منهج التكليف في خطاب الإمام الحسين عليه السلام بقلم هادي محمد علي

هادي محمد علي

إنّ البشريّة ومنذ الأزل تشهد مواجهةً بين جبهتين متصارعتين “جبهة الحقّ، وجبهة الباطل”، وجاءت الرسالات السماويّة ومنها الإسلام فألزم أتباع جبهة الحقّ و(كلّفهم) بمهمّة محاصرة الباطل ومقارعته في سبيل نشر التوحيد وتكسير أُسُس الباطل بشتّى صوره.

مع نهضة عاشوراء الحسين (ع) نقف وقفةً مختصرةً في تحليل منطلقات تعامل الإنسان المؤمن الرساليّ مع هذا التكليف الإلهيّ بمحاربة الباطل، بما جسّده سيّد الشهداء (ع) في خطاباته وسلوكيّاته بدءًا من خروجه من مدينة جدّه (ص) إلى مكّة، وانتهاءً بوصوله لأرض العراق واستشهاده بكربلاء يوم العاشر من المحرّم عام (61 هـ).


أولًا: إعلان الثورة على يزيد امتثالًا للتكليف الشرعيّ

عندما طلبوا منه البيعة غصبًا في المدينة المنوّرة، ردّ على مبعوث يزيد قائلًا: «أيها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسقٌ، فاجرٌ شارب الخمر، قاتلٌ النفس المحترمة معلنٌ بالفسق والفجور، مثلي لا يبايع مثله».

 يظهر من كلام الإمام (ع) أنّه لمّا رفض البيعة وقرّر النهوض بالثورة على الظلم والجور والاستبداد الأمويّ لم ينطلق من رؤيةٍ غير واضحة أو من دوافع ورؤى شخصيّة، وإنّما برّر ذلك بأنّ يزيدًا فاسقٌ وفاجرٌ ويحكم بالجور والعدوان.

والذي يُفهم من ذلك أنّه لا يوجد أساسٌ عقلائيّ ولا شرعيّ ولا عمليّ للقبول ببقاء يزيد وأمثاله من الطواغيت وأئمة الجور والحكّام الفاسدين في الحكم، بل إنّ العقل والشرع يبرّران الثورة عليهم والنهوض في سبيل إصلاح مسارهم المنحرف عن الدين، بل أكثر من ذلك، فإنّ الذي يُفهم من كلامه (ع) أنّ السكوت عن تلك الأوضاع الفاسدة والمنحرفة مخالفٌ للعقل والدين والفطرة، وهو أمرٌ بَدَهيّ. وهنا وتوضيحٌ من الإمام للتكليف الشرعيّ الواقع على عاتق المجتمع الإسلاميّ تجاه تلك الأوضاع الفاسدة والمنحرفة عن الدين.


ثانيًا: الغاية من إعلان الثورة

قال (ع) في وصيّته إلى أخيه محمّد بن الحنفية قبل خروجه من المدينة: «وأنّي لم أخرج أشرًا، ولا بطرًا، ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي (ص) أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين» (البحار.ج44 .ص329).

ومن هنا يتبيّن لنا أهميّة الإصلاح في المجتمع، حيث إنّه ومن خلال خطابات الإمام الحسين (ع) يتّضح لنا أنّه تكليفٌ واجبٌ على المجتمع الإسلاميّ بشكلٍ عام، ويقع التكليف الأكبر على عاتق القيادات الدينيّة والرموز والنُخَب بشكلٍ خاص، لما يمثّلونه من دورٍ رياديٍّ يحتّم عليهم قيادة مسيرة الإصلاح كما قادها ونهض بها (ع).


ثالثًا: بدء المسيرة الإصلاحيّة (الثورة) والانطلاق نحو كربلاء

عندما عزم الإمام (ع) أن ينطلق بركب الإباء إلى كربلاء حيث ملحمة الشهادة، قال في وصيّته لبني هاشم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم.. أمّا بعد: فإنّه من لحق بي منكم استُشهِد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح. والسلام» (البحار ج44. ص331).

كان الإمام (ع) يعلم بمصيره، بسبب البون الشاسع في موازين القوى (الماديّة) وهذا يظهر جليًّا في خطابه لبني هاشم، بيد أنّه لم يتزعزع أو يتراجع أو ينثنِ، أصرَّ أن ينطلق بالمسيرة الثوريّة، وقد كان بإمكانه أن يجد لنفسه مخرجًا شرعيًا أو عقلائيًا (إن صحّ التعبير) يُعفيه من المواجهة ونتائجها المأساويّة، متذرّعًا برجحان موازين القوى العسكريّة والسياسيّة لصالح معسكر يزيد، وبقلّة الناصر، أو خذلان المجتمع وعدم جهوزيّته للثورة.

لكنّنا رأينا كيف كان مستميتًا، ولم يعبأ بأيٍّ من العوائق الماديّة ولم يتذرّع بأيّ ذريعة، برغم النصائح الكثيرة والتحذيرات التي كانت تُوجّه له من شخصيّات ذات وزنٍ كبير كمحمّد بن الحنفيّة وعبدالله بن عبّاس، ولم يعبأ أيضًا بتهديدات الأمويّين. وكلّ تلك الصلابة والاستماتة التي أظهرها سيّد الشهداء، قد أراد بها أن يعلّمنا دروسًا في الإصرار على أداء التكليف الذي يشخص به الإنسان المؤمن مهما بلغت الضغوظ والصعوبات.


رابعًا: الوصول إلى كربلاء (ساعة المواجهة)

أحاط الجيش الأمويّ، وقوامه ثلاثون ألف مقاتلٍ بقيادة عمر بن سعد، بسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فخاطبهم الإمام (ع) بخطابٍ يُشجي النفوس، إذ كان يريد أن يثنيهم عن القتال حفاظًا على وحدة الأمّة وتجنّبًا للفاجعة ولئلّا يخسروا آخرتهم ودنياهم بقتلهم الإمام الشرعيّ مفترض الطاعة، إلا أنّهم أرادوا الغيّ والشِقاق وأصرّوا على أن يحشروا الإمام بين الإذلال والقتال، فأطلق صرخة الإباء المدوّية: «ألا إنّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السِلّة والذِلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت، وحجورٌ طهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة من أن نؤثر طاعـة اللِئام على مصارع الكِرام، ألا وإنّي زاحفٌ بهـذه الأسرة على قـلّة العدد وخذلان الناصر» (البحار. ج45. ص 6 ـ 7).

فقد خُيّر بين الاستسلام (البيعة ليزيد) والمواجهة العسكريّة، فأبى الخيار الأوّل لأنّه بخلاف التكليف الشرعيّ ولا ينسجم مع العقل والفطرة، ولذلك فقد اختار الخيار الثاني، لأنّه وبرغم المآسي التي ستنتج عنه من خسائر بشريّة وماديّة، يبقى الخيار الأصلح على المستوى البعيد من أجل اجتثاث السلطة المستبدّة الظالمة. وهذا خيار الحسينيّين الأحرار في مثل هذه المواقف المصيريّة.


الخلاصة

في خطابه لأصحابه بكربلاء يوم العاشر من المحرّم قال (ع): «أمّا بعد: فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلا صُبابةً كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما» (البحار. ج44. ص381).

من هذه المقتطفات الصغيرة من خطابات الإمام الحسين (ع) منذ إعلانه القيام على يزيد إلى ساعة استشهاده، يمكننا أن نستخلص ما يلي:

أوّلاً: أنّ تكليف المؤمن الرساليّ في دائرة الصراع بين الحقّ والباطل هو أن يكون ناصرًا للحقّ، داحضًا للباطل، ناصرًا للمظلوم، خاذلًا للظالم. وأنّه يجب عليه أداء التكليف الشرعيّ والأخلاقيّ: بالإصلاح في المجتمع ومحاربة كلّ أشكال الفساد والانحراف ومقاومة الحكومات الجائرة والظالمة المستبدّة.

ثانيًا: أنّ قيادات المجتمع ورموزه ونخبه وخواصّه هم من يقع على عاتقهم المسؤوليّة الأكبر تجاه القضايا المصيريّة والجوهريّة للأمّة والمجتمع، وهم المسؤولون عن قيادة دفّة الإصلاح وتصحيح مسار الانحرافات.

ثالثًا: أنّ تبرير التهرُّب عن أداء التكليف بحججٍ واهية من قبيل موازين القوى (الماديّة) وغيرها من التبريرات، لا تُعدّ مبرّرات مقبولة وفقًا للمنهج الذي رسمه الإمام (ع).

رابعًا: أنّ تقديم التضحيات الماديّة والبشريّة الكبيرة في العمليّة الإصلاحيّة للمجتمع ليس ممّا ينبغي الخوف منه؛ فالبصيرة والحكمة تقتضي إنعام النظر في أنّ النصر أو الخسارة المؤقّتة الآنيّة (الظاهريّة) ليس النتيجة والغاية، بل إنّ صاحب البصيرة يسعى إلى أن يحقّق النصر (القِيَميّ) على المستوى البعيد. ألم يكن يوم عاشوراء يوم انتصار الدّم على السيف؟ فأداء التكليف الإلهيّ مهما اقتضى من تضحيات هو انتصارٌ للحقّ على الباطل.

تعليق واحد

  1. السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين‎.

شارك برأيك: