الإمام الحسين عليه السلام كلمة المعروف التامة للأستاذ عبدالوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين

قال الإمام الحسين عليه السلام في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية:
“وأني لـم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا مفسدا، ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف، وانهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين”
(البحار. ج44. ص 329 ـ 330).


أيها الأحبة الأعزاء:
عنوان الكلمة: (الإمام الحسين (ع) كلمة المعروف التامة) وقبل أن أدخل في صميم الكلمة، أرى بأنه من المناسب ومن أجل الحصول على فائدة أكبر من الكلمة، أن أبين المراد من لفظي: الكلمة والمعروف وبالتالي المراد من عنوان الكلمة.


أولا – المراد من الكلمة:
الكلمة في اللغة تعني اللفظ الدال على معنى، وتطلق على الجملة كما تطلق على المفرد.
قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ}. (آل عمران: 64).
وقد استخدم القرآن الكريم لفظ الكلمة بهذا المعنى اللغوي.
قول الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (الكهف: 109).

وقد نعت القرآن الكريم الكلمات ببعض الأوصاف، منها:
الوصف الأول – التمام والنقص:
فقد وصف الله تبارك وتعالى كلماته بالتامات.
قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. (الأنعام: 115).

ووصف كلمات الله (جل جلاله) بالتمام يعني أنها تكشف عن الواقع كما هو بالكمال والتمام، وأنها تتحقق في الخارج وتصدق بالصفة التامة المبينة بدون تبديل أو تغيير أو حتى تخلف جزء من أجزائها {لا مبدل لكلماته} أما تمام الكلمات التي تصدر عن الإنسان، فيكون بلباسها لبوس العمل ووضعها موضع التطبيق وإلا فهي ناقصة.


الوصف الثاني – الطيب والخبث:
فقد وصف الله (جل جلاله) الكلمات بالطيب والخبث.
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} (إبراهيم: 24 ـ 26).

وطيب الكلام: هو ملاءمته لنفس سامعه ومتكلمه وانبساطهما له، وإفادته معنى صحيح فيه سعادة النفس وفلاحها. وأطيب الكلمات وأعطرها وأنفسها ـ على هذا الأساس – هي الكلمات التي تعبر بشكل دقيق وصحيح عن العقائد الحقة الثابتة، وفي مقدمتها عقيدة التوحيد الخالصة.

وكلمة الله: تعني حكمه وإرادته وقضاؤه.

وكلمة التقوى: هي كلمة التوحيد والإخلاص.

وقد أطلق القرآن الكريم لفظ الكلمة على الموجودات الخارجية كالإنسان مثلا..
قول الله تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}. (آل عمران: 45).
وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}. (النساء: 171).


ومن المعلوم أن الإنسان إنما يستخدم الكلمات للتعبير عما في نفسه من معاني ومقاصد ويتواصل بها مع بني جنسه، ومن المعلوم أن الله (جل جلاله) لا يتكلم بلسان، فالمراد من قوله هو فعله وما يفيضه من وجود.

قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (النحل: 40).

وعليه تسمى أفعال الله (جل جلاله) وإفاضاته كلمات لكونها آيات دالة عليه سبحانه وتعالى وعلى صفاته ووعده ووعيده دلالة ظاهرة لا خفاء فيها ولا بطلان ولا تغيير، كما تدل الكلمات في اللغة على معانيها الموضوعة لها بدقة تامة بالغة.


ثانيا ـ المراد من المعروف:
المعروف في اللغة هو اسم للأعمال الصالحة التي فرضها الله تبارك وتعالى علينا مثل: الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد وصلة الرحم وبر الوالدين والصدق والعدل والعفة والأمانة، ولكل ما هو حسن في نظر الشرع والعقل. وهو خلاف المنكر الذي هو اسم للأعمال القبيحة التي حرمها الله تبارك وتعالى علينا مثل: الزنا والربا وشرب الخمر والكذب والظلم والغيبة والنميمة والغدر والفرار من الزحف وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم والإساءة إلى الناس، ولكل ما يقبحه الشرع ويحرمه وكل ما يحكم العقل البشري السليم بقبحه.


وعليه: فالمراد من العنوان (الإمام الحسين عليه السلام كلمة المعروف التامة) أن الإمام الحسين (عليه السلام) هو التجسيد الحي الناصع الجلي الكامل المتحرك لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياته كلها التي ختمها بالشهادة العظيمة في كربلاء المقدسة على الحالة التي نعرفها جميعا، وهو قدوة المؤمنين في هذا السبيل العظيم.

بعد هذا التوضيح للمراد من لفظي: الكلمة والمعروف ومن عنوان الكلمة، أدخل إلى صميم الحديث في الموضوع الذي أردت الحديث عنه في هذا اليوم العظيم الذي هو يوم الأربعين…


أيها الأحبة الأعزاء:
لقد عنون الإمام الحسين (عليه السلام) حركته الإصلاحية وتضحياته العظيمة المتميزة ووقوفه المسلح الباسل في وجه الطاغية يزيد بن معاوية حتى نال شرف الشهادة بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذا يدعونا إلى الوقوف مليا على هذه الفريضة ودراستها بجد وعمق والسعي لإزالة كل لبس يمكن أن يعلق في ذهن أي منا حول هذه الفريضة العظيمة، وذلك بهدف أن نجعل إحياءنا لذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) إحياء واقعيا صحيحا، وأن نتمكن من الاقتداء به والسير على نهجه القويم وطريقه المستقيم في الحياة بصورة صحيحة أيضا، حيث تتطلع كافة الشعوب المضطهدة والمظلومة في العالم إلى ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) لتقتبس من نورها المشرق في سماء التوحيد والحرية والعدل والكرامة والفضيلة، وترتوي من نبعها الصافي زلال العشق والمحبة والعدالة والسلام، وسوف أجعل الحديث في نقاط بهدف جعل الحديث أكثر سلاسة وأسهل فهما:


النقطة الأولى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة إسلامية عظيمة فرضهـا الله (عز وجل) على المؤمنين فرض كفاية – بحسب الرأي الفقهي المشهور – وهناك قول لدى عدد من الفقهاء بأنها فرض عين مثل: شيخ الطائفة الطوسي والمحقق الحلي وبعض فقهاء مدرسة الخلفاء.

وسواء كانت الفريضة: فرض كفاية أو فرض عين، فإن المسلمين مكلفون بأداء هذه الفريضة وتحقيق غرض الشارع المقدس بإقامة المعروف والقضاء على المنكر في المجتمع والدولة. إلا أن العمل على أساس القول أنها فرض عين يوجب على جميع المسلمين المبادرة للقيام بأداء الفريضة حتى لو قام بأدائها من فيه الكفاية إلى أن يتحقق الغرض المطلوب شرعا فيسقط حينئذ الوجوب. أما العمل أساس القول أنها فرض كفاية فلا تجب المبادرة على جميع المسلمين للقيام بأداء الفريضة فيكفي قيام من فيه الكفاية إلا إذا عجز عن تحقيق الغرض فيتوجه التكليف إلى الجميع (من الفقه السياسي في الإسلام. الظالمي. ص114 ـ 115).

قال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له”.
فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له؟
قال: ” الذي لا ينهى عن المنكر ” (الوسائل. ج11. ص399).

وقد كشفت النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة وأقوال الفقهاء المستفيضة عن عناية الدين الإسلامي الحنيف بهذه الفريضة العظيمة العناية الفائقة المتميزة، فهي من أبرز سمات الرسالة الإسلامية العظيمة ومن أوضح معالمها.

يقول العلامة الطباطبائي: “يعتبر دين الإسلام هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل ما يسعه من روح الحياة” (الميزان. ج8. ص294) وذلك لما لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تأثير مباشر في تحديد واقع حياة الأمة الإسلامية ومستقبلها، وصياغة شخصية الإنسان المسلم وتحديد دوره وتأثيره في الحياة العامة والشأن العام في المجتمع والدولة الإسلامية، وهي دليل جلي على عظمة الإسلام وتقدمه في ميدان السياسة والتمدن والواقعية في الإدارة والبناء والتوجيه والقيادة.


فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من أشرف الفرائض وأعظمها في الإسلام، بها تبلغ الرسالة وتقام الفرائض الإسلامية، وينتشر العدل وتنتشر الفضيلة في المجتمع والدولة، ويرشد الضال إلى الهدى والصراط المستقيم، وينمو الوعي لدى عامة الناس وخاصتهم، وتصان المجتمعات الإسلامية من الضلال والجهل والانحراف وتصان الدولة من الظلم والاستبداد والفساد والتخلف والتبعية للاستعمار والقوى العظمى.

قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: 110).

وقال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء” (الوسائل. ج11. ص398).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله (عز وجل) فمن نصرهما أعزه الله ومن خذلهما أذله الله” (البحار. ج100. ص75).

وقال (عليه السلام): “إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر” (الوسائل. ج11. ص395).

وقد جعل الله تبارك وتعالى لممارسة هذه الفريضة شروطا في مقدمتها: العلم بالمعروف والمنكر، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والجاهل يفسد ولا يصلح، ويمكن أن تأتي نتائج عمل الجاهل على خلاف إرادته ونيته. ولممارسة هذه الفريضة آداب في مقدمتها: الإخلاص في النية واللطف والرحمة مع الناس في أداء الفريضة.

قال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به عالم بما ينهى عنه” (البحار. ج100. ص93).


وقد أوجب الله (عز وجل) على المؤمنين الاجتماع لأداء هذه الفريضة العظيمة إذا توقف القيام بها على اجتماعهم، كما أوجب الله (جل جلاله) على المؤمنين السعي لتوفير شروطها كسعي المصلين لتوفير شرط الطهارة من أجل أداء فريضة الصلاة، ليتحقق بذلك غرض الشارع المقدس ببناء مجتمع إسلامي ينتشر فيه الهدى والصلاح والفضيلة، وبناء دولة إسلامية تقوم على أساس التوحيد ويحكم فيها أولياء الله بالعدل وينعدم فيها البغي والضلال والتمييز بين المواطنين.
النقطة الثانية: أن ممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم خصائص القيادة الربانية والشخصية الإيمانية الرسالية المتبعة لها بحق وحقيقة، فلا يمكنهم أن يتخلفوا عن أداء هذه الفريضة بأي حال من الأحوال، لأنها من أول واجباتهم في الدعوة إلى الله (تبارك وتعالى) وطاعته وإقامة حكومته العادلة في الأرض.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).

وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).

ويقابلهم المنافقون والكافرون الذين لهم موقف مغاير من فريضة المعروف والمنكر..

قول الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة: 67).

وقال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِـكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُـواْ يَعْتَدُونَ. كَانُـواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}. (المائدة: 78 ـ 79).

كما يرتبط أداء هذه الفريضة بهوية الأمة الإسلامية بما هي أمة مسلمة حية فاعلة ومتميزة تعيش التوحيد قولا وعملا، فهي أمة مسلمة موحدة تدعو إلى الله (عز وجل) وحده لا شريك له، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتجاهد في سبيل الله، وأنها تفقد هويتها الإسلامية إذا تخلت عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تماما كما تفقد هويتها إذا تخلت عن الصلاة والصيام والحج والزكاة.

قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: 110).

قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41).

وأن الأمة الإسلامية مكلفة بزعامة القيادات الربانية: الأنبياء والأوصياء والفقهاء العدول بإقامة دولة العدل الإلهي والأمة الصالحة في الأرض، ولا يمكن أن ينفك دور الأمة والقيادات الربانية عن هذه الغاية الربانية العظيمة.

قول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25).

وقال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90).

وقال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء” (ميزان الحكمة. ج6. ص266).

ولهذا لا يجوز أن تُحكم الأمة الإسلامية بغير النظام الإسلامي والقيادات الربانية المؤهلة للقيادة الإسلامية تأهيلا شاملا، لأن النظام والقيادة هما الذين يطبقان الدستور الإلهي ويعطيان للأمة الإسلامية هويتها وقيمتها الإنسانية والتاريخية. فهما اللذان يعطيان الأمة الإسلامية هوية التوحيد والصلاح وهما السبيل لإقامة القسط والعدل وإعطاء كل ذي حق في المجتمع والدولة حقه المادي والمعنوي بدون تفرقة أو تمييز بين المواطنين.

أما النظام غير الإسلامي والقيادات غير الربانية فإنهما يعطيان للأمة هوية الشرك والفساد، وهما السبيل لنشر الظلم والتمييز بين المواطنين وعدم إنصافهم في الحقوق والواجبات، فإذا سيطرت القيادات غير الربانية على المجتمع والدولة وحكمت بخلاف النظام الإسلامي، فإن من شأن ذلك أن يؤدي إلى فقدان المجتمع والدولة لهويتهما الإسلامية وينتشر فيهما الظلم والفساد، وتضيع بذلك الغايات الربانية، وهذا خلاف الحكمة والمنطق.

قال الله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران: 28).

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل: 36).

وقال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} (النساء: 41 ـ 42).

وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} (هود: 96 ـ 99).

وقـال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “كيف ما تكونوا يولى عليكم”.

فهويتنا وقيمتنا ومصيرنا في الدنيا والآخرة تتحدد بحسب نظام الحكم الذي نقبل به ونخضع إليه وبالحاكم القائم على النظام، ويعتبر القبول بولاية الكافر والحاكم الجائر خروج على حقيقة الإيمان، فلا يمكن للإنسان المؤمن بحق وحقيقة أن يقبل به إلا مرحليا لظروف اضطرارية، وهنا تنبغي الإشارة إلى الأمور التالية..

الأمر الأول: أن الإنسان المؤمن قد يطالب مرحليا بالعدل الجزئي ويقبل به، إلا أنه لا يمكن إسلاميا أن ترفع اليد كليا عن التطلع إلى حكومة ولي الله وحكومة العدل الإلهي، ومن غير المقبول الانشغال التام والكلي بالأهداف المرحلية كالمطالبة بالعدل الجزئي من خلال الديمقراطية مثلا وإهمال المطلب والتوجه الاستراتيجي المتمثل في حكومة ولي الله وحكومة العدل الإلهي ونسيانهما، فتضيع بذلك البوصلة لدى القيادة والجماهير وتتحول الحالة المرحلية إلى حالة دائمة والعياذ بالله تعالى.

الأمر الثاني: لا يصح في جميع الأحوال تعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسكوت أمام الظاهر السلبية الخطيرة التي تمس أساس الدين وهوية الأمة وكرامة الإنسان، فينبغي التصدي للحاكم الجائر ومقاومة كل أشكال الظلم والاستبداد والتخلف والفساد وعدم القبول بذلك أبدا.
قال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “أفضل الجهاد كلمة عدل أمام سلطان جائر” (الوسائل. ج11. ص400).


النقطة الثانية: الحديث السابق يجرنا إلى الحديث عن أقسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلق بشروطهما والحاجة إلى التضحية والفداء من أجل القيام بهما، وهما ينقسمان إلى قسمين..


القسم الأول: المعروف والمنكر اللذين يتعلقان بالأفراد مثل أداء الصلاة والصيام والحج والزكاة من المعروف، والزنا وشرب الخمر ولعب القمار من المنكر.

القسم الثاني: المعروف والمنكر اللذين يتعلقان بهوية الأمة الإسلامية وفي مقدمتها: الدعوة إلى الله تعالى وإقامة الحكومة الإسلامية من المعروف، والدعوة إلى الكفر والعلمانية وحكومة الطاغوت من المنكر.

ومن الواضح الجلي: أن المعروف الذي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهد من أجله ليس هو المتعلق بالأفراد وإنما هو المتعلق بهوية الأمة الإسلامية وهو الأهم. فالإمام الحسين (عليه السلام) لم يستشهد ليأمر يزيد بن معاوية بالصلاة وينهاه عن شرب الخمر، وإنما استشهد من أجل القضاء على حكومة الطاغوت وإقامة حكومة ولي الله والعدل الإلهي التي تصون هوية الأمة الإسلامية وكرامة الإنسان وتحفظ كامل حقوقه الطبيعية التي فطره الله (جل جلاله) عليها، وقد أكد الإمام الحسين (عليه السلام) في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية على أمرين..

الأمر الأول: أن خروجه ضد (يزيد بن معاوية) واستشهاده في هذا السبيل، هو جوهر الإصلاح الذين يمارسه كإمام وقائد رباني في الأرض تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأمر الثاني: أن الطريق الذي سلكه في السعي للإطاحة بحكم (يزيد بن معاوية) وإقامة حكومة ولي الله والعدل الإلهي، هو عينه الطريق الذي سلكه جده الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشايعهما عليه أصحابهما الذين اهتدوا بهديهما وساروا على دربهما في الحياة، وهو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه كل قائد إسلامي صادق في الحياة ويجب على كافة المؤمنين الصادقين إتباعه حتى يتحقق وعد الله الصادق في الأرض.

قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 5).

وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ. إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا. وَأَكِيدُ كَيْدًا. فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 13 ـ 17).

وقال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه” (ميزان الحكمة. ج6. ص263).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): “والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم”

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى تكون العامة تستطيع تُغير على الخاصة، فإذا لم تغير العامة على الخاصة عذب الله العامة والخاصة” (كنز العمال. ج3. ص65. الحديث: 5515).

وقال الإمام الحسين (عليه السلام): “أيها الناس: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال في حياته: من رأي منكم سلطانا جائرا، مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهده، مخالفا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بقول ولا فعل، كان حقا على الله أن يدخله مدخله” (البحار. ج 44. ص 382).

وهذا يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصنف الثاني يستحق أن يضحي الإنسان المؤمن بنفسه وماله وأعز ما يملك من أجله، فهذا ما فهمه الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم المخلصون الصادقون وعملوا به، وعلى رأسهم الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، فتسابقوا إلى التضحية والفداء والاستشهاد من أجل الوقوف في وجه الطواغيت للقضاء على الظلم والجور والضلال وإقامة الحق والعدل ونشر الحرية والفضيلة في المجتمعات الإسلامية.

إلا أن بعض الضعفاء، وعلى خلاف المنهج الإسلامي العظيم وسيرة الطاهرين والأولياء الصالحين، وكسبيل لمغالطة النفس والكذب عليها، وللتهرب من المسؤولية الرسالية التي فرضها الله (جل جلاله) عليهم، نراهم يتشددون كثيرا في القسم الذي يتعلق بالأفراد ويتجاهلون تماما القسم الذي يتعلق بنظام الحكم والحكومة، رغم أن القسم الثاني هو الأخطر على الدين والأمة في الدنيا والآخرة، وذلك لأن التشدد في القسم الأول الذي يتعلق بالأفراد لا يكلفهم شيئا من التضحيات، وهو مجال خصب للرياء وساحة سباق بين فرسانه أبطال المعارك الكلامية والحوقلة والاسترجاع، حيث لم تتشبع أرواحهم بالرغبة في التضحية والفداء في سبيل الله من أجل الدين وكرامة الإنسان وحقوقه الطبيعة في الحياة، أما التشدد في القسم الثاني فهو يحتاج إلى تضحيات كبيرة لا يقدم عليها إلا أهل الصدق والمعرفة.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): “يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر، إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلفهـم في نفس ولا مال، ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهـم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها” (الكافي. ج5. ص55).

ونتيجة لهذا السلوك الكاذب الجبان: فقد عاشت الأمة الإسلامية قرون متطاولة تحت حكم الطواغيت، وتشتت وتفرقت وتخلفت وأصبحت لقمة سائغة في فم أعدائها من الحكام المستبدين وقوى الاستكبار.

قال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “لتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم العجم فليضربن رقابكم وليكونن أشداء لا يفرون” (كنز العمال. ج3. ص77. الحديث: 5563).

وهذا على خلاف الاقتداء الصحيح الصادق بالرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) وإتباع منهجهم والسير على خطاهم في الحياة، وهو خلاف الإحياء الصادق لذكرى شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) كل عام.

وهذا يقودنا – بحسب الحوارات القائمة – إلى الحديث عن اختلاف شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحاجة إلى التضحية في سبيل ممارستهما باختلاف طبيعتهما.. 
سؤل المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محسن الحكيم: لقد جاء في رسالتكم العملية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: “أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس أو في العرض أو في المال” ولقد رأينا جملة من المؤمنين الصالحين قد أمروا بمعروف ونهوا عن منكر ولاقوا ما لاقوه من قوى الشر والضلال، فهل أن عملهم هذا غير صحيح؟

فأجاب: “إن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ذكرها الفقهاء رضوان الله عليهم إنما هي شرائط للنهي عن المنكرات المتعارفة كترك الصلاة وشرب الخمر وأكل أموال الناس ونحو ذلك، مما لا يمس أساس الدين وبيضة الإسلام، أما المنكرات التي يخشى من وقوعها على أساس الدين، فيجب مكافحتها والتضحية في سبيل المحافظة على أصل الدين وأساسه بكل غال ورخيص وبالنفس والنفيس، كما وجب الجهاد في كثير من الإعصار والأمصار حفظا لبيضة الإسلام وكيان الدين، وما قام به هؤلاء المؤمنون الصالحون من تضحيات وما لاقوه من قوى الشر والضلال من هذا النوع” (من الفقه السياسي في الإسلام. الظالمي. ص124 ـ 125).

والنتيجة:
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذان يتعلقان ببيضة الإسلام ونظام الحكم والحكومة والدعوة إلى الله (عز وجل) يستحقان من الإنسان المؤمن الصادق التضحية والفداء وبذل النفس والنفيس دفاعا عن الإسلام الحنيف وإقامة لأحكامه وحكومة ولي الله والعدل الإلهي في الأرض والمحافظة على أساس الدين الحنيف.


النقطة الثالثة: أرغب في نهاية الحديث أن أتناول مسألة الدعوة إلى تجريد الموكب الحسيني من القضايا السياسية أو إدخالها فيه كجزء من رسالته العامة واهتماماته الأساسية في الحياة، وذلك لأن هذه المسألة أصبحت موضع نقاش وحوارات في هذه الأيام، ولاختصاصها بقيمة إحياء الذكرى ورسالة الموكب الحسيني وجوهر الاقتداء بالإمام المعصوم (عليه السلام) ولتدخل الدوافع السياسية في البحث من أجل المحافظة على رسالة الموكب أو حرفه عنها وتعطيل دوره وتأثيره في الحياة العامة وتحويله إلى مجرد طقوس فارغة من المضمون الرسالي التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

أيها الأحبة الأعزاء:
إني أعتقد بأن الفهم الرسالي لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وإحياء ذكرى استشهاده والبكاء عليه كما أراده الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) والفهم الصحيح للرسالة الإسلامية ومنهج الإسلام العظيم في الحياة الذي يجسده الإمام الحسين (عليه السلام) التجسيد الحي الكامل والاقتداء الصحيح بالإمام المعصوم (عليه السلام) كل ذلك يفرض على المؤمنين الاهتمام بالقضايا السياسية وقضايا الشأن العام وإدخالها في أطروحات الموكب كجزء من رسالته واهتماماته الأساسية.

وأعتقد أن تركيز الاهتمام على المصيبة في بعدها المأساوي وتجريد الموكب من الاهتمام بقضايا الشأن العام، يعني في الحقيقة تحويل قضية الإحياء إلى قضية شخصية وتجريدها من بعدها الثوري والرسالي، فهي في الحقيقة تصور لنا الإمام الحسين (عليه السلام) وكأنه مجرد إنسان عظيم محترم قتل بطريقة مأساوية بشعة والمطلوب منا أن نجلس في مآتمنا نبكي عليه ليلا ونهارا حزنا وأسفا، وتتجاهل أن الشهادة في حقيقتها حياة وليست موتا، وأنها سمو ورفعة وصعود إلى أعلى عليين، وأنها السبيل الذي يلجأ إليه المؤمنون الصادقون من أجل بعث الحياة في أمتهم من أجل عزتها وكرامتها ورفعتها في الدنيا والآخرة ومن أجل حماية عقيدتهم في وجه الأخطار التي تتهددها وتقف في وجهها، وأن الإمام الحسين (عليه السلام) هو قدوة المؤمنين الذي يحمل رسالة السماء العظيمة المقدسة الخالدة في الحياة ويحميها بنفسه، وقد استشهد من أجل تحقيق غرض الشارع المقدس المتمثل في إقامة حكومة ولي الله والعدل الإلهي في الأرض، وأنه حاضر معنا بذكرى شهادته يطلب منا ويناشدنا السير بصدق وإخلاص على نهجه وخطاه في الحياة من أجل تحقيق نفس الأهداف.

أيها الأحبة الأعزاء:
إن الدعوة إلى تجريد الموكب من القضايا السياسية وقضايا الشأن العام هي في الحقيقة – بحسب فهمي وتقديري – انتصار لخط يزيد وللحكومات الدكتاتورية المستبدة وقوى الاستكبار العالمي، حيث أنها تؤدي إلى تقاعس الشعوب عن مقارعة ظلمهم والتخاذل عن نصرة أئمة الهدى لصدهم عن غيهم وبغيهم، وهذه الدعوة تدل إما على الجهل بحقيقة الإمامة والاقتداء وبأهداف الرسالة السماوية والموكب الحسيني أو تدل على الضعف عن تحمل مسؤولية الكلمة الرسالية أو على الخبث وسوء النية المبيتة.
يقول أحد الشهداء: ” منذ نسينا الشهادة واتجهنا إلى مقابر الشهداء فقد أسلمنا رقابنا للموت الأسود “.
أيها الأحبة الأعزاء: لقد مضى الإمام الحسين (عليه السلام) شهيدا وهو من الأحياء الذين هم عند ربهم يرزقون في أعلى درجات عليين في الجنة.

قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمـَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 169 ـ 171).

وهو كشخص ليس في حاجة إلى بكائنا وحزننا الشخصي عليه، فهو في أعلى عليين في الجنة، وإنما نحن الذين نحتاج إلى البكاء عليه لكي نحيي ونمجد قيمه ومبادئه ونكون من أتباعه بصدق وإخلاص من خلال السير على منهجه وخطاه في الحياة والثورة ضد الظلم والطغيان من أجل شرفنا وعزتنا وكرامتنا ونهضتنا في الحياة، ومن أجل التغيير للأحسن وإقامة حكومة ولي الله والعدل الإلهي في الأرض، لنصل من خلال ذلك إلى أعلى درجات الكمال الروحي والإنساني ونسكن في أعلى غرف الجنة مع الإمام الحسين (عليه السلام) وجده وأبيه وأمه وأخيه والتسعة المعصومين من بنيه، ومع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. وبدون هذا يفقد الإحياء قيمته الروحية والأخلاقية والإنسانية والرسالية، ونكون من أتباع الإمام الحسين (عليه السلام) بالاسم والصورة ومن أتباع الطاغوت بالصدق والحقيقة، وتكون دعوة الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) لإحياء ذكراه والبكاء عليه غير مبررة عقلا وفاقدة لأية قيمة عليا، وهو أمر لا يقبله العقل والدين والوجدان.

وأرى في دعوة تجريد الموكب عن السياسة وقضايا الشأن العام بأنها بعيدة عن المنهج الإسلامي الحنيف الذي رسخه أهل البيت (عليهم السلام) وهي وليدة عقلية تعيش العزلة عن الحياة وهموم الأمة، وتعيش الضعف في وجدانها الإسلامي وتوجهاتها واهتماماتها في الحياة، وهي عقلية بعيدة عن توجهات القرآن الكريم والحديث الشريف وسيرة الطاهرين من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وعباد الله الصالحين من المؤمنين، وهي لا تمثل في الحقيقة الدين الإسلامي الحنيف.
أيها الأحبة الأعزاء: لقد قال لنا الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الذين استشهدوا بين يديه كيف ينبغي أن نعيش وندافع عن عقيدتنا وكرامتنا وحقوقنا وكيف ينبغي أن نموت بعزة وشرف في ساحة النضال والجهاد، وبقي إما أن نعيش الضعف والأوهام التي لا تسمن ولا تغني من جوع أو نمضي على ما مضى عليه الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، وإنه لا ينبغي لمن يؤمن بمنهج الإمام الحسين (عليه السلام) ويقتدي به في حياته ويحي ذكراه بصدق وإخلاص كل عام أن يعيش الضعف والوهن والتخاذل والتراجع والإذلال في ظل أنظمة الظلم والجور والدكتاتورية والاستبداد والفساد، ويجب عليه أن يسعى على طريق الشهادة والتضحية والفداء في سبيل صناعة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لتكون قدوة العالم في الدين والدنيا، فامضوا أيها الأحبة الأعزاء على هذا الطريق طريق العزة والفلاح، لتفوزوا بشرف الدنيا والدين والآخرة.

قال الله تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (القرة: 143).


أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

شارك برأيك: