بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
عنوان الورقة بحسب ما حدده المنظمون: (النظرة للإنسان ودوره والعلاقات الإنسانية في الإسلام) وبحسبه سوف أقسم البحث في الورقة إلى ثلاثة محاور أساسية، وهي:
– نظرة الإسلام للإنسان.
– نظرة الإسلام لدور الإنسان في الحياة.
– نظرة الإسلام للعلاقات الإنسانية.
المحور الأول
نظرة الإسلام للإنسان
نظرة الإسلام للإنسان نظرة واسعة ومتشعبة يستحيل الإلمام بها في محاضرة أو ورقة عمل واحدة، وسأكتفي في هذه الورقة ببحث مسألة أساسية واحدة تبين مكانة الإنسان وخصائصه وتميزه في الوجود، وتُبنى عليها العديد من المسائل الأساسية الأخرى، والمسألة هي:
خلافة الإنسان في الأرض:
يحتل الإنسان مركز الصدارة في الكون من خلال كرسي الخلافة الإلهية الذي منحه الله جل جلاله للإنسان في الأرض، وهو أعلى منصب منحه الله جل جلاله لأحد من مخلوقاته في الوجود، وقد تطلعت الملائكة إلى هذا المنصب الرفيع، إلا أنها لم تفوز به لعدم أهليتها الوجودية له وفاز به الإنسان.
قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ • وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ • قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ • قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ • وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 30 ـ 34).
تتناول هذه الآيات الشريفة المباركة حقيقة جعل الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض وتبين آثارها وخواصها. ولم يتناول القرآن الكريم هذا الموضوع إلا في هذه الآيات الشريفة المباركة على غير عادة القرآن الكريم، حيث يتناول المواضيع عادة في أكثر من مكان من سوره الكريمة.
وتتضمن الآيات الشريفة المباركة حقائق عديدة، منها:
- الحقيقة (1) منح الخلافة للإنسان:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} المراد بالخليفة: هو آدم (عليه السلام) وبنوه، أي: الإنسان.
ووجه تسميته بالخليفة: أن الله جل جلاله أوكل إلى الإنسان زمام عمارة الأرض: ماديا ومعنويا، بالكشف عما فيها من كنوز وقوى ومنافع ومعرفة القوانين التي تحكمها، والاستفادة منها في تشييد الحضارة الإنسانية على وجهها على ضوء المنهج الإلهي العظيم.
- الحقيقة (2) ممارسة الإنسان للفساد وسفك الدماء:
{قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} تعلم الملائكة أن آدم (عليه السلام) منزه عن الإفساد وسفك الدماء، إلا أن ذريته ليست كذلك، والسؤال من الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} هو بغرض البحث عن الحقيقة من أجل التعبد بها، أي: البحث عن علة ترجيح الله عز وجل لآدم (عليه السلام) وذريته عليهم للخلافة، مع ما في ذرية آدم (عليه السلام) من الموانع: (الفساد وسفك الدماء) وما يتصفون هم به من التسبيح والتقديس لله تبارك وتعالى. وليس في سؤالهم شيء من الاعتراض على فعل الله جل جلاله، ولا شكا في اشتماله على الحكمة البالغة والمصلحة الأكيدة، وليس فيه شيء من العجب والتفاخر، فهم أجل من أن يظن بهم شيء من ذلك، لأنهم كما قال الله تعالى: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 27).
- الحقيقة (3) الإنسان وحده الذي يحمل سر الاستخلاف في الأرض:
{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إن الله جل جلاله لم ينفي عن الإنسان حقيقة الفساد وسفك الدماء، ولم ينفي عن الملائكة حقيقة التسبيح والتقديس، فقد أقر ما قالته الملائكة من هذه الجهة، وفيه إدانة واضحة للمفسدين وللمجرمين السفاكين لدماء الأبرياء، ولكنه نبه إلى أمر آخر لا تعلمه الملائكة، وهو أن هذا الكائن / الإنسان، يستطيع أن يحكي عن الله عز وجل أمرا ويتحمل منه سرا لا تقدر عليه الملائكة، وهو من خواصه وحده دون غيره، وهو سر استخلافه في الأرض، ووجه الحكمة فيه، وبه يتم تدارك أمر الفساد وسفك الدماء الذي أشرت له الملائكة من بعض أفراده.
لقد تنبه الملائكة (عليهم السلام) إلى وجود القوتين: (الغضبية والشهوية) في تكوين الإنسان، مما يترتب عليهما الفساد (وهو رذيلة القوة الشهوية) وسفك الدماء (وهو رذيلة القوة الغضبية) ولم يتنبهوا إلى أن هاتين القوتين: (الشهوية والغضبية) إذا سيطرت عليهما القوة العقلية وسخرتهما تحت أمرتها، فإنه يحصل بذلك من الأعمال والخصائص ما تقصر عن بلوغها القوة العقلية عند انفرادها في أفاعيلها، مثل: استنباط الصناعات، واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل، وإبداع الفن والأدب، والوصول إلى المنزلة الروحية والمعنوية العالية، وغير ذلك من الشؤون، وبه تتجلى صفات الله ذو الجلال والإكرام في الإنسان، وهو مراد الخلافة.
ونتوصل مما سبق إلى بعض النتائج المهمة، منها:
النتيجة (1):
أن الله عز وجل لم يخلق الإنسان ليرتكب المعاصي والذنوب، بل للعلم والعمل الصالح والإبداع والتحلي بالفضيلة ومكارم الأخلاق، أي: التخلق بأخلاق الله ذي الجلال والإكرام، ونهاه عن الإفساد والظلم والرذيلة والإضرار بالخلق والخلائق وارتكاب الجرائم والتسبب في الكوارث، أي: التخلق بأخلاق إبليس {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فمن أطاع الله عز وجل فيما أمره به ونهاه عنه أثيب، وما خالفه وعصاه عوقب بما يستحق.
النتيجة (2):
حتمية بلوغ أفرادا من بني آدم / النوع الإنساني ذروة الكمال الذي لا يمكن أن تبلغه الملائكة، وذلك من خلال المؤهلات التي أودعها الله جل جلاله في الإنسان، تلك المؤهلات القائمة على أساس ذلك التركيب العجيب: (التراب ونفخة الروح).
وحتمية انتهاء مسيرة الإنسان إلى الانتصار الساحق للحق والعدل والخير على الباطل والظلم والشر {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ورسوخ هذا الانتصار ودوامه إلى نهاية المسيرة البشرية على وجه الأرض.
وفي هاتين الحتميتين: تكمن الحكمة العليا للاستخلاف التي تغلب تلك المفاسد التي أشارت إليها الملائكة من ارتكاب بعض أفراد النوع الإنساني للفساد وسفك الدماء وتلغي أثرها في إرادة الاستخلاف.
الحقيقة (4):
أن الإنسان استحق الخلافة لعلمه بحقيقة الأسماء: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
الاسم باعتبار الاشتقاق: ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن.
والاسم في الاصطلاح: المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان.
والمعنى الثاني مستلزم للأول: إذ العلم بالألفاظ من حيث الدلالة على المعاني مسبوق بأن يعلم الإنسان بالمعاني.
والتعليم: هو عبارة عن فعل يترتب عليه العلم بلا تخلف عنه، وهو يتوقف على استعداد المتعلم لقبول الفيض وتلقيه من المعلم، وهو يختلف عن الإنباء الذي يتوقف على سماع الخبر من المخبر. وتدل الآية الشريفة المباركة على أمور عديدة، منها:
الأمر (1): أن ملاك الخلافة الإلهية في الأرض هو العلم بالأسماء، فقد ادعى الملائكة (عليهم السلام) أنهم أولى من آدم (عليه السلام) وذريته بالخلافة، فبين لهم الله عز وجل أن ملاك الخلافة هو العلم بالأسماء، ومن اللازم أن يعلم الخليفة بهذه الأسماء، فسألهم عنها لكي يظهر من خلال التجربة عجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة (وهو العلم بالأسماء) فجهلوها {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} ليس لأن الله جل جلاله لم يفض عليهم بعلمها، ولكن ليست لديهم القابلية أصلا للعلم بها، ولو كانت لديهم القابلية للعلم بها لأفاض الله جل جلاله العلم بها عليهم، ولو كان الأمر متوقفا على مجرد الإفاضة ولا علاقة له بالقابلية والاستعداد، لما كان لعلم آدم (عليه السلام) بها وعدم علم الملائكة دليل على استحقاق آدم للخلافة وعدم استحقاقهم لها، فتسليم الملائكة لاستحقاق آدم لمقام الخلافة وعدم استحقاقهم، قائم على أساس قناعتهم الأكيدة بوجود القابلية لدى الإنسان للعلم بالأسماء، وعدم وجودها لديهم.
الأمر (2): أن مسميات الأسماء حقائق خارجية ووجودات عينية، وأنها موجودات أحياء عاقلة، وأنها ذات شأن عظيم عالية القدر، وأنها محفوظة عند الله جل جلاله، محجوبة تحت حجاب الغيب: (غيب السماوات والأرض) أي خارج دائرة العالم المادي، وأنها سر وجود كل ما في السماوات والأرض، أي: سر وجود العالم المادي وعالم ما فوق المادة كالعرش والكرسي والملائكة والعقل والقيم والأخلاق، حيث أنزل الله سبحانه وتعالى كل أسم في العالم بخيرها وبركتها، واشتق كل ما في السماوات والأرض من نورها وبهائها، قول الله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر: 21) حيث أخبر سبحانه بأن كل ما يقع عليه أسم شيء، فله عنده تعالى خزائن مخزونة، باقية عنده غير نافذة، ولا مقدرة بقدر، ولا محدودة بحد، وأن القدر والحد في مرتبة الإنزال والخلق، وأن الكثرة التي في هذه الخزائن، ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير والتحديد، بل هي تعدد المراتب والدرجات.
وبهذا نجمع بين القولين في تفسير الأسماء، وهما:
القول (1): أن الأسماء هم حجج الله عرضهم الله عز وجل وهم أرواح على الملائكة، كما في المعاني عن الإمام الصادق (عليه السلام):
“إن الله عز وجل علم آدم أسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة.
فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم.
فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
قال الله تبارك وتعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم.
فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم.
وقال لهم: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون”.
القول (2): أن الأسماء هي الجبال والشعاب والأودية والنبات والشجر والبساط وسائر الأشياء في العالم المادي، كما في تفسير العياشي عن أبي العباس عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: وعلم آدم الأسماء كلها، ماذا علمه؟ قال: الارضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر في بساط تحته، فقال: وهذا البساط مما علمه.
وملاك الجميع بين القولين: أن الأشياء المشار إليها في القول الثاني، إنما وجدت بالنزول من خزائن الغيب، وأن كل أسم وضع بحيال مسمى من المسميات في القول الثاني، فهي أسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إن الله عز وجل علم آدم (عليه السلام) ما في خزائن غيبه من الأشياء، أو قيل: إنه علم آدم (عليه السلام) أسماء الأشياء التي هي في السماوات والأرض، كان المؤدى والنتيجة واحدة، حيث أن كل واحد من القولين يمثل وجه للحقيقة المتعلقة بالمسميات.
الأمر (3): أن العلم بالأسماء المطروح في الآية الشريفة المباركة هو في الحقيقة على نحو مختلف عن علمنا بأسماء الأشياء في اللغات، فهذا العلم متاح للملائكة، وقد تحقق لهم بإنباء آدم (عليه السلام) لهم بالأسماء، ولو كان كذلك، لأصبح الملائكة حين أنباهم آدم (عليه السلام) بالأسماء عالمين بها، وأصبحوا مثل آدم (عليه السلام) ومساوين له في العلم بها، ولم يكن له فضيلة عليهم، مما يدل على أن العلم هو على نحو مختلف عن علمنا بأسماء الأشياء، وأن الملائكة لا تمتلك القابلية للعلم به، مما أقنع الملائكة باستحقاق آدم (عليه السلام) وذريته لمقام الخلافة، لما لديهم من القابلية للعلم بحقيقة الأسماء، وعدم استحقاق الملائكة للخلافة، لعدم امتلاكهم قابلية العلم بحقيقة الأسماء، ولو لا ذلك، لما بطلت حجة الملائكة باستحقاقهم الخلافة.
ونتوصل مما سبق إلى بعض النتائج المهمة، منها:
النتيجة (1): أن العلم بالأسماء هو المسؤول عن المسيرة التكاملية للإنسان: الفردية والمجتمعية، الروحية والعلمية والصناعية والفنية والأدبيةوالعمرانية وغيرها، وأن قابلية الإنسان للعلم بها، هي التي أهلته دون غيره للخلافة الإلهية في الأرض.
النتيجة (2): أن العلم أفضل من الشعائر العبادية المعروفة، مثل: الصلاة والصيام والحج والدعاء والزكاة، فالعلم هوالذي يؤدي إليها ويصححها ويعطيها قيمتها الحقيقية في ميزان الأعمال، وهو السبيل إلى الرقي والتقدم الحضاري والازدهار في الحياة، وإلى التكامل الروحي والأخلاقي والعروج إلى ساحة القدس والقرب من الله ذي الجلال والإكرام والفناء فيه.
النتيجة (3): أن الخلافة في الأرض لا تقوم بدون علم ومعرفة، ولا تقوم بالشعائر العبادية فحسب، وإنما تقوم بالخضوع المطلق لله عز وجل في جميع شؤون الحياة المختلفة: الفردية والمجتمعية (الخلافة: عقيدة ومنهج حياة وبناء أمة وحضارة وقيام دولة) فمن خالف بإهمال العلم والمعرفة، أو بإقصاء الدين عن شؤون الحياة المختلفة، أو بالعكوف على الشعائر وترك الاهتمام بالشؤون العامة للحياة، فقد نقض الحكمة من وجود الإنسان، والغرض من الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض، وخالف فطرة الله التي فطر الناس عليها.
الحقيقة (5):
ثبوت استحقاق آدم للخلافة بتعليم الملائكة الأسماء: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.
بعد أن ثبت للملائكة (عليهم السلام) عجزهم عن العلم بالأسماء لعدم وجود القابلية لديهم لذلك، أظهر لهم علم آدم (عليه السلام) بها، وذلك بأن أمره بأن ينبئهم بالأسماء، وليس تعليمهم إياها، لأن الملائكة ليست لديهم القابلية للعلم بها، فقام بمهمة التعليم للملائكة بكل كفاءة وفي أسرع وقت ممكن، مما أظهر علمه (عليه السلام) الأكيد والثابت بالأسماء، وتأهله لتعليمها غيره بحسب ما لديه من القابلية والاستعداد، وبهذاظهر وتأكد للملائكة جميعا استحقاق آدم (عليه السلام) وذريته لمقام الخلافة.
الجدير بالملاحظة: أن علم آدم (عليه السلام) بالأسماء يكشف عن طبيعة تكوينه: الطين ونفخة الروح (امتزاج العالم الروحاني بالعالم الجسماني على نمط بديع) بحيث تكون له جامعية تجمع جميع مراتب الوجود “أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر” وتهيأ له قوى مختلفة ليكون مستعدا لإدراك أنواع المدركات التي بمعرفتها تتجلى له أسماء الله الحسنى كلها.
ومن ذهب إلى القول بأن الأسماء هي أسماء الأشياء، قال: بأن جبلة الملائكة غير مستعدة للإحاطة بتفاصيل أحوال الجزئيات الجسمانية وخواصها، بينما الإنسان يمتلك ذلك الاستعداد بحسب فطرته المنطوية على طبائع متباينة، وقوى متخالفة، وعناصر متغايرة، مما يجعله مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المحسوسات (ما تدركه الحواس الخمس) والمعقولات (ما يدركه العقل من الماهيات والمفاهيم المجردة) والمتخيلات (ما تستحضره قوة الخيال من صور للمحسوسات، مثل: استحضار الولد في ذهنه صورة أبيه في حال غيابه) والموهومات (ما تدركه قوة الوهم من المعاني غير المحسوسة، مثل: الحب والبغض والعداوة والصداقة والحزن والسرور وغيرها) وأن الله عز وجل قد ألهم آدم (عليه السلام) معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم بها وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالها وغيره، وهو مالا تملك الملائكة القابلية والاستعداد للعلم به.
الحقيقة (6):
خضوع الملائكة لآدم وتكبر إبليس: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.
في الآية الشريفة دلالة على أن خلافة الإنسان تعني أصالة وجوده، وأنه سيد هذا الوجود، وأن سيادته تشمل الطبيعة والملائكة والجن.
مما تقدم أنتهي إلى خلاصتين أساسيتين، وهما:
الخلاصة (1): الإنسان موجود واعي يمكنه بقوة التفكير والخيال لديه: التحليل والتعليل واكتشاف الخفايا وراء المحسوس، وفهم واقعية الوجود، وفهم محيطه: الطبيعي والاجتماعي، وتكوين صورة عن الماضي والمستقبل، ويستطيع الإبداع في مجال الصناعات المختلفة: الفكر والأدب والفن والتكنولوجيا وغيرها، بهدف فهم نفسه وفهم الطبيعة وفهم الوجود ككل، وفرض إرادته على الطبيعة، وتغيير مسارها، والتعبير الفكري والعلمي والفني والأدبي عن ذاته، وتحديد غاية وجوده وطريقه في الحياة.
وأنه يمتلك حرية الإرادة والاختيار، مما يتيح له بناء ذاته روحيا والارتقاء المستمر نحو الكمال اللامحدود، فيكون أفضل من الملائكة، أو المسخ والتجمد والأسر والسقوط إلى الهاوية الروحية، فيكون أسوء من البهائم.
الخلاصة (2): أن ما خص الله عز وجل به الإنسان من الكرامات السنية التي ذكرت فيالآيات الشريفة موضوع البحث، وتنطق بها الوقائع الحية، هي بحق من أجل النعم التي أُنعم بها على الإنسان، وجدير بالإنسان العاقل الكريم أن يعرف قيمة هذه الكرامات والمنزلة التي أنزله الله جل جلاله فيها، وأن لا يغفل ولا يقصر في أداء شكرها للمنعم بها عليه، وهو الله رب العالمين. وأن يحذر من الشرك والعناد والتكبر على الله عز وجل ـ كما فعل إبليس اللعين ـ فإن الطامة الكبرى على الإنسان، هي: أن يجهل الله عز وجل ويعمل بعيدا عن منهجه في الحياة، فيكون من الهالكين.
المحور الثاني
نظرة الإسلام لدور الإنسان في الحياة
نستطيع على ضوء ما سبق في بحث الخلافة أن نحدد رؤية الإسلام لدور الإنسان ومهمته في الحياة بثلاث مسارات أساسية، وهي:
المسار (1) التكامل الفردي / تزكية النفس:
الإنسان وفق الرؤية الإسلامية موجود ترابي نفخ الله عز وجل فيه من روحه، فهو المزيج العجيب الذي يصل المادي بالإلهي.
ويعتبر التراب مصدر الجانب المادي في الإنسان، مثل: المأكل والمشرب والملبس والسكن والنكاح والصراع والتنافس وغيرها من أشكال السلوك المرتبط بجاذبية الأرض، وبه يتهيأ الإنسان للتفاعل مع الطبيعة وتسخيرها وإقامة حضارة إنسانية على وجه الأرض.
وتعتبر الروح مصدر العلم والقدرة والإرادة والاختيار والفضائل، وبها يتهيأ الإنسان للتفاعل مع أمر الله جل جلاله وملكوته.
فالروح تمنح الإنسان العقل والاختيار وتحمل المسؤولية، ليأخذ لنفسه طابعا ملكوتيا، ويهب وجوده الازدهار والارتقاء الروحي المستمر من خلال العبادة الواعية / الارتباط بالذات المقدسة المطلقة، والتخلق بأخلاق الإله، ليسمو من التراب إلى الصفاء الوجودي، ويحصل على السعادة الأبدية الخالدة.
وإلى جانب هذاالخط التصاعدي نحو الكمال المطلق، يوجد للإنسان خط تنازلي ينتهي به إلى الحضيض {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وهذان الخطان: التصاعدي والتنازلي هما ميزة الإنسان الاستثنائية بين جميع الكائنات في عالم الوجود بأسره، والأساس في حركة الإنسان في الأرض وابتلائه في الحياة. فبعض الناس يصبحون عبيدا لشهواتهم إلى درجة الانسلاخ من الإنسانية والهبوط إلى حضيض الحيوانية {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 44) وبعض الناس يتعلق بالرغائب والمقدسات الروحية، ويسمو في وجوده الروحي والمعنوي إلى أعلى الدرجات، ويصبح إنسانا صالحا في نفسه ونافعا لمجتمعه من خلال مجاهدة النفس الأمارة بالسوء وكبح الشهوات والتحلي بالصفات الحسنة، مثل: الحكمة والعدل والمحبة والعفة والشجاعة وغيرها.
فالتطلعات الروحية هي الوسيلة لحفظ التوازن في نفس الإنسان والمجتمع والدولة، والارتقاء بالحياة من خلال الاتصال بالحقيقة الكبرى في الوجود، وتستلهم منها النور الذي لا تراه الحواس، وبهذا النور العلوي تستطيع أن تسمو وترتقي بالنفس والمجتمع والدولة.
ولهذا نجد أن الإسلام العظيم قد جاء برؤية كونية قوامها الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده وبتشريع يروض الإنسان على أتباع الحق وفعل الخير والالتزام بالعدل، ويصفي نفسه من كدارة المادة ويشفيها من الأمراض الخطيرة كالبغض والحسد ويطهر قلبه من أدران الشهوات، ليجمع قلوب الناس على الحق والإيمان والمحبة والخير والعدل والتعاون، فيسلك الإنسان طريق السمو والارتقاء في معارج الرفعة والكمال الروحي والمعنوي.
وإن ما تعانيه البشرية اليوم من مشاكل وجرائم يكشف عن حاجتها الماسة إلى الثقافة الروحية الراقية والعمل بها، حيث فشل التقدم المادي: (العلمي والتقني) في ظل ابتعاد الإنسان عن الثقافة الروحية والعمل الصالح في إسعاد الناس، وجلب لها بدلا من السعادة التعاسة والخراب من خلال الحروب الظالمة والصراعات الدامية. فقوى الاستكبار العالمي الغاشمة وفي مقدمتها أمريكا – الشيطان الدموي الأكبر – تسعى لفرض هيمنتها بالقوة على الدول الصغيرة والمستضعفة وإثارة الحروب والنزاعات الداخلية من أجل إضعاف قوتها والتدخل في شؤونها الداخلية وسلب خيراتها وثرواتها بغير وجه حق، وكذلك تفعل الحكومات الدكتاتورية المستبدة ضد شعوبها، في ظل الفلسفة المادية وغياب القيم الروحية.
المسار (2) التكامل المجتمعي / إقامة الدولة:
الإنسان كائن اجتماعي، والإسلام لا يهتم فقط بتزكية النفس، وإنما يطرح نفسه كمنهج كامل تام البناء شامل لجميع جوانب الحياة من اجل إقامة دولة وصناعة أمة وحضارة إنسانية راقية، على أساس العقيدة والشريعة والقيم الروحية والقوانين العلمية والتاريخية.
ولهذا: فهو حاضر في الزمان والمكان، ويخوض صراعا مريرا ضد كل الإيديولوجيات والسياسات التي تعارض وجوده الشامل في الحياة: على المستوى المادي والمعنوي، الفردي والمجتمعي.
والعبادة الذي يطرحها القرآن الكريم كغاية لخلق الإنسان {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) ليست مجرد شعائر، مثل: الصلاة والصيام والدعاء والحج والزكاة، وإنما هي ممارسة وسلوك ومواقف في جميع شؤون الحياة المختلفة: المادية والمعنوية، الفردية والمجتمعية، بحيث تستغرق وجود الإنسان كله، ويشعر بالذوبان الكامل في وجود المعبود، والارتباط الكلي به، والتسليم المطلق لذاته المقدسة بلا قيد أو شرط.
فالصلاة والصيام والحج والدعاء والزكاة وغيرها من الشعائر، ليست كل العبادة، وإنما هي بعض مفرداتها: فالتفكير عبادة، وطلب العلم وطلب الرزق عبادة، ومحبة الناس والسعي لقضاء حوائجهم عباده، والجهاد في سبيل الله عز وجل عبادة، وكل نشاط في أي ساحة من ساحات الحياة يأتي به العبد امتثالا لأمر سبحانه وتعالى فهو عبادة.
فالعبادة حركة شاملة في الواقع كله تؤكد الالتزام والخضوع المطلق لأمر الله جل جلالهونهيه في كل شأن من شؤون الحياة، لا يشد عن ذلك شيء من الأشياء، وكل ما شد فهو لإبليس وهو في نار جهنم. والخلاصة: أن الإسلام العظيم يهدف لإقامة الدولة التي تسعى لتطبيق الشريعة وتحقيق أهداف الخلافة الإلهية في الأرض، وصناعة أمة مسلمة وحضارة إنسانية راقية، وهو تكليف إلهي قطعي للمؤمنين.
وأن الدولة الإسلامية الكاملة: هي دولة العدل الإلهي العالمية التي يقيمها الإمام المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان، وهي طموح الإنسانية، وهدف الأنبياء العظام (عليهم السلام).
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33 ـ الصف: 9).
المسار (3) كشف أسرار الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان:
الطبيعة: هي كل ما هو موجود في الكون من مخلوقات، وهي القوة السارية في الأشياء، وما يتميز به الشيء من صفات وخواص نوعية، وهي النظام والقوانين الحاكمة للعالم المادي.
أما علم الطبيعة: فهو العلم الذي يبحث في طبائع الأشياء وخصائصها ويسعى للكشف عن القوانين التي تحكمها وتفسر ظواهرها.
وأن الله جل جلاله لما جعل الإنسان خليفته في الأرض، فقد سخر له جميع المخلوقات ليقوم بمهمة الخلافة.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 12 ـ 13).
وهذا يعني أن الطبيعة ليست عصية على الإنسان، ولكنها في نفس الوقت لا تمتثل لأمره بدون جهد يبذله، فلكي يستطيع الإنسان تسخير الطبيعة، يجب عليه أن يتعرف على طبائع الأشياء وخواصها والقوانين التي تحكمها، ثم يسعى للسيطرة عليها وتوظيفها لخدمته.
وقد نجح الإنسان فعلا: في تطوير الزراعة والرعي والصيد، وسبر أغوار البحار والمحيطات واكتشاف الصحراء، وتفجير الذرة واكتشاف الهندسة الوراثية، وتطوير الصناعات والاتصالات والمواصلات، والنفاذ في أقطار السماء، وغيره، ولا زال يسير قدما في الكشف عن المزيد من خواص الطبيعة وأسرارها وقوانينها، ويتقدم تكنولوجيا وصناعيا بشكل مطرد وسريع للسيطرة عليها. ولعل المستقبل يكشف لنا عن الكثير من القدرات والإمكانيات الخارقة للإنسان في مجال علاقته بالطيعة: (العلم بخواصها وأسرارها وقوانينها والتقدم التقني لتسخيرها والسيطرة عليها وتوظيفها لخدمة وجوده ومصالحته في الحياة) وكل ذلك بفضل سلطان العلم، الذي هو في الحقيقة من العلم بالأسماء الذي هو ملاك الخلافة في الأرض {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}.
الجدير بالذكر: أن صفات الخالق تتجلى من خلال تسخير الطبيعة في الإنسان المخلوق، وهذا التجلي سر من أسرار الخلافة. ولما كانت العلاقة التسخيرية من خواص الإنسان التي لا يمكن أن توجد في غيره من المخلوقات، كان الإنسان خليفة الله جل جلاله في الأرض دون غيره من المخلوقات.
المحور الثالث
نظرة الإسلام للعلاقات الإنسانية
العلاقة هي الارتباط، والإنسانية تعني جميع الصفات التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية.
والعلاقة الإنسانية، هي: كل ارتباط يقوم بين شخصين أو أكثر في سبيل تلبية حاجات أولية، مثل: الأكل والشرب والسكن والنكاح، أو ثانوية، مثل: الانتماء والتعبير عن الذات والأمن والاستقرار والاحترام والتقدير، وفي مختلف مجالات الحياة: الاجتماعية والدينية والمهنية وغيرها، من أجل تحقيق أهداف: نبيلة أو دنيئة.
فالعلاقة الإنسانية: قد تكون علاقة إيجابية تقوم على أساس العدل والمحبة والاحترام والتعاون والتواضع وغيرها من الفضائل، أو سلبية تقوم على أساس الظلم والجور والعداوة والبغضاء والتكبر والقسوة والسلب والنهب وغيرها من الرذائل.
وتعتبر العلاقات الإنسانية حالة معقدة جدا: لأنها تقوم على التفاهم بين أشخاص مختلفين في الذكاء والتربية والثقافة والقيم والتجربة والقابليات والمصالح والأهداف، وهي عرضة للانفصام إذا لم يتوفر لها التبادل في المشاعر والتوازن في المصالح وضمان العدل والمساواة في المعاملة بين أطرافها، ويعتبر فهم الآخر هو مفتاح كل علاقة ناجحة.
وقد اهتمت الشرائع السماوية والوضعية بتنظيم العلاقات الإنسانية على أسس فكرية وقيمية وواقعية وإدارية، بهدف ضمان الأمن والاستقرار وحفظ الحقوق والواجبات وتحقيق الانسجام وتلبية الحاجات الإنسانية المختلفة. وتأسست لهذا الغرض الهيئات الدولية والإقليمية والوطنية، ويتم توقيع المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق بين الأطراف لأغراض عديدة: سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها، وتبادل السفراء والممثلين بين الدول والمنظمات على جميع المستويات. وفي هذه الورقة: سوف أحاول تقديم صورة مختصرة عن رؤية الإسلام لنظام العلاقات الإنسانية، وسأجعلها في نقاط طلبا للوضوح، وهي:
النقطة (1) البشرية أجمع أمة واحدة:
ينظر الإسلام الحنيف إلى البشرية جمعاء على أنها أمة واحدة، كلهم لآدم، وربهم الذي خلقهم وإليه المنتهى واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52).
وقال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92).
المراد بالأمة في الآيتين الشريفتين الناس جميعا وليس المسلمين فحسب ـ كما يظن البعض ـ وتدل الآية الشريفة على أمور عديدة، منها:
الأمر (1): أن للإنسانية حقيقة نوعية واحدة.
الأمر (2): أن النظام الواقعي لتدبيرها المنسجم مع حقيقتها النوعية، هو نظام واحد يقوم على أساس عقيدة التوحيد، ويتولى الأنبياء والربانيون والعلماء قيادة هذا النظام بأمر من الله جل جلاله.
الأمر (3): تجرد الدين الحق عن الأغراض المنحطة التي تنبع من الأهواء والرغبات السخيفة لدى بعض البشر. نتائج مهمة تتعلق بالعلاقات الإنسانية: إن نظرة الإسلام لوحدة الجنس البشري تنعكس على منظومة القيم العليا الحاكمة للعلاقات الإنسانية، وهذه بعض النتائج المهمة التي تتعلق بها:
النتيجة (1): يجب أن تقوم العلاقات بين الناس على أساس المحبة والتفاهم والحوار، والعدل والمساواة والتواضع وحسن المعاملة والمصالح المشتركة، ونبذ العنف والظلم والجور والأنانية والاستئثار بالخيرات والثروات.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
وقال الله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 17 ـ 19).
والخلاصة: أن ممارسة الفرقة والشقاق بين البشر، يتنافى مع أصول الدين الإسلامي الحنيف وقواعده وقيمه الثابتة، ويتناقض مع غاياته ومقاصده النبيلة، حيث انطلق الإسلام الحنيف في الحياة على أساس الرحمة وتحقيق المصالح العليا للإنسانية في الأرض، وجهد من خلال منظومته الفكرية والتشريعية والقيمية لتقديم الحلول التي تكفل العدل والمساواة وتحقق التقدم والرخاء والازدهار لجميع البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والسياسية، وبدون أن يفرط في حقوق أتباعه والمؤمنين به.
النتيجة (2): أن الإسلام العظيم يقر حرية الاعتقاد ويأمر أتباعه بالتعامل مع غيرهم من أصحاب الأديان على أساس الحوار والتسامح وحفظ الحقوق.
قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64).
النتيجة (3): عدم التواني في ردع الظلم والاعتداءات الداخلية والخارجية عل حقوق الإنسان ومصالحه الحيوية في الحياة.
قول الله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (هود: 113).
وقول الله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} (هود: 116).
النقطة (2) كرامة الإنسان:
ينظر الإسلام الحنيف إلى الإنسان على أنه أكرم المخلوقات على الإطلاق {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ولقد اختار الله جل جلاله الإنسان ليكون خليفته في الأرض دون سائر خلقه {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) وسعى الإسلام إلى تحقيق السعادة والحياة الأفضل للإنسان في البعدين: المادي والروحي، مما يشكل الأرضية لبناء المنظومة الحقوقية للإنسان في الرؤية الإسلامية، ولهذا جعل الإسلام العظيم تحرير الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل وحمايته من كل أشكال الظلم والإجحاف والاضطهاد في مقدمة أهدافه الأساسية وغاياته النبيلة، وحرم عليه بعض الممارسات الشاذة، مثل: الانتحار والشذوذ الجنسي والإضرار بنفسه وغيرها من الحقوق الوهمية المطالب بها في الغرب في الوقت الراهن، واعتبرها خارج دائرة حقوق الإنسان المعترف بها في الإسلام، وقرر له حقوقا ثابتة ودائمة في كل زمان ومكان لا يجوز أن تسلب منه بغير وجه حق.
وفي الرؤية الإسلامية: أن كرامة الإنسان لا تنفصل عن حقوقه الطبيعية الأساسية وحرياته العامة المشروعة في الحياة، فكل نقص فيها فهو يأتي على حساب كرامته الإنسانية وصلاح واقعه، ولهذا فهو لا يرضى للإنسان السكوت والتنازل عنها بأي حال من الأحوال، ويعتبر ذلك سبيلا إلى الإخلال بالتوازن في الحياة وإلى ظهور الفساد العام على وجه الأرض.
النقطة (3) منظومة حقوق الإنسان في الإسلام:
يتمتع الإنسان في الإسلام بعدد كبير من الحقوق الأساسية، أذكر منها:
1. حق الأمن والحياة: لقد فرض الإسلام العظيم على الدولة مجموعة من الحقوق تتصل بالأمن، مثل: الأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي الذي يتصل بالخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان والكهرباء والمواصلات والاتصالات، والأمن على الحياة من خلال منع الجريمة ومعاقبة المجرمين، حيث حياة الإنسان مقدسة لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها ولا يسلب هذا الحق إلا بسلطان الشريعة والقانون.
وقد اعتبر الإسلام العظيم الاعتداء على حياة أي إنسان بغير حق، هو بمثابة الاعتداء على الإنسانية كلها.
قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 32).
ولهذا حرم القتل والانتحار والإجهاض وتوعد عليها بأشد العذاب في جهنم.
ومن أجل المحافظة على هذا الحق من الاعتداء شرع القصاص في القتل العمد.
قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179).
وشرع الدية والكفارة في القتل الخطأ.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمً} (النساء: 92).
2. حق الحرية: لقد منح الإسلام العظيم الإنسان حق الحرية، وتعتبر الحرية وفق الرؤية الإسلامية الوضاءة خاصية إنسانية وركيزة أساسية من ركائز التكريم الإلهي للإنسان، تقتضيها ذاته وطبيعته (العقل والإرادة وحرية الاختيار) ومركزه في الوجود ودوره في الحياة (خليفة الله عز وجل في الأرض) ولا يمكن أن تتحقق إنسانية الإنسان بدون حريته، فمن يسلب الإنسان حريته بغير حق، فإنما هو يسعى لسلب إنسانيته منه.
ولهذا جعل الإسلام تحرير الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل وحمايته من كل أشكال الظلم والإجحاف والاضطهاد في مقدمة أهدافه الأساسية وغاياته الربانية النبيلة.
قول عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”.
وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: “لا تكن عبد غيرك وقد ولدتك أمك حرا”.
وقد كلف الله عز وجل الإنسان العاقل باختيار عقيدته وتقرير مصيره بنفسه عن قناعة وبحرية كاملة. والاختيار هو السبب الذي يقف وراء اختلاف الأديان والمذاهب والمدارس الفكرية والاتجاهات السياسية، ولهذا أقر الإسلام الحنيف حق الاختلاف في الرأي والتعبير، بغض النظر عن الصواب والخطأ فيهما، وعليه: حبب الإسلام للإنسان الدين ولم يكره عليه.
قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256).
ومنع الاستبداد واحتكار الحقيقة.
قال الله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24).
ومنع الإرهاب الفكري والإيذاء الجسدي لجبر الإنسان على تغيير قناعاته.
وجعل أمر الثواب والعقاب في الآخرة قائما على أساس مسؤولية الاختيار.
ولم يعطي للناس الحق في محاسبة الناس على عقيدتهم.
قال الله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 52).
ويُعطى الإنسان في يوم القيامة حق الدفاع عن النفس فيما اختار من العقيدة والعمل.
قال الله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (النحل: 111).
وقد أنتجت هذه الحرية في الإسلام: مناهج الاجتهاد المتعددة في الفقه والأصول والتفسير والفلسفة وعلم الكلام والسياسة والحكم وغيرها، لأن الإنسان لا يمكن أن يبدع ويبتكر وتظهر مواهبه ويتقدم للأمام إلا في ظل الحرية والعدالة، وبدونهما يكون الكبت والفساد والتخلف وعدم الاستقرار، علما بأن العقائد من الأمور الوجدانية التي تتبع وعي الإنسان وفهمه ولا يمكن ممارسة القهر والإرغام فيها، لأن الإكراه إنما يؤثر في الأفعال المادية وليس في الأمور الاعتقادية.
نعم يمكن الإرغام على التظاهر بالأقوال والأفعال المطابقة للاعتقاد المراد فرضه إلا أن هذا ليس بدين ولا عقيدة، فالعقيدة الصحيحة إنما تأتي كثمرة طيبة للإقناع الكامل والتصديق الثابت، ولا قيمة لعقيدة تأتي كنتيجة للقهر والتسلط، لأنها سوف تزول وتضمحل بزوال أسباب القهر والتسلط ويعود صاحبها إلى ما كان عليه قبلهما.
وقد منح الإسلام أتباع الأديان السماوية حرية العبادة وحق الاحتفاظ بلغة أديانهم والعمل على أساسها في أحوالهم الشخصية والاجتماعية مع مراعاة شؤون المسلمين وحقوقهم، واستحدث حق الإجارة العقائدية التي تسمو فوق حق اللجوء السياسي المعروف في العالم المعاصر.
قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6).
وفي هذا كله: يتجلى احترام الإسلام العظيم لكرامة الإنسان وإرادته.
أما عن أحكام الردة: فلا علاقة لها بحرية العقيدة، وإنما بالنظام السياسي للدولة وترتبط أحكامه بأحكامها، ولهذا لا يعاقب إذا احتفظ بالشكوك والشبهات لنفسه أو طرحها بموضوعية للنقاش العلمي وخاطب بها أهل العلم والخبرة بحثا عن الحقيقة ولم يخاطب بها العامة الذين لا يملكون المعرفة والقدرة الذهنية التي تؤهلهم للمناقشة في هذه الأمور بهدف التحريض والإفساد، ويعاقب إذا أصر على البقاء في داخل الدولة الإسلامية ومارس دوره العدائي ضدها، وقام بتجميع الأنصار ضد نظام الدولة والمجتمع، فيتحول بذلك إلى محارب ومفسد في الأرض وليس مجرد صاحب رأي وعقيدة، فيكون العقاب بسبب الحرابة وليس لمجرد التغيير في العقيدة.
والخلاصة: أن حرية الاعتقاد والتعبير الواجب صيانتها، هي الحرية التي لا تشكل تجاوزا أو عدوانا على الآخرين، لأن الحرية ليست مطلقة وإنما مقيدة بالعدالة والمصلحة العامة للإنسان، وهذا ما يحكم به العقلاء: الحرية حسنة ما لم تشكل عدوانا على الآخرين.
وقد أقر الإسلام العظيم للإنسان حق الانتخاب والمشاركة السياسية وإبداء الرأي والتجمع السلمي لكي تكون السلطة تعبيرا عن إرادته، وأعطاه حق المعارضة والرقابة على أعمال السلطة ومحاسبتها ومعاقبتها وعزلها في حال فقدها للشروط، وفي مقدمة الشروط: العدالة والكفاءة وحسن استخدام السلطة.
قول الخليفة الأول أبو بكر الصديق: “أيها الناس وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم”.
وقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: “أيها الناس من رأي في اعوجاجا فليقومه” فقال له إعرابي: “والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا”.
وفي حادث آخر قال: “يا معشر المسلمين! ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا – وميل رأسه – فقام له رجل فقال: أجل ّ كنا نقول بالسيف كذا – وأشار إلى القطع – فقال عمر: إياي تعني بقولك؟ فقال الرجل: نعم! إياك أعني بقولي، فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني” (الرياض النضرة. ج2. ص50).
وهذا أمر سبق به الإسلام العظيم كل الفلسفات السياسية والأنظمة الوضعية في المعارضة السياسية.
كما أعطى الإسلام العظيم للمواطنين: حق التنظيم والتكتل وإنشاء الأحزاب، ورفض منهم الحياد السلبي في الشأن العام (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها) لأنه يخنق الحق والعدل وينصر الباطل والظلم بالسكوت عن نصرة الحق والعدل، ولم يقيد ذلك بإذن الدولة ورضاها، بل اعتبره حق ثابت أصيل ليس للدولة الحق في أن تعطيله أو تمنعه، وحرض الناس على ممارسة هذا الحق الثابت الأصيل.
قال الله تعالى في مدح المؤمنين:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54).
3. حق الكسب والملكية: يؤكد الإسلام العظيم بأن الثروات الطبيعية هي في الأساس ملك خالص لله عز وجل، وانه جل جلاله قد منح الإنسان حق الانتفاع بها وحرم عليه إفسادها وتدميرها، ولا يجوز لأحد أن يمنع أحدا من الانتفاع وفق الشريعة والقانون بما في الطبيعة من مصادر الرزق، فلكل إنسان حق العمل والإنتاج والكسب وتطوير إمكانياته الاقتصادية بالوجوه المشروعة، واعتبر ذلك من الفرائض الدينية وحض عليه مثلما حض عليها.
قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10).
وقول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “ما أكل أحدكم طعاما خيرا من عمل يده”.
وأقر الإسلام الحنيف حق الملكية الخاصة للأفراد بالإضافة إلى الملكية العامة للدولة والأمة، وحرم أخذ المال من أصحابه بالحرام.
قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء: 10).
وفرض أن ينفق المال في محله فلا إسراف ولا تبذير، وأوجب للفقراء حقا في أموال الأغنياء نظمته الحقوق الشرعية المفروضة والمستحبة، وأن توظف مصادر الثروة ووسائل الإنتاج لمصلحة المواطنين، فلا يجوز إهمالها ولا تعطيلها ولا يجوز للقائمين على السلطة الاستئثار بها فهم مجرد أمناء عليها ينفقونها في الأوجه المشروعة المقررة.
ولضمان سلامة الثروة: حرم الإسلام الحنيف: الغش، والاحتكار، والربا، والإعلان الكاذب عن السلع، وغيره مما يضر بمصالح المواطنين ويتنافى مع قيم السماء.
وأقر الإسلام العظيم حق الإنسان في الضمان الاجتماعي والحصول على كفايته من مقومات الحياة في حالة العجز والمرض والشيخوخة وغيرها.
وقد أعطى الإسلام العظيم المرأة نفس الحقوق الاقتصادية التي أعطاها للرجل، فأعطاها حق الكسب والملكية والاستقلال بالتصرف في أموالها.
4. حق الزواج وتكوين الأسرة: لقد حث الإسلام العظيم الإنسان على الزواج وتكوين الأسرة ورغب فيه كثيرا وجعله سنة مؤكدة، وجعله فرضا في بعض الحالات، وعده واجبا اجتماعيا تنهض به الدولة والمجتمع إذا عجز عنه الأفراد.
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
ونظم الحياة الزوجية تنظيما بديعا، ابتداء باختيار الشريك والخطبة، وانتهاء بالحقوق والواجبات المفروضة على الزوجين، مما يهيئ للحياة الزوجية الاستقرار والطمأنينة والنجاح في تحقيق الأهداف.
وقد أجاز الإسلام العظيم للمسلمين أن يتزاوجوا بينهم مع اختلاف مذاهبهم بشرط احترام الخصوصية المذهبية لكل واحد من الزوجين، وأجاز للمسلم أن يتزوج من الكتابية ولم يجز للمسلمة الزواج من غير المسلم.
ويمكن تعليل ذلك: بأن المسلم يعترف بدين أهل الكتاب، ولهذا لن يجبر المسلم زوجته الكتابية على تغيير دينها ولن يمنعها من أداء عباداتها.
أما غير المسلم: فهو لا يعترف بالإسلام، فلا يؤمن أن يجبر زوجته المسلمة على تغيير دينها أو لا يمكنها من تأدية عباداتها بحرية تامة، وفي هذه الحالة لا يكون الزواج متكافئا، ولا يتوقع له الاستقرار والاستمرار.
كما حرم الإسلام الحنيف الزواج من المحارم، وأباح تعدد الزوجات والطلاق.
وفاوت بين الرجل والمرأة في الميراث كما فاوت بينهما في النفقة، ولا يعني ذلك أن أحدهما أفضل من الآخر، فالتفاوت مبني على رؤية اجتماعية محكمة، مع التنبيه إلى أن المرأة قد تتساوى مع الرجل في بعض الحالات، وقد يزيد نصيبها على نصيبه في حالات أخرى، وأجاز أن يضاف إلى نصيبها الثلث من التركة بالوصية.
وقد حث الإسلام العظيم على رعاية الطفل وتوفير الرعاية الشاملة له وتربيته التربية الصالحة، وفرض له الحضانة على الأبوين.
كما حث الأولاد على بر الوالدين ورعايتهم في حال الكبر.
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23).
5. حق المساواة: وتعني المماثلة في الحقوق والواجبات، وهذا من المبادئ الأساسية في الرؤية الإسلامية، حيث الناس سواسية في الحقيقة الإنسانية بنظر الإسلام العظيم، فلا ميزة لإنسان على أخيه الإنسان، فالكل سواسية: لا فضل لرجل على امرأة، ولا لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} (الحجرات: 13).
وفي الحديث الشريف “الناس سواسية كأسنان المشط”.
ويعتبر هذا المبدأ من الركائز الأساسية لاستقرار الإنسانية وتحقيق العدالة بين البشر، ومنع الحروب والتسلط والاستبداد والاستكبار والاستعمار، وتحقيق المحبة والسلم الأهلي والعالمي، وتحقيق التقدم والازدهار والرخاء الوطني والعالمي.
فالسلام من صلب البناء الفكري والقيمي والتشريعي في الإسلام، ولكي يجد السلام طريقه للتطبيق، يجب أن تحكمه – بحسب للرؤية الإسلامية – منظومة متسقة من القيم الإنسانية العالية، مثل: العدالة والمساواة والوفاء بالعهود والمواثيق والصدق والأمانة والتعاون على الخير والمصالح المشتركة، وبدون مراعاة هذه القيم، لا يمكن أن يتحقق أو يستقيم السلام الوطني أو العالمي.
فعلى الصعيد الخارجي: لا يمكن أن يتحقق السلام في ظل الاعتداءات على أمن الشعوب واستقلالها وسرقات ثرواتها وممارسة التمييز العرقي والطائفي ضدها والسعي لحرمانها من حقها في الرخاء والتقدم العلمي والتقني والاستفادة المشروعة من ثرواتها بدون وصاية من أحد، كما هو حاصل اليوم في ظل الهيمنة الأمريكية الغاشمة على العالم.
وعلى الصعيد الداخلي: لا يمكن أن يتحقق السلام الوطني في ظل الظلم والتمييز والدكتاتورية والاستبداد السياسي والديني والقهر ونهب الحكام لثروات الشعوب والاستئثار بخيراتها.
ولهذا كفل الإسلام العظيم العدل والمساواة في ظل الدولة الإسلامية، وساوى بين أبناء الأمة الواحدة في الحقوق والواجبات والجزاء. وأن العلم والتقوى وغيرهما من الفضائل التي حث عليها الإسلام الحنيف ورغب فيها، إنما هي ميزات يظهر أثرها في الآخرة، أما في الدنيا فأصحابها سواء مع غيرهم في الحقوق والواجبات والجزاء وأمام القانون والقضاء.
وسعى الإسلام لتحرير الإنسان من الرق والاستعباد والاستضعاف.
قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} (النساء: 75).
وأعطى المرأة حقوقها ورفع من شأنها كالرجل وفرض كرامتها.
قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228).
وفي الحديث الشريف: “إنما النساء شقائق الرجال”
وساوى بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات والجزاء.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل: 97).
وقال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2).
ولم يفرق بينهما إلا فيما تقتضيه طبيعة كل منهما ومهمته في الحياة.
وقد منح المرأة حق اختيار الزوج والاحتفاظ بهويتها الشخصية بعد الزواج، فهي تعرف بعد زواجها باسم عائلتها الأصلية حتى لا تفقد هويتها الشخصية وحقوقها الإنسانية الأصيلة، بالإضافة إلى حقوقها الاقتصادية.
6. حق الدفاع عن النفس: لقد كافح الإسلام العظيم الظلم بكافة أشكاله، وجعل محاربته واجبا دينا على الحاكم، والتصدي له حقا دينيا للمظلوم، وتوعد الظالمين بأشد العذاب.
قال الله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227).
وقد أقر الإسلام العظيم للإنسان بحق الدفاع عن نفسه ضد أي ظلم أو اعتداء يقع عليه أيا كان مصدره، فإن قتل عد عند الله عز وجل شهيدا.
في الحديث الشريف: أن رجلا جاء إلى الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله: يا رسول الله! أرأيت إذا أراد رجل أن يأخذ مالي؟
فقال الرسول: لا تعطه.
قال الرجل: إذا قاتلني؟
قال الرسول: قاتله.
قال الرجل: أرأيت إذا قتلني؟
قال الرسول: فأنت شهيد.
قال الرجل: أرأيت إذا قتلته؟
قال الرسول: فهو في النار.
وقال الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن أفضل الجهاد عند الله كلمة حق أمام سلطان جائر”.
فالإنسان مفطور على عشق الحرية والعدالة والتقدم والازدهار، وحماية سلامة جسده وعقله من الظلم والعدوان.
وقد فرض الإسلام العظيم سيادة القانون على جميع المواطنين: حكاما ومكومين، وجعله أساس الحكم في الدولة، وأكد استقلالية القضاء وحصانته، ومنع إلقاء القبض أو الحبس أو النفي لإنسان بغير حق، وأوصى بحسن معاملة المتهمين، ومنع تعريضهم للتعذيب أو المعاملة المهينة إلا في حالات استثنائية ووفق شروط محددة، واوجب التزام الشرعية في المعاقبة والتجريم، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، وأن التقاضي حق مضمون ومكفول لكافة الناس، فلكل مواطن حق اللجوء إلى القضاء، ولا حصانة لأي عمل أو قرار أداري من رقابة القضاء، ودعا القضاة إلى النزاهة والعدالة في الحكم والمساواة بين الخصوم {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58) واعتمد قاعد: براءة الذمة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته) وأعطى للمتهم حق الدفاع عن نفسه أمام القضاء وغيره مما يضمن تأكيد حقوق وحريات المواطنين العامة.
ومما تميز به الإسلام العظيم على الأنظمة الوضعية: حق المجرمين في التوبة إلى الله عز وجل وقد رغبهم فيها وحثهم عليها ووعدهم بالقبول والمغفرة.
قال الله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 39).
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.