قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25).
سوف أجعل الحديث على قسمين:
القسم الأول: سوف أتناول فيه بعض الحقائق الأساسية المهمة التي أشارت إليها الآية الشريفة المباركة، والتي تساهم في فهم أفضل وأسهل لصلح الإمام الحسن (عليه السلام).
القسم الثاني: سوف أسلط بعض الأضواء التي تساعدنا على فهم واقعي إن شاء الله تعالى لصلح الإمام الحسن (عليه السلام).
القسم الأول
الآية الشريفة المباركة أشارت من قريب أو من بعيد تصريحا أو ضمنا إلى مجموعة حقائق من شأنها أن تساهم في فهم أفضل وأسهل لصلح الإمام الحسن (عليه السلام) سوف أسعى بعون الله تعالى للوقوف عليها، وسوف أجعلها – إن شاء الله تعالى – في نقاط – كما وعدت في بداية الحديث -في سبيل تيسير الفهم والاختصار، وهي:
الحقيقة 1: أن غاية بعث الرسل (عليهم السلام) على صعيد الحياة الدنيا، هو: إقامة العدل الإلهي بين الناس، وقد كلف الله جل جلاله الناس جميعا بالسعي لتحقيق هذه الغاية، وذلك بقيادة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وذلك:
– لأن الناس لا يهتدون بدون قيادة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) إلى تحقيق هذه الغاية.
– ولأن الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) غير قادرين على تحقيق هذه الغاية بدون مساعدة الناس إليهم ووقوفهم إلى صفهم.
الحقيقة 2: أن تحقيق هذه الغاية يتطلب توفير مجموعة من الشروط المعنوية والمادية والإدارية، منها:
– الصدق والإخلاص في النية إلى الله سبحانه وتعالى.
– الانضباط في العمل.
– توفير العتاد اللازم.
– الثبات والتضحية.
– وغيرها.
ويقف الصدق والإخلاص في النية على رأس القائمة، فقد يتأخر النصر عن المؤمنين ـ رغم توفر الشروط الأخرى ـ وتشتد معاناتهم بسبب وجود شوائب في النية.
الحقيقة 3: أن تحقيق هذه الغاية الربانية العظيمة، لا يمكن أن يتحقق إلا بأن يسبقه الرفض للظلم ومقاومة الظالمين، أي: أن تحقيق هذه الغاية يتطلب:
– رفض الظلم ومقاومة الظالمين.
– السعي لتحقيق العدل وإقامته بين الناس.
لهذا حرم الله عز وجل على الناس الركون إلى الظالمين وتقديم أي شكل من أشكال المساعدة التي تعينهم على الاستمرار في الظلم، وأخبر بأن عاقبة ذلك النار.
قول الله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (هود: 113).
وقال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “الظلمة وأعوانهم في النار” (كنز العمال. ج3. ص498. الحديث: 7589).
وقال: “إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة وأعوانهم: من لاق لهم دواة، أو ربط لهم كيسا، أو مد لهم مدة قلم، فأحشروهم معهم” (البحار. ج75. ص372).
وذلك لأن الركون إلى الظالمين هو في الحقيقة والواقع:
– مفسدة عظيمة في الروح والواقع.
– وركون إلى غير الله العزيز الجبار، وعاقبة الركون إلى غير الله عز وجل النار.
الحقيقة 4: أن الانتصار وتحقيق دولة العدل الإلهي أمر حتمي، وأنه يتحقق بفضل الله عز وجل وفضل جهود المؤمنين المخلصين، وهذا يتطلب الاستمرار في سلسلة الجهود المنصبة لتحقيق هذه الغاية الربانية وعدم انقطاعها. وقد أوجب الله جل جلاله على نفسه أن يختار في كل زمان العدد الكافي من المؤمنين ويقيضهم لحمل هذه المهمة بالشروط اللازمة لأداء المهمة، وذلك من أعظم فضل الله الغني الحميد عليهم وعلى الناس جميعا، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54) فالمراد من الارتداد هنا ليس الارتداد في العقيدة من الإسلام إلى الكفر، وإنما الارتداد العملي المتمثل في التخلي عن المسؤوليات العامة في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ذي الجلال والإكرام والانفاق والتضحية في سبيل الله عز وجل.
وهذا يوجب على كل مؤمن صادق في إيمانه الحرص على أن يكون من هؤلاء الذين ينتصر الله جل جلاله بهم لدينه، فالسنة جارية، إن لم يكن بي أنا وأنت فبغيرنا، قول الله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) وقد جاء في الدعاء المروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: ” وأجعلنا ممن تنتصر به لدينك، وتعز به نصر وليك، ولا تستبدل بنا غيرنا، فإن استبدالك بنا غيرنا عليك يسير، وهو علينا كثير ” (مفاتيح الجنان. ص665).
القسم الثاني
بعد الإشارة إلى الحقائق القرآنية التي أشارت إليها الآية الشريفة المباركة، انتقل إلى الحديث عما يتعلق بصلح الإمام الحسن (عليه السلام) وأجعله في نقاط أيضا، وهي:
النقطة 1: إن نهج الإمام الحسن (عليه السلام) هو نفس نهج الأنبياء (عليهم السلام) الذي بينه القرآن الكريم، وهو:
– رفض الظلم ومقاومة الظالمين.
– والسعي لإقامة القسط والعدل بين الناس.
فالإمام الحسن (عليه السلام) لم يساير الظالمين ولم يتعايش معهم، وإنما رفض الظلم وقاوم الظالمين، وأما صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فهو: إعلان لإيقاف المواجهة العسكرية مع معاوية بن أبي سفيان، وذلك وفق شروط معينة اشترطها عليه في وثيقة الصلح، ولم تتوقف المواجهة السياسية بين الطرفين. فقد استمرت المواجهة السياسية بينهما، وأن الإمام الحسن (عليه السلام) قد دفع حياته وحياة الكثير من خيرة أصحابه كثمن لهذه المواجهة. ولو ساير الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان، ولم تكن هناك مواجهة سياسية بين الطرفين، لما كانت هناك حاجة لاغتيال الإمام الحسن (عليه السلام) ولكان الإبقاء عليه أفضل لمعسكر معاوية.
النقطة 2: البعض يطرح خطأ بأن معاوية بن أبي سفيان ركب المنبر بعد التوقيع على الصلح مباشرة، وقال: “إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة لمطلول (أي: مهدور) وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين” وهذا الرأي هو أقرب للخيال المسرحي منه للواقع، فهذا لا يمكن أن يحدث، وإلا لم يكن هناك لزوم لتوقيع الصلح أصلا، فالمسألة ليست مجرد كتابة على الورق، وإنما هي حسابات سياسية مرتبطة بمزازين القوى وما يجرى على الأرض. والصحيح أن معاوية بن أبي سفيان التزم إلى فترة من الزمن ببنود الصلح، ثم أدرك من خلال النتائج التي أفرزتها التجربة على الأرض بأن الأمور لا تسير في صالحه، وإنما تسير في صالح معسكر الإمام الحسن (عليه السلام) وكان من أهم نتائج الصلح: أن الصلح أعطى الأمان لأصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) وأعطاهم حرية الحركة والسفر والتنقل، فذهب الكثير منهم إلى الشام، وكانت منطقة مغلقة في وجوههم من قبل، ونجحوا في تغيير الرأي العام لصالح معسكر الإمام الحسن (عليه السلام) هناك، فخشي معاوية من انقلاب الرأي العام ضده، وعلى ضوء هذه النتائج وغيرها، قرر نقض الصلح، وذهب إلى مسجد الكوفة، وأعلن نقضه له.
النقطة 3: أن اعتراض بعض أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) على الصلح، كان بسبب عدم استيعابهم لأبعاده، وهو يشبه إلى حد كبير إعتراض بعض أصحاب الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على صلح الحديبية، الذي وصفه القرآن الكريم بالفتح، قول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا. وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} (الفتح: 1 ـ 3) وقد سلم أعظم أصحاب الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمر الصلح عن إيمان رغم عدم استيعابهم لأبعاده، ثم تكشفت لهم أبعاده الحقيقية بعد حين، وهكذا كان الحال في صلح الإمام الحسن (عليه السلام).
النقطة 4: إن نقض معاوية بن أبي سفيان لبنود الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) من طرف واحد، قد أجج نار الصراع السياسي بين الطرفين، ورفع من وتيرة الاعتقالات والاعتيالات، حتى وصل الأمر إلى اغتيال الإمام الحسن نفسه. إلا أن الإمام الحسن (عليه السلام) رأى بعد نقض معاوية للصلح، عدم استئناف المواجهة العسكرية مع معسكر معاوية، وذلك بناء على الحساب السياسي الدقيق للظروف الموضوعية، فيما تعود به من المصلحة والمفسدة على الدين والعباد، ولم يكن الصلح نتيجة لما يطلق عليه البعض المزاج الخاص للإمام الحسن (عليه السلام).
وهنا أرغب في تناول ثلاث مسائل:
1. أن صلح الإمام الحسن (عليه السلام) في عقيدة الإمامية ـ بحسب العقل والنص ـ هو صلح الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصلح الإمام علي بن أبي طالب، وصلح الإمام الحسين، وصلح جميع الأئمة (عليهم جميعا السلام) وأن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في عقيدة الإمامية ـ بحسب العقل والنقل ـ هي ثورة الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وثورة الإمام علي بن أبي طالب، وثورة الإمام الحسن، وثورة جميع الأئمة (عليهم جميعا السلام) وأن كلا منهما يرتبط بالظروف الموضوعية، ولا يعبران عن توجهين أو مزاجين مختلفين للإمامين: الحسن والحسين (عليهما السلام).
2. أن الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) هم حجة التشريع، إلا أن شرعية مواقفهم لا تنبع من ذواتهم الطاهرة المقدسة، وإنما من الواقع. فصوابية الصلح والثورة في الحقيقة لا تنبع لمجرد كونهما من الإمامين: الحسن والحسين (عليهما السلام) بحيث يتساوى الصلح والثورة في نفسهما في الميزان الشرعي بغض النظر عن الظروف الموضوعية المرتبطة بهما، وإنما يرتبطان ارتباطا فعليا وحقيقيا بالواقع ولا ينفصلان عنها، وقد بحثت ذلك بالتفصيل في مناسبات سابقة.
والنتيجة التي نخلص إليها: خطأ بعض المؤمنين في الاحتجاج بصلح الإمام الحسن أو ثورة الإمام الحسين (عليهما السلام) لإثبات صحة مواقفهم السياسية بغض النظر عن الظروف الموضوعية التي تحيط بالمواقف، والمطلوب: إثبات صحة المواقف من خلال بحث الظروف الموضوعية المرتبطة بها، ليكون الحكم الشرعي عليها من خلال تشخيص توافقها ووجاهتها بلحاظ الظروف الموضوعية المرتبطة بها.
3. لكل إمام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) سماته الشخصية الخاصة التي يتميز بها، فليس لجميع الأئمة (عليهم السلام) نفس السمات الشخصية بحيث يكون كل واحد منهم نسخة للآخرين منهم، فهناك تنوع واختلاف في السمات الشخصية بينهم، وهذا ما يشهد به الواقع، وهو مطلوب لتنوع الأدوار باختلاف المراحل، وأن الله جل جلاله ينعم على كل إمام من الصفات ومن سمات الشخصية ما هو الأفضل لدوره. وهذا ينطبق على الأنبياء (عليهم السلام) أيضا، فالاختلاف بينهم في سمات الشخصية قائم، وهو يخدم الأدوار التي يقومون بها بالنظر إلى ظروف كل زمان، وهذا واضح جدا لاسيما في الأنبياء أولي العزم (عليهم السلام) إلا أن اختلاف السمات ـ والحديث هنا خاص بالأئمة (عليهم السلام):
– لا يؤثر على الحجة المشتركة بينهم القائمة على وحدة أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم.
– وأن مجموع السمات على بعضها في كل إمام تجعلهم كلهم في الفضل سواء.
النقطة 5: المطلوب من المؤمنين الخضوع لولاية الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لولاية الأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) سواء كان الموقف العام هو الثورة أو الصلح أو غيرهما، قول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا” وفي زمن الغيبة الخضوع – بحسب نظرية ولاية الفقيه – للولي الفقيه (مع التنبيه إلى اختلاف الفقهاء بشأن سعة ولاية الفقيه) وبحسب نظرية ولاية الفقيه، فإن صلاحيات الولاية في الحكومة والشؤون العامة لا تختلف بين الفقيه وبين الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) رغم تفوق الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) على الفقهاء في الخصائص والفضائل بما لا يقاس، فالاختلاف في الخصائص والفضائل لا يؤثر على الصلاحيات الممنوحة لهم في ولاية الحكم والشؤون العامة، والتي يتوقف عليها نجاح النظام الإسلامي وقدرته على تحقيق أهدافه، مع التأكيد على توفر الشروط اللازمة في الفقيه المتصدي للولاية.
وهنا أرغب في توضيح مسألة: أن الإمام معصوم في معرفة الحكم الشرعي وفي تشخيص الموضوعات، وليس لدى الفقهاء هذه العصمة، فهم عرضة للخطأ، ولهذا أشار الفقهاء إلى دور أهل الاختصاص في تشخيص الموضوعات في الشؤون العامة، إلا أن أهل الاختصاص لا ولاية لهم، فمتى تقرر اتخاذ القرارات ووضعها موضع التطبيق، فإن صاحب الولاية الشرعية في ذلك هو الفقيه الجامع للشرائط وليس أهل الاختصاص.
أكتفي بهذا المقدار
واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.