انطلق بسيارته يسابق الريح، وهو يشق طريقه، بعد أن خلف قريته وراءه بأنوارها الخافتة، وبيوتها المتواضعة، كان الليل في منتصفه والأفق سواد حالك تخترقه أنوار سيارته، بعد إلى الخلاء، وقارب الشاطئ، فانحرف إليه في هدوء. واصل المسير حيث رمال الشاطئ، أوقف سيارته والأفكار المتباينة تتجاذبه، عصف به الوجوم لشدة تكالب الأفكار وزحفها، وهو في داخل سيارته كما السقيم المتهالك أحاطت به العزلة والانفراد الموحشين، وأرهبه الهدوء والسكينة إلا من موجات البحر المتلاطمة الهوجاء الصارخة في خرس، المعبرة عن قوة
العصف في أعماقه، تحامل على نفسه ليخرج من سيارته في هذا الموقف العصيب، دفع بالباب إلى الخارج وهو في تثاقل مشبوب بتهيؤات وخيالات الأوهام والهموم التي اختلجت في نفسه، واعتملت في خاطره، وتطايرت أمامه كأسراب الطيور الجوارح، علا بطرفه إلى السماء ليخفف من وطأة الوجود فرآها قاتمة هي الأخرى إلا من نجوم باهتة في إشعاعها، تجرأ يخاطب نفسه عندما أحس بالأمان بل بالوحدة في هذا الجو الرهيب وهو يقول في تأوه: آه، آه.. إنه لخيار صعب ذلك الذي يخلق الغبن، ويبدي الامتعاض، ويبرز الجرح الكامن في لواهبك المحمومة في كنهها، في أوغال الأنا، بل إنه ينكث الجرح العميق.
النفس: ما الذي حدا بك إلى ذلك؟
الإنسان: لا أدري، ولكنني على يقين بأني لست مستقرا على حال، فالماضي، والحاضر والمستقبل، صور ماثلة أمامي في معترك ضار.
النفس: ما أصعبها من خطوة. خطوة التأرجح والتردد والخيار نحو فتح الثقوب. وتخريم الجدران الهشة اللاهبة التي ظلت محتفظا ببكارتها سنوات طوال رغم رقاقتها؟!. والتي توصمني بنتاجها، وإن توجهك نحوها الآن لن يعافيها، بل سيوزع الوهن ويفشيه فيها.
الإنسان: ماذا تقصدين؟
النفس: الآن عندما تشابكت الأسئلة واختلطت الأمور تستجدي النصرة والعون، وكنت قبل ذلك متمكنا واثقاً، فأخذت تكابر دون اكتراث إلى أن وقعت.
الإنسان: بم تنصحين؟! ما الذي اختار؟ وما طبيعة اختياري؟!
النفس: وكيف تريدني أن أختار في وسط هذه التقلبات المتباينة في فكرك وتوجهك؟
يقاطع نفسه دون دراية وهو يقول:
هل اتجه نحو الانا،؟ أم الموضوعية؟ أم المبرر الواثق؟ أما ماذا؟ إني في ضياع.
الإنسان: ولكني على ثقة من لواعجك وخلجات نفسك ودخائلك متناقضة متصارعة في أقصاها مثلي.
النفس: دعك مني وأخبرني، إلى أي تميل؟ وكيف السبيل؟!
الإنسان: نحو الأمثل والأجدى لنا ولكن كيف؟ لا أدري.
النفس: لست واثقة!! لان الخيار المنشود صعب مستصعب، الردة الكامنة في داخلك قاتلة، وهي تجابه نفوسا واثقة، وأدمغة متفتحة واعية، بعيدة كل البعد عن الأنانية المريضة، أو الاجحاف المخل بمشروعية الفكرة والموقف والطموح الواعي.
الإنسان: ما أقصى أن يمر الإنسان بخيار صعب يغالبه التردد من أجل الأنا الأعلى، ويدفعه ذلك التغلغل الشرس في بؤرة الشعور والشعور والوجدان الأناني لتحقيق الطموح والأماني ولا سبيل واضح للتضحية والإيثار.
النفس: لماذا؟
الإنسان: لأن.. لا أدري ماذا أقول، لأن “يقف في حيرة وصمت”
النفس: لأن الأنانية العاقلة تدعم وتحفز الإمكانات، وتسخر الطاقات والقدرات، وتعطي الزخم المتواصل لشكل الاستعدادات الممكنة، وتجعل من الاستحالة إمكانية لها مبرراتها وحدودها المعقولة وفق أطر الحياة الطبيعية لبني البشر.
الإنسان: (في تهكم حزين يغالب نفسه)
ما الذي يفعله العاجزون حين حدوث التردد؟!
ما الذي يختارونه حين التزاحم المتناغم المتوازن بين الأشياء.
ما الخطوات الفاعلة لموقف كهذا له مبررات التورط في الغبن المستديم، أو التبجح بالانتصار الأناني؟
هل التضحية بل قولي هل الانهزام الموضوعي خيار رائد؟ أم الأنانية العاقلة “كما تقولين” المتأهبة لاستغلال الفرص الطامحة لخلق الجو الأفضل والمكان الأعلى.
أعينيني فإني في حيرة حائرة كاسحة…
النفس: إن هذا التردد البغيض الذي فرض نفسه عليك ليوزع الوهن في أرجائك، آفة استطاب لها الجثوم على صدرك، وستبقى تعصف بك وتعبث كما البغاث المستنسر ولا سبيل لك عليها بغير الموضوعية.
الإنسان: أي موضوعية هذه التي تتبجحين بها، إن هذا التردد نتاجك إفرازاتك، طبختك المثقلة بالأوهام والأسقام الموزعة في صدري منذ زمن بعيد.
النفس: “في استغراب ودهشة” أنا؟!
الإنسان: نعم أنت من أرغمتني على المساومة، والمهادنة، حفزتني على بناء الصرح الأناني.
النفس: لكن التلاهي والتجاهل وحتى الغبن التي تدعيه، لن ينهوا المشكلة بل يعقدوها.. وإن الحسم والموضوعية صنوان أساسيان لابد منهما لمثل هذا الخيار الصعب خيار التردد المقيت من أجل استئصاله.. وكم نصحتك ألا تتردد فيما هو واضح لك، لكنك لم تسمع مقولتي وهذا ما آل إليه أمرك.
الإنسان: ولكن ماذا أفعل وأنا لا أملك الإمكانات الكافية والعدة المطلوبة أيتها النفس المتأرجحة فقواي خائرة، وأنا مضطرب أي اضطراب.
النفس: فلمن تريد الغلبة إذن؟!
الإنسان: لست أدري، فكم أنا حائر وحزين.
((انخرط في البكاء والأنين))
النفس: هذا شأنك وكثيرا ما لفت انتباهك..
ولكن….. الإنسان يقاطع نفسه قائلا: كفى، كفى..
افترقا وبعد هدوء الزوبعة، ونوم العاصفة، ركب سيارته وقفل راجعا إلى بيته بعد أن أعيته ليخلد إلى نوم عميق بسبب حيرته.