد والتهيؤ النفسي والروحي لشهر رمضان قبل قدومه بالصيام المستحب في رجب وشعبان، وبالاستغفار والتضرع وتجديد التوبة إلى الله تعالى.
ثانيا: إظهار الولاية لله تعالى وللرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل البيت عليهم السلام.. والبراءة من أعدائهم.
ثالثا: حسن الظن بالله تعالى.
رابعا: الانصراف عن التلهي باللذائذ الجسدية، والتشوق إلى اللذائذ الروحية والنعم العليا.. والإقبال الكامل على الله تعالى.
خامسا: تذكر جوع وعطش يوم القيامة.
سادسا: الإكثار من ذكر الموت، وتصور مشاهد يوم القيامة.. والتذلل لله تعالى.
سابعا: الحرص على طهارة النفس والسريرة من العيوب.
ثامنا: أداء حقوق الناس وكف الأذى عنهم.
تاسعا: الانتظار لظهور القائم المهدي (عجل).
عاشرا: السعي لإقامة الحق والعدل بين الناس، والاستعداد للتضحية والشهادة في سبيل الله تعالى.
الحادي عشر: توقير الكبار في السن والرحمة بالصغار وصلة الأرحام ومجانبة أهل الشر.
الثاني عشر: الإكثار من الدعاء والاستغفار والصلاة على النبي محمد وآله وتلاوة القرآن الكريم والاجتهاد في العبادة.
الثالث عشر: تفطير الصائمين ولو بشق تمرة، ولو بقطرة ماء.. لمن لا يملك شيئا.
الرابع عشر: حفظ اللسان وغض السمع والبصر عما حرم الله تعالى.
الخامس عشر: تهذيب الأخلاق والاهتمام بحسن الهيئة ونظافة الجسم.
السادس عشر: كف الشر عن الآخرين والتخفيف على من تحت أيدينا من العبيد والخدم والعمال والموظفين والأهل والعيال.. وغيرهم.
السابع عشر: الإكثار من الصدقة وأفعال البر والإحسان إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين.. وعدم رد السائل.
الثامن عشر: التحنن على الأيتام.
آثار الصيام في الفرد والمجتمع
وهنا أنتقل إلى موضوع آخر ذو أهمية كبيرة، وهو آثار الصيام على الفرد والمجتمع.
أيها الأحبة الأعزاء:
إن للصيام آثار كبيرة وعميقة على الأفراد والمجتمع.. وهي آثار متنوعة: روحية وأخلاقية وصحية وعملية، ومن أهم الآثار التي يتركها الصيام: تربية الأفراد والمجتمع على الصمود أمام قوى الشر، ومقاومتها بكل أشكال المقاومة المشروعة، حتى الانتصار عليها.
وقد شهد شهر رمضان المبارك في عهد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم غزوتين رئيسيتين، وهما:
الغزوة الأولى: معركة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة الشريفة.. أي في أول شهر رمضان يصومه المسلمون.
الغزوة الثانية: فتح مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة الشريفة.
بالإضافة إلى ست غزوات صغيرة.
ولأن شهر رمضان المبارك هو شهر الصبر والصمود والثبات والتحدي والكرامة والإرادة الواعية.. والارتقاء في سلم الإنسانية الكاملة، فقد أعلن الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك يوما عالميا للقدس الشريف، بهدف تعبئة الجماهير ورفع معنوياتهم باتجاه تحرير القدس الشريف، واسترداد المكانة المعنوية العالية للمسلمين، واسترداد الدور الرسالي التاريخي لهم في الحياة.
أيها الأحبة الأعزاء:
إن الأمة الصائمة الواعية بصيامها وسائر عباداتها، هي أمة راقية عزيزة.. لا يمكن أن تذل أو تقهر، والمطلوب منا – أيها الأحبة – دائما: أن نسعى لتجسيد هذه الحقائق العبادية العظيمة في مجتمعاتنا، لا سيما في هذا الزمن الرديء الذي تسعى فيه قوى الاستكبار العالمي والحكومات العميلة والتيارات المرجفة في الأرض، لإطفاء جذوة الأمل والجهاد والمقاومة في قلوب المؤمنين، وقد استسلمت الشعوب الإسلامية لهذا الحال السيىء، ولم تبدي مقاومة حقيقية فعالة كما تتطلبه الفطرة، ويحكم به العقل، ويفرضه الدين الإسلامي الحنيف، فظهرت الأمة الإسلامية على إنها: أمة ضعيفة متخلفة ذليلة مهانة لا مكان لها تحت الشمس.. بين دول العالم الكبرى والأمم المتحضرة، مما يترك آثارا سلبية عميقة في فكر ووجدان وسلوك أبناء المسلمين.. يفرض علينا معالجتها من خلال الصيام في هذا الشهر المبارك العظيم.
إن علينا – أيها الأحبة – أن نربى أنفسنا على أضواء مفاهيم العقيدة وأحكام الشريعة المقدسة وآداب العبادات الشرعية.. ونجسدها في مجتمعاتنا، لكي نفاجيء العالم من جديد، بولادة الأمة الإسلامية القوية العزيزة الصامدة الراقية.. التي لا تذل ولا تقهر.
مكانة الصمود في بناء الأفراد والمجتمعات
أيها الأحبة الأعزاء:
إن حالة الصمود تمثل شرطا أساسيا لصيانة كرامة الإنسان والارتقاء بالفرد والمجتمع في سلم التمدن والكمال. إذ من المستحيل أن ترى لأي فرد أو لأي مجتمع أي إنجاز كبير ذو قيمة جوهرية.. بدون أن يتوفر على حالة الصبر والصمود.
فالبديل – أيها الأحبة – عن الصبر والصمود للفرد والمجتمع.. هو: الذل والضعف والتخلف.
وهنا تجب الإشارة إلى الملاحظتين التاليتين:
الملاحظة الأولى: أن قيمة الصمود ترتبط بالأهداف والمنهج الذي يسير عليه الفرد والمجتمع. فإذا لم تكن هناك أهداف واقعية ورؤية صحيحة وطريق مستقيم في الحياة.. فإن الصمود يفقد قيمته، ويتحول إلى حالة من العناد الأعمى البائس.
الملاحظة الثانية: أن الصمود قد يتخذ شكل الإعراض والصمت إذا كانت الرؤية والأهداف تتطلبان ذلك.. وليس التخلي عن المسؤولية. وفي هذه الحالة تكون المخالفة ضعف أمام المغريات أو الضغوطات، وتكون خلاف مقتضى الحكمة والمسؤولية والمصلحة التي ينأ المؤمن بنفسه عن مخالفتها.
ونخلص من هذه الفقرة إلى النتيجة التالية: أن المطلوب هو الصمود الواعي على خط العمل الجاد لبناء الفرد والمجتمع على أضواء الرؤية الصحيحة، والأهداف الواقعية، والطريق المستقيم في الحياة، وهي أمور يجب تحصيلها والاطمئنان إليها قبل أي شيء آخر، ولتكن انطلاقتنا من شهر رمضان المعظم.. وآداب الصيام فيه، لتصنع هذه الأمة بعين الله تعالى كما أراد هو لها ذلك.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “بني الإيمان على أربع دعائم: اليقين والصبر والجهاد والعدل” (صدق أمير المؤمنين)
ولمزيد من الفائدة أعدد بعض الآثار الايجابية للصيام على الفرد والمجتمع:
أولا: من آثار الصيام على الأفراد:
الأثر الأول: الحصول على فرح الاستجابة لأمر الله تعالى ونهيه وبسط سيطرة العقل على مملكة وجود الإنسان.
الأثر الثاني: الحصول على لذة السمو الروحي في سلم الكمال الإنساني والقرب من الله تعالى.. والزلفى لديه، وفيه دلالة على أن الاسترسال في الشهوات يقطع الطريق على الإنسان لله تعالى.
الأثر الثالث: الشعور بالاطمئنان القلبي والراحة النفسية.. ورضا حضرة القدس.
الأثر الرابع: الإحساس بالنعم الإلهية العظيمة على الإنسان.
الأثر الخامس: تنمية الإرادة الحرة الواعية لدى الإنسان، وكسر جمود العادة لديه، وتعويده على أن يضع لنفسه برامج عملية مفيدة لدنياه وآخرته.
الأثر السادس: كسر نوازع الغرور والتكبر والشهوة في النفس وإحكام السيطرة عليها وحسن إدارتها بواسطة الإرادة الحرة الواعية، على أضواء أحكام العقل المحكمة، ومفاهيم العقيدة النورانية، والأحكام الشرعية المقدسة، وآداب العبادات.. وتوجيه النفس الوجهة الصحيحة في الحياة.
الأثر السابع: التمسك بالقيم المعنوية وتفضيلها على القيم المادية.
الأثر الثامن: الإحساس بالآخرين وآلامهم وآمالهم والتعاطف معهم على أساس الأخوة الإنسانية والوجدان المشترك.
ثانيا: من آثار الصيام على المجتمع:
الأثر الأول: ترسيخ المنهج الرباني والتعاليم الإلهية في الحياة.. والاستقامة عليها.
الأثر الثاني: تركيز وحدة الصف المؤمن حول القيادة الربانية الشرعية،
والبراءة من أعداء الدين والإنسانية والحكام المستبدين والطواغيت وقوى الاستكبار العالمي: كل ذلك من خلال الوعي بحقيقة وواقع ليلة القدر العظيمة وإيحاءاتها.
الأثر الثالث: خلق أجواء اليقظة الروحية والطهارة من الذنوب والجرائم والأحقاد والخصومات.
الأثر الرابع: تركيز المنهج الجهادي المقاوم في المجتمع.
الأثر الخامس: توفر إرادة الخير والعمل الصالح ومقاومة عوامل الشر والفساد في المجتمع.. مما يؤدي إلى صلاحه وقوته ورقيه.
الأثر السادس: التحسيس الشعوري العيني بمعاناة أبناء المجتمع وآلامهم.
الأثر السابع: خلق أجواء التعاون والتراحم والتواصل بين أبناء المجتمع الواحد.
النتائج التي نخلص إليها من البحث السابق:
النتيجة الأولى: أن التشريع الإسلامي قد جعل العبادات ذات تأثير كبير في تربية الأفراد وتحريكهم في أجواء الخير والعطاء والعدل والمواجهة ضد الظلم والتخلف والفساد والشر، والدفاع عن حقوق الإنسان وقيمه الجوهرية الكبيرة في الحياة.. ولم يجعلها طقوس جامدة في أجواء العزلة والانزواء.
النتيجة الثانية: أن الصيام كعبادة.. يمثل: مدرسة روحية لتربية النفس والمجتمع وإعدادهما إعدادا إسلاميا متكاملا.. من أجل الوصول إلى الغايات الكبيرة في الحياة.
وهنا ينبغي الانتباه والتأكيد على الدور الرئيسي الذي يلعبه الإخلاص في النية لنيل ذلك المطلب المقدس العظيم في العبادات.
النتيجة الثالثة: أن التقوى تمثل أساس الانطلاق الإسلامي للإنسان في الحياة، وأنها تمثل حاجة مستمرة للإنسان قبل الهداية.. وبعدها، من أجل تحصيل الاستقامة والهداية الكاملة وأقصى درجات القرب من الله تعالى، وتحقيق الأهداف العملية الجوهرية الكبيرة في الحياة.
النتيجة الرابعة: التقوى تمثل حالة مقاومة شاملة لعوامل الضعف والانحراف في داخل النفس.. مثل: الهوى والغضب والشهوات، وعوامل الضعف والانحراف في خارجها.. مثل: الظلم والفساد.. وكل أشكال الاستكبار.
وبالتالي فالتقوى: حالة دالة على الحضور الايجابي الفاعل للمؤمنين في ساحات الصراع بين الحق والباطل.. في كل المجالات وعلى كافة الأصعدة، وأنها بريئة من الرهبانية الزائفة والانزواء والعزلة والتخلي عن المسؤولية في شؤون الحياة العامة.. كما يحاول بعض الضعفاء والمغرضون تصويره.
والدليل على هذه الشمولية والعمق للتقوى، أننا وجدنا القرآن الكريم قد استخدم لفظ التقوى في تناول مجالات عديدة في الحياة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا – أحكام العقوبات (البقرة: 179).
ثانيا – الدين (البقرة: 282).
ثالثا – الأمانة (البقرة: 283).
رابعا – التوحيد (المؤمنون: 23).
خامسا – لزكاة (الأعراف: 156).
سادسا – الحياة الزوجية (الأحزاب: 37).
ثامنا – المعاملات التجارية (البقرة: 278).
تاسعا – الصلاة (الأنعام: 72).
عاشرا – الصيام (البقرة: 183).
النتيجة الخامسة: إن الإسلام يسعى لتغيير الإنسان الفرد والمجتمع من خلال مفاهيم العقيدة، وآداب العبادات، وأن المنطلق إلى تغيير المجتمع هو تغيير النفس البشرية أولا. فحين تتغير النفس البشرية وتصلح وتتكامل وتتصرف بمسؤولية في الحياة وتقيم علاقات صحيحة مع الآخرين – على ضوء مفاهيم العقيدة، وآداب العبادات – فإن المجتمع يتغير ويصلح ويتكامل استنادا إلى ذلك.. وهذه حقيقة قرآنية مؤكدة.
قال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11)
وننتهي من البحث إلى الخلاصة التالية، وهي: أن شهر رمضان المبارك، هو شهر الحياة المعنوية والعبادة والطهارة والتزكية والصبر والصمود والثبات ومقاومة قوى الشر والضعف والفساد والانحراف في داخل النفس وخارجها والارتقاء في سلم الكمال والتقدم والتمدن والتحضر والقوة والعزة والكرامة، وليس هو شهر الانزواء كما يحاول بعض الضعفاء والمغرضين تصويره، أو شهر الخمول والكسل كما يفعل الكثير من الناس الذين ينامون النهار ويسهرون الليل من أجل تناول أطيب الطعام والشراب، أو شهر اللهو واللعب كما يفعل الضالون الذين يحيون شهر العبادة والحياة المعنوية والطهارة والتزكية بالغناء والرقص وسائر صنوف اللهو الحرام – نعوذ بالله المنتقم العزيز الجبار من ذلك.
الخاتمة
وفي ختام الحديث وبناء على رغبة الأخوة الأعزاء أوصي إخواني المؤمنين بالوصايا التالية:
الوصية الأولى:
التحلي بالمسؤولية في التعاطي مع الحياة، وأن لا ينسوا المصير الذي لا محيص عنه.. وهو: أنهم ميتون ومبعوثون ومحاسبون، فإما إلى الجنة أو إلى النار، وليعلموا بأن الزمن الذي يفصل بينهم وبين القيامة لا يكاد يذكر في حساب الفكر والشعور لدى الإنسان، فعمر الإنسان قصير.. قصير.. مهما طال، وأنه عند وفاته يشعر وكأن عمره طرفة عين، وبعد الموت: إما يدخل في العذاب أو النعيم أو أنه لا يشعر إلا وقد قامة القيام وكأنه نام ليلا.. ثم استيقظ في الصباح!!
الوصية الثانية:
أذكرهم بأن التعاطي المسؤول مع الحياة.. يفرض عليهم المراقبة ومراعاة حقوق وآداب الأزمنة والأمكنة والشعائر، وليعلموا أنها إنما وضعت رحمة من الله تعالى بالإنسان.. وأنها معالم توصل إليه، فلا يبخسوها حقها.. ولا يضيعوا على أنفسهم الفرص الذهبية المتاحة لهم فيها.
الوصية الثالثة:
السعي الحثيث للتعرف على حكم وأسرار العبادات.. والتعاطي معها بجدية وحيوية، لكي تتاح لهم الفرصة بصورة أفضل للاستفادة المثلى منها.
الوصية الرابعة:
الحرص على الفوز بالصيام الكبير، وأحذرهم ونفسي من التساهل في التعاطي مع الصيام، حتى لا يكون نصيبنا منه الجوع والعطش – نعوذ بالله تعالى من ذلك.
الوصية الخامسة:
الحرص بجدية تامة على تعلم دروس الصيام والاستفادة العملية منها وتجسيد حقائقها في الحياة، وأن يكون زادنا من شهر رمضان المبارك كافيا لنا (وزيادة) لمدة عام كامل نخوض فيه غمار الصراع ضد قوى الشر والظلم والفساد والانحراف في داخل أنفسنا وخارجها.. وننتصر عليها.
الوصية السادسة:
الحرص التام الكامل على الفوز بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وليكن أهم الدروس التي نتعلمها منها: التمسك بالتعاليم والمنهج الرباني في الحياة، والتعلق بولي الله الأعظم الحجة بن الحسن العسكري (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) والوفاء التام الكامل له عليه السلام، وأن نكون مستعدين لأن نفديه بأرواحنا وأبنائنا وأن لا نبقي لأنفسنا شيئا دونه.
أكتفي بهذا المقدار
وأستغفر الله الكريم لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته