الوسط : ورحلت المربية… فيض العطاء

loc-344

المنامة – محمد حميد السلمان

كُتب في أول ورقة في سجلها الإداري الوظيفي بوزارة التربية والتعليم (لقد تم تعيين الآنسة رباب علي أحمد معلمة في مدرسة أم أيمن، وعليها الالتحاق بمركز عملها يوم الثلثاء تاريخ أول أكتوبر/ تشرين الأول للعام 1968م). ومنذ ذلك التاريخ أخذت رقماً في التسلسل الوظيفي 16177، ورقماً في ملفات وزارة التربية والتعليم ر/ 56، وقد سُجل راتبها عند التعيين بمبلغ (55 ديناراً فقط). كما سجل لها الزمن، قصة نجاح نسائية بحرينية بامتياز لمربية فاضلة، اصطبغت بالطموح العالي، والإصرار والمثابرة على بلوغ أعلى الدرجات العلمية والعملية.

لم يكن يخطر ببال المعلمة رباب علي أحمد عيسى، بأنها ذات يوم ستكون ضمن أوائل المجموعات التي تبدأ بالانضمام إلى مشروع وزارة التربية والتعليم الحيوي آنذاك وهو نظام (معلم الفصل)، الذي نُفذ في الثمانينيات من القرن العشرين، لتصبح من أهم عناصر هذا النظام التربوي.


البداية

عاشت بعد ولادتها العام 1948، عام النكبة الكبرى، في كنف والدتها، نعيمة عبدالله، بعد وفاة والدها وهي في سنواتها الأولى من العمر. تلك الأم التي كابدت الحياة بشتى ظروفها الاقتصادية المضنية في بحرين الخمسينيات، من أجل تربية أبنائها الذين تركهم لها الزمن، ولدين وثلاث بنات، صامدة لوحدها، محتسبة ومتوكلة على ربها، يموج بها ذاك الخضم المتغير سريعاً في تلك السنوات من الحراك الوطني في البحرين، وتشتت الناس بين القلق على الحاضر، والترقب للمستقبل في ظل سلطة الحماية البريطانية.

وبالرغم من أن رباب، كانت تخطو في الخامسة من عمرها يوم قامت الثورة المصرية القومية بقيادة جمال عبدالناصر العام 1952؛ إلا أنها لم تكن تتصور بأن يترسّخ حب هذا الزعيم العربي، في نفسها ولاحقاً مع سن الشباب، في تفكيرها ومبادئها الوطنية، حتى غدت من القوميين العرب والمؤيدين بشدة للثورة المصرية حينها وللحراك الثوري في الوطن العربي، بل وكانت من البحرينيين الذين لا يفارقون جهاز المذياع الموجود في منزلهم المتواضع جداً بحي «المخارقة» وسط المنامة العاصمة. وهذا ما جعل شعورها وكيانها ينغمس في الحراك الوطني المحلي كذلك في ستينيات القرن العشرين، وتكون أحد الفاعلين فيه والمطالبين باستقلال البلاد من نير سلطة الحماية البريطانية في الخليج. وبقدر حزنها العميق جداً لرحيل عبدالناصر العام 1970، مثلها وقدوتها في القيادة العربية الحقيقية آنذاك؛ بقدر فرحها بإعلان استقلال البحرين العام 1971م.

تخرجت المعلمة رباب علي، من الثانوية العامة (قسم المعلمات) في العام الدراسي 1967-1968، هذا القسم الذي أُدخل إلى نظام التعليم في البحرين في العام 1954م ضمن المرحلة الثانوية.


على طريق الطموح

لم يكن طموحها ليقف عند حدود ما حصلت عليه من مستوى التعليم البسيط الذي ختمت به شهادة الثانوية العامة؛ بل بعد أربع سنوات فقط من توظيفها، بدأت العام 1972 في الانضمام لجامعة بيروت العربية في لبنان، قسم الجغرافيا، للحصول على شهادة الليسانس في الآداب. وسرعان ما سافرت في يونيو/ حزيران من نفس العام لتقديم امتحان السنة الأولى بإذن خاص من مديرة تعليم البنات في تلك الفترة. وعندما لم تسنح ظروفها الموضوعية والذاتية لمواصلة تلك الدراسة خارج البحرين؛ أصرت على مواصلتها داخل البلاد فالتحقت بمشروع التأهيل التربوي للمعلمين التابع لوزارة التربية والتعليم العام 1975، وحصلت منه بعد سنتين على شهادة تخصصية معترف بها في اللغة العربية والاجتماعيات. كما دفعها الطموح من ناحية أخرى للحصول على رخصة سياقة السيارة في أكتوبر من نفس العام 1975م.

إلا أن الطموح الأكبر لديها بقي يعتمل في كيانها، وتتشوق للحصول على الدرجة الجامعية، فكان قرار وزير التربية والتعليم السابق د. علي فخرو العام 1982 بإبداع مشروع تأهيل الكوادر التعليمية البحرينية لتولي المهام التربوية في المدارس؛ فرصتها الكبرى لبلوغ هذا الهدف. فتم تفريغها بين أعوام 1982-1986، من قبل وزارة التربية والتعليم للدراسة في جامعة البحرين لنيل شهادة البكالوريوس تخصص (معلم فصل)، وكان لها ذلك بتفوق كبير أيضاً العام 1986.

وعادت لمدرستها (أم أيمن)، بعد الانتهاء من دراستها الجامعية، لتتسلم وظيفتها كمدرسة لنظام معلم الفصل بتاريخ 16-9-1986. وبسبب تميزها في عملها وعلمها، صدر قرار من وزير التربية والتعليم في العام الدراسي 1990-1991، بتحويلها لوظيفة موجهة في إدارة المناهج. ثم عُينت العام 1991 كمديرة مساعدة في مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات. ومع ذلك لم يتوقف الحنين المتدفق للدراسة من جديد في قلب هذه المرأة، فحصلت على دبلوم في الإدارة المدرسية من جامعة البحرين العام 1993. وسريعاً غدت بين عامي 1994-1995، قائمة بأعمال مديرة بنفس المدرسة. حتى تم تثبيتها العام 1995 كمديرة لمدرسة النويدرات الابتدائية للبنات.


loc-33-1

شعارها التعاون يُنتج الأفضل دائماً

طوال حياتها العملية، والعلمية، والاجتماعية، كانت مثالاً للتعاون في كافة المجالات الإدارية، والتربوية، والثقافية، مع زملائها وزميلاتها من المدرسين أو من مدراء مدارس وزارة التربية والتعليم، في إقامة ورشة عمل تدريبية متنوعة، سواء بمدرستها أو للمدارس الأخرى، ومشاركتها الاتحاد النسائي البحريني في العديد من فعالياته، والجمعية الأهلية لدعم التعليم والتدريب العام 2008، ونادي العكر الثقافي والرياضي، وصندوق العكر الخيري للعام 2006، وبرامج بيئية مع شركة الخليج لصناعة البتروكيماويات العام 2004، ومع جمعيات الأيتام داخل وخارج البحرين، وغيرها. ولذا يجد المتصفح لملفها الإداري بوزارة التربية والتعليم العديد من رسائل الشكر والتقدير والثناء على مثل هذا التعاون، سواء في ملف التقرير السري، أو تقارير التفتيش الفني، وغيرها، الصادرة من وزارة التربية منذ تعيينها العام 1968، أو تقارير الأداء الوظيفي التي أعدها ديوان الخدمة المدنية تباعاً؛ في معظم التقارير السنوية لها، وخصوصاً في السنوات العشر الأخيرة قبل تقاعدها، لا تغادر خانة الامتياز في العناصر التالية (الإلمام بالعمل – كمية العمل – نوعية العمل – المواظبة والحضور – السلوك الوظيفي – تحمل المسئولية – الفعالية الإدارية والقيادية – تدريب وتطوير المرؤوسين). وقد تلقت طوال فترة عملها التربوي تكريماً من جميع وزراء التربية والتعليم الذين عاصرتهم مثل، علي فخرو، عبدالعزيز الفاضل، محمد الغتم، ماجد النعيمي، خاصة في اليوم العالمي للمعلم، لعملها وإنجازاتها التربوية، والعلمية، والإدارية. وبشهادة العديد ممن عملن معها من المدرسات والإداريات، فقد كانت دائماً تشجع الأفكار التربوية، والعلمية، والفنية، والإدارية، التي تتقدم بها معلماتها خلال العام الدراسي.

ألم نقل منذ البداية، بأنها حكاية طموح نسائية بامتياز لامرأة بحرينية عاشت بتواضع جم ومن أجل الآخرين عملت تربوياً، واجتماعياً، وتطوعاً لخدمة المجتمع، بوطنية عالية، ورحلت في مساء جمعة ليوم الثامن من شهر يناير/ كانون الثاني 2016 بعد أن قضت فروض صلاة العشائين… وتركت ذكرى عظيمة وإن كانت محزنة في قلوب الكثيرين من أبناء هذه الأرض الطيبة المعطاء، ومازالت كلمات إحدى تلميذاتها الوفيات تتردد في الفضاء الرحب: رحلت المعلمة رباب… معين الإنسانية الذي لم ينضُب قط.

loc-33-2

loc-33-3

العدد 4913 – الجمعة 19 فبراير 2016م الموافق 11 جمادى الأولى 1437هـ

شارك برأيك: