بارقة أمل بقلم الأستاذ إبراهيم حسين

الأستاذ ابراهيم حسين

صفعة الواقع، ونفسه الشجية من خيبة الأحلام، وضع يديه على قاعدة نافذته الخشبية، وأخرج رأسه في الفضاء، فلاصقت شعيرات ذراعه المفتول حبيبات الندى المغطية لها.. كان الطريق خلايا إلا من سحاب دخانه، والظل المتحرك للحاج محمد الجزاف، وصوت خطواته تنسف روعة السكنية والهدوء..فالحاج محمد الجزاف مؤذن القرية، وقد أنس ظلمة الليل الكالح واعتاد الذهاب قبل الفجر لفتح المسجد، وعندما ينتهي من أداء صلاته يكون في انتظار الحاج منصور سائق سيارة الأجرة لنقله إلى السوق المركزي بالمدينة.

سرح عامر بخياله وهو يرى أضواء الفجر تدب ببطء في أزقة القرية كما هي حركة الحاج محمد الجزاف وهو يتفحص في بطء محفظة نقوده وقارن بينهما وبين تفحص أبيه معلم الصبيان.. في قرآنه وكتبه القديمة، ووقف عند والده الذي افتقده منذ سنتين، ليحمله أمانة عائلته، بنتين وصبيا لم يبلغ السابعة بعد، وبصحبته أمه واضطره ذلك الظرف إلى أن يكون موظفا بدائرة حسابات وزارة الكهرباء والماء، وكان ذلك على حساب دراسته الجامعية التي طالما عاش يحلم بها وينتظرها، وعندما حانت الفرصة ونجح في امتحانات الثانوية العامة بتقدير 85% حال القدر بينه وبين الأمنية بوفاة أبيه، وحرمه من أن يكون مدرسا للغة العربية التي شغف بآدابها وشعرائها.. وتراثها العظيم.

استرجع عامر شريط حياته، واستعرض سيرة حرمانه منذ صغر سنه وأنه لم يعش هناء طفولته وأحلامها، ولم يتذوق لحظات السعادة كبقية أترابه من أطفال القرية وصبيتها، فقد كان أبوه صارما معه، أراد بهذه الصرامة أن يوصله إلى ممارسات الرجولة مبكرا، ويؤهله ليكون عالم دين يخدم أبناء قريته، ويتبوأ مكانة عجز هو عنها، فقد كانت الثقة عامرة قلب معلم الصبيان هذا بمستقبل ابنه، على خلاف ما كان يتوق عامر ويطمح، ولكن الموت اختطف أمنية الوالد كما خنقت الظروف رغبة الابن وطموحه..أخذ عامر يفكر في رحلة وجوده والضيق يتسلل إليه كما تسلل الرطوبة المقيتة إلى صبيحة كل يوم من أيام يوليو فترهقه، استعرض المكابدة ومواقف المعاناة التي عاشها ولا يزال، وشرب كؤوس الحرمان، وتجرع مرارتها صباح مساء، وهو يصارع ذاته وآماله قبالة القيم والأفكار، وتساءل في استنكار كيف له أن يستشعر كرامة العيش وهو مهزوم الإرادة؟ خائر القوى، إلا من لحظات الحنو الدافئة التي تدغدغ مشاعره، وتنعشها، وتحيي أحلامها مع شريكة العمر زينب، لكنها سرعان ما تتحول إلى زفرات عندما ترتطم بصخرة الواقع.

بدأ عامر يحاور نفسه ويجهر بصوته أمامها وكأنها أ[وه الذي عجز عن مجابهته بكلمة لا طيلة حياته، وكأنه يرى ضوء الفجر الذي بدأ يتسرب بداية للجرأة التي هي عنوان حياته، وقف عامر أمام نفسه وبدأ يحاورها وهو السائل والمجيب في ذات الوقت.

يسألها ليعرف كيف هي حركة التوازن بداخله! وإلى أين أوصلته ردة الواقع، وكأنه بحركة الحوار هذه ينفض ركاما ثقيلا قاتما، ويبعد هزيمة نكراء طالت أعماقه، كان أساس تحاوره حركة الصراع المضطرمة في داخله وطول المكابدة في أعماقه.. سأل نفسه:

– لماذا هذا الصراع الفظيع؟ ولماذا هذا العسر القاهر؟ وهذه المرارة المستديمة..

– أجابته: من أجل البقاء..

– ماذا تقولين؟! من أجل البقاء.. أي بقاء تعنين؟! هذا الحطام الذي نستظله ونتعاطاه؟!

– بل البقاء الرزين، الذي هو عنوان السعادة الأبدية.

– كيف هي السعادة التي تتحدثين عنها؟ ما لونها، كالسبيل إليها؟

– لا أدري، ولكني ألعم بأنها لحظات هانئة ممتعة تبعدك عن جحيم الآهات والوساوس، وتجعلك مطمئنا حتى لو وضعت في أتون.

– هذه مغالطة، وخيالية زائدة، لا واقع ملموس…

– ما الواقع إذن..التجاوز.. الانسلاخ..الإغراء، هل يحقق لك هذا الثلاثي رغباتك؟ كم تتمتع بها؟! وكيف هي قنوات الوصول؟ أرتاها بين يديك؟!

– لا أدري..

– ما الفائدة إذن، والقدر يسير مركب العمر كيف يريد، والزمن الصعب مفتاح التيه والغربة.

هل تريد أن تعيش وحيدا غريبا، وداعا إني ذاهبة..

– تعالي.. إلى أين ذاهبة؟

– إلى المجهول..

– عدت كما كنت إلى فضاءات المجهول؟

– المجهول رغم أنه مارد مخيف إلا أنه نماء حياتنا، وسر البقاء، ونحن نتعاطاه.

– المجهول هو الذي أودع القلق صدورنا، وبث الاضطراب في نفوسنا، واصطنع الطمع والجشع في حياتنا. وناوش القيم والمثل في دواخلنا.. أليس هذا هو المجهول؟ أم ترينه هو الأنا؟

– لا أدري.. ربما الأمل…

– أي أمل تقصدين؟

– الأمل في الحياة وفق الإمكانات المتاحة والظروف القائمة بأفراحها وأتراحها، وبشجونها وأحلامها..

– ماذا تعنين؟

– أقصد الأمل البعيد عن روح الانسلاخ والانفلات.

– هل تريني مسخا أو ميتة لا أعي الحياة؟!

– بل أريد لك الحياة كما يجب.

– أي الحياتين تريدين لي؟

– كلاهما..

– مستحيل فأنا لا قدرة لي على استيعاب الأولى، فكيف بهضم الثانية؟! ومن يجمع هذا الشتات؟

– التوازن.

– مستحيل.

– ممكن.

– مستحيل.

– المحاولة خير برهان، والواقع مختبر الرجال ومصنعهم، وهو الفيصل والعاقبة.

– سبقنا من هم قبلنا، وعاشوا تعساء.

– لنا خبرتنا، ودرايتنا في هذا الوجود، وسوف يكون مشروع الحياة الكريمة ممكنا لنا.

– وخبرة السابقين لا يستهان بها، لكنهم عجزو!!

– نحن بحكم المتغيرات والتجربة أصبحنا نمتلك معايير الموضوعية، ونسير وفق نظم سليمة، وعلم واضح فلن نرجع ناكسين.

– وهم ملكوا الإرادة القوية، والعزيمة الصلبة، والحياة الروحانية والكدح، وما نجوا!!

– عجبا لكلامك، ومسار حديثك، لكأنك تريد أن تهدم كل شيء!! وتلجمني حتى ألوذ بالصمت!!

– بل العجب من سؤ فهمك، وضيق الأفق عندك الذي يضطرك إلى الفرار، دون الوصول إلى النتجية.

– أتشتمني؟!

– أنت البداية، والضد في الذات ممكن ومشروع، ولكن أجيبيني ما المخرج؟

– تنقش الجدران والغرف، وتزخرفها، وأنت تجهل طريق الباب.

– لا أدري.. ألم أدعوك للتحاور.. ما قيمة هذا التحاور إذن؟!

– تعرقل الخيارات، وتمحق البدائل.. ثم تطلب النجدة.

– أنا أبحث عن الحقيقة، ولا أقتنع بشيء تحوطه الزخرفة والشكلية فنحن على أبواب القرن الواحد والعشرين.. فماذا سنفعل وما هو زاد هذا الأفق الجديد..

– ليس لدي شيء محدد.. ولكن أفكر بجد.

– في ماذا؟

– في الأمل..

– عدنا ثانية للهروب؟!

– الأمل هو المخرج أيها التائه. وهو ومضة النور الذي يجب أن تلامس ظلمة عقلك أولا.

– كلماتك، ورؤياك جميعها وأدها المساء، كذبها الواقع.. ولست قادرة على المقاومة.. اعترفي..

– بل إنها أساس المقاومة والأصرار، وتسبقي حاملة لواء الأمل. وجذوة الياة.

– أنت غريبة جدا، تتلونين علي بتلون الأحوال وأنا أقرب المقربين إليك.

– بل الغرابة لا تفارقني منك، ومن ميزان حكمك المتأرجح.

– عدنا للشتيمة.. لا ضير.. ما حصيلة هذا اللقاء..

– الأمل طريقنا، والتفاؤل حصننا، وقائدنا في الدرب الموضوعية، والصراحة التي تخطتها.. وحياتنا هذا الخليط العجيب بما فيه من جراح وأفراح.. فما رأيك يا غريمي..

– أظننا اتفقنا.. عندها قبلت حياة زينب وأبرمت لها العهد والجد والكفاح من أجل الرخاء الأعم والحق الأشمل، والعدل الأكمل والحياة الفضلى، لنكون بارقة الأمل في الليلة الأليم، ونهضت تدفعني خطوات الأمل المشرق إلى يومي وعملي.

كتبت في: أغسطس 97

شارك برأيك: