قال الله تعالى {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران 188).
الآية الشريفة المباركة تتناول موضوع التكاذب وهو أن يكذب الناس على بعضهم البعض ويحلون الكذب محل الصدق في المعاملة. وتشير الآية الشريفة المباركة إلى ظاهرتين من التكاذب تبرزان في حياتنا الفردية والاجتماعية، وتحذر منهما وتبين عدم جدواهما وتهدد عليهما بالخزي والعار في الحياة الدنيا وبالعذاب الأليم في الآخرة. وعليه فإن الحديث حول الآية الشريفة المباركة سوف ينقسم إلى أربعة محاور بحسب الفقرات الأربع الرئيسية في الآية الشريفة المباركة..
المحور الأول: التحذير من التكاذب
قول الله تعالى {لاَ تَحْسَبَنَّ}.
لا تحسبن لا تظنن.
الآية الشريفة المباركة تخاطب الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكل إنسان عاقل يصلح له الخطاب، وتدعوه إلى الحذر واليقظة من الوقوع في التكاذب على المستوى الفردي حيث يكذب الإنسان على نفسه ثم يصدقها فيخدعها كما يفعل الكثير من السفهاء من الناس أو على المستوى الاجتماعي حيث يتبادل الناس التكاذب مع بعضهم البعض ويتعاطون على هذا الأساس الفاسد في الحياة العامة والشأن العام، فيحلون الكذب محل الصدق في المعاملة وتقييم الأوضاع والأعمال والأشخاص، ويقيمون حياتهم كلها على أساس التكاذب، فيخدعون بذلك أنفسهم ومجتمعاتهم ويحلونهما دار البوار.
أيها الأحبة الأعزاء لا تظنوا أن هذه الحالة التي يحذرنا منها القرآن الكريم هي حالة تختص بالكافرين والمنافقين في صدر الإسلام ولا علاقة لها بمجتمعاتنا العربية والإسلامية في الوقت الحاضر، أو أنها حالة فردية أو نادرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة، فإنكم إذا تأملتم في أوضاع مجتمعاتنا العربية والإسلامية ودققتم فيها فسوف تجدون أن حالة التكاذب هي الحالة السائدة والحاكمة غالبا في الحياة الفردية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في الوقت الحاضر. دققوا في سلوك الأفراد والمؤسسات الرسمية والأهلية وابحثوا عن حجم التكاذب ونوعه في المجتمعات والدول العربية والإسلامية، فسوف تجدون أنه بالحجم المهول والمخيف لكل شريف وغيور على دينه ووطنه. أنظروا كيف يستغني الأفراد وتستغني الأحزاب والمؤسسات الرسمية والأهلية عن الأعمال الصادقة على الأرض بالأقوال الكاذبة والشعارات الفارغة والخطب الرنانة وبالكتابة على الورق (ويسمونه توثيقا) بحيث أنك تتصور من خلال الأوراق التي يسمونها بالتوثيق ولغة الأرقام ومن خلال الأقوال المنمقة التي تسمعها من الموظفين والعاملين أن الواقع القائم في مثاليته ودقته وتقدمه، هو جنة النعيم التي لا يعلوا فوقها شيء ولا يمكن أن يحدث أحسن من ما كان، وأن العاملين والموظفين والمسؤولين هم في قمة النزاهة والتفاني والإخلاص والحرفية والدقة في العمل، وليس أمامك إلا أن تقدس بحمدهم وتسبح لهم على صفاتهم وخصالهم التي يتحلون بها، وتشكر الله جل جلاله الذي أنعم على البلاد والمؤسسة والعباد بمثلهم. ولكنك إذا اطلعت على الواقع القائم فعلا، فإنك تجده في قمة البؤس والتخلف والرجعية ـ وهذه العدوى وللأسف الشديد قد انتقلت إلى بعض قطاعات العمل الإسلامي ـ ومع ذلك تجد القائمون على الدولة أو المؤسسة يصدقون كذبهم ويخدعون أنفسهم ويصدقهم الناس على أساس التكاذب أو على أساس ما يسمونه بالمجاملة الاجتماعية وهم يعلمون الحقيقة المرة، فيتجاهلون جميعا الواقع البائس الذي يرونه بأم أعينهم، ويصدقون الأقوال والأوراق الكاذبة المزيفة للواقع والمغيرة للحقيقة ويتعاطون مع القضايا على هذا الأساس وهم يعلمون الحقيقة، ثم يقومون بتشغيل الماكينة الإعلامية لتسويق الأقوال الكاذبة والوثائق المزيفة على أنها تمثل الحقيقة والواقع، ويعتبرون من يتكلم بالصدق والحقيقة أنه جاهل وكاذب وعدو ومتآمر!!
وقد أشار القرآن الكريم إلى مدى تأصل ملكة التكاذب ورسوخها لدى بعض المجرمين إلى درجة أنهم يحلفون كذبا وزورا إلى الله جل جلاله في يوم القيامة ليصدق كذبهم كما كانوا يحلفون إلى الناس في الحياة الدنيا من أجل تسويق كذبهم المفضوح، ناسين لرسوخ ملكة التكاذب وتأصلها لديهم أن الله جل جلاله يعلم الغيب وحقائق الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن الكذب في الآخرة ليس كالكذب في الحياة الدنيا، فإن الكذب في الحياة الدنيا قد يجلب منفعة دنيئة لصاحبه، أما في الآخرة فإن الإنسان يظهر على حقيقته، وتتجلي أعماله على حقيقتها الفعلية فلا ينفعه الكذب، ولا ينفع الإنسان في الآخرة إلا الصدق وحسن العقيدة والعمل الصالح. ولكنها النفوس المريضة، والقلوب التي ران عليها الشيطان فأنساها الحق ودنسها بالباطل ولوثها بالأعمال الشريرة والقبيحة.
قال الله تعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (المجادلة 18).
فالآية الشريفة المباركة تدعو الناس إلى الصدق مع الله جل جلاله ومع النفس ومع الآخرين، وتحذر من الوقوع في رذيلة التكاذب، وهذا يتطلب الأمور التالية:
الأمر الأول: مراقبة النفس ومحاسبتها والتدقيق في السلوك والمواقف والانتماءات والعلاقات من أجل حمل النفس على الصدق مع نفسها ومع الله جل جلاله ومع الآخرين.
الأمر الثاني: التدقيق في أقوال الآخرين وشعاراتهم ومقابلتها بسلوكهم ومواقفهم وانتماءاتهم وعلاقاتهم في الحياة وعدم الاكتفاء بالأقوال والأوراق والشعارات، والتركيز في مقام الحكم والتقييم على الوقائع والأفعال والمواقف والانتماءات والعلاقات القائمة على الأرض، وليس على الأقوال المنطوقة أو المكتوبة على الأوراق، لكي لا يقع الإنسان فريسة للتكاذب الذي يعتمده الكثير من الناس في حياتهم العامة والخاصة.
المحور الثاني: ظاهرتي التكاذب
الظاهرة الأولى: قول الله تعالى {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ}.
الذين أفرادا كانوا أو جماعات أو أحزاب أو مؤسسات أو حكومات.
يفرحون يبتهجون ويسرون وتنشرح صدورهم.
بما أتوا بما عملوا سواء كان صالحا أو طالحا.
أيها الأحبة الأعزاء..
الفرح ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الفرح الممدوح:
وهو الفرح لإصابة الخير والنجاة من الشر بإذن الله تبارك وتعالى وليس بنسبته إلى النفس كما قال قارون {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} والفرح من أجل خير الناس وسعادتهم، وهذا الفرح الأخير يدل على صدق النية ونقاء السريرة، فقد فرح الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم ابن عمه جعفر بن أبي طالب من الحبشة وقبل بين عينيه وقال “ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟” (الكاشف. ج4. ص 227 ـ 228).
القسم الثاني: الفرح المذموم:
وهو الفرح بما يحصل عليه الإنسان من الخير ونسبته إلى النفس، وذلك لما تنطوي عليه نفسه من الجهل والخيلاء والغرور. والفرح لما يصيب الناس من السوء والمكروه أو لما يفعله الواحد منا من السلب النهب لحقوق الناس وتضييع مصالحهم، وذلك لما تنطوي عليه نفسه من الشر والحقد والحسد والظلم. والفرح بتطبيل الناس وتزميرهم ومدحهم وثنائهم عليه بما ليس فيه من الفضائل والكرامات، وذلك لما تنطوي عليه نفسه من الجهل والغرور والمكر والخديعة.
والآية الشريفة المباركة التي نحن بصدد الحديث حولها تتكلم عن هذا الصنف من الناس الذين يعيشون الفرح الوهمي بما أتوا من السيئات والأساليب الملتوية التي تخدم أهدافهم الخبيثة ومخططاتهم الشيطانية في الحياة، ولا ينظرون إلى حقيقة أعمالهم صالحة أو طالحة، تضر الناس أو تنفعهم، لأنهم إنما يريدون ويحرصون فقط على إرضاء غرورهم ونوازعهم النفسية المريضة. وهم مع ذلك يتظاهرون بالإيمان والصلاح ويحركون الآخرين ووسائل الإعلام ليمدحوهم ويثنون عليهم بالقلم واللسان في سبيل حصولهم على المزيد من الثناء والمدح والامتيازات المادية والاجتماعية والمعنوية بغير وجه حق. وربما رفعوا من أجل ذلك الشعارات الجميلة الخلابة وأذكوها بالخطب الرنانة والكلمات المنمقة التي لا تصدقها الأفعال بشيء.
أيها الأحبة الأعزاء..
إن الدين الحنيف والعقل الحصيف لا يرفضان الفرح بالأعمال الصالحة والأفعال الخيرة المنفتحة على الله جل جلاله وعلى القيم الروحية والأخلاقية الأصيلة والذي لا يتجاوز الإنسان فيه حد الاعتدال، ولا يزرع من خلاله الغرور في النفس والعجب بها. فهذا الفرح من مقتضى الفطرة الإنسانية والغريزة، وفيه إجلال للأعمال الصالحة والأفعال الخيرة، وتشجيع النفس والآخرين عليها.
جاء رجل إلى الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقال إني أتصدق وأصل الرحم ولا اصنع ذلـك إلا لله، فيذكر ذلـك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به؟
فسكت الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئا فنزلت {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (ميزان الحكمة. ج4. 31).
وقيل للرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: “تلك عاجل بشرى المؤمن، يعني البشرى المعجلة له في الدنيا، والبشرى الأخرى قوله سبحانه {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (البحار. ج72. ص 294).
وسؤل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك؟
قال عليه السلام “لا بأس ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك” (البحار. ج72. ص 294).
ويقول العلامة السيد فضل الله “فإنه (يعني الدين) لا يرفض الفرح الحقيقي العميق المنفتح على الله وعلى القيم الروحية والأخلاقية وعلى الحياة في جمالها وانطلاقاتها في سنن الله الكونية والإنسانية، بل هو يريد للإنسان أن يعيش مشاعره الطبيعية في الحزن والفرح والألم واللذة بشكل عميق متوازن لا يطغى لينحرف فيتجاوز الحد، ولا يسقط ليتجمد الإنسان أمام عناصر الإثارة في الحياة والإنسان” (من وحي القرآن. ج6. ص447 ـ 448).
إلا أن أولياء الله العظام بعيدون عن هذا الابتهاج والتشجيع المباحين، وفوق مستواهما في النيات والمقاصد والأهداف، لأنهم يرون أنفسهم دائما في حالة التقصير تجاه ربهم العظيم جل جلاله ويتهمون أنفسهم بالتفريط في حقه (عز وجل) وأن أعمالهم دون المستوى المطلوب دائما.
قال الرسول الأعظم الكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “لو أن رجلا جر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في طاعة الله عز وجل لحقر ذلك يوم القيامة ولود أنه يرد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب” (كنز العمال. ج15. ص788. الحديث 43120).
والدين الحنيف والعقل الحصيف يرفضان الفرح الوهمي الهزيل الذي لا يتصل بالحقيقة من قريب أو بعيد، ويتصل بالإثارة والنوازع الشريرة في النفوس المريضة التي تزرع الباطل والظلم والشر في حياة البشر.
ومن كل ما سبق نتوصل إلى بعض النتائج المهمة التي تتعلق بهذا الصنف من الناس الذين يعيشون الفرح الوهمي بأعمالهم القبيحة:
النتيجة الأولى: أن قلوب هذا الصنف من الناس قد تعلقت بالباطل وتشربت نفوسهم الشح بالظلم والجور والعدوان والقيم الباطلة.
النتيجة الثانية: أن تقييم هذا الصنف من الناس لأعمالهم هو تقييم ذاتي يقوم على أنانيتهم وعشقهم لأنفسهم المظلمة الظالمة ولمصالحهم الخاصة وليس تقييما موضوعيا يقوم على أساس الحق والعدل والخير والمصالح العامة الجوهرية والحيوية للناس.
النتيجة الثالثة: أن هذا الصنف من الناس لا يبالون بحقيقة عملهم ونتائجه الواقعية في الدنيا والآخرة.
النتيجة الرابعة: أن هذا الصنف من الناس لا يقيمون وزنا للمبادئ والمصالح العامة، فالمهم لديهم هي ذواتهم ومصالحهم وإرضاء غرورهم وطموحاتهم الذاتية المريضة والمنحرفة عن الصراط المستقيم والنهج القويم.
النتيجة الخامسة: أن هذا الصنف من الناس يقتنعون ويرضون بالمستوى الروحي والأخلاقي الذي هم عليه، ولا يسعون لتحقيق الأفضل إلى الناس. فالعامل والموظف والمسؤول منهم لا يخلص في عمله ولا يسعى لتحقيق الأفضل إلى الناس.. وكذلك المؤسسة الجمعية أو الحزب أو الحكومة، لا تخلص في عملها، ولا تسعى لتحقيق الأفضل إلى الناس.
الظاهرة الثانية: قول الله تعالى {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}.
يحبون يودون ويرغبون ويريدون.
يحمدون يثني عليهم.
أيها الأحبة الأعزاء..
هناك صنف من الناس يحبون أن يمدحهم الناس ويثنون عليهم بما هم ليسوا أهلا له من الفضائل والكرامات، فيحبون أن يمدحهم الناس ويثنون عليهم بالإيمان والسير على هدي الحق والتمسك به، وهم في الحقيقة والواقع من أهل الكفر والنفاق والتمسك بالباطل والترويج إليه. ويحبون أن يمدحهم الناس ويثنون عليهم لإخلاصهم للحق والعدل والفضيلة وحبهم للناس وحرصهم على مصالحهم ورعايتهم لها، وهم في الحقيقة والواقع من أهل الأنانية والرياء والسمعة الذين تمتلئ نفوسهم بالحقد والحسد والعداوة للناس ويعملون من أجل مصالحهم الخاصة على حساب مصالح الناس العامة الجوهرية والحيوية.
والخلاصة: هناك صنف من الناس يعانون من المرض النفسي وعلى درجة عالية من الغرور والإعجاب بالنفس، ضعفاء جبناء يقتاتون على الإدعاءات والشعارات والأقوال الفارغة والخطب الرنانة، ولا يرقون إلى شرف المبادئ والالتزام بالعقيدة، ويحبون أن يحمدهم الناس بما هم ليسوا أهلا له من الفضائل والكرامات. فيتظاهرون بالحكمة والحصافة والتعقل والأناة في أوقات الشدة ويتفاخرون بذلك ليتهربوا عن مسؤولية المواقف. ويتظاهرون بالشجاعة والجرأة والإقدام في أوقات الرخاء ليكتسبوا بغير وجه حق وعلى غير أساس صحيح شرف الموقف وهم ليسوا من أهله. وهم يضحكون في داخل أنفسهم ويتبجحون فرحين بما حققوه من الحصول على مصالحهم الخاصة التي تبحث عنها نفوسهم الشقية المريضة وإشباع غرائزهم الحيوانية وتحقيق طموحاتهم المادية والنفسية، والحصول على ثناء الناس ورضاهم عنهم وإعطائهم الامتيازات الاجتماعية والمقامات المعنوية الرفيعة، ويعتقدون خاطئين بأن هذا الانجاز يمثل قمة الحكمة والحصافة والنجاح في الحياة.
وقد ذكر علماء التفسير عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت الآية الشريفة المباركة.
كما ذكر بعض علماء التفسير حالا من أحوال أهل الكتاب ذلك بأنهم كانوا يفرحون بما أوتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ويرون لأنفسهم فيه شرفا وفضلا، ويحبون أن يحمدوا على ذلك، فيوصفون بأنهم حفاظ الكتاب وعلماؤه، وأنهم أولياء الله وأحباؤه وأنصار دينه، وأنهم أئمة هدى يقتدي بهم المؤمنون في الدين والدنيا. وهذا فرح باطل وغرور كاذب، لأن ما يشاع ويقال عنهم هو خلاف الحقيقة والأمر الواقع، وهذه رذيلة من الرذائل الكبيرة التي ينبغي أن يترفع عنها الإنسان، وأن نتائجها وخيمة على صاحبها في الدنيا والآخرة.
ومما سبق نتوصل إلى النتائج التالية التي تتعلق بهذا الصنف من الناس:
النتيجة الأولى: أن ليس لهذا الصنف من الناس أدنى اهتمام بما هو حقيقة وواقع، ولا بما هو حق وعدل وخير وصدق، ولا بالبناء والتعمير والتطوير في الحياة، وإنما ينصب كل اهتمامهم على الوصول لوسائل الإعلام والرأي العام من أجل الحصول على الثناء والمدح من الآخرين، بغض النظر عن صدق هذا المدح والثناء أو كذبه، وهل أنه قائم على أساس واقعي أو غير قائم، وهل أنهم يستحقون هذا المدح والثناء أو لا يستحقونه، فهم يسعون فقط للحصول على المدح والثناء والتطبيل والتزمير لهم من الآخرين ويرضون به ويصدقونه، وإن كانوا يعلمون بأنه كذب من الساس إلى الراس.
قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم “ويل للذين يجتلبون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من لين ألسنتهم، كلامهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى أبي يغترون؟!” (ميزان الحكمة. ج4. ص 23).
والخلاصة: أن هذا الصنف من الناس يقيم حياته كلها على الرياء والسمعة..
والرياء هو أن يتظاهر الإنسان بما ليس فيه من الخير والصلاح وبما أتفق من الأعمال التي يرضاها الناس، من أجل أن يحصل منهم على المدح والثناء والمنزلة العالية في قلوبهم.
في الدر المنثور عن ابن عباس قال كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس، فلامه الله فنزل في ذلك {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الميزان ج13. ص 406).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام “ما أقبح بالإنسان باطنا عليلا وظاهرا جميلا” (غرر الحكم).
والسمعة هي حرص الإنسان على إسماع الآخرين الكلام الطيب والجميل وما يرضونه من الكلام بما اتفق، لكي يقول فيه الناس ما لا يستحقه من المدح والثناء، ويحصل على المنزلة العالية في قلوبهم.
النتيجة الثانية: أن لدى هذا الصنف من الناس وأشباههم نفوس خبيثة وإصرار عجيب على ما هم عليه من القبائح والأعمال الشنيعة والإضرار بالحياة وبمصالح الناس الحيوية والجوهرية.
النتيجة الثالثة: أن لدى هذا الصنف من الناس الاستعداد كل الاستعداد إلى الكذب وإلى سرقة منجزات الآخرين ونسبتها إلى أنفسهم، كما يفعل الكثير من المسؤولين الكبار حيث يقومون بسرقة منجزات صغار الموظفين وإبداعاتهم ونسبتها إلى أنفسهم ظلما وعدوانا، لكي يمدحهم ويثنى عليهم الموظفون الكبار في الدولة والجهات الرسمية ويحصلوا بذلك على الامتيازات والترقيات بغير وجه حق وعلى حساب صغار الموظفين والمصالح العامة لجميع الناس. وكما يفعل الحكام والملوك في الدول المستبدة، حيث يقوم الإعلام التابع لهم بنسبة منجزات الشعوب إليهم، ويرضون هم بذلك ويسعون إليه.
النتيجة الرابعة: أن لدى هذه الصنف من الناس الاستعداد كل الاستعداد للعمل على تغيير الحقائق وقلبها وتزييفها، فيوصف الاستبداد مثلا بالديمقراطية، والظلم والجور بالعدل والإنصاف، والتقصير بالإخلاص والتفاني، والتخلف بالتقدم.. الخ.
وتترتب على ظاهرتي التكاذب النتائج التالية:
النتيجة الأولى: تحكم الأنا والمصالح الخاصة في السلوك والمواقف والانتماءات والعلاقات الاجتماعية والسياسية.
النتيجة الثانية: فساد الأخلاق لدى عامة الناس وتحكم الأخلاق السيئة والقبيحة في المعاملة مع الآخرين في الحياة العامة.
النتيجة الثالثة: التنكر للدين والمبادئ والأخلاق.
النتيجة الرابعة: سيادة الضعف والتخلف والفساد والظلم والاستبداد والدكتاتورية في المجتمع والدولة.
المحور الثالث: عدم جدوى التكاذب
قول الله تعالى {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ}.
لا تحسبنهم لا تظننهم.
بمفازة أسم مكان الفوز والنجاة.
أي لا تظنن المتكاذبين بأنهم فائزون وناجون من العذاب، فهم في الحقيقة والواقع خاسرون في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولن يفيدهم التكاذب، ولن تفيدهم كل أعمال التكاذب بشيء، فلن تتحقق لهم السعادة الحقيقة والطمأنينة القلبية، ولن يشعروا براحة النفس والضمير وبالكرامة الإنسانية في داخل أنفسهم، ولن يشعروا بقيمة الاستحقاقات التي يحصلون عليها، لأنهم يعلمون في قرار أنفسهم بأنهم لا يستحقونها وأن غيرهم أحق بها منها وأنهم إنما استحوذوا عليها بالظلم والعدوان. فالناس يحتقرونهم في داخل أنفسهم كما يحتقرون هم أنفسهم ـ إلا ما ندر من الناس المخدوعين بحق وحقيقة ـ وأن الناس لا يثمنوهم بشيء رغم ما يقولونه فيهم من المدح والثناء، وأن لدى الناس كل الاستعداد للتخلي عنهم والانقلاب عليهم مع أول فرصة تتاح إليهم، لأنهم يعتقدون بظلمهم وأنهم غير مؤمنين بما قالوه فيهم. وهذا يدل على فساد آرائهم وسوء تقديرهم فما يحصل عليه هؤلاء الأشقياء المخادعون لأنفسهم إنما هو فرح وهمي ظاهر ليس له حقيقة ولا قيمة فعلية، وليس من شأنه أن يمنحهم السعادة الحقيقية الخالدة، بل يمنحهم الشقاء الحقيقي على صعيد النتائج الفعلية لأعمالهم في الدنيا والآخرة. فهم إنما يخدعون أنفسهم بهذا الفرح الوهمي البائس، ويصورون لأنفسهم الحقائق على عكس صورتها الفعلية القائمة على أرض الحقائق والواقع، وإنهم سوف يتضررون من عملية التكاذب كما تضرر الآخرون منها، ولن ينفعهم التكاذب بشيء، وسوف يصيبهم الخزي والعار في الحياة الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.
والخلاصة: أن الكذب لا يمكن أن يحل محل الصدق في الحياة، ولا يمكن أن تكون نتائج الكذب كنتائج الصدق في الدارين الدنيا والآخرة، وهذا يدل على أمور عديدة.. منها:
الأمر الأول: أن التكاذب لا يغني شيئا ولا يمكن أن يحل محل الصدق.
الأمر الثاني: أن التكاذب يشكل خطرا جديا على الإنسان على المستويين الفردي والاجتماعي.
الأمر الثالث: أن الإنسان المؤمن يجب عليه أن يلتزم بالصدق في جميع شؤون الحياة ويتجنب الكذب والتكاذب ويحذر منهما أشد الحذر، وعليه أن يثق بالله تبارك وتعالى ويستغني بما يزقه من الرزق الحلال الطيب والمكانة الإيمانية المرموقة عن كل هذه المنكرات والسيئات، فهو وحده المعطي والمانع والمعز والمذل ولا يغني عنه أي شيء في الوجود. وقد أكدت النصوص الكثيرة من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة عن أهل العصمة عليهم السلام بأن الإنسان المؤمن يحصل على الذكر الحسن والثناء الجميل بين الناس وفي الملأ الأعلى على مقدار إخلاصه لله عز وجل وصدقه مع الناس.
المحور الرابع: التهديد بالعذاب
قول الله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
بعد أن بين الله تبارك وتعالى في الفقرة السابقة عدم جدوى التكاذب، وبين نتائجه السلبية في الحياة على المستويين الفردي والجماعي، أكد في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة، أن مصير من يقيم حياته على أساس التكاذب إلى العذاب الأليم في يوم القيامة، وهو عذاب شديد لا نهاية له، وهذا يعني أن علينا أن نميز بين صنفين من الناس المخطئين:
الصنف الأول: الذي يخطأ ثم يتراجع عن الخطأ ويندم بعد اكتشافه الخطأ والقبح في أفعاله، وهذا الصنف مكتوبة له النجاة إن شاء الله تبارك وتعالى وبكرمه عز وجل.
الصنف الثاني: الذي يخطأ ويصر على الخطأ ويسعى مع ذلك للحصول على ثقة الناس ومدحهم له وثنائهم عليه لخبثه من خلال المكر والخداع ويتبجح بذلك وينظر إليه على أنه ذكاء وكياسة وحكمة ونجاح في الحياة، وهذا الصنف مغرور ومكتوب له الشقاء في الدنيا والآخرة. فإنه إن نجح في كسب ثقة الناس ونجا من عدم مؤاخذتهم له في الدنيا، فإن ذلك إلى حين ثم ينكشف ويفتضح أمره بين الناس ويصيبه لذلك الخزي والعار وغضب الناس، ثم يصيبهم في الآخرة العذاب الشديد والشقاء الدائم.
وهذا يدل على أمور عديدة تتعلق بالصنف الثاني الشقي من الناس:
الأمر الأول: خبث نفوس هذا الصنف من الناس وقبح ما يصدر عنهم من أعمال.
الأمر الثاني: تعلق قلوب هذا الصنف من الناس بالباطل وفساد آرائهم، فهم في عداوة مع الحق ورفض دائم لقضاياه.
الأمر الثالث: سوء تقدير هذا الصنف من الناس للأمور، فإنهم أعطوا كل اهتمامهم للحياة الدنيا الفانية ونسوا الله جل جلاله والآخرة الباقية.
الأمر الرابع: أن هذا الصنف من الناس مخذول من الله (جل جلاله) فقد أوكلهم إلى أنفسهم وأمهلهم وأملى لهم في الحياة الدنيا لشديد خبث أنفسهم وتمكن الرجس من قلوبهم ليزدادوا إثما، ثم يأخذهم في الآخرة أخذ عزيز منتقم جبار.
والخلاصة الخاتمة: أن الإنسان المؤمن وكل عاقل شريف، يجب عليه أن ينأ بنفسه عن هذا الصنف الشقي من الناس، وأن يحذر من الوقوع فريسة في حبائل خدعهم ومكرهم السيئ، وأن يحذر من المضي قدما على منهجهم في الحياة أو يأخذ بشيء منه، فليس وراؤه إلا الشقاء والخزي والعار في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته