البدايات الأولى لرثاء الحسين عليه السلام بقلم الدكتور منصور سرحان

دكتور منصور سرحان

بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في اليوم العاشر من محرم الحرام العام 61 هـ أخذ الشعراء يرثون الحسين بقصائدهم ولكن بحذر شديد وبشيء من الخوف باعتبار الإمام الحسين يمثل قمة المعارضة لنظام حكم يزيد بن معاوية، ما يعني اعتبار الشعراء والخطباء الذين يرثون الحسين جزءا من المعارضة، وان مصيرهم عند التعرف عليهم هو السجن والتنكيل والقتل وذلك من اجل إخماد الثورة التي بدأها الإمام الحسين، وهي الثورة التي أعادت إلى الدين الإسلامي الحنيف هيبته وحافظت على مبادئه وقيمه من الانحراف، وأعطت مثالاً حياً للإباء والشموخ وفي طلب العيش بعزة وكرامة. كما ضربت مثالاً رائعاً في التضحية من اجل الحفاظ على بيضة الإسلام وعلى قيمه ومبادئه السمحة.

كانت الظروف بعد مقتل الإمام الحسين صعبة جداً، وكانت الأعين منتشرة بشكل مكثف في جميع إنحاء المدن الإسلامية العربية الكبيرة وبخاصة المدينة، ومكة، والكوفة والبصرة تراقب أنصار الحسين وتقتفي آثارهم وتتبع أخبارهم وبخاصة الشعراء منهم باعتبارهم وفق المصطلح الحديث أهم وسيلة إعلامية لنشر مبادئ ثورة كربلاء الخالدة، ما جعل رثاء الحسين يتم بصورة سرية وبتكتم شديد في مراحله الأولى وعبر عدة عقود.

وقد ارتبط الرثاء والعزاء على الحسين بن علي بالاضطهاد عبر سياسة الحكومات المتعاقبة على حكم العراق. وكانت شدة وقساوة الاضطهاد تتفاوت من حكومة إلى أخرى حسب الميول الدينية، والمصالح السياسية، والظروف الاجتماعية… إلا أن ذلك لم يمنع من إقامة العزاء على الحسين في تلك الفترات الرهيبة والمحلكة، ولم يرهب الشعراء الذين نظموا العديد من القصائد الرثائية الحسينية. فعلى الرغم من تلك الظروف القاسية والخطيرة إلا أن إرادة التحدي التي اتصف بها محبو آل بيت الرسول من الشعراء كسرت طوق الجمود، وأخذت تبرز ظاهرة العزاء على الحسين شيئاً فشيئاً إلى أن بلغت ذروتها في يوم العاشر من محرم من العام 353 هـ الموافق 963م وهو العام الذي جرى فيه لأول مرة في التاريخ احتفالات فريدة ومميزة في بغداد في ذكرى استشهاد الإمام الحسين وذلك في فترة حكم البويهيين. وبحسب ما وثقة ابن الجوزي فقد أمر معز الدولة البويهي بغلق الأسواق، وتعطيل الأعمال، ووضع جرار الماء في الشوارع والطرقات، وسار المعزون في شوارع بغداد معبرين عن حزنهم بمقتل ابن بنت رسول الله.

وتؤكد الكثير من المصادر والكتب التاريخية أن البدايات الأولى لرثاء الحسين كانت قصائد نظمها بعض الشعراء باعتبار الشعر في تلك الفترة أهم وسيلة إعلام يصل تأثيرها إلى جميع الناس. وقد عرف أهل المدينة بمقتل الحسين لأول مرة عن طريق الشعر. فقد قيل إن الإمام علي بن الحسين زين العابدين صادف في الطريق عند رجوع موكب السبايا من الشام متوجهاً إلى المدينة الشاعر بشر بن حذلم، فقال له: يا بشر انطلق وانع الحسين… فما كان منه إلا أن عصب رأسه بعصابة سوداء، وعصب فرسه برباط أسود، وعندما وصل المدينة أخذ يطلب من الناس التجمع حوله ناعياً لهم الحسين بقوله:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج
والرأس منه على القناة يدار

يا أهل يثرب شيخكم وإمامكم
هل فيكم أحد عليه يغار

ويذكر ابن قتيبة في كتابة «الإمامة والسياسة» أن المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي قاد حركة «التوابين» ورفع شعار «يا لثارات الحسين» أول من أقام احتفالا تأبينياً وبشكل علني في داره في الكوفة بمناسبة يوم عاشوراء. وكان يملك جرأة متناهية لدرجة انه أرسل بعض النادبات إلى شوارع الكوفة للندب على الحسين متحدياً كل جلاوزة الحكم آنذاك ممهداً للثورة في الكوفة والأخذ بثأر الحسين من جميع قتلته فالتف حوله خلق كثير معبرين عن أسفهم لتقاعسهم وخذلانهم ابن بنت نبيهم. وتوثق كتب الحديث وبعض المصادر التاريخية أن الاحتفال بتأبين الحسين في شهر محرم من كل عام كان يقام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت أو في بيت احد من أنصارهم. وكانت مراسم الاحتفال بتأبين الإمام الحسين أقيمت بشكل محدود في القرنين الأول والثاني للهجرة في ظروف الخوف من بطش الحكام آنذاك، وانتشرت هذه الظاهرة في القرن الثالث الهجري، إلى أن وصل تنظيم العزاء بشكل علني في منتصف القرن الرابع الهجري وبالتحديد في العام 353هـ على أيدي البويهيين في بغداد.

أصيب الناس بالصدمة وبالذهول والدهشة بانتشار خبر مقتل الحسين وأصبح استشهاده شغلهم الشاغل ومدار حديثهم في الأشهر الأولى من مقتله بشكل يومي. فقد ذكر الطبري أن هاتفاً أخذ يهتف بالمدينة قائلاً:

أيها القاتلون جهلا حسيناً
أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم
من نبي وملاك وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود،
وموسى، وصاحب الإنجيل

من بين أوائل من رثوا الإمام الحسين من الشعراء سليمان بن قتة العدوي فقد رثاه بعد ثلاث سنوات من مقتله عندما مر بكربلاء قائلاً:

مررت على أبيات آل محمد
فلم أرها أمثالها يوم حلت

فلا يبعد الله الديار وأهلها
وان أصبحت منهم برغمي تخلت

وان قتيل الطف من آل هاشم
أذل رقاب المسلمين فذلت

وكانوا غياثاً، ثم صاروا رزية
ألا عظمت تلك الرزايا وجلت

لم تسمح ظروف اضطهاد وقمع الشعراء على الجهر بما كانوا ينظمونه من شعر في رثاء الحسين الذي عرف بغزارته، وهو شعر ملتهب الوجدان، غني بالعاطفة وقد اجبرهم الخوف من البطش بهم إلى نظم الشعر وكتمه، وبهذا برزت ظاهرة «شعر المكتمات» حيث ترتب على ذلك أن بقي ذلك الشعر الممنوع محفوظاً في الصدور.

وعندما أعلن المختار بن عبيدة الثقفي الذي قاد حركة التوابين في الكوفة الاحتفال بتأبين الإمام الحسين علناً شجع ذلك مجموعة من الشعراء آنذاك لنظم شعرهم علناً والمطالبة بالثورة ومنهم الشاعر عبدالله بن الأحمر – احد التوابين – الذي قال:

صحوت، وقد صح الصبا والعواديا
وقلت لأصحابي: أجيبوا المناديا

وقولوا له – إذ قام يدعو إلى الهدى
وقبل الدعا: لبيك، لبيك داعيا

منهياً قصيدته بقوله:

فيا أمة تاهت ، وضلت سفاهة
أنيبوا… فأرضوا الواحد المتعاليا

وجاء في كتاب «الأغاني» للأصفهاني قصيدة رثاء مؤثرة ومفعمة بالعاطفة لزوجة الإمام الحسين الرباب بنت امرئ القيس بن عدي الكلبي تقول فيها:

إن الذي كان نوراً يستضاء به
بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة
عنا، وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به
وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى، ومن للسائلين، ومن
يعنى، ويأوي إليه كل مسكين؟

والله لا ابتغي صهراً بصهركم
حتى أغيب بين الرمل والطين

وكانت الرباب تمثل قمة الوفاء فقد خطبت بعد مقتل الحسين (ع)، فقالت: ما كنت لآخذ حما بعد رسول الله (ص)، وأقامت على حدادها حتى ماتت بعد عام من استشهاده.

أخذت ظاهرة قراءة قصائد الرثاء في بيوت الأئمة من آل البيت في شهر محرم الحرام تبرز بجلاء وتنتشر في بيوت محبي آل البيت وكان الشعراء يتسابقون في نظم القصائد الرثائية وقراءتها في بيوت الأئمة. ومن هؤلاء الشعراء إسماعيل الحميري الذي قرأ قصيدة من نظمه يرثي الإمام الحسين في حضرة الإمام محمد الباقر يقول فيها:

أمرر على جدث الحسين
وقل لأعظمه الزكية

يا أعظماً لا زلت من
وطفاء ساكبة روية

ما لذ عيش بعد رضك
بالجياد الاعوجية

فإذا مررت بقبره
فأطل به وقف المطية

وابك المطهر للمطهر
والمطهرة الزكية

وقرأ الكميت بن زيد الاسدي قصيدة من قصائده المعروفة «بالهاشميات» التي بدأها بمدح آل البيت:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

وعرج على مأساة كربلاء قائلاً:

ومن أكبر الاحداث كانت مصيبة
علينا قتيل الأدعياء الملحب

قتيل بجنب الطف من آل هاشم
فيالك لحماً ليس عنه مذبب

ومنعفر الخدين من آل هاشم
ألا حبذا ذاك الجبين المترب

ومن بين شعراء القرن الثاني الهجري الذين رثوا الإمام الحسين الإمام الشافعي الذي رثى الحسين بقصيدة عبر فيها عن حزنه على قتل الحسين ظلماً وعدواناً مطلعها:

تأوه قلبي والفؤاد كئيب
وأرق نومي فالسهاد عجيب

فمن مبلغ عني الحسين رسالة
وإن كرهتها أنفس وقلوب

ذبيح بلا جرم كأن قميصه
صبيغ بماء الارجوان خضيب

عند الحديث عن الشعراء الأوائل الذين رثوا الحسين بقصائدهم المشهورة لابد وان يتم الحديث عن دعبل الخزاعي وهو من أشهر شعراء أهل البيت الذي نظم العديد من القصائد في مدح آل البيت ورثائهم. وكان من اشهر مرثياته في الإمام الحسين قصيدته التائية المشهورة والتي انتشرت بين الناس وتناقلتها الألسن وتم توثيقها في العديد من المصادر والكتب التاريخية والتي بدأها:

مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات

ويعرج على أحداث كربلاء فيقول:

أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً
وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده
وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي
نجوم سماوات بأرض فلات

توفوا عطاشى بالفرات فليتني
توفيت فيهم قبل حين وفاتي

إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم
سقتني بكأس الثكل والفظعات

سأبيكهم ما ذر في الأرض شارق
ونادى منادي الخيل بالصلوات

وما طلعت شمس وحان غروبها
وبالليل أبكيهم وبالغدوات

ويذكر ابن عساكر قصيدة خالد بن غفران وقد أتي برأس الحسين إلى دمشق، مبينا في قصيدته أن قتل الحسين فاجعة كبرى تعادل قتل الرسل وجريمة لا تقل عن قتل التكبير والتهليل، حيث يقول:

جاءوا برأسك يا بن بنت محمد
متزملا بدمائه تزميلا

وكأنما بك يا بن بنت محمد
قتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا ولم يترقبوا
في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبرون بأن قتلت، وإنما
قتلوا بك التكبير والتهليلا

شارك برأيك: