كلمة في عيد الغدير للأستاذ عبد الوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين


المدخل

في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام من السنة العاشرة للهجرة الشريفة المباركة (18 ذي الحجة 10هـ – مارس 632 م) توقف الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو راجع من حجة الوداع، في أرض تسمى (غدير خم)، وأخبر من كان معه من الحجيج: بأنه مكلف من جانب الله الرب العظيم، بأن يبلغ رسالة إلى الناس هي في غاية الخطورة والأهمية في مصير الأمة الإسلامية وهدايتها، بحيث أنه إذا لم يبلغها، يكون كأنه لم يبلغ شيئاً من الرسالة.

قول الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (المائدة: 67).

فاستجاب الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمر ربه الكريم، بكل صدق وخشوع وإيمان، وأمر برد من تقدم من الحجيج، وانتظر من تأخر منهم، وكان ذلك في وقت الظهيرة (الزوال)، ولا يوجد ما يظل الناس عن أشعة الشمس الحارقة، فكان الواحد منهم: يضع بعض عباءته تحت رجليه، توقياً من حرارة الأرض، وبعضها فوق رأسه، توقياً من حرارة الشمس، فصلى بهم الظهر بهجير (الهجير: شدة الحر)، وعمل له منبر من أقتاب الإبل (جمع قتب: وهو الرحل الصغير، مما يوضع على ظهر الإبل للركوب) وحدوجها (الحدج: مركب من مراكب النساء كالهودج والمحفة: هودج لا قبة له) فرقاه..

وقال صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً الناس: “يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فما انتم قائلون؟”

قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: “أليس تشهدون: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وان النار حق؟”.

قالوا: بلى.. نشهد ذلك.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم اشهد”.

ثم قال: ألا تسمعون؟

قالوا: نعم.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: “يا أيها الناس! إني فرط (أي متقدمكم وسابقكم) وأنتم واردون علي الحوض (أي الكوثر)، وإن عرضه ما بين بصرى (كانت اسم لقرية بالقرب من دمشق وأخرى بالقرب من بغداد) إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وإني سائلكم عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟”

فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟!

قال صلى الله عليه وآله وسلم: “كتاب الله، طرف بيد الله عز وجل، وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، سألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهما فهم أعلم منكم”.

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ألستم تعلمون: أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟”

قالوا: بلى.. يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ألستم تعلمون (أو تشهدون): أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟”

قالوا: بلى.. يا رسول الله.

ثم أخذ صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي ابن أبي طالب عليه السلام بضبعه: (أي بعضده) فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيهما، فعرفه القوم أجمعون.

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: “أيها الناس! إن الله مولاي، وأنا مولاكم، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه”.

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب”

ثم لم يتفرقا الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي بن أبي طالب عليه السلام حتى نزل قول الله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3).

فقال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي والولاية لعلي”. (أخذ النص من مصادر عديدة).


أيها الأحبة الأعزاء..
حديث الغدير من حيث السند: (متواتر) رواه أعاظم الصحابة والتابعين، فقد رواه من الصحابة (110: صحابياً)، ومن التابعين (89: تابعياً)، ومن العلماء والمحدثين أكثر من (3500: عالم ومحدث)، (العقيدة الإسلامية. السبحاني. ص 194).

وفي ضوء هذا التواتر الفريد للحديث، لا يوجد أي شك لدى فقهاء المسلمين وعلمائهم في صدوره عن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما وقع الاختلاف بينهم في المقصود من لفظة: (المولى)، فقال فقهاء مدرسة الخلفاء وعلمائها: بأن المقصود بها المحبة، وقال فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام وعلمائها: بأن المقصود بها الزعامة والقيادة، ولن أدخل في الجدل العلمي النظري القائم بين فقهاء المدرستين وعلمائهما، وإن كان هو الأصل في بحث الموضوع، لأن أفق البحث يذهب في اتجاه آخر، وهو الأفق الوظيفي، أي: البحث عن النتائج المترتبة على رأي المدرستين على أرض الواقع، بغض النظر عن صحة أو خطأ الرأي في نفسه، وأكتفي هنا في مجال البحث النظري، بلفت أنظار الباحثين عن الحقيقة وروادها، إلى بعض الملاحظات التي من شأنها – حسب فهمي وتقديري – أن تساهم في المساعدة على حسم الخلاف بموضوعية في ما هو المقصود من لفظة: (المولى)؟

الملاحظة الأولى:
التأمل في مضمون الآية الشريفة المباركة، التي سبقت التبليغ النبوي الشريف بالولاية، ولا سيما قول الله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}، لندرك حجم ونوعية وأهمية البلاغ النبوي الشريف، في مصير الأمة وغاية وجودها، فوزن البلاغ: أنه يعادل وزن الرسالة كاملة، بحيث أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يبلغ به، فكأنه لم يبلغ بشيء من الرسالة الربانية، رغم شديد شقائه وبلائه صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ بالرسالة من قبل، حتى خاطبه الرب الرحيم للتخفيف على نفسه الشريفة المقدسة.. بقوله تعالى: {طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} (طه: 1-2). فأي المعنيين للفظة (المولى) يتناسب مع هذه العظمة والضخامة والنوعية للبلاغ: المحبة أو القيادة والزعامة؟.

الملاحظة الثانية:
أجواء التبليغ الروحية والنفسية (طريق العودة من حجة الوداع) والظروف الطبيعية وما تشكله من حالة استثنائية صاحبت الاجتماع العظيم، وما تفرضه من الدلالة على جدية الأمر وأهميته، ثم أمره صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يبلغ الشاهد الذي حضر الموقف الغائب عنه، وقد توفي الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذا البلاغ بأقل من ثلاثة شهور، حيث كانت وفاته صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الاثنين ضحى (12 / ربيع الأول / 11 هـ) حسب المشهور من رأي مدرسة الخلفاء، و(28 / صفر / 11 هـ) حسب المشهور من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وكان الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، قد ودع المسلمين في خطبته التي خطبها فيهم يوم (النفير) في منى حيث قال: “أيها الناس لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف”. فأي المعنيين للفظة (المولى) يتناسب مع هذه الأجواء الاستثنائية والمتميزة: المحبة أو القيادة والزعامة؟

الملاحظة الثالثة:
تذكير الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين في البلاغ: بأصول الدين وعقائد الإسلام، والتذكير بولايته صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، قوله صلى الله عليه وآله: “ألستم تعلمون: أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟. ألستم تعلمون: أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟”. فأي المعنيين للفظة (المولى) يتناسب مع هذا السياق الجليل الذي هو وثيق الصلة بمصير الإنسان في الدنيا والآخرة: المحبة أو القيادة والزعامة؟.

الملاحظة الرابعة:
التأمل في الآية الشريفة المباركة التي نزلت بعد هذا البلاغ مباشرة. قول الله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة: 3). فأي المعنيين للفظة (المولى) يتناسب مع مضامين هذه الآية الشريفة المباركة، التي تتناول مصير الرسالة وخاتميتها وكمالها وحفظها: المحبة أو القيادة والزعامة؟

الملاحظة الخامسة:
لنفترض جدلاً، بأن المقصود من لفظة (المولى) حسب الفهم اللغوي الذي لا نريد أن نتجاوزه.. هو: المحبة، فأي محبة نفهمها في ضوء الملابسات والحيثيات السابقة، هل هي المحبة العادية بين الناس والمؤمنين؟ أم هي محبة من نوع آخر؟

قال الله تعالى: {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد فيها حسناً إن الله غفور شكور} (الشورى: 23).

فهل المودة المقصودة في الآية الشريفة المباركة، هي المودة والمحبة العادية بين الناس والمؤمنين؟ أم هي مودة من نوع آخر؟

قول الله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً} (الفرقان: 57).

نعم: إنها المودة التي تمثل السبيل إلى الله تعالى.. لا غيرها.

أيها الأحبة الأعزاء..
إني وفي ظل الملاحظات السابقة: أنصح كل مسلم مخلص لدينه يريد السعادة لنفسه، وحريص كل الحرص على وحدة المسلمين ونجاتهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة، أنصحه: بأن يتلقى هذا البلاغ النبوي العظيم عن الولاية، وهو البلاغ الفاصل الحاسم في مصير كل مسلم وحياته، وفي مصير الأمة الإسلامية وحياتها، أنصحه بأن يتلقى البلاغ بنفسه، كما أوصى الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك بقوله: “ألا فليبلغ الشاهد الغائب”. فعلى كل مسلم مخلص لدينه، أن يتفحص البلاغ النبوي العظيم عن الولاية بجميع حيثياته وملابساته المصاحبة، ويتفحص مضمونه الرباني الرسالي بجدية تامة، عليه أن يتفحص ذلك كله: بصدق التوجه العبودي الخاضع الخاشع إلى الرب العظيم الذي بدأ الخلق وإليه معاده، بموضوعية كاملة واستقلالية تامة، ليهتدي بعون الله تعالى فيه إلى الحق، والغاية النبوية الربانية الفعلية منه، وأن لا يسمح للآخرين مهما كانوا بأن يفرضوا فهمهم وقرارهم عليه في فهم البلاغ وتوجيهه، فيخالف بذلك قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون} (المائدة: 105) ويخالف وصية الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي أوصى بقوله: “ألا فليبلغ الشاهد الغائب” إذ لا قيمة لهذا التبليغ، ما دام كل مسلم يتلقى فهم الآخرين وقرارهم عنه، ولم يفكر هو بموضوعية كاملة واستقلالية تامة في البلاغ.


الوظائف الرئيسية لخليفة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

بعيداً عن البحث النظري في القول بالتعيين من قبل الله جل جلاله، أو بالاختيار من جانب الأمة للإمام أو الخليفة بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبعيداً عن الدخول في الآراء والأقوال النظرية لدى فقهاء المسلمين وعلمائهم في موضوع وظائف الخليفة بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وما يفترض فيه من الشروط، فإني سوف أتناول الموضوع من ناحية أخرى.. وهي: الناحية الوظيفية، وذلك بالإشارة والكشف عن النتائج التي أفرزتها الآراء على أرض الواقع، بغض النظر عن صحة أو خطأ تلك الآراء من الناحية النظرية في الموضوع.

وقد ذكرت قبل قليل، بأن الأصل في بحث الموضوع، هو كشف الحقيقة من خلال البحث النظري، إلا أن البحث من الناحية الوظيفة، رغم أنه ليس هو الأصل، وإنما هو بحث تكميلي لاكتشاف الحقيقة في الموضوع، إلا أنه يساهم بجدية في تنوع جوانب البحث، ويساعد على الوصول إلى الحقيقة فيه.

وسوف أبدأ البحث: بذكر الوظائف الرئيسية العامة المفترضة لخليفة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يتفق حولها المسلمون من حيث المبدأ، بغض النظر عن اختلافاتهم النظرية والمذهبية في الموضوع.

أيها الأحبة الأعزاء..
إن الفراغ الذي تركه الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الأمة بعد وفاته، أبرز حاجتين رئيسيتين تحتاجهما الأمة في وجودها المستمر: الرسالي والواقعي.. وهما:

الحاجة الأولى:
هي الحاجة إلى التبليغ بالرسالة السماوية، بما تتطلبه من التعريف بعقائد الإسلام وأحكامه ومبادئه وقيمه، وتعليمها، والتربية عليها، وإعطاء القدوة الحسنة إلى الناس، كما كان الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك.

الحاجة الثانية:
هي الحاجة إلى القيادة التي تقوم بدور الإدارة العامة لكافة المسلمين في كافة الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، وتقوم بدور التطبيق للشريعة المقدسة، وتجسيد المباديء والقيم الإسلامية الرفيعة، وتقديم النموذج الإسلامي الرباني المتقدم والمزدهر للحياة الاجتماعية الإنسانية في ظل الإسلام العظيم، ذلك النموذج الذي يقوم على أساس العدل واحترام حقوق الإنسان وكرامته، كما كان الحال في تجربة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ودولته في المدينة المنورة والمناطق التي فتحها على عهده صلى الله عليه وآله وسلم.

رأي مدرسة الخلفاء وما نتج عنه في الواقع: بعد أن تعرفنا على الحاجتين الرئيسيتين للأمة بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، نحاول أن نتعرف على رأي مدرسة الخلفاء في الإمامة والخلافة وما نتج عنه في واقع الأمة الإسلامية، ثم نشير إلى دور الأئمة من أهل البيت عليهم السلام في تصحيح المسار.


أولاً: رأي مدرسة الخلفاء في الخلافة

يرى علماء مدرسة الخلفاء، بأن الإمامة الإلهية التي هي على غرار النبوة والرسالة قد انتهت بوفاة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أوكل الله تعالى إلى الناس مهمة تعيين الإمام أو الخليفة بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: بأن الطريقة التي يتم التوصل بها إلى الإمامة أو الخلافة والحكم من الناحية الشرعية.. هي ثلاث:
أولاً – البيعة: ويكفي فيها الواحد والاثنين من أهل الحل والعقد.
ثانياً – التعيين: بأن يعهد الحاكم السابق للذي بعده، كما عهد أبو بكر لعمر بالخلافة بعده.
ثالثاً – الغلبة والقهر والاستيلاء: وذلك في حال الاختلاف وكثرة المتصدين.
(راجع المصادر التالية: الإرشاد في الكلام. الجويني. ص 424. الأحكام السلطانية. الماوردي. ص 117. تفسير القرطبي. ج1 ص 260. المواقف. القاضي الايجي. ص 399 – 400).

وبخصوص الخروج على الحاكم الظالم: هناك اتجاهان فقهيان لدى فقهاء مدرسة الخلفاء بهذا الخصوص.. وهما:

الاتجاه الأول: يحرم الخروج على الحاكم براً كان أو فاسقاً:
قال الإمام النووي: “وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك”.

وقال أيضاً: “وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق” (شرح صحيح مسلم. ج12. باب: لزوم طاعة الأمراء. ص 229).

وقال القاضي الباقلاني: “قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله، واحتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متظافرة عن النبي صلى الله عليه – وآله – وسلم وعن الصحابة، في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال” (كتاب التمهيد. الباقلاني. ص 181).

وقال التفتازاني: “ولا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة الله تعالى والجور، لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم” (شرح العقائد النسفية. التفتازاني. ص 185 – 186).

– الاتجاه الثاني: يؤيد الخروج على الحاكم وعزله لفسقه وجوره:
ومن هؤلاء الإمامين: الشافعي والغزالي (راجع كتاب: إحياء علوم الدين للغزالي. ج2. الباب السادس: فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم، وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم، والإكرام لهم. ص 131 – 140).

قال ابن حزم: “فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره” (الملل والأهواء والنحل. ج 4. ص 102).

وقال عضد الدين الايجي: “للأمة خلع الإمام وعزله بسبب” (المواقف. ج8. ص353).

وقال شارح الكتاب (السيد شريف الجرجاني): “مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين، كما لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها”.

وقال الدكتور أبو فارس: “والإسلام حين أوجب على الرعية أن تطيع ولاة الأمور فيها، لم يجعل هذه الطاعة مطلقة من كل قيد، ذلك لأن الطاعة المطلقة تؤدي إلى الحكم الفردي الديكتاتوري المستبد، ومن ثم تمسخ شخصية الأمة وتتلاشى، وهذا ما يأباه الإسلام ويرفضه قاطعاً”.

ولهذا فقد أوجب الإسلام على الرعية أن تطيع أولي الأمر فيها ضمن دائرة معينة، وحدود معلومة، وقيود وشروط لا بد منها. ومن هذه القيود والشروط:
1. أن يكون ولي الأمر مطبقاً للشريعة الإسلامية: فإذا لم يكن مطبقاً للشريعة الإسلامية فلا تجب طاعته، وعلى هذا فلا تجب طاعة الأمراء والحكام الذين يرفضون تطبيق الشريعة الإسلامية (النظام السياسي في الإسلام. ص 71).
2. أن يحكموا بالعدل بين الناس: فإذا قاموا بهذا الواجب فقد وجبت طاعتهم، وإذا ظلموا وعدوا وبغوا وجاروا وعسفوا فلا تجب طاعتهم، وعل هذا فلا تجب طاعة الأمراء الجائرين، فالجور معصية، والجائر عاص لله تعالى، والرسول صلى الله عليه – وآله – وسلم يقول: [ لا طاعة لمن لم يطع الله ] ” (نفس المصدر. ص 72).
3. ألا يأمر الناس بمعصية: فالأصل في الحاكم المسلم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر وينشر فيهم الفضائل، ويحارب الرذائل، فإذا فعل هذا فقد وجبت طاعته، وحرمت معصيته.

أما إذا أمر الحاكم الرعية أو فرد من أفرادها بمعصية من المعاصي الظاهرة البينة، كشرب الخمر، وتعاطي الربا، والسفور والاختلاط، فيحرم على الأمة طاعته وتنفيذ أوامره، فهي معاص، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقال: ولو أجيزت الطاعة في المعصية، لكان هناك تناقض، إذ لا يعقل أن يحرم الشارع شيئاً ثم يوجبه ” (نفس المصدر. ص 73).

نتائج رأي مدرسة الخلفاء:
لقد أفرز الرأي المشهور لفقهاء مدرسة الخلافة في الإمامة والخلافة والحكم، من الناحية الوظيفة – بغض النظر عن التقييم العلمي له بالصواب أو الخطأ من الناحية النظرية – أفرز عدة نتائج سلبية خطيرة في واقع الأمة الإسلامية المرحومة وتاريخها.. منها النتائج التالية:

النتيجة الأولى:
أنه ساعد من لا أهلية له ولا دين في الطمع للسيطرة على الإمامة والحكم في البلاد الإسلامية، ودفعهم للتسابق من أجل ذلك، وظفروا بها فعلا من خلال الأساليب الخبيثة في السياسة، ومن خلال الغلبة والقهر والاستيلاء، رغم أنوف المسلمين، وعلى خلاف إرادتهم. فقد وصل إلى الخلافة والسلطة في الأمة الإسلامية، رجال من أمثال يزيد بن معاوية، والحجاج بن يوسف الثقفي، وأذعن لهم المسلمون صاغرين، وأقاموا أنظمة حكم استبدادية، في غاية الظلم والدموية، في وقت مبكر بعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ما أدى إلى تعطيل الأحكام الإسلامية، وتدهور الأوضاع وتخلفها بصورة شاملة في العالم الإسلامي، وظهرت الانحرافات عن الدين في المجتمعات الإسلامية، وكانت بيوت الخلفاء والحكام في المقدمة والريادة للانحراف، ثم توسعت الانحرافات وترسخت مع الأيام، حتى وصل الحال إلى ما انتهت إليه أوضاعنا في الوقت الراهن، ولا زالت النتائج السلبية تتواصل، والأوضاع تزداد تدهورا، ولا زلنا نعاني ونبحث عن المخارج للإنقاذ المطلوب.

النتيجة الثانية:
تعرض الحركات الجهادية التابعة لمدرسة الخلفاء إلى حرج شديد، وهي تقاوم الظلم والفساد والانحراف وتخلف الأوضاع وتدهورها في العالم الإسلامي، فقد بلغت الأمراض الروحية والأخلاقية والاجتماعية والانحرافات والظلم والفساد في العالم الإسلامي، بلغت حداً خطيراً يستحيل السكوت عنه، ورأت الحركات الجهادية ضرورة مواجهتها لإنقاذ الإسلام والمسلمين، إلا أنها وقعت في الإحراج بسبب الرأي الفقهي المشهور في مدرسة الخلفاء، والذي لا يجوز الخروج على الحاكم الإسلامي الفاسق وعزله، رغم وجود رأي فقهي يجوز الخروج على ذلك الحاكم، وقد أفرز لنا ذلك – لا سيما مع غلق باب الاجتهاد – نماذج من الحركات المتطرفة، التي تمارس الإرهاب بسبب نقص الخبرة الفقهية وعدم وضوح الرؤية، ولولا ذلك لكانت هذه الحركات بما تمتلكه من الإمكانيات والإخلاص والشجاعة، ركناً قوياً للإصلاح والتطوير في العالم الإسلامي، أسأل الله ألعلي القدير بواسع رحمته، الهداية والتسديد والنصر لكافة الحركات الجهادية الإسلامية المخلصة، وأن يخلصنا من أن يجعل بأسنا بيننا شديد، إنه نعم المولى ونعم النصير.

النتيجة الثالثة:
تجزأة العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة، على رأس كل دويلة حاكم لا يستمد وجوده في الحكم من إرادة الشعب، ويرتبط بعض الحكام في البلاد الإسلامية بعلاقات قوية مع أعداء الدين والشعب أمثال الكيان الصهيوني وأمريكا، ويتحالف معهم ضد شعوب وحكومات في بلدان إسلامية أخرى. وأصبح من المستحيل على المسلمين في الوقت الحاضر، القدرة على توحيد أنفسهم تحت قيادة إسلامية واحدة، استناداً لرأي مدرسة الخلفاء في الإمامة والخلافة والحكم، وأصبح المسلم لا يعرف إمام زمانه الذي يسأل عنه يوم القيامة، والذي يجب أن يكون واحداً في كل زمان.

قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”. فمن هو إمام الزمان الذي يجب أن نعرفه ونتمسك به في الوقت الراهن، لنسأل عنه يوم القيامة، وفقاً لرأي مدرسة الخلفاء؟.

النتيجة الرابعة:
الفصل ألقصري أو الإجباري من الناحية الفعلية على أرض الواقع بين الدين والسياسة، وإن كان ذلك مرفوضاً من الناحية النظرية إسلامياً عند كافة فقهاء المذاهب الإسلامية، فالإمام أو الخليفة والحاكم حسب الرأي في مدرسة الخلفاء، لا يختلف عن أي حاكم آخر في أي بلد في العالم، إذ هو يقود الأمة في حياتها الدنيوية فقط، ولأجل ذلك فإن الفسق والجور لا يكون قادحاً في شرعية قيادته للأمة الإسلامية حسب الرأي المشهور في مدرسة الخلفاء، إذ كيف يقود الحالة الدينية والتقوائية من لا تقوى لديه؟! ولا يقدح فيها التسلط بالقهر والغلبة والاستيلاء، وهذا من أهم أسباب فشل الأمة الذريع في تحقيق أهدافها الرسالية والإنسانية في التاريخ، ومن أهم أسباب التدهور السريع للأوضاع بصورة شاملة في الأمة والمجتمعات الإسلامية، وغياب النموذج الإسلامي الرباني الناصع للحياة الإنسانية الاجتماعية في التاريخ الحضاري للبشرية، وقد ظهرت الانحرافات سريعاً، وفي وقت مبكر من تاريخ الأمة بعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبريادة من بيوت الخلفاء والحكام الفاسقين، بشهادة فقهاء وعلماء مدرسة الخلفاء أنفسهم، ثم اتسعت رقعتها، وانتشرت في الأمة والمجتمعات الإسلامية كانتشار النار في الهشيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم.

النتيجة الخامسة:
تجاهل الحاجة إلى الهداية الإلهية لكافة الناس بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من الحاجات الضرورية الثابتة للحياة الإنسانية في جميع الأزمنة، فالناس في كل زمان يحتاجون إلى الهادي الذي يمتلك العلم والهداية من الله رب العالمين ليجمعهم عليها، وهذا لا يتوقف على النبوة، إذ يمكن أن يكون الهادي الذي يمتلك العلم والهداية من عند الله تبارك وتعالى ليس من الأنبياء، كما هو الحال مع العبد الصالح الذي كان مع نبي الله موسى بن عمران عليه السلام، والذي قال الله تعالى عنه: {فوجدا عبد من عبادنا ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} (الكهف: 65) وكما هو الحال مع صاحب نبي الله سليمان عليه السلام، والذي قال الله تعالى عنه: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} (النمل: 40)، ولا يشك في ذلك أحد ممن له نصيب من فهم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ومنها حديث الثقلين، وبدون وجود الهادي بعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فإننا لا يمكن أن نتفهم ونتعقل خاتمة النبوة، وموافقتها للحكمة الإلية، والحكمة من بعثة الأنبياء عليهم السلام.

قول الله تعالى: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} (الرعد: 7).

فالإنسان يحتاج إلى الهداية في كل زمان، ولا تتحقق الهداية بمجرد وجود القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لأن المسلمين يختلفون فيهما، ولهذا نص الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على التمسك بالثقلين: كتاب الله وأهل البيت عليهم السلام للأمن من الضلال والفرقة.

قول الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض” (الحديث متواتر، وقد رواه مسلم، والترمذي، والإمام أحمد، والنسائي، والدارمي، والحاكم، وغيرهم).

ويجب التنبه: إلى أن سعادة الإنسان وحصوله على الحياة الإنسانية الطيبة وتحقيق غاية وجوده، يتوقف على حصوله على الهداية التي أساسها الوحي والعلم اللدني، وبدون الهداية لا يمكن أن يحصل الإنسان على الحياة الإنسانية الطيبة والسعادة والنجاة من العذاب في الآخرة، ذلك الأمر الذي هو غاية جميع الرسالات، ومبتغى كل مسلم في الحياة، ومن الواضح جداً لكل متبصر، بأن رأي مدرسة الخلفاء لا يضمن توفير هذه الهداية لجميع الناس بعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤدي إلى اختلاف المسلمين حول المرجعية العلمية الدينية والسياسية للمسلمين، ويختلف الأمر تماماً مع القول بإمامة أهل البيت عليهم السلام، التي هي أمان من الضلال والفرقة – كما صرح بذلك الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين – وهذا ما يهدف إليه حديث الغدير وعيده الذي نحتفل به في هذا اليوم الأغر.

وعن العلاقة بين الهداية وبين نجاة الإنسان وسعادته والحياة الطيبة.

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون. إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون. ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأعلموا أن الله شديد العقاب} (الأنفال: 20 – 25).

وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم} (الصف: 11- 12).


اعتذار ورجاء

أيها الأحبة الأعزاء..
ليس لي رغبة في جرح شعور أي مسلم، فأنا أشعر بالمسؤولية والمحبة لهم جميعاً، وقد حرصت قدر ما استطعت على مراعاة شعور الجميع في هذا البحث الحساس جداً، وأعتذر لكل مسلم ينجرح شعوره لشيء مما ورد فيه، ورجائي من الجميع أن يميزوا بين الحرص على الوحدة والأخوة الإسلامية، وبين ضرورة البحث العلمي الموضوعي عن الحقيقة الإيمانية الربانية المقدسة، التي لا يعبد الله تعالى إلى بها، والتي يرتبط بها مصير المسلمين وتقدمهم في الحياة الدنيا وسعادتهم في الآخرة، وفي تقديري وبحسب التجارب: فإن الطريق الأفضل للظفر بالحقيقة الربانية، وفي نفس الوقت المحافظة على وحدة الصف الإسلامي والأخوة الإسلامية، أن يلتزم الإسلاميون بالحوار العلمي الموضوعي فيما يختلفون فيه، في ظل الثقة الروحية والأخوة الإيمانية المتبادلة بينهم كمسلمين، والمبنية على إخلاصهم المشترك في التوجه العبودي لله رب العالمين، وإلى الحقيقة التي لا يعبد جل جلاله إلا بها، من خلال البحث عنها والتمسك بها بعد معرفتها.


دور أئمة أهل البيت عليهم السلام

من الواضح لكل ذي بصيرة منصف، استناداً إلى النصوص النبوية الشريفة، وفي مقدمتها حديثي: الثقلين والغدير، واستناداً إلى الواقع من السيرة الطاهرة للأئمة من أهل البيت عليهم السلام، الذين أجمع أعداءهم – إلا من شذ – قبل محبيهم، أجمعوا على تقدمهم في العلم والتقوى على كافة الناس.

إنه من الواضح لكل بصير منصف استناداً إلى ذلك كله، بأنه لو تولى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، الإمامة والخلافة والحكم في المسلمين، لتوحدة كلمة المسلمين، وألتم شملهم، وساروا على الصراط المستقيم، والنهج النبوي القويم، وساروا إلى المعالي في الدنيا والآخرة، والتقدم والتطور والازدهار في الدنيا بأقدام ثابتة، وقدموا للعالم النموذج الناصع للإسلام، كما هو مقتضى الحكمة الإلهية لبعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام، ولم يحدث شيء من تلك النتائج السلبية الخطيرة التي ظهرت في تاريخ المسلمين بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي ذكرت قبل قليل، والتي ينبغي لنا أن نتخذ منها الدرس والموعظة قبل فوات الأوان، بالرجوع لأهل البيت عليهم السلام والتمسك بحبلهم، لا سيما ونحن نترقب ظهور القائم منهم عليهم السلام، الذي يعتقد بظهور كافة المسلمين، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملأت ظلماً وجورا، ولا عبرة بالقول الشاذ الذي يخالف الإجماع الإسلامي، ويخالف مقتضى الحكمة والإرادة الربانية النافذة.

قول الله تعالى: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون} (التوبة:32 – 33)

وقول الله تعالى: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (الصف: 8 – 9).

وقول الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} (الفتح: 28).

ومن الواضح بالتأمل اليسير لكل ذي بصيرة، بأن تحقيق هذه الغاية الربانية المقدسة العظيمة، لا تكون إلا على يد إمام على النمط الذي تراه مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ومن المستحيل أن تتحقق بدونه.

أيها الأحبة الأعزاء..
لو تولى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام الإمامة والخلافة والحكم بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الأمة الإسلامية، لكانت لهم استراتيجيتهم في الحكم بما يخدم الأهداف الربانية العظيمة للإسلام، ويحققها على أرض الواقع، ويقدم النموذج الرباني العظيم للإسلام العظيم في الحياة الاجتماعية للإنسان، تنفذاً للتخطيط الرباني العظيم للرسالة الإسلامية العظيمة.

وفي تقديري وعلى حسب فهمي: فإن المهتمين بالعمل السياسي والتفكير الاستراتيجي، ليس في وسعهم إلا التأكيد على وجود هذا التخطيط الرباني، ووجود القادة الربانيين المنفذين له، وأن عقولهم – استناداً للحكمة الإلهية البالغة في تدبير أمر الرسالة الإسلامية والمسيرة الإنسانية، واستناداً إلى المنطق الواقعي في العمل السياسي والمجتمعي – لا تتحمل غير ذلك، ومن المؤكد قطعاً: استنادا إلى الواقع، والنتائج الخطيرة التي سبق ذكرها، بأن تاريخ الخلافة والحكم في العالم الإسلامي ليس تنفيذا لذلك المخطط، وأن القادة المناط بهم مسؤولية تنفيذ ذلك المخطط، هم غير الخلفاء والحكام الذين حكموا وملكوا في العالم الإسلامي طوال التاريخ المنصرم، وليس هم إلا الأئمة من أهل البيت عليهم السلام.

في الكافي الشريف، المجلد الأول، كتاب الحجة، يوجد باب تحت عنوان: (أن الأئمة عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلا بعهد من الله عز وجل وأمر منه لا يتجاوزونه)، فيه أربعة أحاديث طويلة ومفصلة (ص279 – 284)، جاء في الحديث الرابع منها:

عن حريز قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، ما أقل بقاءكم أهل البيت، وأقرب آجالكم بعضها من بعض، مع حاجة الناس إليكم؟!

فقال عليه السلام: “إن لكل واحد منا صحيفة فيها ما يحتاج إليه أن يعمل به في مدته، فإذا انقضى ما فيها مما أمر به، عرف أن اجله قد حضر، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينعى إليه نفسه، وأخبره بما له عند الله” (الكافي الشريف. ج1. ص 283).

نعم: لو تولى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام الإمامة والخلافة والحكم في الأمة الإسلامية، لكانت لهم استراتيجيتهم لتنفيذ المخطط الرباني وتحقيق أهدافه على أرض الواقع، ولما غلبوا على حقهم في الإمامة والخلافة والحكم، لا بد أن تكون لهم استراتيجية أخرى بديلة، وسوف أوضح بعض من هذه الاستراتيجية في ثلاث نقاط رئيسية.. وهي:


النقطة الأولى: إثبات أحقيتهم عليهم السلام في المرجعية الدينية والسياسية (أي الإمامة والخلافة والحكم) بوصف ذلك هو الركن الأساس في العملية التصحيحية لمسار الأمة وتاريخها، وفق الرؤية الشرعية الإسلامية، المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، مع التنبيه إلى أن رؤية مدرسة أهل البيت عليهم السلام إلى ارتباط مقام الإمامة بالحكم، هو عين الارتباط بين النبوة والحكم، فقد يتخلف الحكم ويستولي عليه غيرهم، كما هو الحال مع الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، بل وهو محاصراً في شعب أبي طالب، ولكن لا يتخلف مقام التبليغ والرسالة، فكان الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ بالرسالة وهو في أشد حالات الحصار في مكة، وكان المسلمون يأخذون عنه دينهم الذي آمنوا به، ورضوا به ديناً قيماً من عند الله تبارك وتعالى، وهكذا هو الحال مع الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، فقد يغلبون على الحكم، وقد غلبوا عليه فعلاً، ولكن لا يمكن أن يغلبوا على الرسالة (المرجعية الدينية)، فقد مارسوا التبليغ، وأخذ عنهم كل من يقول ويؤمن بإمامتهم، ولا يزالوا يأخذون عنهم، وسوف يبقون يأخذون عنهم إلى يوم القيامة.

وهذا هو الأساس، وأس الاختيار، وقوام التصحيح في الدين، حتى تكتمل التجربة، وتتهيأ الظروف، وتلتقي الإرادتين: الربانية والبشرية، على اجتماع المرجعيتين: الدينية والسياسية في أهل البيت عليهم السلام، كما هو المأمول والمنتظر في عصر ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف، وجعلنا الله من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه)، فتحصل البشرية على الخير والسعادة في الدين والدنيا والآخرة، ويحق الله جل جلاله الحق بكلماته، ويعم العدل، ويمحق الله جل جلاله الباطل، ويموت الظلم والجور والفساد، وتنتهي عهود الظلم والظالمين والمفسدين في الأرض إلى الأبد، وتفتح الطرق لتقدم البشرية في جميع النواحي، وتصل البشرية إلى أوج عزها وتمدنها، وتتكامل إنسانية الإنسان، وترتفع الحضارة الإنسانية إلى الله خالقها جل جلاله علماً وعملاً، وتتحقق غاية وجود الإنسان في الأرض، كما وعد الله جل جلاله، وكان وعد الله مفعولاً.

أيها الأحبة الأعزاء..
إن المرجعية الدينية هي الأساس والأهم في كل دين، وتبقى أهمية المرجعية السياسية لتأكيد حاكمية الله تبارك وتعالى وأحقية منهجه بالتطبيق والعمل به في الحياة، وتقديم النموذج الرباني للحياة الاجتماعية على وجه الأرض، بما تفرضه من العدل والتقدم والازدهار في حياة المجتمع، وتأكيدنا على المرجعية السياسية لأهل البيت عليهم السلام، ليس من أجل الوقوف على الماضي الذي تجاوزناه ومحاولة اجتراره بآلامه وأحزانه، وإنما لأهمية التأكيد والعمل به في النهوض وعملية الإصلاح، وأهمية التمسك بمنهجهم عليهم السلام في الحكم في عصر الغيبة الكبرى، المتمثل في ولاية الفقيه الجامع للشرائط، وضرورة ترسيخه من أجل الانتظار الصحيح والإعداد الفاعل لظهور الإمام المهدي القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

محاولات أهل البيت عليهم السلام إثبات أحقيتهم بالمرجعية الدينية والسياسية:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “أما والله لقد تقمصها (لبسها كالقميص) فلان (كناية عن الخليفة الأول أبي بكر)، وإنه ليعلم أن محلي منها (أي الإمامة والخلافة) محل القطب من الرحى (أي المحور الذي تدور عليه، وقطب الشيء: ملاكه ومداره)، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير (تمثيل لسمو نفسه، وعلو منزلته، وتقدمه في الفضل والعلم والكفاءة والدين على غيره) فسدلت دونها ثوباً (كناية عن الإعراض وغض النظر عنها) وطويت عنها كشحاً (مال عنها وتركها)، وطفقت أرتإي (أفكر ملياً طلباً للرأي الأصوب) بين أن أصول بيد جذاء (مقطوعة أو مكسورة) أو أصبر على طخية (ظلمة) عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيه مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى (أقرب إلى العقل)، فصبرت وفي العين قذى (ما يقع في العين وتتأذى منه من غبار وغيره) وفي الحلق شجا (ما اعترض في الحلق من عظم أو غصة غبن أو غم) أرى تراثي (ما يورث) نهباً” (النهج. الخطبة: 3).

وقال الإمام الحسين عليه السلام في جواب الوليد بن عتبة والي يزيد على المدينة: “أيها الأمير: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شارب للخمر، وقاتل للنفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة” (مقتل الحسين. المقرم. ص139).

وقال عليه السلام في خطبته في أصحاب الحر: “أيها الناس: إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله، يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين بالجور والعدوان” (نفس المصدر. ص 215).

وكان لجميع الأئمة دورهم في إثبات هذا الحق. (راجع: كتاب الكافي. ج1. كتاب الحجة. ص 168 – 548).


النقطة الثانية: التعريف بالإسلام حسب تعليمهم الرباني اللدني المعصوم (وقد أوضحت قبل قليل المقصود من العلم اللدني) والدعوة إليه، والتربية عليه، وقد حملوا عليهم السلام على عواتقهم هذه المسؤولية الرسالية الربانية العظيمة، ولم يألوا جهداً، وبلغوا في ذلك الغاية، وأدوا الرسالة على أحسن وأكمل وأفضل وجه، وقدموا أرواحهم ثمناً لهذا الواجب الرباني الإنساني المقدس، فجاهم الله أكرك الأكرمين عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء وأحسنه وأتمه، وحشرنا معهم وعلى دينهم، إنه على كل شيء قدير. آمين رب العالمين.

وقد أثمر دورهم عليهم السلام في التعليم والتبليغ، الكتب الأربعة الرئيسية في الحديث عند الشيعة.. وهي: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، وكتب أخرى مهمة في الحديث.. منها: الوسائل والبحار.

كما أثمر دورهم عليهم السلام في التربية، الكيان الشيعي الطويل العريض، الممتد في الكيان الإسلامي التاريخي والجغرافي.


النقطة الثالثة: مقاومة الظلم والفساد والانحراف في العالم الإسلامي وإعطاء الشرعية للأمة بمقاومة هذه الأمراض الخبيثة، حتى القضاء عليها أو الشهادة في سبيل الله تعالى، ويمثل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في قتال: الناكثين والقاسطين والمارقين النموذج الأول، وتمثل ثورة الإمام الحسين عليه السلام النموذج الثاني.

عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقول لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): “تقاتل الناكثين والقاسطين (والمارقين) بالطرقات والنهروانات وبالسعفات”.

قال أبو أيوب: قلت: يا رسول الله! مع من نقاتل هؤلاء؟

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): مع علي بن أبي طالب. (المستدرك. ج3. ص 139).

عن خليد العصري قال: سمعت أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) يقول يوم النهروان: “أمرني رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين” (تاريخ بغداد. ج8. ص340).

وعن علقمة والأسود قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين.

فقلنا له: يا أبا أيوب! إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه – وآله – وسلم، وبمجيء ناقته تفضلاً من الله وإكراماً لك حتى أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله!

فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، وإن رسول الله صلى الله عليه – وآله – وسلم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي عليه السلام، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فأما الناكثين فقد قاتلناهم أهل الجمل: طلحة والزبير، وأما القاسطين فهذا منصرفنا من عندهم – يعني معاوية – وأما المارقين فهم أهل الطرقات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات، والله ما أدري أين هم، ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله. (تاريخ بغداد. ج13. 186).

راجع أيضاً: (أسد الغابة. ج4. ص32 – 33. وكنز العمال. ج 6. ص 72. وص 82. وص 88. وص 392. وج 8. ص 215. والرياض النضرة. ج2. ص 240. ومجمع الهيثمي. ج7. ص 238. وج9. 235).

وقال الإمام الحسين عليه السلام مخاطباً أصحابه: “ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً” (مقتل الحسين. المقرم. ص 230).

وقال عليه السلام مخاطباً أصحاب الحر: “أيها الناس! إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله” (نفس المصدر. ص 216).


النقطة الرابعة: أن أهل البيت عليهم السلام، لم يسعوا للحصول على الحكم رغم تأكيدهم على أحقيتهم وبالخلافة والحكم في الأمة الإسلامية، وذلك بسبب التزاحم بين هذا السعي، وبين ما جاء في النقطتين: الأولى والثانية، فأعطيت الأولوية لما جاء في النقطتين: الأولى والثانية، وأعطوا لشيعتهم الحق في السعي لإقامة الدولة الإسلامية على أساس منهجهم في الحكم، بعد أن أسسوا لهم شرعية الخروج على الحاكم الجائر الذي يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، وقد حقق الإمام الخميني (رحمه الله تعالى) مثل هذا الإنجاز العظيم في إيران في التاريخ المعاصر، وذلك لأن: التبليغ بالإسلام الصحيح وحفظه من التحريف، أهم من حفظ الحكم من الانحراف، أو إقامة حكم جديد مستقيم، بسبب: أن حفظ الحكم وتصحيحه وقيام حكم مستقيم يتوقف على وجود الإسلام الصحيح وبدونه لا يتحقق شيء من ذلك، لهذا يقدم التبليغ بالإسلام الصحيح والعمل لحفظه من التحريف، على العمل من أجل الوصول إلى الحكم أو تصحيحه في حالة التزاحم، ولنأخذ العبرة والدرس من تجربة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يشك أحد من المسلمين في استيفائها للشروط، ومع ذلك انفرجت عن ظهور عشرات الفرق الإسلامية، وعن انهيار الكيان السياسي الإسلامي بصورة تامة، ولو أن أهل البيت عليهم السلام كرسوا حياتهم الشريفة المقدسة العظيمة لتجربة مماثلة، ولم يضمنوا التبليغ بالإسلام الصحيح والتربية عليه، فإن التجربة يمكن أن تنهار وتنتهي، ومع عدم ضمان بقاء الإسلام الصحيح، الذي يعتبر وجودهم عليهم السلام، هو ضمان بقائه بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم واختلاف المسلمين حوله، فإن حال المسلمين سوف ينتهي كما انتهى حال أهل الكتاب: اليهود والنصارى، من تحريف الدين وتجارب أنبيائهم عليهم السلام، وانعدام الوسيلة للتصحيح الفعلي، وهذا خلاف الحكمة الربانية واللطف الإلهي، الذي بمقتضاهما أوجب الرب الحكيم على نفسه، بقاء الدين الصحيح، وحفظه من التحريف، وجعله في متناول الناس الذين يطلبونه للتمسك به أبد الدهر، ويحاسبهم عليه يوم القيامة بعدله وإحسانه، سبحانه وتعالى عما يصف الظالمون علواً كبيراً.

قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبيل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام:153).

وبالتالي: فإن تركيز الأئمة من أهل البيت عليهم السلام على التبليغ والتعليم والتربية، دليل الحكمة ووضوح الرؤية التي ينبغي أن يكون عليها جميع المؤمنين في عملهم.

قال الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف: 108).

دور الفقهاء في عصر الغيبة: بعد أن تعرفنا على الدور الوظيفي للأئمة من أهل البيت عليهم السلام، نحاول أن نتعرف على الدور الوظيفي للفقهاء في عصر الغيبة الكبرى، بما أسند إليهم من القيادة الشرعية من قبل الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، كما في التوقيع الشريف عن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف): “وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم” (الاحتجاج. ج2. ص 281).

ونستطيع تلخيص دور الفقهاء في عصر الغيبة الكبرى في النقاط الرئيسية التالية:
النقطة الأولى:
تحصيل الإسلام الواقعي الصحيح عن طريق الاستنباط وفق منهج أهل البيت عليهم، والتبليغ به إلى الناس، والتربية عليه، وهذه مهمة مستمرة إلى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ويتطلب إنجاز هذه المهمة العلمية في الاستنباط مقدمات ضرورية، منها: جمع أحاديث الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، واستكمال دراسة علم الرجال وعلم الأصول.. وغيرها، وقد تمت هذه المهام بنجاح كامل، وأصبحت عملية الاستنباط ميسرة – بفضل الله تعالى وبركاته على الناس – للمؤهلين علميا لهذه العملية العلمية العظيمة المقدسة، التي من الله على أصحابها بالفضل، وأمرهم بالتقوى، وحملهم مسؤولية الرعاية لأيتام آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر الناس بتوقيرهم وطاعتهم، إن هم أطاعوا الله جل جلاله، ولم يدخلوا في الدنيا ولم يخضعوا للسلاطين.

النقطة الثانية:
التعريف بالمنهج الناصع لأهل البيت عليهم السلام، الذي يمثل النموذج الإسلامي الواقعي الرفيع، والذي يمكنه أن يقدم للإنسانية العظيمة، النموذج الرباني المتميز للحياة الإنسانية على وجه الأرض، في العلم والعمل، في ظل المنهج الإلهي العظيم، والقيادة الرشيدة لأهل البيت عليهم السلام، أومن ينوب عنهم من الفقهاء الأتقياء الورعين، والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتبصير الناس به، لا سيما مع اشتداد الهجمة الشرسة عليه وعلى المؤمنين به، من قبل أعداء الحق والإنسانية، وقوى الظلم والظلام، أعداء الشعوب وناهبي الثروات، من قوى الاستكبار العالمي، والحكام المستبدين، وأصحاب الجهالة من الناس، في الوقت الذي يتطلع فيه العالم إلى الهادي المنير، الداعي إلى الله بإذنه، المنقذ من الضلال، ومن ظلام الجهل والكفر والعلمانية، ومن الظلم والاستبداد والتشرذم ونهب الثروات، ومن التفكك واليأس والانحلال، والداعي إلى سبيل النجاة، والخلاص من الضياع، ومن الآلام النفسية، ومن الفراغ الروحي، والتدهور الأخلاقي، والتخلف الحضاري، والداعي إلى قيام حضارة إنسانية راقية، ومجتمع إنساني كريم، بقيادة ربانية رشيدة، أساسها التوحيد والعدل، واحترام حقوق الإنسان.

قال الله تعالى: {أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل: 125).

وفي دعاء الافتتاح:
“اللهم وصل على ولي أمرك القائم المؤمل، والعدل المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين. اللهم اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً، يعبدك لا يشرك بك شيئاً، اللهم أعزه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً، اللهم أظهر به دينك وسنة نبيك، حتى لا يستخفي بشيء من الحق، مخافة أحد من الخلق. اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه، اللهم ألمم به شعثنا، واشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، وكثر به قلتنا، وأعزز به ذلتنا، وأغن به عائلنا، واقضي به عن مغرمنا، واجبر به فقرنا، وسد به خلتنا، ويسر به عسرنا، وبيض به وجوهنا، وفك به أسرنا، وأنجح به طلبتنا، وأنجز به مواعيدنا، واستجب به دعوتنا، وأعطنا به سؤلنا، وبلغنا به من الدنيا والآخرة آمالنا، وأعطنا به فوق رغبتنا، يا خير المسؤولين وأوسع المعطين، اشف به صدورنا، وأذهب به غيظ قلوبنا، واهدنا به لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وانصرنا به على عدوك وعدونا إله الحق.. آمين” (مفاتيح الجنان. ص 255 – 256).

ومهمة الدعوة إلى منهج أهل البيت عليهم السلام، والتبصير به، مهمة مستمرة إلى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وتشتد الحاجة إليها كلما اقتربنا من عصر الظهور، والحاجة إلى ذلك في وقتنا الراهن، شديدة.. شديدة، كما ألمحت إلى ذلك قبل قليل وأوضحت.

النقطة الثالثة:
مقاومة الظلم والانحراف والفساد في الأرض، والعمل مع توفر الشروط، على إقامة الدولة الإسلامية، على كل أرض إسلامية، تتاح لنا الفرصة فيها لذلك، وتقديم النماذج الإسلامية في الحكم، كما فعل الإمام الخميني (رحمه الله تعالى وأسكنه الفسيح والعالي من جناته) في إيران، والنماذج الإسلامية في المقاومة والمطالبة بالحقوق، كما يفعل حزب الله في لبنان، والتمهيد أو الإعداد لظهور الإمام المهدي القائم بالحق والعدل (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهي مهمة وواجب كافة المؤمنين في العالم، كل حسب موقعه وإمكانياته، ومن الجهة التي يفضلها حسب اختصاصه واهتماماته، وبالأسلوب الذي يناسبه.

وتعتبر مهمة الإصلاح في الأرض، ومقاومة الظلم والانحراف والفساد، والسعي لإنقاذ البشرية المعذبة، والمجتمعات الإسلامية المستضعفة، من المهام التي ينبغي إعطائها الكثير من العناية والاهتمام في الوقت الحاضر، بسبب الحد الذي بلغته تلك الأمراض والأخطار والتهديدات، وما تمثله من التهديد الجدي الخطير، للرسالة الإسلامية، والكيان الإسلامي المبارك، والوجود الإنساني، وبسبب التقدم في الإنجاز العلمي: الفردي والمؤسساتي، لمهمة التحصيل للإسلام الواقعي، والتعريف به، والدعوة إليه، والتبصير به، والتربية عليه، وإن كانت الحاجة لا تزال باقية، لبذل المزيد من الجهد والعمل المنظم الدؤوب، لسد النقص ومعالجة الخلل في هذه المجالات الرسالية المقدسة العظيمة، في الوقت الذي يمتلك فيه الشباب المؤمن المخلص المجاهد، الاستعداد.. كل الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء في سبيل الله الرب الرحمن الرحيم جل جلاله، وفي سبيل تخليص الإنسانية المعذبة، والبلاد الإسلامية المستضعفة، من الظلم والفساد والانحراف والاستبداد، وقد زادته التجربة بصيرة وقوة، وعزماً وإرادةً وتصميماً على التغيير والتطوير، وبالتالي قيام الحجة وعدم التزاحم. مع التأكيد هنا: على أن الجهاد والعمل الرسالي، يبدأ بعد المعرفة وتربية النفس على الطاعة، لكي يمضي المؤمن في سبيل ربه المحمود الأمجد، على ثقة وبصيرة ويقين من دينه وخياره وطريقه في الحياة والجهاد، ويحظى بالسعادة الأبدية، والراحة الدائمة عند ربه في جنة الخلد، والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.


الشروط التي يجب توفرها في القيادة الشرعية في عصر الغيبة الكبرى

ولا يهمنا هنا البحث العلمي الفقهي في الموضوع، فهو متروك لأصحابه وأهل السبق والمعرفة فيه، وإنما يهمنا البحث الوظيفي، كم هو أفق البحث الممتد من أوله إلى نهايته، وهي شروط عديدة، ومن خلال التدقيق فيها، نجد أن قيادة الفقهاء في عصر الغيبة الكبرى، هي استمرار لقيادة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، من حيث الوظيفة والسياق، وعلى نفس النهج.. ومن الشروط الواجب توفرها في القيادة.. الشروط التالية:
أولاً – الفقاهة: وهي ضمان لسلامة التطبيق للرسالة. في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: “العلماء منار” (الكافي. ج1. ص 33).

ثانياً – الكفاءة: وهي ضمان لنجاح التطبيق. في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: “العلماء أمناء” (نفس المصدر والصفحة).

وعن الإمام الكاظم عليه السلام: “الفقهاء حصون الإسلام، كحصن سور المدينة لها” (نفس المصدر. ص 38)، ولا تحمل للأمانة ولا تحصين إلا بالكفاءة.

ثالثاً – التقوى: وهي ضمان لتحقيق العدل والاستقامة في التطبيق.

في الحديث عن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: “الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا”

قيل: يا رسول الله! وما دخولهم في الدنيا؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: “إتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم” (نفس المصدر. ص 46).


الخلاصة الختامية

أيها الأحبة الأعزاء..
إن الاحتفال بعيد الغدير له دلالات عديدة.. منها:

الدلالة الأولى: إنه احتفال بنعمة الهداية إلى الله الرب المحمود، على الصراط المستقيم والنهج القويم، الذي رسمه للبشرية في الحياة، وما يتصل به من تحصيل الكمال الإنساني، وتحصيل السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وتحصيل النجاة والفوز بالجنة يوم القيامة.

الدلالة الثانية: إنه احتفال بالهداية إلى طريق العدل والازدهار، والتطور والتقدم في الحياة، والسبيل إلى تقديم النموذج الناصع للإسلام، والتخلص من الظلم والانحراف والفساد والاستبداد، ومن التشرذم والتفرق، والتخلف والضعف والاستكبار، ومن ولاية الظالمين والمفسدين في الأرض، حتى الأبد ونهاية الدهر والتاريخ على وجه الأرض.

الدلالة الثالثة: إنه احتفال بالهداية إلى الطريق الذي يكمن أن تتوحد الأمة الإسلامية عليه، ولا يمكن أن تتوحد على غيره.


أكتفي بهذا المقدار من الحديث، وأسأل الله جلت قدرته أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يحسن لنا العاقبة، وأن يحيينا على ما أحيا عليه محمداً وآل محمد، ويميتنا على ما أماتهم عليه، ويبعثنا على ما يبعثهم عليه، ويحشرنا معهم وفي زمرتهم، ولا يفرق بيننا وبينهم في الدنيا والآخرة طرفة عين أبداً، وأن يوحد كلمة المسلمين ويجمعهم على الحق، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. آمين رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شارك برأيك: