قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ • ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً • فَادْخُلِي فِي عِبَادِي • وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27 – 30)
معاني المفردات:
المطمئنة: من الاطمئنان بمعنى القرار والسكون الذي هو ضد الاضطراب والتزلزل.
راضية: مسرورة بالثواب والنعيم.
مرضية: مقبولة أعمالها عند الله تعالى.
الخطاب الرباني في الآيات الشريفة الأربع التي تلوتها من سورة الفجر، موجه للنفس المطمئنة التي سوف نتعرف عليها في البحث بعد قليل، وزمانه من أول نزول الموت حتى دخول الجنة والاستقرار فيها.. وهو كما تلاحظون: خطاب مفعم بالحب والشوق ومكسو بكساء الرحمة واللين واللطف والتكريم.
أيها الأحبة الأعزاء..
سوف أجعل الحديث حول الآيات الأربع على ثلاثة محاور رئيسية.. وهي:
المحور الأول
قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}
النفس الإنسانية (بحسب النصوص القرآنية) على ثلاثة أقسام.. وهي:
القسم الأول: النفس المطمئنة:
وهي النفس التي تمتلك البصيرة النافذة، والتي تنظر إلى البعيد وتخترق كافة الحجب: حجب النور والظلام، المستيقنة التي تبصر بنور الحق فلا يخالجها شك ولا ريب في ربها ودينه ولقائه، وقد سمت فوق الماديات والملذات والشهوات وزخارف الحياة الدنيا، وتطلعت بشوق إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب المبدأ المؤثر بالذات، وعشقته ووثقت فيه وفي لقائه وآمنت بقضائه وقدره، وصغت إلى ذكره جل جلاله في ساعات الليل والنهار، واستغنت في كافة شؤونها به عن من سواه، وعملت بأمره ونهيه، فصفت من أدران المادة والأنانية وحب الدنيا وسائر القذارات الروحية والأخلاقية.
فهي المطمئنة (أولا) في إيمانها: لأنها تملك اليقين الذي لا يخالجه شك ولا ريب في ربها ودينه ولقائه فلا تنحرف عن صراطه المستقيم ومنهجه القويم. فصاحبها يلتزم بالتكليف الشرعي في كل شيء، فيطيع ربه في كل ما يأمره به وينهاه عنه ولا يعصيه في صغيرة أو كبيرة وإن أعطي الدنيا كلها، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ولا يتلجلج في الطريق والاختيار وإن قطعت أوصاله أو قتل وأحرق.
وهي مطمئنة (ثانيا) بإيمانها: في الضغوط والآلام والتحديات ومشاكل الحياة وتقلبات الدهر، لأن صاحبها يؤمن بقضاء الله وقدره، ويرى نفسه عبدا مملوكا لله (جل جلاله) لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. ولأنه يثق في حكمة ربه وحسن تدبيره ورعايته ويعلم برحمته ولطفه بعباده. ولأنه يرى الدنيا على أنها دار مجاز لا دار قرار، وأن ما يحصل فيها من غنى أو فقر أو نفع أو ضر أو شدة أو رخاء هو ابتلاء وامتحان إلهي لينال الإنسان بالصبر والشكر والطاعة منزلة القرب والدرجة الرفيعة عند الله (ذي الجلال والإكرام) فإن أصابته نعمة فهو عبد شاكر مطيع لله تبارك وتعالى، وإن خرجت النعمة من يده فهو عبد شاكر مطيع لله أيضا. ولا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان والعلو والاستكبار والتفرعن على الناس والفساد في الأرض، ولا يوقعه الفقر والحرمان في الكفر والإساءة وترك الشكر.. فلو أعطي الدنيا بالكامل ثم زالت عنه دفعة واحدة لما أثر ذلك في نفسه، فهو في مستقر العبودية لربه ذي الجلال والإكرام ولا أثر لحكومة النفس والشهوات في نفسه، فلا ينحرف عن الصراط المستقيم بإفراط أو تفريط، ولا يعتريه التزلزل والاضطراب في ساعات الليل والنهار ولا يسقط ولا يهتز أمام الشدائد (نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي أنزلت منهم في الرخاء) وإنما يرضى بما يرضاه ربه إليه، ويواجه المواقف كلها بالثقة والثبات والاستقامة والسلام الروحي الكبير، ويصبر الصبر الجميل ويؤدي الشكر لرب العالمين في جميع الأحوال والأوضاع {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ • الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}.
وهي مطمئنة (ثالثا) بإيمانها: في الفزع الأكبر في يوم القيامة، لأنها تصدق وتثق بوعد ربها الصادق لها، ورحمته الواسعة بها، فلا ترتاع ولا تخاف ولا تحزن {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فتكون بذلك نهايتها سعيدة في الدنيا والآخرة {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ • الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (الرعد: 28 ـ 29).
مع التنبيه: إلى أن الدرجة العليا للعبودية التامة والنفس المطمئنة الكاملة هي للرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ثم لسائر الأنبياء (عليهم جميعا السلام) ويعتبر الاقتداء بهم ومحاسبة النفس والاعتراف بالتقصير والمحافظة على العبادات (لا سيما الصلاة) والمسارعة إلى التوبة والاستغفار والسعي الحثيث لإصلاح النفس وتهذيبها.. هو الطريق إلى النفس المطمئنة وتحصيلها.
القسم الثاني: النفس الأمارة بالسوء:
الأمارة صيغة مبالغة للأمير فهي تحاول التحكم والسيطرة والتسلط، وليست مستعدة لأن تتنازل عن حكومتها ولا تعترف بفقرها وحاجتها وعبوديتها لله الواحد القهار، وهي تسعى بكل وسيلة للتملص من مسؤولياتها العبادية، وتتمسك بالشكوك والشبهات في سبيل ذلك التملص.
فهي على نقيض النفس المطمئنة: منكرة لله الواحد القهار وكافرة بربوبيته ونعمه ولقائه، ساخطة على قضائه وقدره، وبعيدة كل البعد عنه وعن عبادته، متعلقة بالدنيا وزينتها وزخارفها وماديتها، ولا تطمئن إلا إلى أهوائها وشهواتها وملاذها ومصالحها الشيطانية.
فهي تدعي الاستقلال الكامل لنفسها ولا هدف لها سوى الملذات والشهوات والشهرة والسلطة والجاه والنفوذ، وإذا مارست العبادة كالصلاة والحج والزكاة والتظاهر بالصيام فمن أجل الرياء والسمعة والدعايات الانتخابية وكسب ثقة الأتباع وليس لله رب العالمين. فهي كافرة بالله، عاصية لأمره ونهيه، لا تعترف بالحلال والحرام، ولا بالحق والباطل، ولا بالخير والشر، ولا بكل القيم الدينية والإنسانية، وتمارس الفساد والظلم والطغيان في الأرض بغير رادع من دين أو ضمير.
وهي قلقة مضطربة أمام الحوادث وتقلبات الدهر، تفرح إذا جاءت الأمور وفق أهوائها ورغباتها، ويصيبها الحزن والغيظ والاضطراب إذا جاءت الأمور على خلاف مزاجها وأهوائها ورغباتها {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا • إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا • إِلَّا الْمُصَلِّينَ} فهي ضعيفة قلقة مضطربة رغم أنها تدعي الربوبية لنفسها!! ولها يوم القيامة سوء الحساب ومكانها الطبيعي الذي يتناسب مع حقيقتها وحقيقة عملها القبيح جهنم وبئس المصير.
القسم الثالث: النفس اللوامة:
هي النفس المتوسط بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء، فتارة لجهة الإيمان والطاعة، وتارة لجهة الكفر والمعصية. تارة تعبد الرحمن وأخرى تعبد النفس والهوى والشيطان.
فصاحبها في المسجد عبدا للرحمن، وفي السوق والبيت والمصنع والمكتب عبدا للنفس والهوى والشيطان، يظلم الزوجة أو الأولاد أو الخادم أو الموظفين الذين يعملون تحت يديه أو غيرهم من سائر الناس.. فهو مذبذب: تارة يتوجه إلى الله وأخرى إلى الشهوات والملذات والشيطان. يستمع إلى المواعظ أو يقرأها في كتاب فيتأثر ويندم ويتألم ويلوم نفسه على أخطائه وتقصيره وخروجه عن صراط العبودية لله الواحد القهار، ثم تصرعه الغفلة وضعف النفس فتزل قدمه عن صراط العبودية.. لا سيما في حالة الغضب: فهو ليس بمطمئن أو ثابت وإنما متذبذب وغير مستقر.
والخلاصة: أن النفس اللوامة هي أول مظاهر العبودية، وأن صاحبها يؤمن بالله ولقائه وقضائه وقدره. ينفر من الذنب، ويشكر النعمة، ويصبر على الشدة. فإذا استمرت النفس اللوامة في عملها، فسوف تكون عاقبة صاحبها الصلاح وحسن العاقبة، وربما تصل إلى درجة النفس المطمئنة.
قال الإمام الباقر عليه السلام: “من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن” أما إذا تعطل عملها: فسوف ينتهي الأمر بصاحبها إلى النفس الأمارة بالسوء وإلى جهنم والعياذ بالله العظيم من ذلك.
والخطاب القرآني في الآية الشريفة محل البحث والآيات التي تليها: هو خطاب للنفس المطمئنة كما قلت في بداية الحديث، وهو يكتسي بكساء العطف واللين والمحبة والتكريم والتطمين لأصحابها المؤمنين المخلصين الأبرار.
المحور الثاني
قول الله تعالى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} إلى موعد ربك الذي وعدك به بعد الموت، واحظي بشرف اللقاء وأنس القرب في الجنة بعد غربة الدنيا ووحشتها وصخبها، وبعد البلاء والعناء والعض على الجراح والاستعلاء على الأحزان والجهاد بصدق وإخلاص في الله ذي الجلال والإكرام، والصبر الجميل على مكاره الحياة وصعوباتها، والأنس بذكر الله تبارك وتعالى والاطمئنان به في غربة الحياة ووحشتها، والابتعاد عن كل الانفعالات السلبية في محيط الكفر والضلال والظلم والحرمان ومواجهتها بصبر وحكمة وصمود.
{رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} راضية لأنها كانت مطمئنة في الحياة الدنيا بما قضى وقدر ربها رب العزة والجلال من أمر التكوين، وبما حكم وشرع من القوانين في الحياة.. فهي راضية بإيمانها وصبرها وعملها في الحياة الدنيا، وهي راضية بما أعطاها ربها من الثواب والنعيم والمقام الرفيع والمنزلة العالية والرحمة الواسعة والرضوان العظيم في الآخرة. ومرضية لرضا ربها عنها بما آمنت وصبرت وأدت ما فرض ربها عليها من فروض الطاعة والشكر، فهي مرضية عنده: بإيمانها وعملها وسعيها في الحياة الدنيا، وبما أسكنها في منازل القرب عنده في الجنة ٍ.
أيها الأحبة الأعزاء..
هذه الآية الشريفة المباركة، تبين لنا العلاقة التبادلية في الحب والعشق بين العبد وربه، التي تتحرك في مواقع الرضى بين الطرفين: الرب وعبده المؤمن الصالح البار، وبذلك تعيش النفس السعادة والطمأنينة في حبها لله وحب الله لها. وهذه هي غاية الغايات التي ينبغي أن يتحرك من أجلها الإنسان العاقل الرشيد في سعيه في الحياة الدنيا، وهي الغرض من بعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية العظيمة، وقد بينت الآية السابقة الطريق إليها: المتمثل في الإيمان الراسخ، والعمل الصالح، والتسليم بقضاء الله وقدره.
يقول العلامة السيد الطباطبائي: “وإذا رضي العبد من ربه رضي الرب منه، إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زي العبودية، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربه” (الميزان. ج20. ص285 ).
المحور الثالث
قول الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي • وَادْخُلِي جَنَّتِي}
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي أدخلي مع خاصة عبادي المؤمنين الصالحين المقربين المخلصين الأبرار، الذين اخترتهم لنفسي ليكونوا أحبائي وأوليائي المخلصين لي في العبادة وأنصاري وجندي الغالبون وحزبي المفلحون وانتظمي في سلكهم واستضيئي بالأنوار القدسية للأولياء الكاملين محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
روى الكليني في الكافي عن سدير الصيرفي:
قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: “جعلت فداك يا ابن رسول الله!! هل يكره المؤمن على قبض روحه؟”.
فقال عليه السلام : “لا والله!! إنه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك.
فيقول له ملك الموت: يا ولي الله!! لا تجزع، فوالذي بعث محمدا لأنا أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينك فانظر.
قال: ويمثل له رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم.
فيقال له: هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة رفقاؤك.
قال: فيفتح عينه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة.
فيقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (إلى محمد وأهل بيته) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً (بالولاية) مَّرْضِيَّةً (بالثواب) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (يعني محمدا وأهل بيته) وَادْخُلِي جَنَّتِي} فما شيء أحب إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي” (الكافي. ج3. ص 127 ـ 128).
فصاحب النفس المطمئنة: وصل في إيمانه وعمله لمقام الرضا والتسليم الكامل لرب الأرباب وحاز على مقام العبودية الصادقة المخلصة لله (ذي الجلال والإكرام) وأنقطع عن دعوى الاستقلال وأتباع الهوى والنفس والشيطان، ودخل طائعا وواثقا في صف عباد الله الأبرار المقربين.
{وَادْخُلِي جَنَّتِي} التي أعددتها في قربي. فقد أضاف الجنة إلى نفسه، ولا يوجد في القرآن الكريم إضافة الجنة إلى نفسه تبارك وتعالى إلا في هذه الآية الشريفة، وفي ذلك تشريف خاص لأصحاب النفس المطمئنة، ويدل على مدى قربهم منه وتكريمه لهم. كما قالت آسية بنت مزاحم: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} أي قريبا منك: “فما أروعها من دعوة! وما أعظمه وأكرمه من داع! وما أسعده من مدعو” استجاب لدعوة ربه فكان من أهل القرب والسعادة الأبدية الخالدة!!
وهكذا يكون السكن في جنة الخلد في مقعد صدق بالقرب من الله (ذي الجلال والإكرام) هو النهاية السعيدة للمؤمنين الصالحين الأبرار المقربين، وذلك هو الفوز والشرف العظيم.
أيها الحبة الأعزاء..
بعد هذه الوقفة مع الآيات الشريفة المباركة، أرغب في طرح مسألتين ذاتا صلة بالبحث.. وهما:
المسألة الأولى: مصير الأقسام الثلاثة للنفس في البرزخ والآخرة:
يستفاد من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لأهل البيت عليهم السلام أن:
– أصحاب النفس المطمئنة: يسألون في القبر ويدخلون جنة البرزخ بعد الموت مباشرة، ثم يدخلون الجنة بغير حساب في الآخرة ومنهم الشهداء.
– وأما أصحاب النفس الأمارة بالسوء: فهم يسألون في القبر أيضا، ويدخلون نار البرزخ بعد الموت مباشرة، ثم يدخلون النار بغير حساب في يوم القيامة.
– وأما أصحاب النفس اللوامة: فلا يسألون في القبر، ويحاسبون في يوم القيامة، وينقسمون إلى أهل اليمين الذين يدخلون الجنة وأهل الشمال الذين يدخلون النار ويمكثون فيها فترات من الزمن تطول أو تقصر بحسب أعمالهم، ثم يخرجون منها ويدخلون الجنة.
قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّار (أصحاب النفس الأمارة بالسوء) لَفِي سِجِّينٍ (نار البرزخ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ • كِتَابٌ مَّرْقُومٌ • وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ • الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ • وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ • إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ • كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ • كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ • ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (يوم القيامة) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ • كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَار (أصحاب النفوس المطمئنة) لَفِي عِلِّيِّينَ (جنة البرزخ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ • كِتَابٌ مَّرْقُومٌ • يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ • إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (يوم القيامة) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ • تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ • يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ • خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ • وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ • عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين: 7 – 28).
وقال الله تعالى عن أصحاب النفس اللوامة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 106).
وفي الحديث الشريف عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: “إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضا (وهم أصحاب النفوس المطمئنة) والكفر محضا (وهم أصحاب النفوس الأمارة بالسوء) وأما ما سوى ذلك (وهم أصحاب النفس اللوامة) فيلهى عنهم” (الكافي. ج3. ص235).
والآيات والأحاديث الشريفة في ذلك كثيرة، وقد أخذت منها ما يفي بالغرض، وليس الهدف الاستقصاء أو الإكثار.
المسألة الثاني: الإمام الحسين عليه السلام وسورة الفجر:
تسمى سورة الفجر بسورة الإمام الحسين (عليه السلام) وذلك لأنه يمثل المصداق الأكمل للنفس المطمئنة.. وهذا لا ينافي عمومية الآية وشمولها كما تبين في البحث.
قال الإمام الصادق عليه السلام: “أقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي (عليهما السلام) وارغبوا فيها رحمكم الله.
فقال له أسامة وكان حاضرا المجلس: كيف صارت هذه السورة للحسين خاصة؟!
فقال عليه السلام: ألا تسمع إلى قوله تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ • ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً • فَادْخُلِي فِي عِبَادِي • وَادْخُلِي جَنَّتِي} إنما يعني الحسين بن علي عليهما السلام فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية، وأصحابه من آل محمد صلوات الله عليهم الراضون عن الله يوم القيامة وهو راض عنهم، وهذه السورة في الحسين بن علي عليهما السلام وشيعته وشيعة آل محمد خاصة من أدمن قراءة الفجر كان مع الحسين عليه السلام في درجته في الجنة، إن الله عزيز حكيم” (البرهان في تفسير القرآن).
أيها الأحبة الأعزاء..
نريد أن نأخذ درسا من هذا الحديث الشريف الذي يربط بين الإمام الحسين عليه السلام والنفس المطمئنة. فالإمام الحسين عليه السلام كان يملك علما بالله (ذي الجلال والإكرام) وعشقا عظيما وشوقا إليه لا ينتهي، ويمتلك يقينا في الدين لا يتزلزل، وقد أنتج ذلك اليقين والعشق: استقامة في السلوك، ومواقف صلبة ثابتة لا تلين ولا تتزلزل في الدفاع عن الدين وعن مصالح المسلمين.
قال عليه السلام حينما نزل إلى ساحة المعركة في كربلاء:
أنا الحسين بن علي
آليت أن لا أنثني
أحمي عيالات أبي
أمضي إلى دين النبي
وكان عليه السلام كلما اشتدت المعركة ضراوة اشتد وجهه إشراقا ونورا. وهو القائل في اللحظات الأخيرة قبل استشهاده عليه السلام:
تركت الخلق طرا في هواك
وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني في الحب إربـا
لما مال الفـؤاد إلى سواكا
هذه حقيقة النفس المطمئنة: يقين في العقيدة، واستقامة في السلوك، وصلابة في المواقف المحقة دفاعا عن الدين ومصالح المسلمين وحقوقهم.. فمن فقد واحدا منها: اليقين أو الاستقامة أو الصلابة في المواقف.. فهو لا يملك النفس المطمئنة!!
هكذا كان الإمام الحسين، وهكذا كانت أخته زينب، وهكذا كان ابنه علي الأكبر، وهكذا كان أخوه أبو الفضل العباس، وهكذا كان كافة أصحابه، وهكذا كان الإمام الخميني المقدس، وهكذا كان السيد محمد باقر الصدر العظيم، وهكذا كان ولا يزال السيد حسن نصر المؤيد، وهكذا كان جنود حزب الله في لبنان ولا يزالون، وهكذا ينبغي أن يكون كل مؤمنين حر شريف في كافة أقطار الأرض.. بنفس مطمئنة: تمتلك اليقين، وتمتلك الاستقامة في السلوك، وتمتلك الصلابة في المواقف، دفاعا عن الدين الحنيف والحق والحقوق، ودفاعا عن مصالح المؤمنين والمستضعفين في الأرض، من أجل إحقاق الحق، وفرض الاستقامة في الحياة، ولإقامة القسط والعدل بين الناس، ولو كره الكافرون والطواغيت والمستكبرون في الأرض والمستبدون والمتحكمون كرها وبغير حق في مصائر البلاد والعباد، ليحظى المؤمن: بشرف وعز وسعادة الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة الأعزاء..
لا تتوهموا الدين الحنيف بأنه مجرد علم كلام وأصول وفقه وعبادة، وتيقنوا بأنه علم وعرفان، وأصول وفقه، وعبادة واستقامة في السلوك، وخدمة للناس من كافة الوجوه وعلى كافة الأصعدة، ومواقف صلبة لا تلين ولا تتزلزل، دفاعا عن الدين والأمة والوطن والمستضعفين في الأرض، وعن الحق والحقوق، وعن العدل والحرية وسائر حقوق الإنسان.
هكذا هو الدين الحنيف كما يعرضه القرآن الكريم، وهكذا هو الحنيف في الأحاديث الشريفة للأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين وفي سيرتهم العطرة الطاهرة، وهكذا ينبغي أن يكون فهمنا للدين الحنيف العظيم، وعلى هذا الأساس المتين ينبغي أن تكون تصرفاتنا العملية في الحياة!!
“اللهم اجعلني ممن تنتصر بهم لدينك، وتعز بهم نصر وليك، ولا تستبدل بي غيري، فإنك استبدالك بي غيري عليك سهل يسير وهو علي كثير”.
“اللهم فأجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك، صابرة على نزول بلائك، شاكرة لفواضل نعمائك، ذاكرة لسوابغ آلائك، مشتاقة إلى فرحة لقائك، متزودة التقوى ليوم جزائك، مستنة بسنن أوليائك، مفارقة لأخلاق أعدائك، مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك” (زيارة أمين الله).
أيها الحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته