قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ • حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ • كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ • ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ • كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ • لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ • ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ • ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (سورة التكاثر).
معاني المفردات:
ألهاكم: شغلكم وصرفكم عما هو أهم إليكم.
التكاثر: التباهي بمتاع الدنيا وزينتها وزخرفها، والمفاخرة بالسلطة والقوة والنفوذ وكثرة المال والرجال والتغالب على جمعها.
المقابر: مكان دفن الموتى.
كلا: حرف ردع وزجر.
علم اليقين: العلم القطعي عن دليل صحيح.
عين اليقين: العلم عن رؤية ومشاهدة.
النعيم: ما استمتع به من طيب العيش وحسن الحال أو ما أنعم به من رزق ومال وغيره.
أيها الأحبة الأعزاء …
تتضمن السورة الشريفة المباركة ثلاثة محاور رئيسية.. وهي:
المحور الأول
ظاهرة التلهي عند الإنسان في الحياة
قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}.
تتناول هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة: ظاهرة التلهي عند بعض البشر في الحياة الدنيا، وهم أصحاب التوجهات المادية والفهم السطحي للحياة وصغار النفوس، الذين تشغلهم الأمور الصغيرة عن الأهداف والمهام والمسؤوليات الكبيرة في الحياة. غافلين عن حقيقة أنفسهم، وحقيقة الكون والحياة، ومسؤوليتهم الحقيقية: العظيمة والمقدسة في الحياة، والمصير الذي ينتظرهم بعد الموت {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7).
نعم: لقد شغلهم التباهي بمتاع الدنيا الفانية وزخرفها وزينتها، والتفاخر بالسلطة والقوة والجاه والنفوذ والرمزية، وكثرة المال والأولاد والرجال.. والانتصارات الوهمية، عن الأمور المهمة لهم (حقيقة) في الحياة: كمعرفة الحق والواجبات: العامة والخاصة وطاعة الله (جل جلاله) والتفكير في أمور الآخرة، والتنمية الحقيقية الشاملة: المادية والمعنوية للحياة، وفعل الخير والعمل الصالح، الذي ينفعهم في تنمية الحياة الدنيا، ويبقى لهم ثوابه في الآخرة. فنشروا بذلك الظلم والفساد والتخلف والاستبداد في الأرض، وزرعوا الحروب والصراعات والعداوة بين الناس في الحياة.
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41).
أيها الأحبة الأعزاء …
إنني أجد في التوجهات المادية والانشغال بالأمور الصغيرة على حساب الأمور والمهام والمسؤوليات الكبيرة في الحياة، هدر لكرامة الإنسان، وتضييع لقيمته ومكانته ورسالته في الحياة. لأن قيمة الإنسان بكمال فكره وصفاته وتوجهاته وعمله النافع في الحياة، وليس بمظهره وكثرة أمواله وأولاده وقوته المادية، فكلها أمور شكلية تنتهي إلى الفناء، ولا علاقة لها بجوهر الإنسان ورسالته الخالدة في الحياة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: “ابن آدم أشبه شيء بالمعيار: إما ناقص بجهل، أو راجح بعلم” (تحف العقول. ص 150).
وهذا السلوك الجاهلي المتخلف: لا يدل على شعور أصحابه بالعزة والكرامة والقيمة العالية للنفس الإنسانية، وإنما يدل على شعورهم بالحقارة والدونية والضياع في الحياة.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: “ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه” (أصول الكافي. ج2. ص 312. الحديث 17).
قول الله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} له معنيين لدى علماء التفسير.. وهما:
المعنى الأول وافاكم الموت:
أي شغلكم التكاثر طول حياتكم، ولم تستفيقوا من غفلتكم حتى أنقضت أعماركم ووفاكم هادم اللذات: الموت، وأنتم على تلك الحال من الغفلة والضلال والاتجاه المادي والفهم السطحي للحياة.. بدون توبة. فلم تستخدموا عقولكم التي منحكم الله الكريم إياها، ولم تسمعوا للرسل الذين بعثهم الله الجليل إليكم مبشرين ومنذرين. مضيعين أعماركم في طلب الدنيا الفانية، معرضين عما يهمكم من السعي لأخراكم الباقية.. ودفنتم مذمومين في القبور، وفرق بينكم وبين الأموال والأولاد والقوة والرجال {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} حيث لا تنفعكم هذه الأمور بعد الموت بشيء {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
روى مسلم في صحيحه: أن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: “يقول ابن آدم: مالي مالي!! ومالك من مالك، إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت” (مجمع البيان: ج10. ص812).
المعنى الثاني ذهبتم إلى المقابر:
أي ألهاكم التباهي بالكم وبكثرة المال والعدد من الرجال بعيدا عن المضمون، وبعيدا عن تدبر الأمور الأهم في الحياة، وعن التفكير في أمور الآخرة، حتى وصل بكم الحال (خارج حدود المعقول) أن ذهبتم إلى المقابر لتعدوا الأموات في القبور لتتكاثروا وتتفاخروا بهم، وهم فاقدون للإحساس والقوة، ولم يعد لهم أي أثر عملي في الحياة.. وهو سلوك جاهلي متخلف فاقد للقيمة الإنسانية والعملية وبعيد كل البعد عن منطق العقلاء.
قيل في أسباب نزول السورة: أن قبيلتين.. وهما: بنو عبد مناف بن قصي، وبنو سهم بن عمر، تكاثروا وتفاخروا بكثرة الرجال.. كل قبيلة تقول: نحن أكثر رجالا، فعدوا الأحياء من رجالهم، فكثر بنو عبد مناف على بنو سهم.. فقال بنو سهم: نعد موتانا وموتاكم، فذهبوا إلى قبور موتاهم يعدونهم ليتكاثروا بهم.. فيقولون: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان، فكثر بنو سهم على بنو عبد مناف، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية.
أيها الأحبة الأعزاء..
لقد ذكر القرآن الكريم هذا السلوك الجاهلي المتخلف غير المعقول تهكما به بالقائمين عليه، حيث كانوا يجمعون الأرقام مهما كانت، بقطع النظر عن فاعليتها وحيويتها وحركتها وقيمتها في الواقع. وعلينا أن لا نقف عند حدود المصداق الذي ذكرته السورة الشريفة المباركة، من زيارة أولئك المتخلفين لقبور موتاهم ليتكاثروا بهم، وإنما ينبغي علينا تعميم المبدأ الذي أراده القرآن الكريم على كافة الصور والمصاديق الأخرى في الحياة.. لنستفيد فعلا من الدرس القرآني العميق كما يريد منا الرب الجليل في الحياة.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد قراءة سورة التكاثر في خطبة طويلة.. منها: “يا له مراما (مرادا) ما أبعده، وزورا ما أغفله، وخطرا ما أفظعه! لقد استخلوا (وجدوا الديار خالية) منهم أي مدكر (الاعتبار) وتناوشوهم (تناولوهم) من مكان بعيد. أبمصارع آبائهم يفخرون؟! أو بعديد الهلكى يتكاثرون؟! يرتجون منهم أجسادا خوت (خلت) وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبرا، أحق من أن يكونوا مفتخرا، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجي (أقرب للصواب) من أن يقوموا بهم مقام عزة. لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة (ضعف البصر) وضربوا منهم في غمرة (حيرة) جهالة. ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية، والربوع الخالية، لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا، وذهبتم في أعقابهم جهالا” (نهج البلاغة. الخطبة: 219).
يقول العلامة السيد فضل الله: “إنها العقلية المتخلفة التي تبحث عن الكم ولا تبحث عن الكيف، فترى في تكاثر الأرقام العددية قيمة وميزة عن الآخرين. ولكن الله لا يريد لهم ذلك، لأن القيمة كل القيمة، هي في ما يقدمه الناس على مستوى الفرد أو الجماعة من أعمال صالحة كثيرة، لتكون الكثرة مشتملة على المضمون الرسالي الذي يغني تجربة الحياة في حركة المسؤولية التي تبني للإنسان قاعدته الفكرية والعملية على أساس من رسالة الله المتحركة في خط طاعته، بينما تكون الكثرة الفارغة من المضمون أو المشتملة على المعنى الشرير، عبئا على الحياة، وسببا لسقوطها في مهاوي الانحطاط الروحي والأخلاقي” (من وحي القرآن. ج 24. ص 393).
وقال: “ينبغي للإنسان العاقل الواعي أن يلتزم كخط لحركة القيمة الإنسانية في الحياة، بأن ينظر إلى عمق المعنى الإنساني، لا إلى السطح من مظاهره، لأن القضية هي قضية المضمون لا قضية الشكل، ولأن العظمة في الحق مهما كان حجمه صغيرا في مقابل الباطل، حتى لو كان حجمه كبيرا، فإن العظيم هو ما عظمه الله، والحقير ما حقره” (نفس المصدر. ص 394).
الدرس المستخلص:
وعليه ينبغي أن يتجنب المؤمنون وكافة العقلاء كل السلوكيات الجاهلية التي تقف عند حدود الكم والشكل، وتتجاهل الكيف والمضمون والفاعلية في تقييم الأمور. فزيارة القبور لعد الأموات للتكاثر والتفاخر بهم، هو مجرد مصداق لمفهوم أشمل في الحياة لدى كثير من الناس، حيث يغيب العقل والمروءة والدين، ويظهر إتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء والشيطان والعادات والتقاليد والعصبيات الجاهلية المتخلفة في تقييم الأمور، ولهذا المفهوم مصاديق كثيرة في سلوك الكثير من الحكام والسياسيين والمثقفين ودعاة المدنية والحضارة في تاريخنا المعاصر. فنحن نستهجن (تقليديا) السلوك غير العقلائي والفاقد للمروءة والدين للبخلاء، الذين يجمعون المال، ولا ينفقونه على أنفسهم وعيالهم، فيعيشون الفقر والحرمان في الحياة رغم امتلاكهم للمال والثروة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “عجبت للشقي البخيل، يتعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيشة الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء” (البحار. ج78. ص94).
وقال الإمام الرضا عليه السلام: “إياكم والبخل، فإنها عاهة لا تكون في حر ولا مؤمن.. إنها خلاف الإيمان” (البحار. ج 78. ص346).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: “البخل جامع لمساوئ العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء” (البحار. ج73. ص 307).
ولكن أيها الأحبة الأعزاء:
السلوكيات القبيحة الفاقدة للعقل والمروءة والدين كثيرة في واقعنا المعاصر المتمدن ظاهرا.. منها على سبيل المثال: الجشع في جمع الثروة والمال بغير حدود.. فأنتم تعلمون: بأن للإحساس بالمتعة واللذة والنشوة عند الإنسان حدود لا يمكن أن يتعداها في المعاشرة الجنسية وفيما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ويركب. ومع ذلك نجد بعض من يستولي عليهم الجشع في تاريخنا المعاصر المتمدن ظاهرا، يسترسلون في جمع الثروات بحدود غير معقولة، لا تخرج عن حدود حاجتهم فحسب، بل تخرج عن درجة إحساسهم باللذة والمتعة بها، وتدخل في حلقة الفراغ من الإحساس والعبث الذي لا قيمة عملية له في الحياة، ويمتنعون عن أعمال الخير ومساعدة الناس، من أجل التباهي والتفاخر بكثرة المال والثروة.. وربما أوصي بعضهم بثروته إلى كلب!!
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34).
وأقبح من ذلك: أن ينهب بعض الحكام خيرات شعوبهم بغير وجه حق، ويجمعون الثروة بصور وأوجه غير معقولة، إلى الحدود التي يخرج فيها توظيف الثروة عن درجة إحساسهم باللذة والمتعة بها، وتدخل في حلقة الفراغ من الإحساس والعبث الذي لا قيمة عملية له في الحياة.. وذلك كله: من أجل التباهي والتفاخر بالثروة، وربما أنفقوا الكثير من ثرواتهم في أمور سخيفة لا قيمة عملية لها في تنمية الحياة والآخرة، في الوقت الذي تعاني شعوبهم من الفقر والمرض والجهل والحرمان من المقومات الأساسية في الحياة.. كما هو الحال عندنا هنا في البحرين. وهذا لا يدل على عدم الإحساس بالمسؤولية العامة وعدم الصلاحية للحكم فحسب، بل يدل على الفقر في الشعور والقيمة الإنسانية.. لأن: الشعور بآلام الآخرين، شرط من شروط الشعور بالكرامة والقيمة الإنسانية لدى أي الإنسان على وجه الأرض.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى الأشتر: “وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم.. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق” (نهج البلاغة. كتاب 53).
وقال عليه السلام: “وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها (ظهور الحاجة والفقر فيهم) وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع (تطلع أنفسهم إلى جمع المال) وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر” (نفس المصدر).
المحور الثاني
النهي عن التلهي وعلة النهي
قول الله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ • ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ • كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ • لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ • ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}.
القرآن الكريم يرفض العبث والتوجهات المادية والفهم السطحي للإنسان في الحياة، كما يرفض الانشغال بالأمور الصغيرة والتافهة، على حساب الأمور الكبيرة والمهمة في الحياة.. وذلك: لأن الإنسان والحياة لم يخلقا عبثا، وإنما خلقا لغاية اقتضتها حكمة الرب الجليل، وسوف يسأل الإنسان في يوم القيامة عن الطريق الذي انتهجه في الحياة الدنيا، وعن كل أعماله التي عملها: صغيرها وكبيرها.. وعلى هذا الأساس المتين: جاء النهي والزجر عن الانشغال بالدنيا عن الآخرة.
قول الله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ • ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
ارتدعوا أيها اللاهون: فليس الأمر كما ترون أو تظنون، فإن هذه الحياة ليست نهاية المطاف في مسيرتكم، وأن هناك حياة غير حياتكم هذه، وإن لكم مستقبل ينتظركم فيها.. وسوف تعلمون في يوم القيامة: أن الأمر الذي ينبغي أن ينشغل فيه الإنسان ويفكر به أكثر هو عالم الآخرة والتسابق في الطاعة لله (جل جلاله) وعمل الخير لكسب رضاه، وليس الاستغراق في الأمور التافهة، والتهالك على الدنيا وزخارفها الفانية وعرضها الزائل، بما يبعدكم عن الله (جل جلاله) والقيام بواجباتكم الشرعية والإنسانية.. وسوف تعلمون هناك: أن مصير الإنسان يتحدد من خلال طبيعة عمله، وأن عاقبة تباهيكم بالسلطة والجاه والنفوذ في الحياة الدنيا، وتفاخركم بكثرة المال والأولاد والقوة والرجال وتغالبكم عليها، واتخاذها هدفا لكم في الحياة على حساب واجباتكم الدينية والإنسانية.. سوف ينتهي إلى سوء. وسوف تعلمون: أن ما رزقتم به في الحياة الدنيا، من الأموال والأولاد والقوة والنفوذ والسلطة، إنما هي نعمة الرب الجليل عليكم، لتسلكوا بها طريق الكمال والخير والسعادة في الحياة، وفق منهج الإسلام العظيم، الذي حدد للإنسان كيف يكسب القوة والمال الحلال من كد اليمين، وكيف ينفقهما ويتصرف فيهما لخير الدنيا والآخرة. وسوف تندمون على أعمالكم المتخلفة غير المنطقية تلك، وتصرفاتكم الجاهلية المجانبة للعقل والدين والمروءة، ولكن لن ينفعكم الندم يومئذ.. فقد ذهب وقت العمل وحل وقت الجزاء.
قول الله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ • لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ • ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}.
ارتدعوا أيها اللاهون: فإنكم لو تدبرتم (بحسب ما فطرتم عليه) في أنفسكم والكون والحياة، وبحثتم عن الحقيقة فيها، لوجدتم الأدلة القاطعة التي تمنحكم اليقين الذي لا شك فيه ولا ريب، على أنكم مخلوقون لرب جليل حكيم قادر على كل شيء، ولغاية اقتضتها حكمته البالغة. وأنكم مبعوثون في يوم القيامة ومسؤولون عن الطريق الذي تسلكونه في الحياة، وعن كافة أعمالكم فيها: صغيرها وكبيرها. ولتشخص لديكم وأنتم في عالم الدنيا (بالدليل الصحيح القاطع) وجود الجنة والنار والثواب والعقاب في الآخرة.. ولو فعلتم ذلك: لارتدعتم، ولما غرتكم هذه الحياة الدنيا الفانية والتغالب عليها، ولأعطيتم الآخرة حقها، وتصرفتم بحكمة، وفعلتم ما هو خير لكم وأجدى وأصلح لدينكم ودنياكم وآخرتكم وظاهركم وباطنكم. فانظروا في أنفسكم والكون والحياة نظرة تمحيص وبحث عن الحقيقة، واردعوا أنفسكم عن هذا العبث والوهم الباطل والتفاخر الكاذب والانتصارات الوهمية والتوجهات المادية والاهتمامات الصغيرة والتافهة على حساب المهام والمسؤوليات الكبيرة في الحياة.. فإن ذلك كله: مجانب لحقيقة أنفسكم ولحقيقة الكون وللطريق الصائب والتوجهات الصائبة في الحياة.
ارتدعوا أيها اللاهون: فأنا الرب الجليل أخبركم وأقسم إليكم، بأن النار حقيقة عينية موجودة في الخارج، وأنكم سوف تقفون عليها، وترونها بأعينكم رؤية مشاهدة حقيقية محسوسة، وتدخلونها وتذوقون عذابها في يوم القيامة. فاجعلوا ذلك حاضرا في أذهانكم لعله يردعكم عن غيكم وضلالكم، ولا تنسوه أبدا ولا تتجاهلوه، فلن ينفعكم النسيان والتجاهل، ولن يغيرا شيئا من الواقع العيني (وجود جهنم) والمستقبل الأسود الذي ينتظركم فيها.
يقول الشيخ جواد مغنية: “لو كنتم تعلمون علما قاطعا مآل المتكاثرين لارتدعتم عن التكاثر والتفاخر، وفيه إيماء إلى أن العلم بلا عمل هو والجهل سواء”.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: “العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه”. (الكاشف. ج7. ص604).
لماذا التهديد بالجحيم (النار)؟
من الملفت للنظر التهديد الرباني بالجحيم في السورة الشريفة المباركة، وعدم ذكر الثواب في الجنة.. وفيه دلالة: على أن للخوف من العقاب تأثير أكبر من الرغبة في الثواب لردع المجرمين بل أغلب الناس عن الجريمة.. أما الدليل على ذلك: فهو التزام معظم المسلمين بعمل الواجبات الدينية وتركهم المحرمات، وتقصيرهم في عمل المستحبات وترك المكروهات رغم وجود الثواب العظيم على ذلك وذلك لأن: ترك الواجبات وعمل المحرمات يؤدي إلى العقاب، أما عمل المستحبات وترك المكروهات ففيه المزيد من الثواب، مما يثبت أن للخوف من العقاب تأثير أكبر من الرغبة في الثواب لدى غالبية الناس.. ولهذا تم التركيز على عذاب جهنم للردع عن التلهي في الحياة.
المحور الثالث
مسؤولية النعيم ودوره في حياة الإنسان
قول الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
ذكر علماء التفسير معنيين للنعيم في الآية الشريفة المباركة.. وهما:
المعنى الأول نعيم الدنيا:
الأموال والأولاد والقوة والنفوذ والسلطة التي يتكاثر بها أربابها بلسان الحال والمقال ويتصارعون على تحصيلها.. فهم مسؤولون عنها أمام الله (جل جلاله) في يوم القيامة.
- من أين اكتسبوها؟
- هل اكتسبوها بالحلال: من كد اليمين وعرق الجبين؟
- أم اكتسبوها بالحرام: من السلب والنهب والعنف والإرهاب، وغيرها من الأساليب غير المشروعة؟
- وفي أي شيء أنفقوها وتصرفوا بها؟
- هل جعلوها سببا للهداية والإصلاح وأعمار الأرض، وأدوا حق الله جل جلاله وحق العباد فيها، وعملوا بأحكام الله جل جلاله في الاستفادة منها والتمتع بها؟
- أم جعلوها أداة للضلال والفساد والظلم والطغيان وخانوا الله عز وجل وخانوا العباد فيها؟
وأيضا الصحة والأمن وجميع الملاذ والطيبات من الرزق التي تفضل الله جل جلاله بها على الناس.. سوف يسألون عنها ويحاسبون عن كيفية استعمالها وتوجيهها في الحياة.
قال بعض المفسرين: يسأل جميع المكلفين عن كل ما أنعم الله عز وجل به عليهم، إلا ما خصه الحديث عن الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستثناء.. وهو: ” ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسد بها جوعته، أو بيت يكنه من الحر والبرد ” (مجمع البيان. ج10. ص 813).
وقال البعض الآخر: أن الخطاب مخصوص بالكفار وبمن عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل ويشرب ويلبس ويضيع أوقاته باللهو والطرب واللعب، ولا يعبأ بالعلم وفعل الخير والعمل الصالح، ولا يحمل نفسه مشاق الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذود عن الحقوق والحرمات. أما من اكتسب نعم الله (تبارك وتعالى) وتمتع بها بالحلال، وتقوى بها على طاعة الله عز وجل وكان ناهضا بالشكر له عليها بجميع الوجوه.. فإنه بمعزل عن السؤال.
قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “من قرأ سورة التكاثر لم يحاسبه الله تعالى بالنعم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية” (تفسير أبي السعود. ج9. ص 196).
يقول العلامة السيد الطباطبائي: “ظاهر السياق أن هذا الخطاب وكذلك الخطابات المتقدمة في السورة للناس بما أن فيهم من اشتغل بنعمة ربه عن ربه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، وما في السورة من التوبيخ والتهديد متوجه إلى عامة الناس ظاهرا واقع على طائفة خاصة منهم حقيقة.. وهم الذين ألهاهم التكاثر.
وكذا ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقه، وهو كل ما يصدق عليه أنه نعمة، فالإنسان مسؤول عن كل نعمة انعم الله بها عليه.
وذلك أن النعمة وهي الأمر الذي يلائم المنعم عليه ويتضمن له نوعا من الخير والنفع إنما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعم عليه، إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع، وأما لو استعملها على خلاف ذلك، كانت نقمة بالنسبة إليه، وإن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.
وقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل غاية خلقه التي هي سعادته ومنتهى كماله التقرب العبودي إليه.. كما قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) وهي الولاية الإلهية لعبده، وقد هيأ الله سبحانه له كل ما يسعده وينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خلق لها.. وهي النعم، فأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله وينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية وهو الطاعة، واستعمالها بالجمود عليها ونسيان ما وراءها غي وضلال وانقطاع عن الغاية وهو المعصية، وقد قضى سبحانه قضاء لا يرد ولا يبدل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه ويجزيه، وعمله هو استعماله للنعم الإلهية..
قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى • وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى • وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (النجم: 39 42)
فالسؤال عن عمل العبد سؤال النعيم كيف استعمله: أشكر النعمة أم كفرها؟” (الميزان. ج20. ص 352 353).
المعنى الثاني ولاية أهل البيت عليهم السلام:
وهي أعظم نعمة أنعم الله جل جلاله بها على الإنسان في الحياة، فهم سبيل الهداية والطاعة والإيمان، والتي لا يمكن أن تحصل إلا بولايتهم عليهم السلام وهم قرناء القرآن (كما يدل على ذلك حديث الثقلين) والسبيل إلى معرفة الطريق التي حددها الله جل جلاله لتصرف العباد في النعم التي أنعم بها عليهم في الحياة.. فسؤال العباد عن ولايتهم عليهم السلام يأتي في مقدمة السؤال عن النعم التي أنعم الله جل جلاله بها على العباد في الحياة.
فسوف يسأل العباد عن أهل البيت عليه السلام في يوم القيامة:
– هل والوهم واتبعوهم وأحبوهم ونصروهم؟
– أم خالفوهم وأبغضوهم وقتلوهم؟
سأل الإمام الصادق عليه السلام أبا حنيفة عن هذه الآية فقال: “ما النعيم عندك يا نعمان؟”
قال أبو حنيفة: القوت من الطعام والماء البارد.
فقال الإمام الصادق عليه السلام: “لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها، ليطولن وقوفك بين يديه!!”.
قال أبو حنيفة: فما النعيم جعلت فداك؟
فقال الإمام الصادق عليه السلام: “نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألف الله بين قلوبهم وجعلهم أخوانا بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للإسلام.. وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته”. (مجمع البيان. ج10. ص813).
عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام فدعا بالغذاء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما أطيب منه قط ولا ألطف، فلما فرغنا من الطعام قال: يا أبا خالد! كيف رأيت طعامك؟ أو قال: طعامنا؟
قلت: جعلت فداك ما أكلت طعاما أطيب منه قط ولا ألطف ولكن ذكرت الآية التي في كتاب الله عز وجل {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}
فقال أبو جعفر عليه السلام: “إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق” (الميزان. ج 20. ص 353).
وفي رواية أبي حمزة: “إن الله عز وجل أكرم وأجل أن يطعم طعاما فيسوغكموه ثم يسألكم عنه، إنما يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم”. (نفس المصدر. ص 354).
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: “من كل هذه الروايات التي يبدو أنها مختلفة في الظاهر نفهم أن النعيم له معنى واسع جدا يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية منها مثل: الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية. بيد أن النعم التي لها أهمية أكبر مثل: نعمة (الإيمان والولاية) يسأل عنها أكثر. هل أدى الإنسان حقها أم لا؟ والروايات التي تنفي شمول الآية للنعم المادية يظهر أنها تريد أن تقول: لا ينبغي أن نترك المصاديق الأهم للآية ونتمسك بالمصاديق الأصغر. إنه تحذير في الواقع إلى الناس بشأن سلسلة مراتب المواهب والنعم الإلهية، وبأنهم يتحملون إزاءها مسؤولية ثقيلة” (الأمثل. ج20. ص 387).
ويقول العلامة الطباطبائي: “إن هذه النعم لو سئل عن شيء منها فليست يسأل عنها بما أنها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلا، وإنما يسأل عنها بما أنها نعمة خلقها الله للإنسان وأوقعها في طريق كماله والحصول على التقرب العبودي.. كما تقدمت الإشارة إليه وندبه إلى أن يستعملها شكرا لا كفرا.
فالمسؤل عنها هي النعمة بما أنها نعمة، ومن المعلوم أن الدال على نعيمية النعم وكيفية استعماله شكرا والمبين لذلك كله هو الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصب لبيانه الأئمة من أهل بيته، فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كل حركة وسكون، ومن المعلوم أيضا أن السؤال عن النعيم الذي هو الدين، سؤال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده، الذين افترض الله طاعتهم وأوجب أتباعهم في السلوك إلى الله الذي طريقه استعمال النعم.. كما بينه الرسول والأئمة”. (الميزان. ج20. ص 354).
أيها الأحبة الأعزاء…
إن لهذه السورة الشريفة المباركة إيقاع رهيب وعميق يهز كيان الإنسان من أعماق الأعماق. فنحن نسمع فيها صرخات ربانية مجلجلة تقشعر لهول وقعها القلوب والأبدان، فيها حسرة عظيمة على العباد {يا حسرة على العباد} تريد أن توقظهم من نومتهم التي فيها حتفهم ونهايتهم المشؤومة.
يقول العلامة السيد قطب: “أيها السادرون المخمورون، أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأغراض الحياة وانتم مفارقون، أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه. أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر.. استيقظوا وانظروا” (الظلال. ج6. ص3962).
أيها الأحبة الأعزاء…
كأن الرب الجليل يقول في حسرة: ماذا أصنع لكم يا عبادي حتى تستيقظوا من نومكم، وتعملوا عقولكم، وتسمعوا للرسل الذين بعثتهم إليكم مبشرين ومنذرين. انتبهوا من نومتكم، وانظروا إلى المصير الأسود الذي ينتظركم، فقد منحتكم العقول التي تفكرون بها، وبعثت إليكم بالرسل مبشرين ومنذرين، ومنحتكم بمقتضى حكمتي البالغة حرية الاختيار وتقرير المصير، ولم أجبركم على الهداية أو الضلال، ليهلك من هلك منكم عن بينة، ويحي من حيي منكم عن بينة.. فاحذروا أيها الناس وانتبهوا.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: “إن الله عز وجل ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله، فهو شر من البهائم”. (ميزان الحكمة. ج 1. ص 362).
يقول العلامة السيد قطب: “إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها، وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها، وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون!
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل.. “ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر”.. وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة.. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال، ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء. فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد..
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها.. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي مثقلا في الطريق!
ثم ينشىء يحاسب نفسه على الصغير والزهيد!!!” (الظلال. ج6. ص 3963).
أيها الأحبة الأعزاء…
في ختام الحديث حول هذه السورة الشريفة المباركة، أرغب في ذكر نقطتين ذاتا علاقة بولاية أهل البيت عليهم السلام.. وهما:
النقطة الأولى:
أن ولاية أهل البيت عليهم السلام تعني فيما تعني ثلاثة أمور أساسية.. وهي:
الأمر الأول الاهتداء إلى الصراط المستقيم: وهو الصراط الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153)
وقوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ • صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6 7) ودل عليه حديث الثقلين. قول الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما” (صحيح الترمذي. ج2. ص308).
الأمر الثاني والثالث الحصول على الدين الكامل وصيانته:
ويدل عليه قول الله تبارك وتعالى بعد أن بلغ الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بولاية أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الغدير بخم: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3).
فالدين الكامل لا يمكن الحصول عليه ولا تمكن صيانته إلا بولاية الإمام علي بن أبي طالب وولاية الأئمة الأحد عشر من ولده عليهم السلام. وبالاهتداء إلى الصراط المستقيم، والحصول على الدين الكامل وصيانته، تتم النعمة العظمى من الله جل جلاله على العباد، وتتحصل حقيقة الإسلام وغايته، وبه يسلك الإنسان طريق الهداية والسعادة والفضيلة والكمال، وتستقيم الحياة وتتوازن وتطهر الأرض من الرذيلة والفساد ويظهر العدل بين الناس.
النقطة الثانية:
التحذير من خط بدأ ينمو في الساحة الإسلامية، وترتكز حركته على أربعة أمور أساسية.. وهي:
الأمر الأول: الدعوة إلى الثقافة الغربية والتبشير بالديمقراطية الأمريكية، والاجتهاد في رفع كل تعارض بين الثقافتين: الغربية والإسلامية، وإزاحة كل حاجز نفسي بينهما.
الأمر الثاني: الدعوة إلى القومية والطائفية على حساب الوحدة الإسلامية، ويقوم سماسرتها من المنتسبين إلى الطائفتين الكريمتين والقوميات المختلفة في البلاد الإسلامية، بتعميق الحس الطائفي والقومي بين أبناء المسلمين.
الأمر الثالث: ضرب الحس الجهادي المقاوم لدى أبناء الإسلام الغيارى على دينهم وأمتهم وأوطانهم، والمجاهدين ضد المحتلين والمستكبرين والمستبدين أعداء الدين والإنسانية.. تحت عناوين براقة مثل: المحافظة على السلم ومكافحة العنف والإرهاب.. ويزعمون كاذبين: أن ذلك هو جوهر الإسلام الحنيف.
الأمر الرابع: ضرب خط ولاية الفقيه وخط العلماء الملتزمين في الساحة الإسلامية، تحت عناوين براقة.. مثل: الحرية والديمقراطية.
أيها الأحبة الأعزاء…
تمسكوا بحقائق الدين المحمدي الأصيل وخذوه من المصادر الموثوق بها، واحذروا من التمسك بالصور والقشور على حساب الحقيقة والمضمون، واحذروا السيئين على دينكم وأوطانكم، فلا يغرروا بكم من خلال زخرف القول وبهرجة الكلام، ليصرفوكم عن الحق والصراط المستقيم في الحياة، فتكونوا من الخاسرين والعياذ بالله العظيم من ذلك.
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.