المكان: دار الأبرار – لندن.
التاريخ: 20 محرم 1428هـ.
الموافق: 8 فبراير 2007م.
أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي الأمارة بالسوء ومن شر الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد في الدنيا والآخرة طرفة عين أبدا يا كريم.
السلام عليكم أيها الأحبة: أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته.
قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 25).
الآية الشريفة المباركة تخاطب المؤمنين خطابا اجتماعيا عاما وهي تتضمن نقاط أساسية عديدة.. منها:
النقطة الأولى:
تحذير جميع المسلمين من فتنة يقوم عليها الظالمون من المسلمين، غير أن آثارها السيئة والخطيرة تعم كافة المسلمين (الصالحين والطالحين) وتؤثر سلبا على أوضاعهم وأحوالهم الدينية والدنيوية.. مثل: انهدام وحدتهم الدينية والسياسية، وظهور الفرقة والاختلاف بينهم، وذهاب قوتهم وشوكتهم، وظهور الأعداء عليهم، وخضوعهم بالتبعية إلى الأعداء، وتمكن الأعداء من نهب ثرواتهم وخيراتهم، وفقدانهم الأمن والاستقرار والسلام في بلدانهم، وهتك الأعراض والحرمات وظهور الظلم والاستبداد والقتل والنهب والتخلف بينهم.
النقطة الثانية:
أن أمر هذه الفتنة مبهم في الآية الشريفة المباركة، فليس فيها توضيح مباشر لما هو المراد منها، غير أن تحذير جميع المسلمين من نتائجها {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} وتهديدهم جميعا بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة إذا هم لم يقفوا في وجهها ويواجهوها {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} إذ لا دليل يدل على اختصاص العقاب بالدنيا أو الآخرة فهو يعمهما، يدلان على أمور عديدة. منها:
الأمر الأول:
أن الفتنة هي من قبيل اختلاف فريق من المسلمين مع فريق آخر في أمور واضحة يعلم الجميع وجه الحق والعدل من الدين فيها، غير أن فريقا منهم يميل إلى الظلم والجور ويرفض قبول الحق والعدل فيها ويعمل بالمنكر، رغم علمه بما هو الحق وبما هو العدل من الدين في هذه الأمور المختلف حولها. ويحصل القادة والزعماء في هذه الفتنة على تعاطف الأتباع والجماهير تحت تأثير التعصب الأعمى أو الإتباع بغير تمحيص وتدقيق أو الطمع في المكاسب الدنيوية الزائلة أو الخوف من الزعماء أو غير ذلك من عوامل التأثير غير الرشيدة وغير المقبولة شرعا، بدلا من إنكارهم للظلم والمنكر الذي يقوم عليهما القادة والزعماء، ونهيهم عنهما استنادا لما فرضه الله تعالى عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فيكون الجميع: قادة وأتباعا مستحقين للعقاب في الدنيا والاخرة.
الأمر الثاني:
أن القضايا المختلف حولها والتي تقوم عليها الفتنة وتستند إليها، والتي تختلف حولها الأطراف المتصارعة بين مؤيد ومعارض وداعم ومناهض، بدون أن تلتزم بعض الأطراف بما تعرفه من الحق والعدل والفضيلة من الدين فيها، هي من القضايا العامة التي تسري الآثار السيئة للصراع والاختلاف حولها إلى عامة الناس في الأمة، وتؤثر على كافة أوضاعهم وأحوالهم الدينية والدنيوية.. مثل: الانحراف والظلم والاستبداد والفساد في الحكومة، ومحاربة الأنبياء والأوصياء والعلماء والصالحين والمصلحين والتضييق عليهم وقتلهم ومنعهم من أداء رسالتهم ودورهم في الحياة العامة، والمجاهرة بمخالفة القطعيات من الكتاب والسنة والأحكام الشرعية، والفتن الطائفية والعرقية بين أبناء الأمة والمذاهب الإسلامية ـ كما نراه اليوم بكل وضوح وأسف في العالم الإسلامي.
الأمر الثالث:
أن الفتنة تضرب بجذورها في الأمة، ويترسخ وجودها على مر السنين والأيام، فلا تستطيع الأمة الخروج منها بسهولة، وتواجه المخلصين من أبناء الأمة صعوبات جمة في مساعيهم الخيرة لإخراج الأمة منها، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول: أن الفتنة لا ترتبط بأفراد وإنما ترتبط بقوى وجماعات وأحزاب وطوائف كبيرة بين المسلمين، وتمتد إلى فترات زمنية طويلة بحيث تتحول إلى صراعات وخلافات جمعية تاريخية بين الأطراف المتصارعة أو المختلفة فيما بينها.
السبب الثاني: أن الفتنة تلامس مشاعر عموم الناس وعواطفهم الجمعية، وتؤثر سلبا على تفكيرهم العام وتوجهاتهم العامة في الحياة والمعاملة مع الغير المختلف معهم. كما تلامس وجودهم التاريخي وعلاقتهم المعنوية بأسلافهم ومصالحهم الحيوية ومكتسباتهم الجمعية المادية والمعنوية، وتهالكهم على الحياة الدنيا وزينتها وزخارفها، ووجودهم ومصيرهم الجمعي المشترك فيها، مع الإهمال والتجاهل إلى أوجه الحق والعدل والخير والفضيلة وعدم التأسيس عليها في مواقفهم وصراعاتهم مع الغير.
السبب الثالث: هجران بعض الأطراف المتصارعة لمنهج القرآن الكريم والسنة الشريفة وعدم التقيد بالأحكام الشرعية والقيم والآداب العامة التي يحث عليها القرآن الكريم والسنة الشريفة في المعاملة مع الغير المختلف، والوقوع في أسر العادات والتقاليد البالية والعصبيات الجاهلية: القبلية والعرقية والمناطقية والحزبية والطائفية وفي أسر المصالح المادية والمغريات الدنيوية، بدلا من التقيد بأحكام الشريعة المقدسة والدين الحنيف والتخلق بأخلاقه الكريمة العالية.
السبب الرابع: التقصير في جنب الله (عز وجل) وعدم النهوض بمسؤولية الدعوة إلى الله (جل جلاله) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونتوصل مما سبق إلى النتائج المهمة التالية:
النتيجة الأولى: ينبغي على كافة المسلمين أن يكونوا مع الله (عز وجل) ومع الدين والحق والعدل والخير والفضيلة، وأن لا يكونوا مع الشيطان والظلم والعدوان والاستبداد والجهل والجاهلية والشر والرذيلة، وأن يكونوا للمظلوم عونا وللظالم خصما، وأن يحذروا من المساهمة في تكريس الانحراف والفتن الطائفية والعرقية ومن تكريس الدكتاتورية والاستبداد والفساد والتخلف في الدول والمجتمعات الإسلامية، ومن التحزب والدخول في الاختلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم وتؤدي إلى اختلاف كلمتهم وتصدع صفوفهم. مع التنبيه إلى أن المطلوب هو المحافظة على وحدة الصف والكلمة التي هي في خدمة الحق والعدل والفضيلة والتقدم وصيانة الحقوق والحريات العامة في الأمة، وليست الوحدة التي تستند إلى العصبية أو التواطىء أو التخاذل وينتج عنها تكريس الباطل والظلم والاستبداد والتوجهات الخاطئة والتخلف والتحزب والطائفية والتراجع عن الحق والعدل والفضيلة والحقوق العامة في الدول والمجتمعات الإسلامية!! فالأخيرة من العصبية والإجماع المذموم المنهي عنهما في القرآن الكريم والسنة الشريفة وفي حكم العقلاء الشرفاء من الناس.
قال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: 2).
النتيجة الثانية: ينبغي على كافة أبناء الأمة الإسلامية أن يبادروا إلى دفع الفتن عند أول ظهورها في الأمة الإسلامية وقطع دابرها وإطفاء لهب نيرانها بما فرض الله تبارك وتعالى عليهم جميعا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله (جل جلاله) وإحياء دينه وشريعته في الحياة.
أيها الأحبة الأعزاء:
بعد هذه الوقفة المباركة في رحاب القرآن الكريم والاستنشاق من أريجه، أنتقل إلى الحديث عن الفتنة الطائفية بصورة خاصة التي هي موضوع البحث والمناقشة في هذه الندوة.
وقد ذكرت في الوقفة القرآنية: أن الفتنة الطائفية هي من الفتن التي تعم نتائجها السلبية الخطيرة كافة الناس ولا تختص نتائجها السلبية الخطيرة بالقائمين عليها من الظالمين. وقد حذرت الآية الشريفة المباركة التي وقفنا في رحابها من الفتنة الطائفية ومن غيرها من الفتن المماثلة لها في النوع والخطورة. ونحن نرى اليوم بأم أعيننا نار الفتنة الطائفية وهي تلتهم بلهبها الأخضر واليابس في دار الإسلام، وتقوم أطرافا من الداخل والخارج ـ تقاطعت مصالحها الشيطانية الخبيثة ـ بالنفخ فيها والعمل على توسيع رقعتها لتلتهم بقاعا جديدة وتشمل شعوبا إسلامية آمنة يوما بعد يوم. وقد طلب منا الأخوة الأعزاء القائمون على هذه الندوة المباركة ـ إن شاء الله تعالى ـ التركيز على سبل مواجهة هذه الفتنة والخروج منها بسلام. وقد رأيت أن أربط المعالجة بالأسباب، فإذكر الأسباب التي أرى أهميتها سببا سببا، وأذكر مع كل سبب ما أراه مناسبا من سبل المعالجة له. وقد رأيت من الأهمية أن أتناول قبل ذكر الأسباب وسبل معالجتها قضية ذات صلة وثيقة بالموضوع لما أدخل فيها من اللبس وسوء التوظيف والاستغلال من القوى الخبيثة والإعلام المضلل، والقضية هي حق الانتماء والطائفية السياسية.
أيها الأحبة الأعزاء:
ينبغي التمييز بين الانتماء الإيديولوجي وبين الطائفية والمذهبية السياسية البغيضة التي تسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه الطبيعية في الحياة. فالانتماء الإيديولوجي حق طبيعي للإنسان تفرضه كرامته ورسالته ومصيره في الحياة، وقد أقرته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية. والإنسان بدون إيديولوجية ـ أي بدون رؤية كونية وقيم يسير عليها في الحياة ـ يصبح كالحيوان بدون كرامة، لأن كرامة الإنسان تقوم على أساس العقل والحرية الذين منحهما الله (عز وجل) للإنسان ليختار رسالته ويحدد أهدافه السامية في الحياة، والإنسان بدون رسالة وبدون أهداف إنسانية سامية، يصبح في حقيقة الأمر والواقع كالحيوان بدون كرامة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} فلا يعتبر الإيمان بالإيديولوجية، والاهتمام والعناية بها، والاستماتة في الدفاع العادل عنها، والدعوة بالحسنة إليها، من الطائفية البغيضة في شيء.
أما الطائفية أو المذهبية السياسية البغيضة فهي تعنى أمور أخرى.. منها:
أولا: التعصب الفكري الأعمى وغير العقلائي للطائفة أو المذهب {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ}.
ثانيا: الانغلاق على الذات وكتمان الحقائق {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ورفض الالتقاء مع الآخر على المشتركات التي عبر عنها القرآن الكريم بكلمة سواء {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}.
ثالثا: أن يرى أبناء الطائفة أو المذهب شرار قومهم أو طائفتهم أفضل من خيار قوم أو طائفة آخرين، وأن يسمحوا لأنفسهم بأن يبخسوهم حقوقهم ويصادروا حرياتهم العامة أو الخاصة، ويسمحوا لأنفسهم بممارسة الظلم والاضطهاد ضدهم، والبحث عن الامتيازات الخاصة التي تفضلهم عليهم بغير وجه حق، والسعي للحصول على مكاسب ظالمة على حسابهم، كما هو الحال لدى بني إسرائيل الذين قال الله تعالى عنهم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
والطائفية بهذا المعنى الثلاثي المتقدم: باطل محض لا أساس لها من العقل السليم والدين السماوي الصحيح، وهي حالة روحية وأخلاقية واجتماعية هابطة جدا، وحالة عنصرية منغلقة متخلفة وغير إنسانية، وقد وقع فيها ـ للأسف الشديد ـ بعض المسلمين بسبب الجهل والتعصب الأعمى.
أيها الأحبة الأعزاء:
إن تسامح أصحاب الإيديولوجيات أو تعصبهم، وانغلاقهم أو انفتاحهم على الآخرين، وقبولهم التعاون معهم أو رفضهم لذلك، وما يتصفون به من العدل والإنصاف مع الآخرين أو الظلم والإجحاف لهم، والجهة التي يعملون من أجلها: هل يعملون من أجل مصلحـة الإنسانية وجميع أبناء الدين والوطن الواحد، أو يعملون من أجل مصلحة أبناء طائفـة أو مذهب أو دين على حساب غيرهم من البشر وأبناء الأديان والمذاهب الأخرى ؟ إن ذلك كله: يعتبر بحق كاشفا عن حقيقة الإيديولوجية التي ينتمون إليها، وقيمتها وقيمة الانتماء والدعوة إليها، ويضع حدا فاصلا بين الإيديولوجيات الإنسانية المرموقة النافعة إلى الناس، وبين الإيديولوجيات الطائفية الهابطة الضارة بالحضارة والإنسانية التي تسعى لتوقع الضرر والأذى ظلما وعدوانا بأبناء الطوائف والمذاهب والأديان الأخرى!!
وبعد البيان والتوضيح لهذه القضية المهمة: آتي إلى الحديث في الأسباب التي تؤدي إلى الفتنة الطائفية وتساعد على إشعال فتيلها وإذكاء نارها وسبل المعالجة لكل سبب بما يسمح به الوقت المتاح في هذه الندوة:
السبب الأول: الانحراف الفكري:
ويتمثل في الفهم الخاطئ للدين كما كان الحال لدى الخوارج تاريخيا ولدى التكفيرين في الوقت الحاضر، حيث يتخذ هؤلاء مواقف متشددة جدا من الغير المختلف معهم، تصل إلى حد العنف وممارسة الإرهاب والاعتداء على حقهم في الحياة، والبعد عن العدل والإنصاف والاقتراب من الحالة العنصرية في التعامل مع الغير المختلف، مما هو بعيد كل البعد عن المنهج القرآني حيث انتقد القرآن الكريم اليهود الذين قالوا {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} وأكد على العدل والانصاف حتى مع الأعداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وذلك كله بسبب الجهل والفهم الخاطئ للدين.
أما عن سبيل المعالجة لهذا السبب فهو كالتالي:
أولا: الالتزام بالمرجعية الدينية الرشيدة المؤهلة فكريا وفقهيا وأخلاقيا وسياسيا، بحيث تفهم الدين ومقتضايات الحياة ومؤامرات الأعداء والخصوم فهما صحيحا، وتمتلك التقوى الرادعة عن الظلم والقول على الله (جل جلاله) بغير علم وعن التصرف في الدماء والأعراض والأموال بغير دراية. والحذر كل الحذر من الرجوع إلى أشخاص من علماء الدين والسياسيين الذين ليس لديهم التأهيل الكافي فكريا وفقهيا وأخلاقيا وسياسيا، فيقولون على الله (جل جلاله) بغير علم، ويتصرفون في الدماء والأعراض والأموال بغير دراية، ويسمحون لأنفسهم ولأتباعهم بممارسة الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين وحرياتهم بغير وجه حق. وقد اثبت الالتزام بالمرجعية الرشيدة قيمته الفعلية لدى أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) حيث لم بتورطوا ـ غالبا ـ في الفتن الطائفية وذلك لرجوعهم لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ثم للفقهاء العدول الذي يستوفون كافة الشروط المطلوبة في المرجعية الدينية الرشيدة.
ثانيا: الاهتمام بالتربية الروحية والأخلاقية العالية، وتنمية الشعور الإنساني، وترسيخ ثقافة التسامح والعيش المشترك.
السبب الثاني: التوظيف السياسي الخبيث:
حيث تسعى بعض الشخصيات والأحزاب السياسية والحكومات المستبدة الظالمة وقوى الاستكبار العالمي إلى توظيف الفتنة الطائفية من أجل تحقيق أهدافها السياسية الخبيثة، بتكريس الانقسامات بين المسلمين والظلم والاستبداد في الداخل الإسلامي والتبعية للغرب في الخارج، حتى أصبح الدين أو المذهب في بعض الحالات أسيرا مخطوفا لدى بعض الشخصيات المتنفذة والأحزاب السياسية والحكومات الظالمة المستبدة وقوى الاستكبار العالمي لتوظفهما كيف تشاء لتحقيق أهدافها ومآربها السياسية الخبيثة على حساب الدين والوطن والإنسانية. وقد شاركت وتفاعلت بعض القيادات والزعامات والأتباع للمذاهب الإسلامية إيجابيا مع ذلك التوظيف الخبيث تحت تأثير العوامل التالية:
العامل الأول: الخبث وسوء النية:
حيث تتعمد بعض الشخصيات القيادية والأطراف ذلك وتقصده من أجل خدمة مصالحها المادية والسياسية.
أما السبيل لمعالجة هذا العامل فهو: تدقيق الأتباع في صفات وتوجهات وسلوك ومواقف قياداتهم ومحاسبتهم على أعمالهم ومواقفهم، وعدم إتباعهم الإتباع الأعمى بدون وعي وتمحيص ومحاسبة، فإذا فعل الأتباع ذلك، فإن من شأنه أن يرشد سلوك ومواقف القيادات والزعامات وأنها لا تستطيع أن تفعل شيئا بدون تبعية الأتباع والجماهير لها.
العامل الثاني: السذاجة السياسية وقصر النظر:
حيث انخداع الأتباع والجماهير وبعض الزعماء والقياديين بحبائل مكر الحكومات المستبدة وقوى الاستكبار، والوقوع في شباك مؤامراتهم الخبيثة، وتصديقهم في أن مصالح الطائفة تتحقق من خلال الانقسامات والدخول في الفتن الطائفية والمساهمة فيها، وأن مصير الطائفة أو المذهب منفصل عن مصير المذاهب أو الطوائف الإسلامية الأخرى، والدخول في الفتن الطائفية والمشاركة فيها على أساس هذا الوهم القاتل. وبعض القيادات والزعامات الطائفية هي أطراف أساسية في إيجاد وتحريك وإدارة الفتنة الطائفية، وأنها تتصرف عن قصد وبسوء نية. وقد وصل الأمر لدى بعض الزعامات والقيادات الطائفية المتعصبة إلى حد التعاون والتحالف والتآمر مع الحكومات الدكتاتورية المستبدة وقوى الاستكبار ضد أبناء الطوائف والمذاهب الإسلامية الأخرى، بحيث تترسخ الدكتاتورية ويترسخ الاستبداد والظلم والاضطهاد وتترسخ التبعية للغرب والاستعمار، وكل ذلك يحدث باسم الدين والدفاع عن المذهب أو الطائفة!!
أما سبل معالجة هذا العامل فهو كالتالي:
أولا: الالتزام بالمرجعية الرشيدة المستوفية لكافة الشروط.
ثانيا: نشر الوعي الديني والسياسي والأخلاقي بين المسلمين، وتعريفهم بمكائد الأعداء وأساليب الطواغيت والحكام المستبدين وقوى الاستكبار لاستعباد الشعوب وفرض هيمنتهم عليها، وذلك لأن الوقوع في ذلك الوحل النجس والمستنقع الخطير، إنما هو نتيجة للتخلف الثقافي، والفهم الخاطئ للدين، والسطحية السياسية، والتعصب الأعمى، والتخلف الأخلاقي، وضمور الشعور الإنساني لدى القائمين على الفتنة الطائفية والداعين إليها والداعمين لها.
وينبغي التنبيه هنا: إلى ضرورة نشر الوعي الديني والسياسي والأخلاقي بين كافة أبناء المذاهب الإسلامية وتحصينهم ضد الاختراق الذي يستهدفهم من الأعداء، ولا يكفي أن تكون القيادات وحدها ذات وعي وتقوى وبصيرة وأخلاق، فذلك غير مجدي في زمننا هذا على وجه الخصوص، حيث شبكات الإعلام الضخمة والتجسس والتجنيد في كل مكان.
ثالثا: التأكيد على وحدة المصير بين كافة المذاهب والطوائف الإسلامية، وعدم انفصال مذهب أو طائفة عن المذاهب والطوائف الإسلامية الأخرى في تقرير المصير، فالأخطار واحدة، والمصير مشترك بين الجميع.
رابعا: تدقيق الأتباع في صفات وتوجهات وسلوك ومواقف قياداتهم ومحاسبتهم.
العامل الثالث: الوقوع تحت تأثير الترغيب والترهيب:
حيث تلجأ الحكومات الدكتاتورية المستبدة وقوى الاستكبار إلى الإغراء والتخويف لشراء الضمائر وإسكات الأصوات الحرة واستمالة القيادات والزعامات والجنود إلى صفها وإدخالهم كأدوات في تحريك الفتن الطائفية وإشعال نارها بين المسلمين. وأن نجاح الحكومات وقوى الاستكبار في ذلك، يدل على وجود الخلل في الوعي الثقافي الإنساني وفي الحالة الإيمانية لدى من يستجيب أو يخضع إليهم.
أما السبيل لمعالجة هذا العامل فهو: تحصين القيادات الإسلامية والاتباع بالتقوى، وترسيخ ذكر الله (جل جلاله) والآخرة في نفوسهم، وتذكيرهم بالموت الذي يأتيهم فجأة، وتحذيرهم من سوء العاقبة وخسارة الدين والدنيا والآخرة، حيث أن الوصول إلى المكاسب المادية والتمتع بها غير مضمنون، وأن الموت لصيقا بهم ومطوقا لهم (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة) وليس في انتظارهم قريبا منهم في الخارج على الأبواب. لكي يعتصموا بالله (جل جلاله) ويخافوه ولا يخافوا أحدا غيره، فلا يقعوا في أسر الخوف والطمع الذين تحركهما الحكومات المستبدة الظالمة وقوى الاستكبار للتأثير عليهم والإيقاع بهم في شباك صيدهم.
السبب الثالث: انكفاء القوى المعتدلة وتهميشها:
برزت لنا ظاهرة خطيرة في الآونة الأخيرة في العالم الإسلامي تتمثل في تصدي التكفيريين وقوى التطرف لحمل الملفات الساخنة والدفاع عن حقوق الناس ومصالحهم وتبني قضاياهم الحيوية والدفاع عنها في ظل انكفاء القوى المعتدلة الرشيد وغيابها، مما أدي بطبيعة الحال إلى فرض القوى التكفيرية والمتطرفة لوجودها على الساحة الإسلامية وتهميش القوى المعتدلة الرشيد فيها، إذ أن الناس يرتبطون ـ عادة ـ بمن يرتبط بهم ويدافع عنهم ويهتم بقضاياهم ومن له حضور فاعل على الساحة، بغض النظر عن أفكاره وتوجهاته الفكرية والسياسية، وهذه سنة عامة في الحياة أثبتتها التجارب التاريخية والمعاصرة. وعلى هذا الأساس انتشرت الأفكار الهدامة والاحزاب اليسارية والعلمانية في العالم الإسلامي في ظل غياب التيارات الإسلامية السياسية والجهادية قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران. وعلى هذا الأساس نفهم عدم انتشار القوى التكفيرية والمتطرفة في الدول والساحات الإسلامية التي يكون للقوى الإسلامية المعتدلة الرشيدة حضور فاعل فيها مثل فلسطين ولبنان.
أما السبيل لمعالجة هذا السبب فهو: أن تتحمل القوى المعتدلة الرشيدة مسؤولياتها الدينية والوطنية والقومية التاريخية والإنسانية من خلال حضورها الفاعل على ساحات العمل الإسلامي والجهاد ضد الدكتاتورية والاستبداد وقوى الاستكبار والمطالبة بالحقوق وإطلاق الحريات العامة للشعوب، واهتمامها الجاد والمؤثر بالملفات الساخنة وبقضايا الناس وهمومهم اليومية، لكي يملأوا الفراغ ولا يسمحوا لقوى التطرف والإرهاب بالانتشار والتعشيش في هذه الساحات العظيمة المقدسة.
السبب الرابع: الاهتمام بالطائفة على حساب الدولة والأمة:
يعتبر الإسلام دين دولة يخضع فيها جميع الأفراد والمؤسسات للقانون (الأحكام الشرعية المقدسة) والقيم الدينية السامية، ولا يوجد في الشريعة الإسلامية والدولة الإسلامية أحد فوق القانون، وأن شرف كل إنسان هو بمقدار التزامه بأحكام الشريعة (القانون) وما يتحلى به من القيم الأخلاقية والروحية السامية. كما يؤكد الإسلام الحنيف على وحدة الأمة الإسلامية وتكافؤ المسلمين فيما بينهم، وتساويهم جميعا في الحقوق والواجبات، رغم اختلاف مذاهبهم وأعراقهم. غير أن البعض يتقدم لديهم الاهتمام بالطائفة على حساب الدولة والشريعة والأمة، فالأمة لديهم مختصرة في طائفتهم فقط ولا يعنيهم أمر غيرهم من المسلمين، والعدل في الشريعة المقدسة المعني به لديهم أبناء طائفتهم وحدهم لأنهم وحدهم على الحق وغيرهم على الباطل، وهم وحدهم الذين يستحقون الحياة ولهم الكرامة فيها، أما غيرهم فليس كذلك. فيسمحون لأنفسهم على هذا الأساس الأعوج بممارسة الظلم والاضطهاد ضد أبناء المذاهب والطوائف الإسلامية الأخرى والإجحاف بحقوقهم وسلب حرياتهم والتآمر ضدهم، لأن لا شيء – بحسب فهمهم – يجمعهم معهم في الدين والإنسانية سوى الاسم فقط. فلا حقيقة للإنسانية المشتركة والأمة الإسلامية الواحدة في تفكيرهم وتوجهاتهم السياسية والعملية، وأن مصلحة طائفتهم مقدمة على مصالح أبناء المذاهب والأديان الأخرى، وإن كان الوصول إليها عن طريق الظلم والسلب والنهب وانتهاك الحقوق والحريات العامة لأبناء المذاهب والأديان الأخرى. وهذا ليس من نسج الخيال، وإنما هو واقع قذر مؤسف نشاهده يوميا على أكثر من ساحة إسلامية.
أما السبل لمعالجة هذا السبب فهو كالتالي:
أولا: التأكيد على وحدة الأمة ووحدة مصيرها.
ثانيا: التأكيد على العدل والإنصاف والفضيلة والعفة والتسامح وغيرها من القيم الروحية والأخلاقية السامية التي يدعو إليها الدين الإسلامي الحنيف وتؤدي إلى العيش المشترك بين بعض المسلمين وبعضهم الآخر، وبين المسلمين وغيرهم من أتباع الأديان الأخرى.
ثالثا: التأكيد على الحقوق والحريات التي يتمتع بها كافة المواطنين في ظل الإسلام الحنيف والدولة الإسلامية العظيمة.
وينبغي التنبيه هنا: إلى أن التوجهات الطائفية المنتشرة في العالم الإسلامي ونتائجها الخطيرة، قد حملت البعض على الدعوة للفصل بين الدين والسياسة بهدف التخلص من ذلك الواقع الطائفي القذر والمؤسف، لتوهم أصحاب تلك الدعوة بأن الدين الإسلامي الحنيف هو المسؤول عن خلق ذلك الواقع القذر وإيجاده. وتلك دعوة باطلة بدون شك، لأن الدين الإسلامي الحنيف رؤية كونية ومنهج شامل لجميع جوانب الحياة، وهو دين العدل والإنصاف والتسامح والعيش المشترك. والدعوة إلى فصل الدين عن السياسة تخالف إرادة الغالبية العظمى من المسلمين ويرفضونها على أساس الضروري من الدين، والعمل بها يؤدي إلى تعطيل طاقات المسلمين الروحية في البناء والتعمير والتقدم في الحياة، فليس الفصل بين الدين والسياسة هو الحل الصحيح.
السبب الخامس: الانغلاق:
أي انغلاق أبناء المذاهب والطوائف الإسلامية على بعضهم وعدم انفتاحهم على أبناء المذاهب والطوائف الإسلامية الأخرى. وهذا الواقع المر موجود على مستوى الرموز والقيادات والنخب والجماهير، ماعدا حالات قليلة في المؤتمرات والمناسبات لا تخرج عن حدود المجاملة، فهي تلامس الشكل ولا تدخل في العمق والمضمون، وهي غير قادرة على أن تغير شيئا ذا قيمة في واقع الحال. مما أدى ولا يزال يؤدي إلى خلق الحواجز النفسية وسوء الفهم بين المسلمين، واتساع الفجوة بينهم، وعدم الشعور بالرابطة الدينية المشتركة التي تجمعهم مع بعضهم البعض، مما يسهل عمل الأعداء والخصوم، ويسمح للفتن الطائفية بالظهور والتأثير فيهم.
أما السبل لمعالجة هذا السبب فهي:
أولا: اللقاءات الاجتماعية المستمرة بين الرموز والقيادات والنخب والجماهير الإسلامية في المناسبات الدينية والوطنية والقومية وفي غير المناسبات (اللقاء مناسبة) والقيام بأعمال وأنشطة مشتركة وإشراك الجماهير فيها بهدف تذويب الحواجز النفسية بين أبناء المذاهب الإسلامية المختلفة، والسعي لخلق مؤسسات خيرية واجتماعية واقتصادية وسياسية مشتركة بين الجميع.
ثانيا: السعي لبلورة رؤى فكرية وعملية مشتركة من خلال المؤتمرات والندوات والتأليف في المسائل الفكرية والفقهية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والقضايا المهمة المتفق عليها مثل القضية الفلسطينية وبعض القضايا الوطنية، لأنه السبيل إلى ترسبخ الشعور بالكينونة الواحدة والمصير المشترك بين المسلمين.
ثالثا: الالتزام بآداب الحوار والبحث العلمي في بحث ومناقشة المسائل الخلافية.
رابعا: الحد من التسلي الشعبي من خلال التنكيت في المسائل الخلافية بين الطوائف، نظرا لدوره السلبي في ترسيخ الحالة الطائفية بين المسلمين وضرورة التنبيه إلى سلبيته.
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته