أحدث المواضيع

طريق الجهاد “خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة” للأستاذ عبد الوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين


المدخل

عنوان الكلمة في هذه المناسبة وهي خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة المكرمة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية الذي يستعد فيه الحجاج للخروج إلى منى لأداء مناسك الحج، عنوان الكلمة كما هو مقترح وأعلن عنه هو: ” طريق الجهاد ” أي ” طريق الجهاد كما هو في حياة الإمام الحسين عليه السلام وسيرته ” ومن المستحسن لنا في البداية، أن نأخذ فكرة مختصرة عن معنى الجهاد.


معنى الجهاد

الجهاد مأخوذ من الجهد وهو الطاقة والمشقة، فيقال: جاهد يجاهد جهاداً ومجاهدة: إذا استفرغ وسعه وبذل طاقته وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته، سواء كان العدو من المشركين أو الباغين أو الجبابرة من الحكام المستبدين الذين قفزوا بوقاحة إلى سدة الحكم عن طريق الانقلاب أو الميراث بدون إرادة الشعوب واختيارها، وتركزت اهتماماتهم على جمع الثروات والحصول على الامتيازات بغير وجه حق، وحرمان الشعوب من حقوقها العادلة ومكتسباتها المشروعة، وإغراقها في الذل والهوان والكبت والتخلف، وتكريس طاقات الدولة وإمكانياتها من أجل قمع الشعوب لحماية كرسي الحكم من السقوط، (فإن جهاد هؤلاء “الحكام الجبابرة المستبدين” فرض على جميع الأمة، على أن يكون بقيادة الإمام الجامع للشرائط أو من ينوب عنه) (الجهاد تربية إسلامية. محمد بحر العلوم. ص 19)، ويطلق الجهاد في الأكثر على المدافعة بالقتال، لكن التوسع في معنى العدو ممكن حتى يشمل كل ما يتوقع منه الشر، كالشيطان الذي يضل الإنسان، والنفس الأمارة بالسوء.. وغير ذلك، وقد سمى الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مخالفة النفس بالجهاد الأكبر، ومن الممكن التوسع في معنى الجهاد حتى يشمل كل عملية إصلاح في أي جهاز أو مؤسسة فاسدة، وكل فعالية خلاقة في بناء إنسان صالح ومجتمع صالح يقوم على الحق والعدل، ويضمن حقوق الإنسان، ويصون مصالح الشعوب ومكتسباتها المشروعة، من الضياع ويدافع عنها، وبالتالي فإن الجهاد لا ينحصر في لون واحد وشكل معين وهو القتال أو غيره، وإنما يتعدد ويتشكل حسب الحاجة إلى الجهد البناء والعمل الهادف لإصلاح الفرد والمجتمع وبمختلف الوسائل والأساليب المشروعة، مثل: المسيرات والتظاهرات والاعتصامات والتجمعات الجماهيرية والإضراب عن العمل والبيانات والعرائض والمنشورات والحوارات والمفاوضات الداخلية والخارجية والخطب والتأليف والعصيان المدني والقتال في وقته ومكانه، وكل وسائل الاحتجاج والتوضيح والمقاومة المشروعة.

عن فضيل بن عياض قال: سألت أبا عبد الله (الإمام الحسين) عليه السلام عن الجهاد: أسنة هو أم فريضة؟ فقال عليه السلام: الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض، وجهاد سنة لا يقوم إلا مع فرض، وجهاد سنة. 
فأما أحد الفرضين: فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي الله عز وجل وهو من أعظم الجهاد.
ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض.
وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقوم إلا مع فرض: فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة، لو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب، وهذا هو من عذاب الأمة، وهو سنة على الإمام وحده أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم.
وأما الجهاد الذي هو سنة: فكل سنة أقامها الرجل، وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها، فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنها إحياء سنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجرهم شيئاً” (تحف العقول. ص 175. الوسائل. ج11. الباب 5. الحديث 1. ص 16).

أيها الأحبة الأعزاء..
إن الجهاد بإجماع المسلمين واجب وضرورة من ضروريات الدين، كالصلاة والصيام والحج، “وهو حجر الزاوية من بناء هيكل الإسلام وعموده الذي قامت عليه سرادقه، واتسعت مناطقه، وامتدت طرائقه، ولولا الجهاد لما كان الإسلام رحمة للعالمين، وبركة على الخلق أجمعين” (أصل الشيعة وأصولها. ص 162)، من تركه ألبسه الله عز وجل أثواب الذل والهوان، وشمله البلاء والعناء، وحيل بينه وبين الخير والزلفى ومنازل القرب من ألعلي الأعلى، وبدون الجهاد تتحول حركة الأمة أو الشعوب إلى ظاهرة كلامية وهمية لا خير فيها ولا بركة حولها تحفها، ولا فاعلية ولا إنتاج ولا تقدم ولا ازدهار، ويعم الأمة والشعوب التي تتخلى عن الجهاد البلاء والضعف والتخلف، ويهيمن عليها الأعداء والمستبدين، وتكون لقمة سائغة بيد المستكبرين، كما هو حالنا في العالم الإسلامي في الوقت الراهن.

وكما قال الإمام محمد حسين كاشف الغطاء (رحمه الله تعالى برحمته الواسعة واسكنه الفسيح والعالي من جنته): “ولو أردنا أن نطلق عنان البيان للقلم في تصوير ما كان عليه الجهاد بالأمس عند المسلمين وما صار “إليه الجهاد” اليوم، لتفجرت العيون دما، ولتمزقت القلوب أسفاً وندماً، ولتسابقت العبرات والعبارات والكلوم “الجروح” والكلمات، ولكن.. أتراك فطنت لما حبس قلمي، ولوى عناني، وأجج لوعتي، وأهاج أحزاني، وسلبني حتى حرية القول ونفثة المصدور، وبثة المجمور…” (أصل الشيعة وأصولها. ص 163). فهل من متعظ؟


الحركة الجهادية للإمام الحسين عليه السلام

وإذا تأملنا في الحركة الجهادية للإمام الحسين عليه السلام، وفي البيانات التي صدرت عنه عليه السلام، منذ الساعة الأولى التي تلقى فيها الخبر رسمياً بهلاك معاوية بن أبي سفيان وطلب البيعة لابنه يزيد من قبل الوليد بن عتبة والي يزيد على المدينة، في شهر رجب عام (60) للهجرة الشريفة، وحتى الساعة الأخيرة التي استشهد فيها عليه السلام في العاشر من محرم عام (61)، أي بعد ستة شهور تقريباً من تولي يزيد الخزي والعار الخلافة على رقاب المسلمين، وهي نفس الفترة التي يمارس فيها الإمام القائم عليه السلام عملية التحضير الأخيرة لتحرير العالم، فيعلن عن ظهوره في المدينة المنورة على ساكنيها التحية والسلام في شهر رجب، ويعلن عن بدء حركة تحرير العالم في العاشر من المحرم في مكة المكرمة عند بيت الله الحرام، ومن شعاراته عليه السلام ” يا لثارات الحسين ” ومن دلالات هذه الشعار العظيم: تأكيد مسؤولية الأنظمة الفاسدة في العالم الإسلامي عن تردي الأوضاع في العالم الإسلامي وتخلفه وسيطرة قوي الاستكبار العالمي عليه، وأن عملية التحرير تبدأ بتحرير العالم الإسلامي من قبضتهم الظالمة الضالة.

نعم إننا نجد بأن الإمام الحسين عليه السلام، قد أوضح نقاط عديدة حول حركته الجهادية من خلال بياناته في الفترة الزمنية المذكورة.. منها النقاط التالية:


النقطة الأولى
المنطلقات في حركته الجهادية

لقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام، أن منطلقه في الجهاد هو مرضاة الله تعالى رب العالمين والإصلاح في الناس.

قال الله تعالى: {قد كانت لكم أية في فأتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة} (آل عمران: 13).

وقال الله تعالى: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} (النساء: 76).

هاتان الآيتان الشريفتان المباركتان: توضحان أن القتال والجهاد إما أن يكون في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت، وأن الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله جل جلاله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، والقتال في سبيل الله: هو القتال في سبيل الحق والعدل والخير والحرية وسعادة الإنسان وتقدم المجتمعات الإنسانية وتطورها، وليس من أجل إشباع النوازع الشخصية وتحقيق المصالح الخاصة، والقتال في سبيل الطاغوت: هو القتال في سبيل الباطل والظلم والشر والكبت والاستبداد والشقاء وتخلف المجتمعات البشرية وانحطاطها، وهو قتال ينطلق من النوازع الشخصية التي ترتبط بالشهوات والعقد النفسية والحمية الجاهلية، ومن أجل تحقيق المصالح الخاصة وتحصيل الامتيازات والمكتسبات الذاتية، على حساب المصالح العامة والمكتسبات التاريخية الشرعية للأمم والشعوب.

وقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام بأن حركته الجهادية هي حركة في سبيل الله رب العباد وتحصيل مرضاته سبحانه وتعالى ومن أجل صلاح الإنسان والمجتمعات البشرية.

قال عليه السلام في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله تعالى عنه): “وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”.

في هذه الوصية العظيمة الرائعة:
نفى عليه السلام أن تكون حركته وبياناته فقاعات كلامية وكذب أو من أجل الاستهلاك الإعلامي ونحوه “كما يفهم من لفظ: أشر” أو تكون نابعة من ألذات من أجل أن تتضخم وتتبجح وتزهو، أو من أجل الطغيان والوصول إلى المناصب العليا والحصول على الامتيزات والمكاسب الخاصة بغير وجه حق “كما يفهم من لفظ: بطر” وأكد عليه السلام على أن حركته وبياناته جدية وفي سبيل الله عز وجل ومن أجل إصلاح الأمة والشعوب.


النقطة الثانية
المنهج الذي اتبعه في حركته الجهادية

لقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام المنهج الذي يتبعه في حركته الجهادية، وأنه يسير في ذلك بسيرة جده الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبسيرة أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام.

قوله عليه السلام: “وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب”.

وفي الحقيقية وواقع الحال:
فإن سيرة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة علي بن أبي طالب عليه السلام، هي سيرة جميع الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، فالجهاد سبيل كافة الأنبياء والأوصياء والصالحين، به تصان الشرائع والقوانين وتأمن الأديان والنفوس، وتسترد الحقوق العادلة والمكتسبات المشروعة، ويبوء الأعداء بالخسران والفضيحة، وينبسط الطريق أمام الحق والعدل والخير والسلام، وتزدهر الأنشطة والأعمال وتعمر الأرض وتتقدم الأمم والشعوب وتتطور.

وتمتاز سيرة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام الجهادية وسيرة الصالحين من الناس الذين يقتدون بهم ويسيرون على نهجهم في الجهاد بميزات عديدة عظيمة.. منها:

الميزة الأولى: أنهم عليهم السلام مع الله جل جلاله ومع الحق لا يفارقهم ولا يفارقونه. قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ” علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار ” (ميزان الحكمة. ج1. ص 208).

الميزة الثانية: أنهم عليهم السلام مع الناس في حقوقهم العادلة ومكتسباتهم المشروعة وكل ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدين والدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة: 128).

الميزة الثالثة: أنهم عليهم السلام في منتهى غاية الأمانة والصدق والشفافية والوضوح مع الناس، وأنهم عليهم السلام لا يمارسون الغش للناس أو الكذب عليهم أو خداعهم أو التمويه عليهم أو استجهالهم أو استغباءهم، ومن ذلك أن الإمام الحسين عليه السلام لما بلغه مقتل عبد الله بن يقطر الذي أرسله من الطريق إلى مسلم بن عقيل، فقبض عليه الحصين بن نمير في القادسية وبعث به إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة فقتله، أخبر الذين معه بالخبر وأذن لهم بالانصراف، لعلمه عليه السلام بأن الكثير من الذين ساروا معه كانوا يظنون بأن الأمر مستتب له في العراق، فأراد أن يطلعهم على الخبر، لكي لا يسيروا معه إلا وهم على علم بما يقدمون عليه، فتفرق عنه خلق كثير، ولم يبق معه إلا الذين جاؤوا معه من مكة، وقد أرادوا مواساته على الموت.

الميزة الرابعة: أنهم على بصيرة كاملة من أمر الرسالة والأهداف والمتلقي وأمر الواقع في ساحة الحركة.

قال الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف: 108).

الميزة الخامسة: أنهم عليهم السلام لا يضعفون أمام الإغراءات أو التهديدات ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا ينكثون العهود والمواثيق، وإنما هم عليهم السلام في غاية القوة والأمانة والصدق والواقعية في الحركة، وأنهم يتحركون بحجم المسؤولية الملقاة على عواتقهم، وبحجم الاستحقاقات ومتطلبات الساحة والواقع، ووفق ما تتطلبه المصلحة الفعلية وقراءة الواقع الحي المتحرك على الأرض، لا المخيلة السياسية الوهمية والهواجس والظنون، وبدون ضعف أو تهور أو إفراط أو تفريط في أي جانب من جوانب الحركة.

قال الله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } (الفتح:29).


النقطة الثالثة
أهداف الحركة

لقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام الأهداف في حركته الجهادية المباركة، ويمكن تلخيصها في هدفين رئيسيين.. وهما:

الهدف الأول – تصحيح انحراف الأمة عن الدين:
سواء التصحيح العلمي لعقائد المسلمين وما لديهم من الفقه والمفاهيم والأفكار، أو تصحيح السلوك المنحرف عن الدين وأحكامه.

قال عليه السلام في خطبة له في أصحابه في اليوم الذي نزل فيه في كربلاء، وهو اليوم الثاني من محرم.. قال: “أما بعد: فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى البطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما” (مقتل الحسين عليه السلام. المقرم. ص 230).

وعلى صعيد التصحيح العلمي، نجد تركيز الإمام الحسين عليه السلام على مرجعيته الدينية والسياسية للمسلمين، وعدم أهلية يزيد لشيء من ذلك، لأن المرجعية هي الأساس في التصحيح العلمي، فمنها يؤخذ الدين، وهي الجهة المسئولة عن وضع الأحكام وبيانها للناس.

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (النساء: 59).

وقال الله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} (المائدة: 55).

وقال عليه السلام في جواب الوليد: “أيها الأمير: إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون.. أينا أحق بالخلافة”. (مقتل الحسين. المقرم. ص 139).

وقال عليه السلام في خطبته في الحر وأصحابه: “أيها الناس: إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله، يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم” (نفس المصدر. ص215)

ولما نزل في كربلاء في اليوم الثاني من المحرم، جمع ولده وإخوته وأهل بيته ونظر إليهم وبكى وقال: “اللهم إنا عترة نبيك محمد قد أخرجنا وطردنا وأزعجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو أمية علينا، اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين.
وأقبل على أصحابه فقال: الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون” (نفس المصدر. ص 229).

الهدف الثاني – إصلاح الأوضاع العامة للمسلمين وتطويرها، وتحصيل حقوقهم العادلة ومكتسباتهم المشروعة:
قال الله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً} (النساء: 75).

هذه الآية الشريفة المباركة، تعتبر القتال من أجل نصرة المستضعفين وتحصيل حقوقهم العادلة ومكتسباتهم المشروعة، تعتبره من القتال في سبيل الله تعالى حسب نص الآية الشريفة المباركة، وبدليل الآية الشريفة المباركة التي جاءت بعدها مباشرة وفي سياقها، وهي الآية التي تلوتها قبل قليل، وفيها أن قتال المؤمنين في سبيل الله، وقتال الكافرين في سبيل الطاغوت، لتدخل القتال من أجل إنقاذ المستضعفين ونصرتهم ضمن القتال في سبيل الله الرب الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى عما يصف الظالمون علواً كبيراً.

وقال الإمام الحسين عليه السلام في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه): “وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب “عليه السلام” فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين”.

وكان عليه السلام يكثر من ترديد قول جده الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حول الإنكار على السلطان الجائر، من ذلك خطابه عليه السلام في أصحاب الحر: “أيها الناس: إن رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخلة. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق ممن غير” (مقتل الحسين عليه السلام. المقرم. ص 216).


النقطة الرابعة
أركان أو مرتكزات حركته الجهادية عليه السلام

لقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام مرتكزات حركته الجهادية، وأهمها المرتكزين التاليين.. وهما:

المرتكز الأول – الاستجابة للتكليف الشرعي:
حيث أوجب الله الرب العزيز الحكيم، على عباده المؤمنين الجهاد في سبيله عز وجل.

قال الله تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} (الحج: 78).

وقال الله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة: 216).

وقال الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله وأعلموا أن الله سميع عليم . من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} (البقرة: 244 – 245).

حيث فرضت هذه الآيات الجهاد على المؤمنين كافة، إلا من أخرجه الدليل، مثل الأعمى والمريض.

قال الله تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} (النور: 61).

وهناك آيات كثيرة تناولت الجهاد من أبعاد مختلفة.. منها:

قول الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأمواله بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} (التوبة: 112).

وقول الله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً} (النساء: 94).

وقال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “للجنة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم، قال: فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه، إن الله أغنى “أعز” أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها” (الوسائل. ج11. الباب 1. الحديث 2. ص 5).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف” (نفس المصدر. الحديث 13. ص8).

المرتكز الثاني – الاستجابة للفطرة الإنسانية الطاهرة:
وفيه وجوه عديدة أذكر منها الوجهين التاليين.. وهما:

الوجه الأول: أن الفطرة الإنسانية – كما هي الشريعة والعقل – تعطي الإنسان الحق في الدفاع عن الحقوق الإنسانية المشروعة.. منها: حقه في الدين والتعبير عن الرأي بشتى الوسائل المشروعة المتاحة، وحقه في الحياة وحمايتها، وحقه في رفض الظلم والاستبداد وسلب الحقوق العادلة والمكتسبات المشروعة والمقاومة بكل الأساليب والوسائل المشروعة المتاحة. عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم” (الوسائل. ج 11. الباب. 80. الحديث 1. ص 345)، وبهذا الدفاع والمقاومة تتقوم إنسانية الإنسان وتحفظ كرامته، وبه تتقوم حياة المجتمعات وصلاح أحوالها وتتقدم أوضاعها، وبدون هذا الدفاع يفقد الإنسان إنسانيته وكرامته وتهلك المجتمعات الإنسانية وتتخلف وتموت، فالمجتمعات إنما تحيا وتتقدم وتتطور بظهور الحق وقيام العدل وانتشار الخير والصلاح بين الناس فيها، وتتدهور وتموت بظهور الباطل وانتصاره على الحق وسيادة الظلم وانتشار الفساد فيها بين الناس، ويتوقف ذلك كله على التدافع بين القوى، وممارسة حق المقاومة للانحراف والظلم والفساد في الأرض.

قال الله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنا الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (الحج: 39 – 41).

وقال الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (البقرة: 251).

وبحسب قانون الفطرة الإنسانية: لا يتوقف الإنسان عن المطالبة بحقوقه العادلة ومكتسباته المشروعة والدفاع عنها لاسيما الحقوق والمكتسبات العامة، إلا إذا كانت الحقوق والمكتسبات الضائعة قليلة أو ليست ذات شأن وقيمة في نفسها، وأنها لا تستحق التضحية من أجلها، أو أن ما يفوت الإنسان بسبب المطالبة بها والدفاع عنها ويخسره مادياً ومعنوياً أكثر مما يحصل عليه، وفي هذه الحالة يكون التكتيك تأخير المطالبة والدفاع إلى حين تتهيأ الأرضية لذلك، وليس التنازل عن الحقوق والمكتسبات إلى الأبد، فإن الاستراتيجية – كما سيوضح بعد قليل – هي التدافع وممارسة حق الرفض والمقاومة، وأن التكتيك لا يجوز أن يسمح بترسيخ الانحراف والظلم والفساد وإعطائها فرصة لكي تقوى وتستفحل في المجتمع، وإنما التكتيك هو لحسن تدبير المعركة لتقويض أركان الانحراف والظلم والفساد، فالتكتيك قوة وليس ضعفاً، ولو مارس المؤمنون أعزهم الله مولاهم العزيز الحكيم في كل زمان ومكان حق التدافع والرفض والمقاومة للانحراف والظلم والفساد، لما وجدنا التخلف والانحطاط وسيطرة الأنظمة الظالمة المستبدة التي تحكم الشعوب بالحديد والنار في البلاد الإسلامية، فما نجده اليوم في البلدان الإسلامية من التخلف والانحطاط وهيمنة الأنظمة الظالمة الفاسدة المستبدة على الحكم وسيطرة قوى الاستكبار العالمي على خيرات وثروات البلاد الإسلامية، إنما هو بسبب فساد فطرة المسلمين وضعف غيرتهم على الدين والأمة والوطن، وبسبب تخليهم عن فريضة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحت عناوين كاذبة وشعارات زائفة مثل: الدبلوماسية والاعتدال والتدرج والخطوة خطوة وغيرها، وكلها عناوين لا حقيقة لها ولا قيمة، ما دامت تؤدي إلى ضياع الحقوق والمكتسبات، وتخلف المجتمعات وانحطاطها، وهيمنة الأنظمة الفاسدة وقوى الاستكبار العالمي على البلاد الإسلامية وثرواتها، وهي دليل على الضعف والوهن وحب الدنيا والمكاسب المادية، وتغير الفطرة والغفلة عن الله تبارك وتعالى والكمالات الإنسانية والآخرة وجعلها نسياً منسياً.

الوجه الثاني: أن الفطرة الإنسانية التي فطر الله العدل الحكيم الناس عليها، تغاير الانحراف والظلم والفساد وتناكفها، فلا يدخل إليها شيء منها، ولا تقبلها ولا تنسجم معها، وهي ترفضها وتقاومها، ولا تسمح لها بالبقاء وأن تعشش ببيضها وحشائشها الضارة في النفس والمجتمع، لأن الانحراف والظلم والفساد من الأغذية الضارة للنفس والمجتمع، والفطرة تمثل الأساس الذي يقوم عليه صلاح الإنسان في ذاته وصلاح مجتمعه، فالإنسان صاحب الفطرة السليمة يغار على دينه وأمته ووطنه وشعبه، ويشعر بالعزة والكرامة ويرفض الذل والهوان مهما كانت الظروف والمسببات، لأن عزته من عزة الله جبار السماوات والأرض الواحد القهار، ولم يفوض الله جل جلاله وهو ولي المؤمنين لمؤمن أن يذل نفسه أو يقبل الذل والهوان – كما تظافرت بذلك النصوص في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة عن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمة الطيبين الطاهرين عليهم السلام. عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “إن الله عز وجل فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يذل نفسه، أما تسمع لقول الله عز وجل: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً يعزه الله بالإيمان والإسلام” (الوسائل ج11. باب 13. الحديث 2. ص 424). وفي حديث آخر: “إن المؤمن أعز من الجبل، عن الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء” (نفس المصدر. الحديث 1. ص424) والمؤمن يحب الطيبات ويكره الخبائث، ولا يمكن لمؤمن أن يقبل بالانحراف والظلم والفساد ويتعايش معه، ولا بد له من رفضه ومقاومته حتى الشهادة، وإذا قبل الإنسان شيئاً من ذلك وتعايش معه، تغيرت فطرته وفسدت وفقدت نقائها وسلامتها وطهارتها وصلاحها، ودخلها الخبث والسوء والشر بقدر ما يدخلها منه، ولم تعد الفطرة بعده هادياً للإنسان ومرشداً ودليلاً في الحياة والظلمات، وأصبحت معيقاً له وعدواً، بدلا من أن تكون عوناً له وصديقاً – كما هي في أصل التكوين والغاية والوظيفة – وتتوقف نجاة الإنسان بعد ذلك وصلاح نفسه وتحقيق سعادته، على ما يتبقى لديه من صفاء الفطرة ونقائها وطهارته وسلامتها، إن هو لجأ إليه ونجح في الاستفادة منه وتوظيفه في حياته، وإن هو فعل ذلك ونجح في استرداد صفاء فطرته ونقائها وسلامتها وطهارتها، فإنه بمقدار نجاحه يتحدد حجم ونوعية رفضه ومقاومته للانحراف والظلم والفساد.

والخلاصة:
أن القبول أو الرفض للانحراف والظلم والفساد في الأرض والمقاومة أو التعايش مع ذلك، يتوقف على سلامة الفطرة ونقائها وصلاحها وجوداً وعدما، فمن كان راغباً في النجاة والسلامة وتحصيل السعادة والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، فعليه أن يبلو بلاءً حسناً في مجاهدة النفس للمحافظة على سلامة ونقاء وصفاء وصلاح فطرته وصيانتها من التلوث والفساد.

قال الله تعالى: {وأعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم} (الحجرات: 7).

وقال الله تعالى: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين . فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم: 29 – 32).

وعلى رأس أصحاب الفطرة السليمة: الأنبياء والأوصياء والصالحين من الناس، وقد عرفنا ما قام به سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الإباء والكرامة، حيث قدم نفسه وأهل بيته وأنصاره فداء للدين وإحقاق الحق وإبطال الباطل ونصرة المستضعفين واستنقاذ حقوقهم العادلة ومكتسباتهم المشروعة.

قال الإمام الحسين عليه السلام: “ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر” (مقتل الحسين عليه السلام. المقرم. ص 82).

ومن جهة ثانية: فإن النفس الإنسانية لديها قابلية الصعود في سلم التكامل الإنساني، ولديها قابلية الهبوط منها إلى درك البهيمية، ومما تتحصل به المراتب العليا في الكمال الإنساني: الإيمان والإخلاص، ولا يظهر صفاء الإيمان وكمال الإخلاص إلا من خلال التجربة والعمل، الذي يتميز من خلالهما المؤمن الطيب الصادق، من المنافق الخبيث الكاذب، وفي مقدمة العمل: الجهاد في سبيل الله، فمن خلال تجربة الجهاد والتضحية ينكشف الصدق من الكذب، وينكشف بقاء روابط المحبة مع أعداء الله والإنسانية أم انقطاعها، وهكذا تظهر حقيقة معدن الإنسان وصفاء إيمانه، فكلما قوي الإيمان كلما أضحت محبة الدين والوطن والخير والعدل والصلاح والتعلق بها والتضحية من أجلها بالنفس والنفيس أشد وأقوى، ومع الإيمان والصدق والإخلاص يصعد الإنسان في سلم الكمال ومراتب القرب والزلفى من الله ألعلي الأعلى ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى عما يصف الظالمون علواً كبيراً.

قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له ” فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر ” (الوسائل. ج 11. الباب 1. الحديث 13. ص 397).


الإمام الحسين عليه السلام ميزان الشرع والفطرة

ولأن الإمام الحسين عليه السلام يمثل الصراط المستقيم والميزان القويم للدين والعقل والفطرة، فإننا وجدنا عند الإمام الحسين عليه السلام إصراراً وتصميماً وإرادة لا تقهر على الجهاد من أجل التغيير والإصلاح في الأمة الإسلامية مهما كان الثمن وحجم التضحيات التي تنتظره في سبيل ذلك، ولم يبحث عليه السلام لنفسه عن الأعذار، ولم تضعفه الظنون والهواجس ولا الحسابات المادية الضيقة، ولم تثنه كل المؤشرات الحتمية الدالة على قتله وجميع أصحابه، لأن الشهادة هي أمنية كل مؤمن تقي وقربانه الذي يتقرب به إلي الله المحبوب رب العباد الغفور الرحيم، ويختصر الطريق إليه سبحانه، ومن لا يجد ذلك في نفسه، فعليه بالمراجعة والتعلم، لمعالجة الخلل وسد النقص، ولم تثنه عليه السلام كل الجهود التي بذلها المتخوفون عليه والمثبطين من أصحاب المصالح وضعفاء النفوس، المحجوبون بحجاب الماديات والشهوات والغفلة عن جمال المحبوب والكمالات الإنسانية والآخرة، أمثال مروان بن الحكم الذي نصح الإمام الحسين عليه السلام بالبيعة ليزيد، لأن فيها حسب رأيه خير الدين والدنيا، فاسترجع الإمام الحسين عليه السلام وقال: “على الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد”.

وقال له عمر الأطرف: حدثني أبو محمد الحسن عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام: أنك مقتول، فلو بايعت لكان خيراً لك.
فقال عليه السلام: “حدثني أبي أن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” أخبره بقتله وقتلي، وأن تربته تكون بالقرب من تربتي، أتظن أنك علمت ما لم أعلمه؟ وإني لا أعطي الدنية من نفسي أبداً، ولتلقين فاطمة أباها شاكية مما لقيت ذريتها من أمته، ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريتها”.

وقال عليه السلام في خطبته قبل أن يخرج من مكة: “الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جوفا واجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى” وذلك لأن الجهاد هو حكم العقل والدين والفطرة الطاهرة السليمة للإنسان، وأن القبول بالانحراف والظلم والفساد يعني فساد إنسانية الإنسان وفساد الدين والمجتمعات، والإمام الحسين عليه السلام، هو الصراط المستقيم والميزان القويم للدين والعقل والفطرة، لهذا أصر وواصل الطريق حتى الشهادة، وهذا هو سبيل المؤمنين دائماً في كل زمان ومكان، وهو رفض الانحراف والظلم والفساد والمقاومة وإن اقتضى ذلك سلوك الطرق الخطيرة حتى الشهادة، وليس في وسع المؤمن أن يقبل بالانحراف والظلم والفساد ويبررها ويثبط الناس والمؤمنين عن المقاومة والتضحية في سبيل القضاء عليها، فيفسد بذلك إنسانيته ودينه ومجتمعه، وهو مخالف قطعاً للدين والعقل والفطرة، فهي جميعها تدعو إلى رفض الانحراف والظلم والفساد ومقاومتها حتى الشهادة، وليس من شأن الحكمة والتكتيك والدبلوماسية الصحيحة الدعوة لخلاف ذلك كما ذكر وسيذكر لمن كان له قلب أو الق السمع وهو شهيد.

عن محمد بن عرفة قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: “لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم” (الوسائل. ج 11. الباب 1. الحديث 4. ص 394).

وروي عن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “لا تزال أمتي بخير، ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك: نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء” (نفس المصدر. الحديث 18. ص 398).


خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة المكرمة

ولقد خرج الإمام الحسين عليه السلام من مكة المكرمة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية الذي يستعد فيه الحجاج للخروج من مكة إلى منى لأداء مناسك الحج، وصحب معه النساء والأطفال، ولهذا الخروج دلالات عديدة.. منها:

الدلالة الأولى: الإصرار على الرفض والمقاومة للانحراف والظلم والفساد، وعدم البحث عن الأعذار للتنصل من المسؤولية الرسالية والإنسانية الملقاة على عاتقه عليه السلام، فإنه من عباد الله المخلصين الذين يستجيبون لنداء الفطرة والعقل والدين بصدق وإخلاص وتلقائية بدون تردد أو تلكأ أو ضعف أو كسل، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا تضعف مواقفهم الظنون والهواجس والحسابات المادية الضيقة، ولا يحجبهم عن الله تعالى والحق والكمالات الإنسانية والآخرة حجاب.

الدلالة الثانية – التخطيط للمعركة: فهو يعلم بأن الأعداء مصرين على قتله والتخلص من معارضته الصلبة لهم، وهو يعلم بأن مصيره إلى القتل، ولكنه لم يترك لقاتليه فرصة اختيار مكان وزمان وكيفية القتل، وكان حمله للنساء والأطفال، جزء من التخطيط لمستقبل المعركة وتوفير شروط نجاحها وتحقيق أهدافها، ونحن ندرك اليوم الدور الذي لعبه وجود النساء والأطفال في نجاح المعركة، فلولا وجود النساء والأطفال لما استطاعت الثورة أن تحقق أهدافها، فنجاح الثورة كان يتوقف على الفصول اللاحقة للقتل، بالإضافة إلى القتل نفسه، ولولا وجود النساء والأطفال لما سمعنا شيئاً عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام وفصولها، ولكنه التخطيط ودقة التنفيذ، هو الذي خلد لنا الثورة وأتاح للناس فرصة جني ثمارها الطيبة على مدى التاريخ الطويل، فسلام الله التام البالغ على الإمام الحسين عليه السلام، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، والسلام التام البالغ على أخته أم المصائب زينب بطلة كربلاء، التي حفظت وصية أخيها الإمام الحسين عليه السلام ونفذتها كما يجب أن تنفذ.

روي أن محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) جاء لأخيه الإمام الحسين عليه السلام في الليلة التي سار في صبيحتها إلى العراق، فقال له: عرفت غدر أهل الكوفة بأبيك وأخيك، وإني أخاف أن يكون حالك حال من مضى.. فأقم هنا، فإنك أعز من في الحرم وأمنعه.
فقال الإمام الحسين عليه السلام في جوابه: أخاف أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي تستباح به حرمة هذا البيت.
فأشار بن الحنفية على الإمام الحسين عليه السلام، بالذهاب إلى اليمن أو بعض نواحي البر، فوعده الإمام الحسين عليه السلام بالنظر في هذا الرأي، وفي سحر تلك الليلة باشر الإمام الحسين عليه السلام الخروج من مكة، فأتاه أخوه محمد بن الحنفية، وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها وقال: ألم تعدني النظر فيما سألتك؟
قال الإمام الحسين عليه السلام: بلى.. ولكن بعد ما فارقتك، أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا حسين: اخرج فإن الله تعالى شاء أن يراك قتيلاً.
فاسترجع بن الحنفية، وسأل الإمام الحسين عليه السلام عن حمل العيال وهو على مثل هذا الحال؟
فقال له الإمام الحسين عليه السلام: قد شاء الله تعالى أن يراهن سبايا.
(مقتل الحسين عليه السلام. المقرم. ص 191 – 192).

الدلالة الثالثة: أن الإمام الحسين عليه السلام لجأ إلى خطوة سلبية مثيرة في الرفض والمقاومة تتمثل في توقيت الخروج ليهز بذلك الضمير الإسلامي وينبه المسلمين إلى خطورة الوضع القائم في الساحة الإسلامية آنذاك، وليدلل على ضرورة التنويع في الأساليب والوسائل لتحقيق الأهداف الرسالية والإنسانية المشروعة، وصدق الشاعر إذ يقول: “لقد أسمعت لو ناديت حيا .. ولكن لا حياة لمن تنادي” وكان من الممكن لبعض أصحاب النفوس الضعيفة والقلوب المريضة، المحبوسين وراء المواقف المحسومة سلفاً، والمقيدين بأغلالها الثقيلة المرهقة، المجيرة لخدمة مطروحات جامدة ومصالح ومكتسبات وامتيازات غير مشروعة، كان من الممكن لأولئك النفر أن يقولوا: بأن الإمام الحسين عليه السلام قد تلاعب بالدين من أجل أهداف سياسية رخيصة، كما قالوا عنه عليه السلام أنه أراد بحركته الفتنة وشق صفوف المسلمين، أو من شأن حركته عليه السلام أن تكون كذلك، ولكن الإمام الحسين عليه السلام وهو الصراط المستقيم والميزان القويم للدين والعقل والفطرة، كان عليه السلام في جميع مواقفه وفي حياته كلها في غاية الصدق والأمانة مع الله جل جلاله ومع الناس ومع نفسه، وأنه يسعى لمرضاة الله الذي أحبه كل الحب وعشقه بقلبه كله، ونذر حياته كلها في سبيله تعالى وتحصيل مرضاته سبحانه وتعالى عما يصف الظالمون علواً كبيراً، وفي سبيل خدمة العباد والمصالح الجوهرية للدين والأمة، والحصول على السعادة الحقيقية لنفسه وللناس في الدنيا والآخرة، ولم يسع طوال حياته أو في شيء من جهاده عليه السلام وراء الوهم أو للحصول على مصالح خاصة وحقوق زائفة ومكتسبات غير مشروعة، ولهذا لم يعر المرجفين والمفسدين في الأرض والجهلة والمنافقين أية أهمية، ولم يستطيعوا بأراجيفهم وأباطيلهم وضغوطاتهم وإغراءاتهم التأثير عليه وتغيير مواقفه الرسالية والإنسانية التي أراد بها وجه الله سبحانه وتعالى والمحافظة على مصالح الناس الحقيقية المادية والمعنوية ومكتسباتهم المشروعة وصيانتها من الضياع أو السلب على أيدي الأشرار والحكام المستبدين وغيرهم من الظلمة والمفسدين في الأرض.

قال الله تعالى: {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً. فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا. ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} (النجم: 28 – 30).


النتائج التي نخرج بها من البحث

من خلال البحث السابق نتوصل إلى النتائج التالية.. وهي:
النتيجة الأولى:
وجوب رفض الانحراف والظلم والفساد المستشري في المجتمع، والذي يهدد الوجود الإنساني والمصالح الجوهرية للدين والعباد، والمقاومة حتى الشهادة من أجل اجتثاث تلك الأمراض والأخطار التي تهدد الوجود الإنساني من فوق وجه الأرض، وإصلاح الدين والأوضاع والأحوال في المجتمع والأمة وتطهيرها من الأمراض والأوساخ وصيانتها من الأخطار والدفاع عنها ضدها، وعدم التسليم أو الاستسلام لها، وهذا هو الأصل والاستراتيجية الشرعية الثابتة للمؤمنين في كل زمان ومكان حسب مقررات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع مراعاة الأحكام الخاصة بذلك، وأن التكتيك والدبلوماسية لا تأتي على خلاف الاستراتيجية وإنما تأتي لخدمتها، فلا يجوز للتكتيك أو للدبلوماسية الشرعية، أن ترسخ الانحراف والظلم والفساد في الأرض وتتيح لها فرصة البقاء والاستمرارية والقوة، وإنما يأتي التكتيك، وتأتي الدبلوماسية لحسن إدارة المعركة والتوقيت فيها من أجل زعزعة أركان الانحراف والظلم والفساد واجتثاثها من فوق وجه الأرض، كما فعل الإمام الحسن عليه السلام، فهو لم يسمح للانحراف والظلم والفساد بالرسوخ والبقاء والقوة من خلال الصلح مع معاوية، وإنما وقت المعركة من أجل نجاحها في تحقيق أهدافها وتقويض أركان الانحراف والظلم والفساد الأموي واجتثاثه من فوق وجه الأرض، وقد حصل له ذلك من خلال ثورة الإمام الحسين عليه السلام، التي هي امتداد لجهاده عليه السلام وتخطيطه، فالتكتيك والدبلوماسية قوة وليس ضعفاً، كما هو واقع الحال عند الكثير من الضعفاء الذين يفهمون الأمور من خلال ضعفهم وانحرافهم ويبررون القبول بالأمر الواقع والتصالح معه على هذا الأساس، وإن رفعوا شعار التكتيك والدبلوماسية والتدرج والخطوة خطوة وغيرها من العناوين والشعارات، فكلها عناوين وشعارات زائفة لا حقيقة لها ولا قيمة، ومن أجل الخداع والتضليل ما دامت النتيجة: المزيد من الانحراف والظلم والفساد في الأرض.

أيها الأحبة الأعزاء..
إن كل تسليم أو استسلام للانحراف والظلم والفساد فهو مخالف للدين والعقل والفطرة، وكل تكتيك أو دبلوماسية تسمح بذلك فهو تكتيك غير شرعي ودبلوماسية غير شرعية، ولو أخذ كافة المؤمنين بإملاءات الدين والعقل والفطرة في رفض الانحراف والظلم والفساد ومقاومتها حتى الشهادة من أجل اجتثاثها من فوق الأرض، لما بقي لها من أثر على وجه الأرض، ولتغير وجه الأرض وتطهر، ولما كان لطاغوت أو مستكبر أو مستبد مكان فيها، وقد سبق ذكر النصوص الدالة على ذلك من أهل العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قبل قليل، ولكن الضعف في الدين، والميل عن الفطرة السليمة، وحجب نور العقل بحجاب الشهوات والملذات والحرص على المكاسب المادية الضيقة، ومحاولة الخداع بالعناوين الباطلة: كالتكتيك والدبلوماسية والتدرج والخطوة خطوة للتستر على ذلك، هو الذي أفسد الأرض، وضيع الدين والحقوق والنواميس والمكتسبات، وفرض القبول بالأمر الواقع المنحرف والمتخلف والظالم في المجتمعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

النتيجة الثانية:
أن الرفض والمقاومة للانحراف والظلم والفساد هو مؤدى الدين والعقل والفطرة، ومكمل لإنسانية الإنسان ومصلح لمجتمعه، والقبول بالانحراف والظلم والفساد مخالف للدين والعقل والفطرة، ومسمم لإنسانية الإنسان وعقله وفطرته ومجتمعه ومحق لدينه.

سئل الإمام الرضا عليه السلام: لم سمي الحواريون الحواريين؟ فقال عليه السلام: “…….. وأما عندنا: فسموا الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير” (الوسائل. ج 11. الباب 2. الحديث 5. ص 405).

عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قال: سمعت علياً عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: “أيها المؤمنون: إنه من رأى عدوانا يعمل به، ومنكراً يدعى إليه، فأنكره بقلبه، فقد سلم وبريء، ومن أنكره بلسانه، فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونور في قلبه اليقين” (نفس المصدر. الحديث 8. ص 405).

النتيجة الثالثة:
وجوب التخطيط للمعركة في جميع مراحلها على أساس الدراسات والبحوث العلمية المعمقة: النظرية والعملية، كما فعل الإمام الحسين عليه السلام بأخذه للنساء والأطفال معه إلى كربلاء، بناءً على علم مسبق من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخطيط دقيق، كما قال عليه السلام في جوابه لأخيه محمد بن الحنفية: “قد شاء الله تعالى أن يراهن سبايا”، ولا يصح أن يدخل المؤمنون معركة المقومة بدون استراتيجية وتخطيط واضحين.


ملاحظة ختامية

وفي الختام ينبغي أن نشير إلى أن مسؤولية الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفض الانحراف والظلم والفساد في الأرض ومقاومة تلك الأمراض والأخطار، هي مسؤولية جميع المؤمنين المكلفين: رجالاً ونساء ً، شيوخاً وشباباً، ولكن المسؤولية أكبر على العلماء والرموز السياسية ومن يمتلك الثقل والقدرة على التأثير، لأن مسؤولية كل فرد بحسب حجمه وإمكانياته وطاقته وقدراته، وأن عامة المؤمنين يحتاجون دوماً إلى من يستظلون بظله، ومن يوجههم ويرسم لهم معالم الطريق، ويضفي الشرعية على حركتهم ويطمئنهم إلى صحة منهجهم في العمل والحركة، ويفجر طاقاتهم الكامنة في نفوسهم الطاهرة، ويحسن توظيفها حتى تظهر وتثمر وتعطي أكلها الطيب في الحياة، ولهذا نجد القرآن الكريم قد خص بالذكر وشدد على دور العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنهوض بالمسؤولية والمهمات المفروضة عليهم.

قال الله تعالى: {وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون. لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} (المائدة:62 – 63).

وفي الحديث قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فإذا طمست النجوم أوشك أن تضل الهداة” (رواه الإمام احمد).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا “أي يقروا ويسكتوا” على كظة ظالم “أي شبعه واعتداؤه على حقوق الناس” ولا سغب مظلوم “أي جوعه وسلب حقوقه”، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز “أي المخاط الذي تنثره من انفها عند العطس” (النهج: الخطبة 3).

أكتفي بهذا المقدار

واستغفر الله العليم التواب الرحيم لي ولكم

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

شارك برأيك: