بر الوالدين للأستاذ عبد الوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين

قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23 24).

معاني المفردات:
قضى: أمر وأوجب.
الإحسان: ضد الإساءة.
أف: لفظ يدل على التضجر والاستثقال.
لا تنهرهما: لا تزجرهما بالصياح ورفع الصوت، ولا تغلظ عليهما في القول.
جناح الذل: كناية عن الرعاية والعناية والتواضع.


تتضمن الآيتان نقاط أساسية عديدة.. منها:

النقطة الأولى: النهي عن الشرك بالله سبحانه وتعالى:
قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} أي أمر بالإخلاص له في العبادة، والتمرد على كل الإرادات الشيطانية التي تسعى لأخذ الإنسان بعيدا عن طاعته جل جلاله إلى طاعة غيره. وهذا التشريع هو في الحقيقة تقرير لما يحكم به العقل السليم، وليس مصادرة لحكمه أو إلغاء لدوره.. كما قد يفهم البعض خطأ.

ويعتبر الإخلاص لله عز وجل في العبادة أعظم الواجبات وألزمها عقلا وشرعا، والشرك به أكبر الكبائر وأقبحها، ويعتبر الشرك بالله عز وجل افتراء عظيم ليس له أساس صحيح لدى العقلاء على الإطلاق، وإليه تعود جميع المعاصي والجرائم بحق النفس والمجتمع والإنسانية.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: 48).

والعبادة تعني الطاعة وليس مجرد الصلاة والصيام والحج.

قال الإمام الصادق عليه السلام: “ليس العبادة هي السجود ولا الركوع إنما هي طاعة الرجال، من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده“. (البحار. ج72. ص 94).

وقال عليه السلام: “من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس“. (البحار. ج72. ص264).

وقال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “من أتى ذا بدعة فوقره فقد سعى في هدم الإسلام” (البحار. ج 72. ص 265).

والإخلاص لله جل جلاله في العبادة يتطلب نفي وإثبات كما تنص الآية الشريفة المباركة على ذلك.

أما النفي فيعني: عدم طاعة غير الله جل جلاله {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} سواء كان الغير هوى النفس وشهواتها، أم الشياطين، أم الطواغيت، فطاعتهم شرك بالله جل جلاله ونقيض الإخلاص له في العبادة.

وأما الإثبات فيعني: التقيد والالتزام بالطاعة المطلقة لله جل جلاله وحده لا شريك له {إِلاَّ إِيَّاهُ} في كل أوامره ونواهيه، وعدم مخالفته في أي أمر أو نهي.

ويعتبر النفي والإثبات ركني الإخلاص لله عز وجل في العبادة.. إذ بدونهما: لا يتحقق الإخلاص.

قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256).

وهذا يؤسس إلى أصل الولاية والبراءة: فلا تتحصل الولاية الحقيقية الناصعة لله عز وجل إلا بطاعته وطاعة أوليائه الصالحين الذين فرض طاعتهم على عباده، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وبالبراءة من أعدائهم وعلى رأس القائمة الطواغيت، وهم كل من جعل لنفسه سلطة أو طاعة على الناس لم يأمر الله جل جلاله بها.


النقطة الثانية: الأمر بالإحسان إلى الوالدين:
لقد أوجب الله تبارك وتعالى على عباده البر بالوالدين والإحسان إليهما إحسانا كاملا يكافئ ما يقدمانه للأولاد، وجعل ذلك من أفضل القربات إلى الله عز وجل وقد جاء مقرونا بفرض الإخلاص في العبادة، مما يدل على أهميته في الرؤية الروحية والأخلاقية الإسلامية.

في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قالسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الأعمال أحب؟
قال: “الصلاة على وقتها
قال: ثم أي؟
قال: “بر الوالدين
قال: ثم أي؟
قال: “الجهاد في سبيل الله” (البخاري. ج8. ص2) ومثله عن الإمام الصادق عليه السلام (البحار. ج74. ص 45).

ويلاحظ هنا: أن الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر: أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي عمود الدين، وقدمه على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى لأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين أقوى من فرض الكفاية.. بحسب فهم عدد من الفقهاء والمفسرين، وتؤيده سيرة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي رخص لعدد من الشباب عدم الخروج في الجهاد من أجل الشفقة بالوالدين والقيام على خدمتهما.

يقول الإمام الصادق عليه السلام:
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله: إني راغب في الجهاد نشيط..
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فجاهد في سبيل الله، فإنك إن تقتل تكن حيا عند الله ترزق، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت رجعت إلى من الذنوب كما ولدت..
قال: يا رسول الله: إن لي والدان كبيران يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي ؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فقر مع والديك، فوالذي نفسي بيده، لأنسهما بك يوما وليلة، خير من جهاد سنة” (البحار. ج74. ص52).

وهذا بالطبع: إذا لم يكن الجهاد واجبا عينيا، وإذا توفر العدد الكافي من المتطوعين له، وإلا لم تجب طاعتهما بالتخلف عن الجهاد. (الأمثل. ج8. ص399. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. ج10. ص240).

وقد نهى الله جل جلاله عن عقوق الوالدين وشدد في ذلك غاية التشديد.

قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، ولا يجدها عاق” (البحار. ج74. ص 62).

ويبقى الإحسان إلى الوالدين قائما حتى وإن كانا مشركين، ولكن ليس للولد أن يطيع الأبوين ولا غيرهما في شرك أو معصيةفإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق“. (البحار. ج74. ص71).

قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8).

وقال الله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15).

أيها الأحبة الأعزاء..
لقد جاء الأمر من الله جل جلاله ببر الوالدين والإحسان إليهما في صورة القضاء {وَقَضَى رَبُّكَ} وهو يحمل معنى الأمر المؤكد مقرونا بالأمر المؤكد بالإخلاص له سبحانه وتعالى في العبادة، وهذا يدل بلا أدنى شك على أهمية الإحسان إلى الوالدين، إلا أن الله عز وجل لم يجعل للوالدين طاعة في قبال طاعته جل جلاله.

وللأمر بالإحسان إلى الوالدين في الآية الشريفة المباركة وعدم الأمر بطاعتهما بصورة مستقلة عن طاعة الله عز وجل دلالات عديدة.. منها:
الدلالة الأولى: التأكيد على الفضل العظيم للوالدين على الأولاد:
فهما السبب المباشر لوجودهم في الحياة، والقائمان بإخلاص على رعايتهم، حتى أنهما يضحيان بكل شيء حتى بالنفس في سبيلهم.. فليس لأحد بعد الله جل جلاله فضل على الأولاد أكثر من فضل الوالدين.

ولإظهار عظيم منزلتهما ومدى أهميتها في التشريع الإسلامي المقدس ونظامه الأخلاقي والاجتماعي، فقد ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد ذكر التوحيد في مواضع عديدة في القرآن الكريم.. منها:

قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} (البقرة: 83).

وقول الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (النساء: 36).

وقول الله تعالى: {قلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(الأنعام: 151).

الدلالة الثانية: أن عبادة الله ذي الجلال والإكرام تقوم على أساس واقعي عيني صحيح:
فهو الخالق، وهو الرازق، وهو الضار، وهو النافع، وهو المحيي، وهو المميت.. وحده لا شريك له. ولا يوجد أي أساس صحيح لعبادة غيره. فلا أحد يمتلك القدرة على النفع أو الضرر غيره، وكل خير يصل إلى الإنسان فهو في الحقيقة والواقع من الله جل جلاله فهو الذي خلق الوالدين، وهو الذي يرزقهما ويمدهما بأسباب القوة والحركة، وهو الذي يملأ قلبيهما بالحب والعطف على الأولاد. فلفضلهما المباشر على الأولاد أمر الله جل جلاله بالإحسان إليهما، ولكنه لم يأمر بطاعتهما في مقابل طاعته جل جلاله لأنه لا يوجد أي أساس عيني صحيح لطاعتهما في مقابل طاعة الله عز وجل ولأن ذلك يقطع الطريق على الإنسان إلى الله ذي الجلال والإكرام ويؤدي إلى الفساد في النفس والمجتمع. فإذا أمر الوالدان الولد بأشياء غير شرعية أو غير منطقية، فلا تجب طاعتهما، ولكن ينبغي التعامل معهما برحمة وهدوء واحترام. (الأمثل. ج8. ص 400).

يقول العلامة السيد فضل الله: “فإن الطاعة التي يريدها الإسلام في طاعة الولد للوالدين، هي طاعة الإحسان والشفقة وليست طاعة المسؤولية من خلال طبيعة المضمون الذي تحتويه أوامرهما ونواهيهما، كما هو الحال في طاعة الله والرسول وأولي الأمر. فلو أمراه بما هو على خلاف المصلحة في دينه أو دنياه، أو بما فيه المفسدة في ذلك، فلا يجب عليه إطاعتهما، ولكن لا بد من أن يواجه الموقف بكثير من المرونة في الجو والأسلوب عند إرادة المعصية” (من وحي القرآن. ج14. ص85).

فإذا كان هذا هو الحال في الطاعة مع الوالدين مع عظيم فضلهما: فإنه لا يوجد ذو نعمة على الإنسان يستحق منه الطاعة المستقلة والعبادة غير الله سبحانه وتعالى.

قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الأنعام: 102).

وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (العنكبوت: 17).

وينبغي التأكيد على هذا في مواجهة دعوات الطواغيت والمستكبرين الذين يسلبون أقوات الناس وأرزاقهم ويفرضون إرادتهم عليهم بغير وجه حق، ويطالبونهم بتقديم رسوم الطاعة والولاء لهم، متبجحين عليهم بما يتركونه إليهم من فتات. وليعلم الطواغيت والمستكبرون منا أن الدنيا كلها لا تساوي عندنا شيا في مقابل طاعة الله جل جلاله وحسن ثوابه، فلو أعطينا الدنيا كلها في مقابل طاعة الله لرفضناها، فكيف يطالبوننا بتقديم رسوم الطاعة والولاء لهم في مقابل طاعة الله سبحانه وتعالى وهم ينهبوننا أرزاقنا وأقوات أبنائنا ويرمون إلينا بالفتات ويعدونه تفضلا وكرما ؟! هيهات.. هيهات.

الدلالة الثالثة: وجوب الإحسان إلى كل ذي فضل:
فمن لا يشكر المخلق، لن يشكر الخالق عز وجل وهذه قاعدة أخلاقية عظيمة تؤسس لصلاح الأفراد والمجتمع.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “حق على من أنعم عليه أن يحسن مكافأة المنعم، فإن قصر عن ذلك وسعه فعليه أن يحسن الثناء، فإن كل عن ذلك لسانه فعليه معرفة النعمة، ومحبة المنعم بها، فإن قصر عن ذلك فليس للنعمة بأهل” (البحار. ج71. ص50).

وقال الإمام الرضا عليه السلام: “من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل” (البحار. ج71. ص44).

وقال الإمام الباقر عليه السلام: “أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه ويكافيك بالإحسان إليه إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر فمن أمرك الوفاء له ومن أمره الغدر بك، ورجل يصل قرابته ويقطعونه“. (البحار. 75. ص42).

وقال الإمام الصادق عليه السلام: “لعن الله قاطعي سبيل المعروف، وهو الرجل يصنع إليه المعروف فتكفره، فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره“. (البحار. ج75. ص43)

والإحسان إلى الوالدين يقوم على هذا الأساس الأخلاقي المتين، ولهذا فقد رفع الله جل جلاله شكر الوالدين إلى منزلة شكره سبحانه وتعالى.

قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان: 14).

وقال الإمام الرضا عليه السلام: “إن الله عز وجل أمر بثلاث مقرون بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلى ولم يزك لم تقبل منه صلاته، وأمر بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله، وأمر باتقاء الله وصلة الرحم، فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عز وجل” (البحار. ج74. ص68).

وسوف يأتي المزيد من التفصيل حول علاقة هذا التأسيس لبر الوالدين بصلاح الفرد والمجتمع في نهاية الحديث إن شاء الله تبارك وتعالى.


النقطة الثالثة: بيان بعض جوانب الإحسان ومصاديقه:
قول الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.

هنا إشارة إلى وضع خاص {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} وبعض مصاديق الإحسان. والإشارة إلى وضع الكبر، لا يخصص الإحسان إلى الوالدين بهذه المرحلة العمرية، وإنما ميزاتها هي التي اقتضت التنصيص، لكي يأخذها الأولاد بعين الاعتبار، ويتمكنوا من حفظ واجب الإحسان إلى الأبوين في جميع الأحوال على أكمل وأحسن وجه، وذلك لأهمية الإحسان إلى الوالدين في الشريعة الإسلامية، ومكانته في نظامها القيمي العظيم، وصلته بصلاح الأفراد والمجتمعات وأمنهما وسلامتهما وتطورهما.

فالكبر (سن الشيخوخة): أشق مراحل العمر، وملازم للضعف والعجز عن العمل والقيام بواجبات الحياة، وفيه يختل المزاج، ويضيق الصدر، ويسوء الخلق، وتبرز فيه الحاجة إلى المعين والناصر الذي يتغاضى عن العيب والسلبيات، ويساعد عن دافع ذاتي وطيب خاطر.

قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم: 54).

وهذا محل ابتلاء وامتحان إلى الأبناء: فهل يعتبرون وجود الأبوين في هذه الحالة دليل رحمة وفرصة إلى رد الجميل وتحصيل رضا الرب عز وجل وثوابه؟ أما أنهم يحسبون ذلك مصيبة حلت على رؤوسهم ويسيؤون إليهم او يوجهون إليهما الإهانات ويتمنون موتهما؟

أيها الأحبة الأعزاء..
إن الأبوين حين يقومان بحضانة الأولاد وتربيتهم ويغدقون عليهم بالحب والحنان في الصغر، ويقدمان لهم لوازم الحياة وواجباتها حتى يستطيعون الوقوف على أقدامهم والاعتماد على أنفسهم، فإنهم يأملون منهم إعانتهما وتقديم لوازم الحياة وواجباتها لهما حين يكونان عاجزين عن ذلك. فإذا أخل الأبناء بهذا الواجب الشرعي والأخلاقي، فإنهم يكونون قد خالفوا الدين والأخلاق، ولم يكونوا مستحقين إلى أي شيء من الاحترام والتقدير من رب العباد ومن الناس، وعليك أن تصنفهم في أي جنس من الأنعام أو الشياطين.

أما المصاديق.. فهي:
أولا
: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} وهي تشير إلى مرتبتين من مراتب الأدب مع الوالدين.. وهما:
المرتبة الأولى (السلب):
لا تزجرهما بالصوت الشديد القاسي، ولا تأذيهما وتسيء إليهما بأية كلمة حتى وإن كانت بسيطة بمثل كلمةأفلما قد تستقذره أولا ترتاح له أو لا يعجبك منهما.. أي: لا يصدر عنك ما يدل على الإهانة وسوء الأدب إليهما.

قال الإمام الصادق عليه السلام: “أدنى العقوق أف، ولو علم الله عز وجل شيئا أهون منه لنهى عنه” (البحار. ج74. ص59).

المرتبة الثانية (الإيجاب):
ليكن قولك لهما لينا ولطيفا، وفعلك معهما جميلا، وهو كل قول وكل فعل يقتضيه الحب والاحترام وحسن الأدب والمروءة والحياء منهما، ويحفظ لهما كرامتهما وعزتهما.

ثانيا: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.

ألن جانبك وتواضع وأخضع لهما، وأشفق واعطف عليهما، وأحسن رعايتهما وتدبير أمرهما رحمة بهما وإعزازا لهما، ولا تستثقل من مؤمنتهما أبدا.

يقول العلامة السيد فضل الله: “لا يريد الله للولد أن يستثير حس الكرامة في نفسه تجاه أبويه كما يستثيره تجاه الآخرين، بل لابد له من أن يشعر بالذل الناشئ من الشعور بالرحمة لهما، لا من الشعور بالانسحاق الذاتي والانحطاط الروحي، كما يخضع الإنسان لمن يحبه حبا له ورحمة به، فيتحمل منه ما لا يتحمله من غيره، ويتنازل له عما لا يتنازل عنه للآخرين، ويعيش العفو والتسامح معه إذا أخطأ. إنها الروح الإنسانية التي تنفتح على مواقع الرحمة، فتهفو وترق وتلين وتنساب بالخير والمحبة والتسامح، وتعرف كيف تميز بين مشاعر الرحمة ومشاعر الذل أمام الآخرين، فتواجه الذين أحسنوا إليها واحتضنوها بالمحبة والرحمة بالشعور الطاهر الخير نفسه، لتستمر حركة الإنسانية نحو العطاء، من خلال مواجهتها بالاعتراف الحي بالجميل بالمشاعر التي تحفظ لها كل ما عملته من الخير” (من وحي القرآن. ج14. ص 84).

أيها الأحبة العزاء..
أريد أن أذكر بأن بعضنا قد يحصل على منزلة علمية أو سياسية أو اجتماعية عالية، فيكون وزيرا أو بروفسورا أو رمزا أو وجيها في المجتمع، ويكون والداه أميين لا يعرفان القراءة والكتابة وبسيطين جدا في حياتهما، فيرى بأن منزلته أكبر منهما ويتكبر عليهما، وربما يرى أن عليهما أن يقدما له مراسم الاحترام والتقدير والتبجيل.. فحذاري.. حذاري: إن من يفعل ذلك، يكون فقيرا في دينه وإنسانيته وأخلاقه، وصغيرا عند الله جل جلاله وبعيدا عن جنته ورضاه. أبعدنا الله جميعا برحمته عن هذا السلوك المشين.


النقطة الرابعة: بيان الأساس الذي يقوم عليه الإحسان:
قول الله تعالى {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة يأمر الله جل جلاله الأولاد بالدعاء إلى الأبوين بالرحمة، ومن الواضح أن ذلك لا ينافي كفرهما، فمن جملة الدعاء لهما بالرحمة، الدعاء لهما بالهداية، وحسن العاقبة، والدرجة الرفيعة في الجنة، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام. أما الاستغفار للأبوين المشركين فممنوع.. وذلك لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ}(التوبة: 113 114).

يقول العلامة الطباطبائي: “أنه تعالى لما ذكر في الآية الثانية التي تبين سبب استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا أنه تبرأ منه بعد ذلك لما تبين له أنه عدو لله، فدل ذلك على أن تبين كون المشركين أصحاب الجحيم إنما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازما لكونهم أعداء لله، فإذا تبين للنبي والذين آمنوا أن المشركين أعداء لله، كشف ذلك لهم عن حكم ضروري وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغوا لا يترتب عليه أثر، وخضوع الإيمان مانع أن يلغوا العبد مع ساحة الكبرياء” (الميزان. ج11. ص397).

أيها الأحبة الأعزاء..
إن الأمر الرباني للأولاد بالدعاء للوالدين بالرحمة يقوم كما يفهم من الآية الشريفة المباركة على أساس رحمة الوالدين بالأبناء، وتربيتهما لهم في الصغر، وما يقدمانه لهم من تضحيات مادية ومعنوية. ولهذا الأمر الرباني العظيم، دلالات رحمانية عظيمة.. منها:

الدلالة الأولى: تقرير القاعدة الأخلاقية التي تنص على مقابلة الإحسان بالإحسان:

قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60).

وقد سبق الحديث عن هذه القاعدة قبل قليل تحت عنوان (عرفان الجميل) وذكرت أن التأسيس لبر الوالدين على هذه القاعدة، هو من الأسس الذي يقوم عليها تماسك الأسرة وأمنها وصلاحها وتطورها، وكذلك تماسك المجتمع وأمنه وصلاحه وتطوره وازدهاره. فالأبوان حينما يطمئنا إلى رعاية الأبناء لهما في حال الكبر والعجز، فإنهما يشعران بالراحة والطمأنينة، ويندفعان بحماس شديد إلى الإغداق على الأبناء ورعايتهما على أحسن وأكمل وجه، ويسود الأسرة جو من الرحمة والحب والأمان والاستقرار والقوة والتماسك، مما يساعدها على القيام بدورها على أحسن وأكمل وجه. كما أن أوضاع المجتمع تكون بنفس الإيجابية إذا سادت أبنائه هذه القاعدة الأخلاقية العظيمة، مما يساعده أيضا على القيام بدوره على أحسن وأكمل وجه.. بالإضافة إلى الانعكاس الإيجابي في هذه الحالة لأوضاع الأسرة على أوضاع المجتمع ككل.

يقول العلامة السيد الطباطبائي: “أن رابطة العاطفة المتوسطة بين الأب والأم من جانب والولد من جانب آخر، من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنساني على ساقيه، وهي الوسيلة الطبيعية التي تمسك الزوجين على حال الاجتماع. فمن الواجب بالنظر إلى هذه السنة الاجتماعية الفطرية، أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما والإحسان إليهما، ولو لم يجر هذا الحكم وهجره المجتمع الإنساني، بطلت العاطفة والرابطة للأولاد بالأبوين، وأنحل عقد الاجتماع” (الميزان. ج15. ص80).

هذا بالإضافة إلى الآثار المعنوية.

قال الإمام الصادق عليه السلام: “من أحب أن يخفف الله عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولا، وبوالديه بارا، فإذا كان كذلك، هون الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبدا” (البحار. ج74. ص66).

الدلالة الثانية: تكشف الآية الشريفة المباركة عن أمرين أساسيين.. وهما:
الأمر الأول: عجز الأبناء في جميع الأحوال عن مكافأة الوالدين وأداء حقهما بالكامل:
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء لوالديه: “أين إذا يا إلهي طول شغلهما بتربيتي؟! وأين شدة تعبهما في حراستي؟! وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة علي؟! هيهات ما يستوفيان مني حقهما، ولا أدرك ما يجب علي لهما، ولا أنا بقاض وظيفة خدمتهما” (الصحيفة السجادية).

الأمر الثاني: أن القادر على مكافأة الوالدين هو الله تبارك وتعالى وحده:
ولهذا أمر الأولاد بالتوجه إليه بالدعاء لمكافأتهما وجزائهما على ما بذلا إليه من جهد وعاطفة، ليس في الدنيا فحسب، وإنما في الدنيا والآخرة التي هي دار القرار.

يقول العلامة السيد محمد حسين فضل الله: “فيبتهل إلى الله في دعاء خاشع ليرحمهما ويرعاهما ويحفظهما، لأنهما كانا يعيشان الرحمة له، ويعانيان الجهد في تربيته، لأن الله قادر على ما لا يقدر عليه من ذلك، فرحمته تملك خير الدنيا والآخرة، بينما لا يملك هو من ذلك شيئا” (من وحي القرآن. ج14. ص85).

الدلالة الثالثة: أن بر الأبناء بالوالدين لا ينقطع بموت الوالدين:
وإنما يبقى البر بهما قائما بعد موتهما، من خلال الدعاء لهم، وصلة أهل مودتهما، وإهداء ثواب العمل الصالح لهما.

قال الإمام الصادق عليه السلام: “ما يمنع الرجل أن يبر والديه حيين أو ميتين: يصلي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله عز وجل ببره وصلاته خيرا كثيرا“. (البحار. ج74. ص 46).

وقال الإمام الباقر عليه السلام: “إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عز وجل عاقا. وإنه ليكون عاقا لهما في حياتهما، غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله عز وجل بارا” (البحار. ج74. ص59).

يقول العلامة المجلسي في تعليقه على هذا الحديث: “يدل على أن البر والعقوق يكونان في الحياة وبعد الموت، وأن قضاء الدين والاستغفار أفضل البر بعد الوفاة” (نفس المصدر).

قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “سيد الأبرار يوم القيامة رجل بر والديه بعد موتهما” (البحار. ج74. ص86).

أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

شارك برأيك: