السلام عليكم أيها الأخوة المؤتمرون ورحمة الله تعالى وبركاته
الإسلام دين التوحيد والوحدة، والارتقاء بالإنسان فوق التحديات، ليضمن للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة. والوحدة الإسلامية أمر واجب على كل المسلمين، تفرضها الفطرة الإنسانية التي تنطلق منها الإنسانية كلها، وعقيدة التوحيد، وتقتضيها المصالح الإسلامية العليا، والتكليف بحمل الرسالة إلى العالم، ووحدة مصير المسلمين. والطائفية حالة مرضية منحرفة عن الدين الحنيف، ومعيقة لانطلاقة مشروعه الحضاري في الحياة، وخطيرة على مصالح المسلمين العليا، وتهدد وجودهم. خلقتها عوامل بعيدة عن العقيدة والتعقل، وتتطلب معالجتها العودة إلى الدين الحنيف، والتعقل في النظر إلى المسائل وسبل معالجتها.
وفي هذه الورقة سوف أتناول:
• مقدمة.
• بعض العوامل المسؤولة عن إيجاد الطائفية وتغذيتها.
• بعض السبل للتخلص من الطائفية.
• الخلاصة من البحث.
• توصية.
وذلك في إطار موضوع المؤتمر ومحاوره المحددة من قبل الجهة المنظمة.
أولا: المقدمة
الاختلاف ظاهرة طبيعية وسنة كونية ثابتة، وهو الأساس الذي تقوم عليه الحركة والنمو والحياة في الكون، وبدونه لا حركة ولا نمو ولا حياة في الكون. وهذه الحقيقة الكونية العامة الثابتة قد اكتشفها صدر المتألهين الشيرازي وأسماها بـ(الحركة الجوهرية).
ويعتبر الاختلاف الأساس لحركة الفكر والمجتمعات وتصحيح أوضاعها وتطويرها، وبدونه لا حركة ولا تصحيح ولا تطوير في الفكر والمجتمعات. وكلما تطور الفكر وتطورت المجتمعات أكثر، كلما برز الاختلاف أكثر، وأصبح أكثر أهمية.
ويعتبر الاختلاف حقيقة واقعية قائمة بين الناس، فلا يوجد اثنان متفقان في كل شيء، حتى الأب وأبنائه، والأستاذ وتلامذته، وبقي أن نعرف بأن هذا الاختلاف:
• إما أن يكون سبيلا إلى الحركة والتقدم والازدهار والرخاء في الحياة.
• وإما أن يكون سببا للنزاع والاقتتال والخراب والدمار والتخلف.
وهذا يتوقف على نظرة الإنسان إلى الاختلاف وأسلوبه في التعاطي معه وإدارته:
• فإذا تعاطى معه بفكر منغلق، ونفسية مريضة قوامهما النظرة الأحادية الضيقة، والظلم بدافع الأنانية وحب الذات والمصالح الخاصة: (الشخصية والحزبية والفئوية والطائفية) فإن النتيجة، هي: النزاع والشقاق والاقتتال والخراب والدمار والتخلف في الحياة.
• وإذا تعاطى معه بفكر منفتح، ونفسية سليمة قوامهما العدل، والقبول بالآخر، والتسامح معه، والاعتراف بحقوقه، وحسن الإدارة للاختلاف، فإن النتيجة، هي: السلام والأمن والاستقرار والتقدم والازدهار والرخاء في الحياة.
والخلاصة: المشكلة ليست في الاختلاف، وإنما في التعاطي معه وأسلوب إدارته.
الاختلاف بين المسلمين:
والاختلاف بين المسلمين بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة واقعية لا شك فيها، فالمسلمون في الأصل وبطبيعة الحال: ليسوا شعبا واحدا ولا عرقا واحدا، وإنما هم عدد من الشعوب والقبائل والأعراق المختلفة: (عربا وفرسا وأتراكا وأوربيين وآسيويين وغيرهم) وهم لم يجتمعوا على مرجعية دينية وسياسية واحدة بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فتعددت بينهم المذاهب. إلا أن ذلك كله لا يفقد الأمة الإسلامية وحدتها الواقعية والحقيقية.
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92).
وقال الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52).
ولدينا في الدين الإسلامي الحنيف ركائز ثابتة كثيرة للوحدة بين المسلمين، منها: وحدة الرب، ووحدة الرسول، ووحدة الكتاب، ووحدة القبلة، ووحدة العبادات الأساسية، مثل: الصلاة والصيام والحج والزكاة، فجميع المسلمين متفقون على أصول الإيمان وأركان الإسلام، ويمكن التغلب على الخلافات المذهبية والفكرية والسياسية بالحكمة وبالرجوع إلى مبادئ الدين الإسلامي الحنيف وقيمه السامية وأحكامه السمحة.
وتعتبر الوحدة الإسلامية ضرورة حضارية لأمتنا الإسلامية، حيث:
• أن الأمة تحمل رسالة السماء العظيمة، وتبحث عن خلاصها وخلاص البشرية جمعاء.
• وأن الوحدة تخرج أبناء الأمة من ضيق الأفق في الفكر والتصورات، ومن الانغماس في القضايا الصغيرة والهموم الضيقة، إلى الآفاق الواسعة في الأفكار والتصورات، وليعيشوا الاهتمام بالقضايا الكبيرة والمصيرية، والتخطيط لمواجهة التحديات التي تقف في طريق الأمة وتعيق حركة تقدمها وتطورها.
مما يفرض على جميع المسلمين التمسك بوحدتهم، التي هي الحقيقة العقلية والدينية والواقعية الراقية والسامية جدا، والحذر من التباغض والتنازع والفرقة والتكفير لبعضهم البعض، وأن يقفوا باهتمام بالغ وبمسؤولية كبيرة أمام خطورة التنازع، قول الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46).
والخلاصة: الوحدة بين المسلمين ضرورة حضارية يفرضها العقل السليم، ومبادئ الدين الحنيف وقيمه السامية، والواقعية التي تفرضها ضرورات الحياة.
ثانيا: العوامل المسؤولة عن إيجاد الفتنة الطائفية وتغذيتها
وهي كثر، أهمها:
1. قوى الاستكبار العالمي:
لقد لجأت قوى الاستكبار العالمي ـ وعلى رأسها أمريكا والكيان الصهيوني ـ إلى توظيف الفتنة الطائفية ضد المسلمين، وذلك من خلال نشر الفهم الملتبس للآخر، والتأسيس لثقافة التشطير بين المسلمين على أساس طائفي وعرقي ونحوها، وتشجيع ثقافة العنف، وضرب ثقافة التعددية والتنوع والقبول بالآخر، والتأسيس للاستعانة بالأجنبي بحجة رفع الغبن الخاص، ووضع حد للتهميش، وغيره، مما يؤدي إلى خلق واقع سيء وعبء جديد على الأمة. لأن هدفهم هو السيطرة على العالم الإسلامي ومقدراته، وصرف الأمة الإسلامية عن التطور الحضاري وامتلاك الانجازات العلمية والتكنولوجية الكبيرة، ولا سبيل لهم إلى ذلك إذا كان المسلمون متوحدون، فغايتهم الخبيثة لا تتحقق إلا إذا كان المسلمون متفرقون ومتناحرون، فقاموا بالنفخ في الفتنة الطائفية، وصرفوا على ذلك الأموال الطائلة، من أجل اختراق وعي الأمة وضميرها، ليقف المسلمون ضد بعضهم، في ظل توسيع الخلافات الطائفية والعرقية ونحوها، وتوظيفها في الصراعات السياسية بين الحكومات والشعوب وبين الحكومات مع بعضها البعض، فينشغل المسلمون بعضهم ببعض في صراعات داخلية طاحنة تعصف بهم وتذهب بريحهم، فتسهل على قوى الاستكبار السيطرة عليهم، واحتلال أوطانهم، ونهب ثرواتهم ومقدراتهم، وفرض التخلف العلمي والحضاري عليهم، وتخيب بذلك أمالهم في التقدم والرخاء، وتنتهي مهمتهم في حمل الرسالة وإقامة مشروعها الحضاري في الحياة، قول الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثر، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت” (سنن أبي داود. ج2. ص313. الحديث: 4297).
ولا يوجد مسلم غيور يقبل أن يكون عنصرا يخدم أعداء الدين والإنسانية، ويضر بالإسلام ومصالح المسلمين، فعلى كل مسلم (لاسيما العلماء والنخبة من كل طائفة) أن يدرك خطورة الوضع الراهن، حيث تواصل قوى الاستكبار العالمي التآمر لتمرير أجندتها الخبيثة بمساندة جهال الأمة وسفهائها، وأن يتحلى بالوعي على أساس عقلي وديني وأخلاقي وعملي، ويتحمل المسؤولية الدينية والقومية والوطنية في سبيل مواجهة القوى العظمى الجائرة، ورد المظالم عن المسلمين، وحفظ عزتهم وكرامتهم وميراثهم الفكري والروحي، لكي ينعم العالم الإسلامي بالأمن والاستقرار والتقدم والرخاء، وتبرز مكانته الرائدة بين الأمم، ويسعى في تطبيق المشروع الإسلامي الحضاري. والسبيل إلى ذلك هو التمسك بتوحيد صفوف المسلمين، وإذكاء روح الأخوة والمحبة والتعاون بينهم، والوقوف في وجه الفتنة الطائفية، ومقاومة تحريك الحس الطائفي لتبرير الوقوف مع الأعداء والتآمر معهم ضد المسلمين، لأنه بخلاف المبادئ والقيم الإنسانية والإسلامية الكريمة، وضد مصلحة الإسلام والمسلمين وقضيتهم المركزية: قضية فلسطين العزيزة.
2. الحكومات الدكتاتورية المستبدة:
لأنها وجدت في الفتنة الطائفية وسيلة مثلى للمحافظة على كراسي الحكم ومواجهة طموحات الشعوب إلى الوحدة والعدل والحرية والسيادة، فلجأت إلى تجهيل الأمة بدينها وبمسؤولياتها وأهدافها وأدوارها، وإثارة الفتنة الطائفية وتحريض فئات من الشعب ضد فئات أخرى، من خلال:
• إثارة النعرة الطائفية بإضفاء بعد عصبي انفعالي على الاختلافات المذهبية، يغيب معه العقل والضمير، وتحضر معه الغريزة والتعصب.
• والتركيز على المصالح والمكتسبات لكل طائفة على حساب الطائفة الأخرى.
وذلك بهدف توظيف الانقسام الطائفي في الصراعات السياسية الداخلية، ومواجهة الحركات الوطنية المطالبة بالحقوق العادلة والقضاء عليها، ولكي تقبل الشعوب بالأمر الواقع، وتتنازل عن الحقوق الطبيعية والوضعية المكتسبة لصالح تسلط الحكومة واستبدادها.
وساعد على ذلك: التعصب الديني، والجهل بمبادئ الدين الحنيف ومقاصده وقيمه الروحية السامية، ووجود القيادات الروحية والسياسية المهزومة، التي تفتقر إلى الرؤية والإرادة والقيم القيادية، ولا تحسن توظيف عوامل القوة لتوحيد الأمة، ودخول بعض علماء الدين إلى صفوف الموالين للسلطة، لنخلص إلى نتيجة مهمة، وهي: أن السياسة والجهل وليس الدين هما اللذان يقفان وراء الطائفية، مما يتطلب من الدعاة والساسة المخلصين إثارة الوعي الديني والوطني، بهدف:
• المحافظة على نقاء الدين وصفائه.
• وتحريره من غايات المستغلين السيئين.
• وعدم السماح بزج الدين في الصراعات الحزبية والمصالح الآنية.
• ووضع الاختلافات المذهبية في إطار الاجتهاد ضمن الدين وليس في مقابله.
• وكشف ألاعيب السلطات الدكتاتورية المستبدة وأساليبها الخبيثة، لتحقيق أجندتها الشيطانية في التسلط باسم الدين على الشعوب، وفرض هيمنتها على مقدراتها، والتحكم بمصائرها، وتوجيهها إلى الوجهة التي تخدم مصالحها الأنانية الخبيثة.
3. التكفيريون:
هم إحدى أخطر الظواهر التي تعصف بالمجتمعات الإسلامية، حيث أعمى الله جل جلاله بصيرتهم فلم يبصروا الحق والعدل في الكتاب والسنة، فقاموا بـ:
• إعطاء أنفسهم حق القيمومة على الآخرين من المسلمين، والسعي لفرض أفكارهم وقناعاتهم عليهم بالقوة.
• ونشر الخطاب الطائفي الذي يفرق ولا يجمع، فيقومون بتضخيم الاختلافات بين المسلمين وصرفوها عن واقعها وعن حقيقتها، والنظر إلى المذاهب الإسلامية وكأنها أديان مختلفة بدلا من النظر إليها على أنها مدارس في الدين الواحد. فكفروا طوائف المسلمين، ثم وجهوا سيوفهم لرقابهم، من أجل أن ينتزعوا بالإرهاب الاعتراف بصحة أفكارهم وقناعاتهم، ويلزموا الآخرين بها بغير وجه حق، متناسين قول الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 255).
• والتعبئة ضد المسلم المختلف، بدل التعبئة ضد العدو الخارجي، بحجة أن العدو الداخلي ـ وهو المسلم المختلف ـ أكثر خطرا على الدين والأمة من العدو الخارجي، وغيرها من الحجج الواهية.
والمتطرفون الذين يتحدثون باسم الدين – من أي دين كانوا – يسيؤون إلى الدين والمجتمع، حيث يترتب على انتشار التيارات التكفيرية والمتطرفة نتائج خطيرة، منها:
• التضليل ونشر المفاهيم الخاطئة.
• تشويه صورة الدين، وإظهاره على أنه دين عنف وإكراه، لا دين رحمة وحوار.
• خلق النزعات ومنع التقارب بين المسلمين، مما يشتتهم ويضعف قوتهم، ويعيق تقدمهم الروحي والعلمي والحضاري.
وهذا يتطلب:
• جهدا علميا من الفقهاء والمفكرين في سبيل نقد المتطرفين وتصحيح المفاهيم، ووضع معايير دقيقة للكفر والفسق والضلال، وإدانة علنية واضحة وصريحة للتكفير والممارسات الداعية إلى التباغض والتناحر بين المسلمين، وتفنيد الاتجاهات المغالية التي تتعارض مع الكتاب والسنة.
• وجهدا عمليا من الدعاة والساسة الواعين، في سبيل تصفية النفوس، ورص الصفوف، وتعميق أواصر الأخوة والمودة بين المسلمين، وسد منافذ الفرقة والشقاق والتنازع، وترميم ما تصدع في العلاقات بينهم.
4. تصدي المتعصبين والفقهاء المذهبيين وغير المؤهلين علميا وفقهاء السلاطين لقضايا الساحة والإفتاء والتوجيه الديني:
حيث ساعد ذلك على ظهور حركات التطرف والإرهاب، ونصرة الطائفة على حساب نصرة الحق والدين والوطن، وتنازع الفقهاء والأتباع تبعا لتنازع السلطان والتباين في المصالح، وذلك في ظل:
• تقصير العلماء الروحانيين والمفكرين المعتدلين والمستقلين في تحمل مسؤولياتهم الدينية والوطنية في نشر الوعي والتنوير وتعزيز الصحوة الإسلامية وبناء الآراء والمواقف المشتركة والنهي عن الفرقة والأحقاد.
• وتقصير الإسلاميين المعتدلين في التصدي لقضايا الساحة، مما يترك فراغا يقوم المتطرفون بملئه.
وقد يتأثر هؤلاء بالخوف على النفس وعلى المصالح الخاصة، فيفتقدوا الشجاعة وإرادة التصدي لرد التجاوزات التي طالت المقدسات، ومقاومة التحديات، مما يفسح المجال أمام المتطرفين للبروز وفرض وجودهم في أوساط المسلمين، وهذا يتطلب..
• تعليم الدارسين في الحوزات والمراكز العلمية فقه الوحدة وآداب الإختلاف، وتربيتهم على الشجاعة في الرد العلمي والتصدي للتيارات التكفيرية والاتجاهات المغالية التي تتعارض مع الكتاب والسنة.
• وأن تقتصر الفتوى على المؤهلين لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، الذين يتحلون بالتقوى، والعارفين بأوضاع زمانهم.
• تحمل المسلمين المعتدلين المسؤولية الدينية والوطنية بالتصدي إلى قضايا الساحة والتضحية من أجل الدين وخدمة مصالح العباد.
5. نقص الوعي الديني بين عامة المسلمين:
حيث تكثر بين المسلمين شريحة الجهال الذين لا رؤيا لهم ولا رأي، فهم كالأنعام ينعقون مع كل ناعق، ويميلون مع كل ريح، فهم ضحايا التضليل الفكري والسياسي والإعلامي الكاذب. ولهذا ينبغي على التيارات الفكرية والقوى السياسية المخلصة شحذ الهمم لصالح التنمية الفكرية والروحية والأخلاقية والسياسية للشعوب، وعدم الاستسلام أمام التيارات التكفيرية، والإصرار على رفضها ومقاومة أجندتها في الفتنة الطائفية، لأن الفتنة الطائفية هي السلاح الأكثر فتكا بالمسلمين في الوقت الحاضر، مما يتطلب هبة إسلامية واعية ضد دعاة الفتنة الطائفية والفرقة بين المسلمين، وتحصين الأمة الإسلامية ضدها، وعدم السماح بانزلاق الأمة إليها.
6. الحواجز وضعف التواصل بين المسلمين:
حيث يجهل أبناء كل طائفة حقيقة أبناء الطائفة الأخرى، وتلعب الروايات الشعبية، وعمليات الوعظ والإرشاد التي تقوم على الإثارة، الدور الأساسي في فهم الآخر، مما يفسح المجال أمام الدعايات المغرضة لتقوم بدورها الخبيث في تشويه سمعة أبناء الطوائف الأخرى والاستعداء عليهم. ولو تواصل أبناء الطوائف الإسلامية مع بعضهم شعبيا بالإضافة إلى النخبة، وتم التدقيق في عمليات الوعظ والإرشاد بحيث تعتمد الحقائق العلمية بدلا من الإثارة، لكانت مهمة الأعداء أصعب، وفرصتهم في النجاح أقل إن لم تكن معدومة.
ثالثا: بعض السبيل للتخلص من الطائفية
وللتخلص من الطائفية سبل عديدة، منها:
1. التأكيد على الهوية الإسلامية والدور الحضاري للمسلمين:
فلا يمكن أن تتحقق الوحدة الإسلامية بدون تحديد الهوية ووضوح المشروع الإسلامي لدى المسلمين:
• أما الهوية فهي الإسلام، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) وتتمثل الهوية في الفكر الأصيل (الرؤية للكون والإنسان والحياة) والشعور النبيل، والروحية الإيمانية العالية، والأعراف والآداب والقوانين الإسلامية، وما ينتج عنها من مهام وأدوار وسلوك ومواقف إنسانية راقية. وهي تضمن وحدة الصف والقوة والانتصار. وغيابها أو الجهل بها يؤدي إلى السخف في التفكير والمواقف الدنيئة. وهما من العوامل الرئيسية التي تقف وراء انتشار الفتنة الطائفية، قول الله تعالى: {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53).
• وأما الدور فإقامة دولة العدل الإلهي العالمية، قول الله تعالى: {لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25) وغياب الوضوح بهذا الدور من العوامل التي تساهم في التفرق والصراعات بين المسلمين، ويمهد لانتشار الفتنة بينهم، ولو عرف المسلمون دورهم الحضاري الراقي في الحياة، لوحدوا صفوفهم، وذهبوا إلى مقصدهم في الحياة، وهو إقامة القسط والعدل بين الناس.
2. ديمومة الحوار بين المسلمين:
الحوار ليس مجرد وسيلة لحل مسألة آنية: سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، وإنما هو آلية دائمة للتواصل الإنساني، بهدف معرفة الحقيقة والتعبد بها، والتوافق على معايير الحياة للبشر، والتعايش السلمي بينهم، ورسم الحدود الفاصلة بين الأشياء، وعقلنة المجتمع من الناحية الفكرية والتشريعية والقيمية، والخضوع المطلق لله ذي الجلال والإكرام، وتجاوز العيوب الفكرية والعلمية، مثل: الغلو، وإعادة التوازن إلى التفكير، والوصول إلى حلول واقعية للقضايا والمسائل موضوع الحوار، والارتقاء العلمي والحضاري للمجتمعات الإنساني، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
فالحوار يدل على الوعي والسمو، وهو وسيلة للحب ومعرفة الحقيقة.
ويقوم الحوار على مجموعة من الأسس، منها:
• حب الحقيقة والتواضع لها بعيدا عن الاستعلاء والتكبر، وتحرير المعرفة من الأطر التي تحصرها وتحجبها عن الوصول إلى الحقيقة.
• الصراحة في الطرح والاعتراض في المسائل الخلافية بعيدا عن الاستفزاز والخجل، لكي تكون للحوار واقعيته، ويكون منتجا للتغيير المطلوب.
• الموضوعية، وتغليب الجانب العلمي على العاطفة المذهبية، والتخلي عن الإثارة والأحكام المسبقة، والاحتكام إلى الحجة والدليل والبرهان، بعيدا عن التعصب وسياسة تسجيل النقاط على الآخر، قول الله تعالى: {قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111).
• البناء على المشتركات والتسامح والإنصاف وحسن الاستماع والحرص على حسن الفهم والتفهم للآخر، قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 18) والابتعاد عن الإساءة والتجريح والفحش في القول، قول الله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (الإسراء: 53) والهدف هو حسن الفهم والتفهم للآخر، والعيش المشترك معه بسلام، والتعاون معه على المشتركات، وتبادل المصالح وحفظ الحقوق للجميع، والنجاح في مواجهة الأخطار والقضاء عليها.
• النظر إلى تأثير نتائج الحوار على الشارع الإسلامي وأخذه بعين الاعتبار، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى منطقية الحوار وعلميته في نفسه.
3. التأصيل إلى نظام قيمي شامل يضم الصفات الروحية السامية والأخلاق السلوكية:
مثل: العمل بالخير، والتمسك بالعدل، والمحبة، والتواضع، والتسامح، والاعتدال، والعفو ـ وهي من المشتركات ـ ثم وضع برامج عمل لتحويلها إلى وقائع حية تتحرك على الأرض، وعدم إبقائها في صيغتها النظرة والصوفية البعيدة عن الواقعية والواقع، وذلك بهدف:
• معالجة أحد أهم أسباب التطرف، وهو الجفاف الروحي، وفقدان الإحساس ألقيمي، مما يؤدي إلى تعطيل دور القيم الروحية في صبغة السلوك والموقف، وجعل الإنسان أسير الاحتكام إلى قواعد جافة: فكرية وعملية، تبعد المسلم عن إسلامه، والإنسان عن إنسانيته.
• بناء الشخصية الإسلامية التوحيدية على أسس مبدئية ثابتة، تتجاوز قضية الربح والخسارة والحالات الطارئة.
• السير نحو المشتركات والبحث عنها، وجعل الوحدة الإسلامية مشروع عمل راسخ يقوم على أساس التكليف الشرعي، والوظيفة الدينية لدى المسلمين، والقيم الروحية والصفات الأخلاقية الثابتة، مما يجعل من الوحدة مشروع حضاري ثابت، غير قابل للتبدل والتحول بتبدل الظروف والمصالح وتغيرها.
والخلاصة: تقارب قيمي، يدفع إلى تقارب فعلي، يقف في وجه جشع الساسة والطائفيون وجهلهم وأنانيتهم وأحقادهم.
4. العمل على نشر الكتب التي تضم المشتركات في العقائد والفقه:
وتكوين اللغة الإسلامية التقريبية المشتركة من خلال تحديد المصطلحات والمفاهيم تجنبا للبس، وبذل الجهود لبلورة مشروع حضاري إسلامي مشترك، والتركيز من الناحية السياسية على القضايا المشتركة، مثل: قضية فلسطين، وقضايا المستضعفين في الأرض، وحقوق المواطنين، والسعي لإقامة الأنشطة والفعاليات المشتركة التي تعزز روح الوحدة الإسلامية، والهدف، هو:
• تعزيز الهوية الإسلامية المشتركة.
• وخلق أجواء الألفة والمحبة.
• وتعزيز لغة التواصل المشترك.
• وتطبيع العلاقات بين المسلمين من مختلف المذاهب الإسلامية.
5. العمل على إنزال ثقافة التقريب:
والنتائج الايجابية للحوار بين العلماء الروحانيين والمفكرين الإسلاميين إلى الساحة الشعبية، وتحويلها من خلال آليات التثقيف الفاعلة والفعاليات المشتركة، وفق برامج عمل مؤثرة، وبمشاركة مؤسسات المجتمع المدني والقوى السياسية وصناع الرأي العام، إلى ثقافة إسلامية شعبية راسخة، وعدم حصرها بالنخب العلمية والمثقفة. على أن يبدأ مشروع الوحدة الإسلامية من الأسرة، عن طريق تنشئة الأطفال على محبة الحقيقة والتعبد بها، والعدل والتسامح مع الآخر وحسن فهمه وتفهمه، والهدف هو:
• إنشاء تصور إسلامي شعبي يقوم على الوحدوية، والعيش المشترك السلمي بين المسلمين، والتساوي بينهم في الحقوق والواجبات، كبديل عن ثقافة التكفير والتطرف والطائفية.
• وبناء نسيج العلاقات الداخلية بين المسلمين، وترميم ما تصدع منها، ليكونوا أكثر تقارب وتلاحم بينهم.
فالقواعد الشعبية هم وقود الفتنة الطائفية، وعليهم يقع العبء الأكبر في إدامة الصراعات الطائفية، فهم مرتكبو المجازر، وهم ضحاياها، وهذا يتطلب: مشاركة الرموز والقيادات الروحية والسياسية التي تتبعها الجماهير في المؤتمرات والندوات والأنشطة التي تتعلق بالوحدة، وتبادل مواقع الإرشاد والتوجيه، مثل: الخطابة في المساجد بينهم، فيخطب العالم السني في المسجد الشيعي، ويخطب العالم الشيعي في المسجد السني، وذلك لتصل نتائج مؤتمرات الوحدة وغيرها بواسطتهم إلى الجماهير وتتأثر بها.
رابعا: الخلاصة من البحث
على المسلمين أن يتفهموا الحقيقة العقلية والدينية والواقعية لوحدتهم، وأن يتفهموا خطورة المرحلة الراهنة والأخطار المحدقة بهم، فيترفعوا عن الاختلاف الذي يؤدي إلى التنازع والفرقة. وعلى أفراد النخبة والصفوة من العلماء الروحانيين والمفكرين والسياسيين، السعي الحثيث والعمل الجاد والمنظم على تقوية أواصر المحبة بين المسلمين وإيجاد الجو الحضاري الهادئ القائم على أساس العدل والتضامن والتعايش السلمي والتسامح والحوار بينهم، والتعامل برفق وحكمة وواقعية مع القضايا المختلف حولها على الساحة القومية أو الوطنية بهدف إقامة العدل وحفظ الأمن والاستقرار والتقدم والرخاء للمسلمين والمحافظة على مصالحهم الحيوية. وأن يلتزم العلماء الروحانيون والمثقفون والكتاب بالطرح العلمي والموضوعية التامة للمسائل الفكرية الخلافية (العقائدية والفقهية) بهدف معرفة الحق والتمسك به حيث لا يعبد الله عز وجل بغير الحق وهو السبيل الوحيد للخلاص في الآخرة.
مع التنبيه إلى بعض الأمور المهمة، وهي:
1. يعتبر الحوار العلمي الهادئ والمنفتح هو السبيل السليم لتسوية القضايا العلمية الخلافية.
2. أن نتسم بالواقعية ولا نغرق في الخطابات أو المجاملات، ولا نوهم أنفسنا بالاشتراك المطلق.
3. تجنب الأساليب التي من شأنها إخفاء الحقيقة وتضييعها على المسلمين أو إثارة الفرقة والتنازع والتناحر بينهم.
4. أن نعترف بأننا على وفاق في المشتركات، وأن نحذر من التمترس خلف ثكنات اختلافاتنا.
5. أن المشكلات التي تنتج عن احتقان طائفي يجب أن تعالج من خلال القواعد الشرعية الإسلامية العادلة، وليس من منظور طائفي.
6. أن الوحدة تقوم على المشتركات، وليس على تذويب المذاهب والطوائف.
7. أن التغيير لا يحصل من خلال الخطب والكتابات، وإنما يحصل من خلال معالجة القضايا معالجة ميدانية، وفق مشروع واضح ومتكامل.
8. أن المؤمن الصادق في إيمانه يمارس العدل ويتجنب الظلم للناس من أي دين أو مذهب كانوا، ويقدم الخدمة للجميع، ليكون شاهد عدل للدين.
9. الفكر المنحرف والقاصر هو سبب الفرقة، ولا يمكن حل المشكلة إلا بتغييره وتطويره.
10. أن وضع مشروع الوحدة الإسلامية موضع التطبيق، يتطلب من القيادات الإسلامية:
• رؤية فكرية وسياسية واضحة.
• إخلاص في النية.
• إرادة قوية.
• حسن الإدارة للاختلافات.
وهي أمور نفتقدها للأسف الشديد عند الكثير من المحسوبين على الرموز والقيادات الدينية الإسلامية من السنة والشيعة.
خامسا: توصية
في ختام هذه الكلمة، أوصي بالعمل على تشكيل رابطة الوحدة الإسلامية، لتهتم بنهج التقريب، ووضع خارطة طريق توصلنا إلى الوحدة الحقيقية بين المسلمين. وتتكفل بتنظيم الأعمال المشتركة، ورعاية المصالح الإسلامية العليا. بحيث تتألف من مجموعة لجان، لجنة في كل دولة، تقوم كل لجنة بدراسة حالة الوحدة في بلادها (الجوانب الإيجابية والسلبية) وتشكيل المجالس والمؤسسات التي تضم الشخصيات الوحدوية، وتنظم الأعمال والفعاليات المشتركة بين السنة والشيعة، وتتصدي للتيارات التكفيرية التي تبث الكراهية بهدف إثارة الفتنة وتفتيت المسلمين، والقيام بمبادرات عملية تصب في خدمة الوحدة، وترميم ما تصدع من العلاقات بين المسلمين. والتواصل مع رئاسة الرابطة التي تقوم بتجميع الملاحظات والدراسات الميدانية حول الوحدة في البلدان المختلفة، وتقدم إلى المؤتمر على ضوئها التوصيات التي تصب في خدمة نهج الوحدة الإسلامية، وتحولها إلى واقع معاش بين المسلمين.
والحمد لله رب العالمين