بيت العنكبوت للأستاذ عبدالوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين

قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 41).

معاني المفردات:
مثل: كلمة تسوية بين شيئين.
أولياء: جمع ولي، ومصدرها الولاية.. بمعنى: التقارب الوثيق بين شيئين، وتعني الصداقة والتحالف والإشراف.
العنكبوت: حشرة معروفة، وهي أنواعا عديدة، عرف منها العلماء (حتى الآن) ما يقارب العشرين ألف نوع، لكل نوع منها خصوصيته من بين كل الأنواع، تنسج من لعابها في الهواء بين الأشياء خيوطا رقيقة ليكون لها بيتا وتصيد به طعامها.
أوهن: أضعف.

الآية الشريفة المباركة (العنكبوت: 41) تتضمن نقطتين أساسيتين.. وهما:

النقطة الأولى:
أن الولي والملجأ والمرجع الحقيقي للإنسان في جميع الأمور والشؤون في الحياة هو الله (جل جلاله) وحده لا شريك له، ويجب على الإنسان أن يتخذه وليا وأن لا يتخذ وليا غيره.

النقطة الثانية:
أن كل ولي يتخذه الإنسان غير الله (جل جلاله) لا ينتفع الإنسان (من الناحية الحقيقية) بشيء من ولايته، وتترتب على ولايته خسائر فادحة للإنسان في الدنيا والآخـرة.. على خلاف ما يريده الإنسان منها من جلب النفع ودفع الضرر. وضرب الله (جل جلاله) مثلا لتلك الولاية بيت العنكبوت. فالبيت إنما يتخذ للوقاية من الحر والبرد ومنع العدوان وغير ذلك من المنافع. وبيت العنكبوت ضعف ومكشوف، فهو لا يصمد أمام أي هجوم ولو كانت هبة ريح أو زخة مطر، وهو مكشوف ولا ينفع بشيء مـن المنافع التي يرومها الإنسان من البيت.. وكذلك الولاية لغير الله (جل جلاله): فهي لا تدوم، ولا يمكن الاعتماد عليها في مواجهة طوفان الحوادث ونوائب الزمان.. كما سيتضح بعد قليل.
ويتضمن تمثيل القرآني الولاية لغير الله (جل جلاله) ببيت العنكبوت تصويرا دقيقا وصادقا لحقيقة القوى التي يحتمي بها الإنسان ويتخذ منها أولياء من دون الله (سبحانه وتعالى) في الحياة.. فهي بحسب التحليل العقلي الدقيق والتجارب العملية: لا تملك قوة ذاتية، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فهي لا تملك (بالأولى) لغيرها شيئا من ذلك.

والنتيجة:
أن اتخاذ أولياء من دون الله (العزيز الحكيم) يدل على اختلال الموازين العقلية والعملية لدى أولئك المواليين، وسطحية تفكيرهم في شؤون الحياة وقضاياها، وضياعهم في ظلماتها.. بعيدا عن هدي العقل والدين. فهم مغرورون وضائعون، لا يعرفون إلى أين يتوجهون، ولا كيف يختارون، ولا كيف يرتبون أمورهم على أسس صحيحة في الحياة.

يقول السيد قطب:
“وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها!

وتخدعهم قوة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة، ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب، ويسعون للحصول عليها ليسيطروا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون!

وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في محراب!

وتخدعهم هذه القوى الظاهرة، تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار!

وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخرها كما تريد، حيثما تريد.
وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول.. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت… حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن” (الظلال. ج5. ص 2736).

والخلاصة:
تفسد باتخاذ الأولياء من دون الله (جل جلاله) العلاقات والأفعال، وينتشر الظلم والفساد والخراب والدمار في الأرض.


غايات الولاية لغير الله (جل جلاله)

إن اختيار القرآن الكريم في الآية موضوع البحـث (لفظ أولياء) له دلالات عظيمة وكثيرة في إثراء البحث، فهي تشمل كل من اتخذ في أمر من الأمور أو شأنا من الشؤون وليا يركن إليه في مقابل ولاية الله (جل جلاله). وهي ولاية لا حقيقة لها ولا أثر إيجابي فعلي لها في الحياة. لأن الله (جل جلاله) هو وحده الذي يمتلك الخلق والقوة والإيجاد والتدبير والنفع والضرر.. ولا يشاركه أحد في شيء من ذلك.

وسوف نتعرف فيما يلي على بعض غايات الولاية لغير الله (جل جلاله)

الغاية الأولى – الرمزية:
خص بعض المفسرين الأوثان بالذكر في تفسير الأولياء كأحد مصاديق الأولياء. لأن البعض اتخذها آلهة تعبد من دون الله (سبحانه وتعالى) برجاء جلبها المنفعة ودفعها الضرر. وهي في واقع الحال والحقيقة لا تنفع ولا تضر. وهذا ما تثبته الرؤية العقلية الفاحصة لحقيقة الأوثان، وما أثبتته التجارب العملية والتاريخية، حيث لم تحمي الأوثان الأقوام التي عبدتها من الهلاك. فمثل الذين يتخذون الأوثان أولياء من دون الله (سبحانه وتعالى) كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون.

فلسفة الولاية للأوثان:
ونحن إذا رجعنا إلى القرآن الكريم وحاولنا أن نتعرف على فلسفة الولاية للأوثان، نصل إلى نتيجة في غاية الأهمية.. وهي: أن الأوثان رمز لتجمعهم والتفافهم حولها من اجل مصالحهم المادية في الحياة.. وهي أشمل من الأصنام. فقد يكون الوثن مؤسسة أو حزب أو حكومة أو قائدة أو غير ذلك، وذلك حينما يتخذها الإنسان رموزا يلتف حولها ويجعلها وسيلة إلى مصالحه بصورة بعيدة عن ولاية الله (تبارك وتعالى) وطاعته ورضاه.

قول الله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}. (العنكبوت: 25).

فقد بين الله تعالى في كتابه المجيد وعلى لسان أنبيائه العظام، بأن الغاية من اتخاذ المشركين للأوثان.. هي المودة بينهم، ليس اعتقادا منهم واقتناعا بصحة ذلك (في نفسه) وأحقيته استنادا إلى الحجة والبرهان، وإنما لأنها وسيلة إلى اجتماعهم ولأتلافهم وتعاضدهم مع بعضهم من أجل توصلهم إلى مصالحهم الدنيوية الفانية، وإن كانت على حساب العقيدة الحقة والقيم الإنسانية الرفيعة، غافلين عن المفاسد التي تترتب عليها في الحياة الدنيا، والمصير الوخيم وسوء العاقبة والعذاب العظيم المترتب عليها في الآخرة، ويستوي في ذلك الصنم والحزب والسلطة والقائد أو الإمام الذي لا يستمد ولايته من الله تعالى وطاعته.

لقد قام الدليل وأثبتت التجارب بأن المال والعلم والأحزاب والقيادات والسلطة.. وكل شيء آخر، لا تكون عزا حقيقيا للإنسان والمجتمعات، إلا إذا قامت على أساس الولاية لله وحده لا شريك له، وكانت مظهرا لطاعته وإرادته ومرضاته، ودعامة للحق والعدل والخير والفضيلة التي أمر بها، وسببا (على ذلك الأساس) لتمدن المجتمعات ونموها وازدهارها. فإذا انقطعت علاقتها بالله (تبارك وتعالى) تحولت إلى وسيلة للفساد والبغي والظلم والعدوان ونشر الخراب والدمار في الأرض.

والنتيجة:
أن كل ما يتخذه الإنسان من وسائل لتحقيق المصالح الدنيوية بصورة بعيدة عن ولاية الله (جل جلاله) أي: لم تقم على أساس طاعته وابتغاء مرضاته وخدمة المصالح العامة الجوهرية للناس على ضوء دينه وهديه.. فهي من الوثن: سواء كانت: صنما أو حزبا أو سلطة أو قائدا من القادة الذين لا تلتقي ولايتهم بولاية الله (تبارك وتعالى) أو غير ذلك.

وقد حذر الله (عز وجل) من سوء عاقبة هذه الولاية المشؤومة التي لا حجة عقلية لها ولا برهان، وليس فيها إحساس بالمسؤولية في التفكير والسلوك والمواقف أمام اللـه (عز وجل) ومتطلبات الحياة الفعلية، وإنما تقوم على أساس الجهل والضلال والكذب والغرور والتقليد الأعمى والانجرار وراء الشهوات والانفعالات والمصالح الآنية وعدم التفكير العلمي والموضوعي العميق في حقائق الأمور وعواقبها. ويعلمنا الله (تبارك وتعالى) في تحذيره هذا: بأن المودة التي جمعتهم في الدنيا تحت ظل الولاية الوثنية على حساب العقيدة والمصالح الجوهرية للناس والقيم الإنسانية الرفيعة كالعدل والشرف والكرامة، سوف تنقلب إلى تلاعن وتباغض وخصام في يوم القيامة، ويكون مصير أصحابها والقائمين عليها إلى النار التي فيها الهلاك المؤبد، ولا نـاصر ينصرهم ويدفع عنهم العذاب في ذلك اليوم العظيم.

وهذه الآية الشريفة المباركة تنبهنا إلى جدية الحياة وما ينبني على ذلك من جدية في العقيدة والسلوك والمواقف، لأن الحياة لم تخلق عبثا، وإنما خلقها الله (تبارك وتعالى) بحكمته البالغة لغاية معروفة ومحددة، وأن الله (جل جلاله) سوف يبعث الإنسان بعد الموت، ويحاسبه في يوم القيامة ويجازيه على أعماله. ويجب على الإنسان أن يحكم العقل وينظر إلى الحياة ويتعامل معها على هذا الأساس الواقعي المتين، وإلا فإن خسارته سوف تكون عظيمة جدا جدا في الدنيا والآخرة.

وفي الآية تقرير بأن الذين يتخذون الأوثان (بجميع أشكالها وأنواعها) مودة بينهم في الحياة الدنيا، لا يعطون الحياة والعقيدة والمواقف والسلوك ما تستحقه من الجد، فيسترضي الصاحب منهم صاحبه على حسابها، ويرى بأنها أهون من أن يخالف عليها صاحبه، أو أنه يغير فيها تحت تأثير الخوف والطمع في تدافع الحياة ومواجهة المخالفين، وهي في حقيقة الأمر والواقع الوجودي، الجد والخطر الذي ليس بعده جد ولا خطر، وهي لا تقبل تهاونا ولا استرضاء لأحد على حسابها، ولا يليق بالعاقل الذي يحاسب لحقيقة الأمور وللعواقب والمصير أن يفعل شيئا من ذلك.

والخلاصة:
أن كل علاقة وكل مؤسسة يجب أن تقوم على أساس الولاية لله (عز وجل) وطاعته وابتغاء مرضاته وخدمة المصالح الجوهرية العامة للناس على ضوء الدين والقيم والثواب، وإلا فهي من الوثن، وأنها سوف تكون حسرة على أصحابها والقائمين عليها في يوم القيامة، وأن بعضهم سوف يلعن البعض الآخر في ذلك اليوم العظيم، وأن مصيرهم إلى النار وبئس المصير، ولا ناصر لهم ينصرهم في ذلك اليوم العظيم الذي تطير لهوله الألباب وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، ولا مخلص لهم في ذلك اليوم من عذاب الله إلا هو (جل جلاله) الذي كفروا بولايته الحق واتـخذوا الأوثـان (الأصنام والأحزاب والسلطة والقادة أو الأئمة غير الإلهيين) أولياء من دونه في الحياة الدنيا.

الغاية الثانية – ابتغاء العزة وتحقيق الأماني:
حيث يتخذ الضعفاء والمهزومون أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ليكونوا لهم قوة يركنون إليها، وقاعدة يرتكزون عليها، وملجأ يلجأون إليه، ويعتبرونهم المصدر الذي يعلقون عليه تحقيق أمانيهم ومطالبهم في الثروة والسلطة والجاه والنفوذ، وكلها (وفق التوجه المطروح) مطالب وأماني جوفاء خالية من المضامين الإنسانية الرفيعة، فيألفونهم ويرتاحون إليهم ويتعاونون معهم وينسجمون معهم في الأفكار والمشاعر والسلوك والمواقف، ابتغاء المصلحة والنصرة والمنعة والعزة الزائفة، فيطلبون منهم الرعاية والدعم والحماية والحظوة الجوفاء، ولا يفعلون مثل ذلك مع المؤمنين، متجاهلين ضلال أولئك وما ينتج عنهم من الفساد في الأرض، وغافلين عن حقيقة أنهم لا يملكون (لأنفسهم ولا لغيرهم) نفعا ولا ضرا.. وهذه صفة أساسية من صفات المنافقين الكاذبين دون المؤمنين الصادقين.

قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} (النساء: 139).

ومن الواضح لكل ذي لب أن اتخاذ أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ابتغاء المصلحة والعزة والمنعة، يعتبر سلوكا خاطئ لا يقوم على أسس صحيحة من الناحية الفكرية والعملية، لأنـهم من الناحية العملية (وبحسب التجارب) سوف يمارسون الإذلال لهم كما هو الحال (دائما) في أعوان الظلمة وعملاء الاستعمار. ومن الناحية الفكرية هم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا، وأن العزة والمنعة هي لله وحده مالك الملك لا شريك له، فهي لا تطلب إلا من عنده، ولا ينالها إلا أوليائه الصالحون من خلال التقوى والالتزام العملي بأحكام الشريعة المقدسة والقيم والثوابت الدينية، والوقوف إلى صف المؤمنين الصادقين والمجاهدين في سبيل اللـه (جل جلاله) وإعلاء كلمته وصيانة الكرامة الإنسانية في الأرض من الانتهاك والتدنيس على أيدي المستبدين والمستكبرين.

يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الآية المذكورة:
“إن هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزة، في كل شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام، بل إن عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله، وأعداء الإسلام لا عزة لديهم لكي يهبوها لأحد وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إليهم والاعتماد عليهم، لأنهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن اقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم، وكأنهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقا، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي القذر” (الأمثل. ج3. 436 ـ 437).

وأرى أن اتخاذ أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ابتغاء المصلحة والعزة والمنعة من عندهم، يدل على التدهور الروحي والأخلاقي وضعف الشخصية، فصاحبه أسيرا في شرك الخلق السيئ كالحرص والشح وفي شرك المصالح الآنية البعيدة عن التقوى والكرامة الإنسانية، وهو إنسان يشعر بالضعف والعجز أمام الأحداث والتحديات والأشخاص من أصحاب القوة والسلطان والثروة، ولا يملك الإصرار على الحق والعدل والكرامة أمام الباطل والظلم والرذيلة، وهذا ثمرة من ثمار الخوف والطمع وضعف الارتباط بالله (ذي الجلال والإكرام) والانحراف عن منهجه القويم في الحياة، مما يؤدي إلى سحق كرامة الإنسان وإيمانه وتقواه، ويكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة.

لقد عانت المجتمعات والدول الإسلامية الكثير من الخسائر والمصائب والنكبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على الصعيد الداخلي والخارجي، بسبب الانحراف عن الدين والتخلي عن القيم والثوابت الدينية والوطنية، والوقوع في حبائل الاستعمار والقوى العظمى، والركون إلى الظالمين والحكام المستبدين.

وهناك حالات تستثنى مما ذكر.. منها:
الحالة الأولى – الاستعانة بالكفار المسالمين على الكفار المحاربين:
وهي مقبولة عقلا وجائزة شرعا، فقد حالف الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) خزاعة مع أنهم كانوا مشركين، واستعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه على حرب هوازن، واستعان بيهود بني قنيقاع وخصهم بشيء من المال. ونقل الشيخ محمد جواد مغنية عن العلامة الحلي: ” أن جماعة من الفقهاء أجازوا الاستعانة بالكفار على حرب أهل البغي من المسلمين، لأن الاستعانة بهم كانت لإحقاق الحق ” (الكاشف. ج3. ص40).

الحالة الثانية – الصداقة العادية:
وذلك من خلال الجوار والزمالة في الدراسة والمشاركة في المهنة أو التجارة وما إليها مما لا يمس الدين، وهي مقبولة عقلا وجائزة شرعا. يقول الشيخ محمد جواد مغنية:: ” وهذه الصداقة جائزة أيضا بالإجماع. لأن مودة الكافر إنما تكون حراما إذا استدعت الوقوع في الحرام، أما إذا لم تكن وسيلة للمعصية فلا تحرم، بل قد تكون راجحة إذا عادت بالنفع والخير على بلد من البلدان أو أي إنسان كان ” (الكاشف. ج3. ص 41).

والخلاصة:
أن اتخاذ أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ابتغاء المصلحة والعزة والمنعة من عندهـم، منهي عنـه شرعا (بحسب أقوال الفقهاء) وهو سلوك خاطئ لا يقوم على أساس صحيح علمي أو عملي، ويدل على التدهور الروحي والأخلاقي للشخص، ويؤدي إلى الخسائر والكوارث والنكبات على كافة الأصعدة، وليس لمن يتجه هذا الاتجاه إلا خيبة الأمل والذل والخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

الغاية الثالثة – طلب السلامة:
حيث يتخذ الضعفاء والمهزومون أصحاب النفوذ والسلطة من الطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء على حساب الدين والمصالح العامة الجوهرية للعباد (خوفا) منهم على النفس والمال والأهل والأحباب بأن ينزلوا بهم المصائب والمحن ويخلقوا لهم المشاكل الصعبة في الحياة، لأنهم يملكون القوة والمال والسلطة والنفوذ، فيتنازل القوم الضعفاء لهم عن الدين والقيم والثوابت والمصالح العامة الجوهرية للناس، ويقدموا لهم فروض الطاعة والعبودية، ليحصلوا منهم على الفتات والأمن والسلامة والحماية غرورا، فتضعف بذلك المواقف، ويتمكن الطواغيت والظلمة والمستبدون من الشعوب ويتحكموا في مصائرهم، وتفقد الشعوب الاستقلال والقدرة على تقرير المصير أمام القوى العظمى والاستكبار العالمي، وتضيع المصالح الجوهرية العامة: الإسلامية والقومية والوطنية، ويضيع معها الدين وتضيع الرسالات والقيم والثوابت الإنسانية والدينية والقومية والوطنية، ويكون المواطنون وتكون الشعوب عرضة للاستضعاف والظلم والهلاك.

إن هؤلاء الضعفاء المهزومين: لا يتحركون من منطلق العقيدة والثوابت الإنسانية والدينية والقومية والوطنية والقيم، وإنما يتحركون على وقع الجزع والخوف والرعب والجشع والحرص على المصالح الخاصة المادية والآنية التي تملأ قلوبهم، فأظلمت لها نفوسهم، واسودت أرواحهم، وعميت أبصارهم، فهم غافلون عن الله (جل جلاله) والآخرة، ومتجاهلين الدين والقيم والثوابت، وغير مبالين بمصالح الوطن والعباد الآخرين. وهذا مما لا يليق بالمؤمنين الذين يستمدون العزة والكرامة من الولاية إلى الله (جل جلاله) وطاعته والتوكل عليه في جميع شؤونهم وفي مكابدة المشاق والتكاليف المضنية والنهوض بالمسؤولية الرسالية ومواجهة الجبابرة والمستكبرين ودك حصونهم ومعاقلهم. وهو من صفات الانتهازيين المنافقين الكاذبين، الذين يعانون من مرض الشك وعدم اليقين وعدم الثقة بالله (جل جلاله) وبوعده وبما عنده، وينقصهم الوعي بالعقيدة وبطبيعة الصراع بين القوى في الحياة، قوى الحق والباطل، وقوى الهدى والضلال، وقوى العدل والظلم، وقوى الخير والشر، وقوى الفضيلة والرذيلة، وقوى النور والظلام.

إن هؤلاء الضعفاء المهزومون: يمثلون الأساس الأول للعدوان على الشعوب واستضعافهم في الأوطان، وسلب حقوقهم وانتهاك كرامتهم، وإعاقة تطبيق الإسلام والعمل به كمنهج شامل في الحياة، وفقدان الشعوب للاستقلال وعدم قدرتها على تقرير المصير أمام قوى الاستكبار العالمي، وهم شركاء لمن تولوهم في الإثم والعقاب يوم القيامة.

قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (المائدة: 51 ـ 52).

يقول السيد قطب:
“قوة الله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل، مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل.

إنها العنكبوت: وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: “وإن اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون”.

وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء. لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة. هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم. وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم.. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير” (الظلال. ج5. ص 2737).

وفي الآية تحذيرات عدة.. منها:
التحذير الأول: التحذير من تأثير المجاملات على الفكر فتحرفه، وعلى المواقف فتميعها.

التحذير الثاني: التحذير من الاستسلام للثقة في الأجواء التي لا تدعو إلى الثقة وتعده نوعا من السذاجة وعدم الوعي بحقائق الأمور.

التحذير الثالث: التحذير من الاعتماد على الأعداء في تقرير المصير.

وقد أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة أن الكثير من النكبات التي أصابت المسلمين هي بسبب تجاهل هذا التحذير القرآني العظيم.. والمطلوب: عدم اعتماد المؤمنين على احد سوى الله (جل جلاله) وقواهم الذاتية التي منحها الله (تبارك وتعالى) لهم في تقرير مصيرهم. وهذا لا يعني عدم الاستفادة من المساعدات والاتفاقيات المشروعة التي لا تأتي على حساب الدين والاستقلال.


وفي الختام

ينبغي التنبيه إلى أن تحذيرات القرآن الكريم من الولاية لغير الله (سبحانه وتعالى) تهدف إلى خلق الوعي والمناعة الداخلية للجماعات والشعوب الإسلامية في ظل الأوضاع المحلية والدولية المنحرفة والضاغطة عليهم، لحمايتهم من الميوعة والذوبان في الغير، ولكي لا تضيع الأمانة الربانية والرسالات التي حملهم الله (تبارك وتعالى) إياها في الحياة. وليس فيها أي توجهات عدوانية ضد الأبرياء والمسالمين أي كان دينـهم ومذهبهم.

أيها الأحبة العزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

شارك برأيك: