في استقبال عاشوراء للأستاذ عبد الوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين

أيها الأحبة الأعزاء..
نقف في هذه الأيام العظيمة على مناسبتين جليلتين، وهما:
– توديع عام واستقبال عام هجري جديد.
– ذكرى شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء.

وسوف أقف عند كل من هاتين المناسبتين وقفة تأمل ونظر لنأخذ منها بعض الدروس والعبر على طريق الكدح في ذات الله ذي الجلال والإكرام والارتقاء إليه على الصعيدين: الفردي والمجتمعي.


الوقفة الأولى
توديع عام واستقبال عام هجري جديد

ثمة حقائق مصيرية يجب أن يقف عليها الإنسان ويأخذها مأخذ الجد الذي ليس فوقه جد، وهي:
– أن الإنسان مخلوق، وهو مفتقر إلى خالقه في كل شيء، وأنه راحل إليه ولا مناص له من المثول بين يديه ومحاسب في يوم القيامة.
– أن الحياة الدنيا دار الفقر والفناء، وأن الآخر هي دار الغنى والبقاء، وأن الإنسان في الآخرة إما شقي معذب مع الشياطين في نار جهنم أو سعيد منعم بصنوف الطيبات مع الأولياء الصالحين في الجنة.

ونخلص مما سبق إلى النتائج المهمة التالية:
– يجب على الإنسان أن يتجهز للآخرة وأن يسلك طريق السعادة فيها، وهو طريق الطاعة لله وحده لا شريك.
– وأن الإنسان العاقل لا يمكن أن يؤثر الحياة الدنيا الفانية على الحياة الآخرة الباقية، مهما أعطي من منافع الدنيا وسلطانها، وكل تقديم للدنيا على الآخرة فهو دليل على ضعف العقل والإيمان وقلة الحياء مع الله سبحانه وتعالى، وفاعله محجوب بحجاب الهوى والذنوب عن رؤية الحق وعن التعلق بعالم القدس والطهارة، ومحروم من القرب والزلفى لدى الرب الرؤف الرحيم، ومن مجاورة الأولياء الطاهرين في الفردوس الأعلى في الآخرة.

والخلاصة:
أن الإنسان العاقل يعمل من أجل الآخرة بكامل الجد والاجتهاد ولا يتوانى أو يقصر في العمل من أجلها، ولا يمكن أن يخدع عنها بالآمال والأماني الفارغة، وأنه يبادر إلى الاستغفار عن كل تقصير والتوبة عن كل ذنب.

وقفة مع الزمن:
أيها الأحبة الأعزاء..
كل شيء في الوجود خلق لغاية بالغة، وهو خاضع للتدبير الإلهي المحكم، ومنتهاه إلى الله العزيز الجبار، وأن الإنسان هو لب الوجود، وأنه قادر على أن يمنح الوجود قيمة إضافية لا يستطيع غيره أن يمنحها إياه. فالإنسان هو الكائن الذي يحمل الوعي وإرادة الاختيار بامتياز مع درجة الشرف، وهو الكائن الوحيد الذي يصنع ماهيته بنفسه من خلال علمه وعمله، فهو بعمله: إما شيطان شرير أو ملك عظيم. والزمن هو حلبة السباق والمنافسة التي تمنح الإنسان الفرصة الواسعة والوحيدة للفوز والارتقاء والتقدم في ساحة الشرف والنبل والتسامي، حيث لا يعود الزمن، ولا تتكرر الفرصة. والساعات والليالي والأيام والشهور والسنوات هي محطات الطريق والمراقبة، ولكل منها خاصيتها، والزاد هو التقوى، والغاية هو رضا الرب تبارك وتعالى وتحقيق أفضل نموذج للإنسان.

فقد جعل الله تبارك وتعالى من الأوقات (الساعات والليالي والأيام والشهور والسنوات) منازل سفر الإنسان إلى الآخرة، وشاهدا يحيط بحركة الإنسان من جميع الجوانب ليقدم شهادته بين يدي الله جل جلاله في يوم القيامة، فيما حمل (أي الإنسان) من المسؤوليات الربانية: الفردية والمجتمعية في الحياة، وبدون هذه المسؤوليات يفقد الزمن قيمته وتفقد حياة الإنسان قيمتها.

وقد جعل الله تبارك وتعالى في الأوقات نفحات طيبة يجب على الإنسان مراقبتها والعمل بما ورد فيها من الأعمال الواجبة والمستحبة قدر استطاعته مع مراعاة الصدق والاخلاص في النية ليحصل الإنسان على فوائدها القدسية وكمالاتها الروحية ليكون من أهل السبق والفوز والسعادة والزلفى لدى الرب الجليل في يوم القيامة.

قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:15ـ17).

وقال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ولا تعرضوا عنها”.

والخلاصة:
يجب أن تكون لنا في نهايات الأوقات (الليالي والأيام والشهور والسنوات) وقفات تأمل وحساب مع النفس، لنعلم أين نقف من الحقيقة العظمى وإلى أين نسير، وأن نحذر من الغفلة والتجاهل، فإن الأمر خطير.. خطير.

قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:18ـ19).

وتمتاز السنة الهجرية في شعور المسلم: بأنها تحمل – لصلتها بالهجرة النبوية – معنى المسؤولية في حياة كل مسلم نحو الرسالة والبشرية، والاستعداد التام لتقديم التضحيات بكافة أشكالها من أجل خدمة الرسالة والبشرية قربة لله تعالى، وتلغي التعذر بالضعف وقلة العدد والعدة ما دامت الفرصة متاحة أمام الإنسان لتغيير المعادلة من خلال:
– الابداع في التفكير والتخطيط.
– والإخلاص في العمل.
– والصدق في تقديم التضحيات.

فلا يجوز للمسلم وهو يستحضر ذكرى الهجرة النبوية الجليلة أن يقف موقف الحياد واللامبالاة أمام القضايا الكبرى والمصيرية في الحياة، ويتخلى عن مسؤولياته الرسالية المتمثلة في: إظهار الحق في مقابل الباطل، وإقامة العدل في مقابل الظلم، ونشر الفضيلة في مقابل الرذيلة، ومقارعة الطواغيت والظالمين والمفسدين في الأرض، فإنهم مظاهر الظلام والخراب والشؤم والفناء. وعليه أن يكون مستعدا لتقديم التضحيات بكافة أشكالها بهدف كسر الطوق المفروض على المظلومين والمستضعفين والتحرر من سيطرة الطغاة والمستكبرين والمفسدين في الأرض، ليفوز برضا الله تبارك وتعالى والزلفى لديه والحياة السعيدة الخالدة في الجنة.


الوقفة الثانية
ذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السلام

لن أذكر الليلة ما حدث على سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وعلى أهل بيته وأصحابه في كربلاء المقدسة، فكلكم يعرف ذلك ويقف عليه مع خطباء المنبر الحسيني، ولكن سأحاول تبيان النظرة المطلوبة لفاجعة كربلاء الأليمة وكيفية التعاطي في إحياء هذه المناسبة الجليلة.

– يجب على كل مؤمن موالي لأهل البيت (عليهم السلام) أن يُظهر في ذكرى عاشوراء الأليمة – بحسب إرشاد أئمة الهدى (عليهم السلام) وهم أطباء النفوس والقلوب، وبحكم الولاية والمحبة والوفاء لأهل البيت عليهم السلام – الحزن والتفجع مواساة لأهل البيت (عليهم السلام) للمصائب الجليلة والرزايا الفجيعة التي أصابتهم (عليهم السلام) في كربلاء المقدسة في شهر محرم الحرام من العام: (61هج) على أيدي الأشرار من جنود إبليس وعبدة الطاغوت والحكام الظالمين، فيترك لذلك بعض لذاته في طعامه وشرابه ومنامه وكلامه، ويكون بمثابة من أصيب في أهله وأعزته وأقربائه، ولا يكون انتهاك حرمة أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) مظاهر النور والمحبة والسعادة والحياة الذين هم أولى به من نفسه، أهون عليه من انتهاك حرمة نفسه وأهله وأعزته وأقربائه، لاسيما وأن ما أصابهم (عليهم السلام) كان من أجل نجاة المؤمنين وسعادتهم، ومن لا يفعل: فإنه محجوب عن رؤية الحقائق الملكوتية للأمور والأشياء، ولا وجدان له ولا شرف ولا كرامة. وعلى المؤمن أن يحذر من خديعة الشيطان له بطول الزمان على المصيبة الفجيعة ـ كما يُروج له البعض هذه الأيام ـ فالمصيبة حاضرة متجددة في قلوب المؤمنين الصادقين في كل لحظة، ولكن كما قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} (التوبة: 36) ولكل شهر خاصيته وآدابه وأعماله، فلشهر رمضان خاصيته وهي الصيام، ولشهر الحج خاصيه وهي الحج، ولشهر المحرم خاصيته، وخاصية شهر المحرم إظهار الحزن لمصائب أهل البيت (عليه السلام) ورزاياهم، فيجب على كل مؤمن أن يكون له كل الحرص على حضور مجالس العزاء، وقراءة زيارة عاشوراء، والبكاء أو التباكي، وأن يكون لسان حاله يقول بصدق وإخلاص: يا ليتني كنت فداء لك يا حسين من جميع ما أصابك، وكان أهلي فداء لأهلك من جميع ما أصابهم، ليعرج بذلك إلى عالم الملكوت الأعلى، ومن لا يعتقد بأنه يجب عليه أن يكون فداء للحسين (عليه السلام) وأهل بيته، فتلك مصيبة عظمى في يقينه ودينه وإيمانه يجب عليه أن يجد حلا لها.

– أن يعلم المؤمن بأن الحزن والتفجع إنما هو حالة إنسانية وجدانية فطرية تتولد في قلوب المؤمنين الصادقين بشكل طبيعي تلقائي بسبب جرأة الأشرار من عبد الطاغوت والشيطان على انتهاك حرمات أولياء الله القديسين الذين امتلأت قلوب المؤمنين بعشقهم وموالاتهم والتعلق بهم والإنس بوجودهم والوحشة لفراقهم والتألم لكل ما يصيبهم من سوء ـ وهذه من الحالات الوجدانية الطبيعية الصادقة للإنسان في الحياة الدنيا بحكم الفطرة وسنن الحياة ومتطلبات عمرانها بالحق ـ وظهور الظلمة وتجلي الوحشة بسبب غلبة الطاغوت وإهانة نور الولاية وسلطانها على الأرض، ولهذا كله حقيقة ملكوتية هي في غاية الوحشة والإيلام، وهي حقيقة يراها كل من يملك قلبا طاهرا نقيا، ويخاف أصحاب هذه القلوب بسبب رؤية هذه الحقيقة الفجيعة التي تستبطن حقيقة كل ظلم يقع على كل مستضعف في الأرض من غضب الرب الجليل ومن نزول العذاب على أهل الأرض بسببها، ما لم يكن هناك استنكار ورفض ومقاومة، ولهذا كان شعار القائم من أهل البيت (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في نهاية مشاور المآسي في تاريخ البشرية، هو: “يا لثارات الحسين” وهو الشعار الذي يستبطن الرفض والانتقام لظلامات جميع المستضعفين في الأرض. ولكن ليعلم المؤمن بأن ما أصاب الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، لا يمثل إهانة حقيقية لهم ولا سبيلا لشعورهم بالذلة والإنكسار أمام طغيان يزيد وجيشه، وإنما هو سبيل للشعور بالعزة والرفعة والكرامة والمجد في الدنيا والآخرة، ففي كل إهانة وإساءة يوجهها جنود يزيد إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، كان الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه يرتقون إلى عالم القدس والطهارة حيث يسكن القديسون والملائكة المقربون، وكان يزيد وجنوده يهوون إلى الدرك الأسفل مع الشياطين في نار جهنم التي سجرها الله جل جلاله بغضبه للإنتقام من شرار خلقه، وحينما ارتقى الشمر بن ذي الجوشن على صدر الإمام الحسين (عليه السلام) وهو قمة الإهانة في الظاهر، فقد صعد الإمام الحسين (عليه السلام) في الحقيقة والباطن إلى أعلى عليين، وهوى الشمر بن ذي الجوشن إلى أسفل سافلين في سجين في نار جهنم. ولهذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) وخاصة أصحابه تشرق وجوههم بسبب لذة الشوق والوصال وما يصل إلى أرواحهم الشريفة الطاهرة من تجليات جمال المحبوب وسبحات جلاله، فلا يجوز أن يذهب الحزن لما أصاب الأجساد الشريفة من الهتك الظاهر والإساء الجسدية بجمال هذه الحقيقة العرفانية الرفيعة.

– وليعلم الأحبة جميعا: بأن القيمة الحقيقة لإحياء عاشوراء تتمثل في إحياء قضية عاشوراء وليس في إحياء المأساة وسردها، وذلك بالعزم الأكيد على الالتزام الصادق بمنهج سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في إمامته وصبره وشجاعته ورفضه ومقاومته لكل أشكال الباطل والظلم والرذيلة وتضحياته من أجل الدين والقيم والمباديء والمصالح الإنسانية العليا، وأن يكون البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) في حقيقته ثورة عقائدية وجدانية صادقة على الذين صنعوا المأساة الفجيعة في كربلاء، وعلى امتداداتهم الطبيعي في التاريخ من الطغاة والمستكبرين والظالمين والمفسدين في الأرض، ويترجم ذلك بالانتظار البناء والفاعل لظهور القائم من آل محمد (صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين) ليكون من أنصاره على الحق في السر والعلانية والظاهر والباطن، ويسهم معه في إقامة دولة العدل الإلهي العالمية، وتطهير الأرض من الطغاة والمستكبرين والمفسدين في الأرض، وبدون ذلك يفقد الإحياء والبكاء قيمتهما في العقل والدين والحقيقة.


وفي الختام أيها الأحبة..
ليكون لكم المزيد من الاهتمام بعاشوراء ورعايتها حق رعايتها والحرص على الالتزام بآدابها والقيام بأعمالها من حضور مجالس العزاء والزيارة والبكاء أو التباكي، والحذر من عدم التغير في هذه الأيام الجليلة، فإنه دليل على الخذلان وعدم التوفيق والاحتجاب عن رؤية عالم الحقيقة ـ عدم رؤية ملكوت الأشياء والأمور وحقائها ـ بسبب الاستغراق في عالم المادة وحب الدنيا ومظاهرها وزخارفها الباطلة واستيلاء الذنوب على العقل والنفس، فتجب بذلك المبادرة إلى العلاج بالتفكر في النفس ومحاسبتها والاستغفار من الذنوب والتوبة منها إلى الله عز وجل والتعويض عما سلف من التقصير قبل حلول الأجل وملاقاة المصير الأسود في يوم القيامة.

أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

شارك برأيك: