قرية فاران البحرانية المندثرة حلقة ٢

يوسف مدن

ثانياً: فاران في حاشية الشيخ عبد الله العرب بأنوار البدرين:
كان من عادة أرباب السير والتراجم أن يقوموا بترجمة السيرة الذاتية لهذا العالم أو الأديب أو المؤرخ أو الفيلسوف فيذكرون لتحديد هويته الشخصية لقبه الذي يجمع اسم بلده واسم قريته أو منطقة سكنه فيقال كما في كتب التراجم ومصادر ثقافية بحرانية ((البوري البحراني أو الفاراني البحراني أو الجد حفصي البحراني، والستري البحراني، والماحوزي البحراني، والبربوري البحراني)) وهكذا دواليك، وهذه التسمية معتادة في كتب التراجم وفي كتب التراث الثقافي البحراني لتحديد هوية المصنف أو المؤلف أو أي شخص بحراني، وقد اعتمدها صاحب الشيخ علي بن حسن البلادي البحراني رحمه الله تعالى في كتابه ((أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين))، كما اعتمدها علماء التراجم البحرانيين وغير البحرانيين، بل هي لغتهم في تحديد الهوية الشخصية للعلماء والأفراد، وقد عرفوا تاريخياً بهذا اللقب في كتبهم والمراكز العلمية.

5734f5d40b70

وبتأمل مجموعة من ترجم لهم من العلماء والأدباء والمؤرخين في مصادر بحرانية اطلعنا عليها نجد أنه لم يذكر عالماً من فاران غير الشيخ علي العليمي الفاراني البحراني أسوة بتراجم عدد كبير من علماء القرى الأخرى أمثال علماء بربورة والعكر وغيرهم.

ولما كان البلادي وغيره من علماء التراجم يلتزمون بهذه الطريقة في إضفاء الألقاب لتحديد هويات العلماء المترجم لهم فإنه من المنطقي أن لا يذكر نهائياً قرية ((فاران)) مادام لم يترجم لعالم منها أو يضطر إلى ذكرها في سياق حادثة تاريخية معينة كانتقال عالم آخر من قرية ثانية إليها، فمؤرخو علم التراجم لا يذكر اسم قرية محددة إلا بترجمة علمائها أو ذكرها في سياق حادثة معينة أو بنحو عابر لسبب ما، لذلك لم نجد اسم فاران في النص الأصلي لكتاب أنوار البدرين، بيد أن مصحح هذا الكتاب وهو الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري [1] قد كتب بعض الحواشي والتعليقات على مواضع من كتاب الأنوار ذكر فيها قرية فاران وذكر أحد علمائها فأطلق عليه لقب (الفاراني) كما في النص الموجود في حاشيته.

يقول الشيخ عبد الله العرب الجمري عليه الرحمة في حاشيته [2] المدونة بأنوار البدرين في أسفل إحدى صفحاته وهو يتحدث عن دور الشيخ حسن الدمستاني في الرواية عن الشيخ عبد الله بن الشيخ علي بن أحمد البلادي، “وعن الشيخ محمد الفاراني، نسبة لقرية من قرى البحرين من الجانب الغربي، وآثار مدرسته باقية إلى الآن، ولم أقف له على ترجمة [3]”.

ويستفاد من نص هذه الحاشية المهمة التي أضافها الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري بعض الحقائق، ومنها ما يأتي:

  1. تأكيد الشيخ عبد الله العرب الجمري وهو ابن قرية بني جمرة القريبة من فاران والمجاورة لها على وجود العلامة الشيخ محمد الفاراني.
  2. أن الشيخ محمد الفاراني قد نسبه الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري البحراني إلى قريته ((فاران))، وهو المعتاد في تحديد هوية هذا العالم، فكما نسب لعالم من قرية بوري بأنه البوري البحراني أو الجد حفصي البحراني فكذلك أسماه الشيخ عبد الله بن أحمد العرب بالشيخ محمد الفاراني نسبة إلى قرية فاران.
  3. أنَّ للشيخ محمد الفاراني مدرسة ما تزال آثارها باقية حتى الآن، أي عاينها شخصياً بنفسه قبل استشهاد الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري البحراني في عام 1341هـ – 1921م على أيدي بعض القبليين الموتورين.
  4. أن الشيخ حسن بن محمد الدمستاني البحراني شاعر البحرين الكبير يروي عن الشيخ محمد الفاراني كما قال الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري في حاشيته، وفي ذلك دلالة على علاقة حميمة بينهما.
  5. ومن مضامين الحاشية نرى أن الشيخ محمد الفاراني له علاقة بشاعرنا الكبير الشيخ حسن الدمستاني البحراني، فكلاهما من علماء القرن الثاني عشر الهجري، ولا يستبعد أن يكون الدمستاني تلميذاً للشيخ محمد الفاراني أو صديقاً له يعاصره في زمانه، فالصداقة والمعاصرة والتلمذة من مصاديق الرواية.
  6. أن الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري الذي لم يقف على ترجمة للفاراني يكون قد أعطانا شيئاً من المعلومات عن الشيخ محمد الفاراني رحمه الله التي تصلح لأن تكون خطوة أولية لترجمة له متى توافرت معلومات أكثر.
  7. أن ذكر القرية يتحدد إما عن طريق كتب التراجم أو دواوين الشعر أو عن طريق الحواشي التي كانت طريقة معرفية تقليدية في ثقافة علماء البحرين وغيرهم من علماء المسلمين في أزمنة مختلفة.
  8. تتضمن الحاشية – بطريق غير مباشر – قيام أدوار لعلماء فاران، وقيام عمليات ثقافية في مدرسة الشيخ محمد الفاراني البحراني، فالمدرسة تهتم بتدريس العلوم ونشرها وإعداد الكوادر من العلماء والأدباء التي يحتاجها المجتمع البحراني، فطالما توجد مدرسة فإنها مشغولة بوظائفها الثقافية ومهامها الدينية.

منتظم الدرين يترجم لعالم فاراني

صاحب هذا الكتاب عالم بحراني معاصر هو العلامة والمؤرخ والأديب الشيخ محمد علي التاجر البحراني المتوفي سنة 1387هـ – 1967م، وقد ترجم في الكتاب المذكور لحوالي (931) من العلماء والأدباء والشعراء البحرانيين والأحسائيين ومن علماء القطيف سواء كانوا من علماء الشيعة أو من علماء السنة، إذ ترجم لعلماء مختلفين في مذاهبهم الدينية من أبناء المنطقة.

وله أيضاً كتاب آخر هو ((عقد اللآل في تاريخ أوال)) اهتم فيه بتاريخ بلاده البحرين في عصور مختلفة، ومما لحظناه، وقد نكون مخطئين، أن العلامة الشيخ محمد علي التاجر البحراني قد تتبع في كتابه ((عقد اللآل تاريخ البحرين)) قرى البحرين وبلداتها وذكر عدداً كبيراً منها سواء ما اندثر منها وما يزال بعضها الآخر عامراً بحمده، ومع ذلك فإني لم أعثر على أي ذكر لقرية فاران بالرغم من أنه ذكر قرى مندثرة، بيد أنه في كتابه ((منتظم الدرين في تراجم علماء وأدباء الإحساء والقطيف والبحرين)) ذكر القرية لارتباط ذلك بترجمة عالم من علمائها هو الشيخ علي المعروف بـ “العليمي الفاراني” البحراني.

وإذا كان الشيخ المبرور إبراهيم بن الشيخ ناصر المبارك الهجيري التوبلاني البحراني قد ذكر فاران – كما سيأتي لاحقاً – في سياق إشاراته المتعددة لأسماء القرى وبعض ما جرى فيها من وقائع أو لارتباطها بقيام مدارس علمية فإن الشيخ محمد علي التاجر صاحب منتظم الدرين ذكر قرية ((فاران)) عندما ترجم بإيجاز للسيرة الذاتية لأحد علمائها، وهو نفس الموقف الذي تم فيه ذكر فاران في أنوار البدرين، ولكن من خلال حاشية زائدة على نص الكتاب كتبها الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري، حيث ذكر في حاشيته القرية واسم أحد علمائها هو الشيخ محمد الفاراني [4] البحراني كما تقدم سلفاً.

وهذا العالم الشيخ علي العليمي الفاراني البحراني رحمه الله سبحانه وتعالى قال عنه صاحب المنتظم في كلمات قليلة وهو يترجم له:

“العالم الفاضل الأديب الأريب البهي الشيخ علي المعروف بـ “العليمي الفاراني” الفاراني، نسبة إلى قرية (فاران) إحدى قرى البحرين، شاعر له شعر كثير [5]”.

ويتضح من الوصف السابق للمترجَم له أنه من الأدباء والشعراء، ولكن للأسف لم يذكر شيئاً من شعره، ويعتقد أن صاحب المنتظم أكد ذلك إما أنه رأى شعره أو سمع به، وهو في كلا الحالين موضع ثقة العلماء، كما أنه عليه الرحمة ذكر القرية التاريخية حتى بعد اندثارها واستمرار القرى المجاورة لها التي كانت جزءً منها أو قريبة لها.

ونلحظ أن العبارات الوصفية للشيخ العليمي الفاراني من قبل الشيخ التاجر مصنف كتاب منتظم الدرين لم يذكر أنه فقيه، وإنما أوضحت هذه العبارات أنه عالم فاضل وأديب أريب، فالوصف بأنه أديب يعني أنه مولع بالأدب العربي، والشعر أحد فنونه وأحد مصاديقه، أما وصفه بأنه أريب فيعني سمو قدراته في هذا الجانب، وفي هذا الفن الأدبي، بيد أن إطلاق صفة (عالم) تعني العلم بمستوياته وبتخصصاته الفرعية القائمة في تلك الفترة.

فاران في كتاب حاضر البحرين للشيخ ابراهيم المبارك

تعددت إشارات الشيخ إبراهيم المبارك الهجيري التوبلاني البحراني رحمه الله تعالى المباشرة لقرية فاران القديمة التي اندثرت، ويستفاد من هذه الإشارات أن فاران بلدة قديمة وكبيرة وتاريخية مكونة من مجموعة قرى صغيرة مرتبطة بها، وقد اندثر بعضها وقامت قرى جديدة على أنقاضها، بينما استمرت قرى أخرى في البقاء كقرية الجنبية التي ذكرها أبو البحـر الشيخ جعفر بن محمد الخطي في بعض قصائد ديوانه.

فمرة يذكر الشيخ ابراهيم المبارك الهجيري التوبلاني البحراني قرية فاران ضمن سياق ذكره لسـائر قرى البحرين، وحيناً يذكر القرية لتعريف القارئ بقرى أخرى تابعة لفاران كالجنبية والقريَّة، ويذكر فاران كذلك عندما يتحدث عن انتشار المدارس العلمية فيذكر “مدرسة فاران للشيخ محمد الفـاراني [6]” البحراني.

وهناك – كما سيلحظ القارئ الكريم في طي صفحات كتاب حاضر البحرين كدراسـة تاريخية – أكثر من نص تاريخي للشيخ المبارك عن قرية فاران ننقلها كما هي.

النص الأول: يقول الشيخ إبراهيم المبارك: ((فاران كهامان، وهي اليوم خراب وتكتنفها نخيل ومزارع، قبل أن أصل سكانها من بني هاجر سكنوا فاران ثم الجنبية والقريَّة مصغر قرية، وكذلك فريق المحرق المسمى بالحيّاك فإنهم هواجر وهو معلوم عندهم، وأمِّا آل سوار الساكنون في الحورة فهم مناصير من أهل قطر، وأمَّا أهل جرداب فقيل إنهم من بني كعب، وحكي أن العصفوريين أصلهم من بني هاجر النجديين إلاَّ أن القرائن تدل على خلاف ذلك، وبالجملة فإن القريَّة من الجنبية من قرى فاران، وخراب الجنبية [7] قريب العهد فإنها عامرة في زمان الخطي، كمري [8]، وكتكان، وقد ذكر فاران في شعره يوم كان في مدينة شيراز بقوله:

ما أصبحت شيراز وهي حبيبة
عندي بأبهج من أوال جنابـاً

ما كنت بالمبتاع دارة سرورها
يومــــا بفـــاران ولا بمقـابا [9]

النص الثاني: وهو نص قصير لكنه يذكر القرية والقرى التابعة لها قديماً، فاستمرت في وجودها بعد اندثار فاران نفسها وتمددت هذه القرى التابعة لها على الأرض التي هجرها الناس من أهالي فاران نتيجة حادثة تاريخية أشبه بالأسطورة [10].

ويقول الشيخ إبراهيم المبارك وهو يعدد بعض قرى البحرين: (قريّة مصغَّر، قرية من فاران [11]).

وعاد العلامة الشيخ إبراهيم بن ناصر المبارك التوبلاني البحراني إلى ذكر فاران عندما ذكر قرية الجنبية فقال عليه رحمة الله سبحانه وتعالى وهو يعرِّف لنا قرية الجنبية التابعة لفاران القديمة التاريخية:

“جَنَبِيَّة بفتح الجيم والنون وكسر الباء الموحدة من تحت، وتشديد الباء المثناة من تحت مفتوحة، من قرى فاران [12]”.

وتدل كلماته في النص الثاني عن قريتي ((القريَّة والجنبية)) باعتبارهما من قرى فاران بأن هذه البلدة قديماً كانت كما يبدو بلدة كبيرة، وتبسط مساحتها وتتسع لتغطي قرى فاران نفسها والجنبية والقريَّة اللتان يجاورانها في منطقة جغرافية واحدة.

النص الثالث: وفي موضع آخر من دراسته التاريخية للبحرين وتاريخ علمائها ومدارسها ونشاطها الثقافي والروحي ذكر الشيخ المبارك بعض مدارس العلم في البحرين، وأخذ يرددها حتى قال عليه الرحمة والرضـوان بوجود: ((مدرسة في فاران للشيخ محمد الفــاراني [13])) البحراني، وهنا يذكر الشيخ إبراهيم المبارك قرية فاران ويذكر أحد علمائها وهو الشيخ محمد الفاراني، كما ذكر الشيخ علي العليمي الفاراني، وببالغ الأسف لم يعطنا الشيخ عبد الله العرب الجمري شيئاً أكثر تفصيلاً لا عن المدرسة المذكورة، وعن العالم الذي قاد عملها أو ترأس نظامها.

النص الرابع لذكر فاران: وقبل أن يختم الشيخ إبراهيم بن ناصر المبارك التوبلاني البحراني فصل حديثه عن قرى البحرين يضع عليه الرحمة توزيعاً جغرافياً لمناطق الأرياف في البحرين، ويذكر قرية فاران للمرة الرابعة ضمن توزيعه لمناطق الريف البحراني فيقول: “ومنطقة الأرياف الشمالية هي من مني إلى الدراز، والغربية من فاران إلى الزلاق، والجنوبية من توبلي إلى نويدرات، والشرقية من عراد إلى سماهيج، والوسطى من ماحوز إلى عالي حويص [14]”.

فاران في كتاب بعض فقهاء البحرين للشيخ علي محمد العصفور المعاميري

مؤلفه فضيلة الدكتور الشيخ علي بن محمد آل عصفور البحراني، وقد أشار إلى قرية فاران وبعض مظاهر حياتها الثقافية كبعض علمائها ومدارسها الثلاث، حيث قال: “قرية فاران كانت من القرى العلمية، ولا زالت آثار المدارس الدينية موجودة بين أطلالها، فيها قبر العلامة الجليل أستاذ المشايخ في واديه آنذاك وهو الشيخ محمد الفاراني الذي تتلمذ على يديه الشيخ حسن الدمستاني وغيره من علماء القرن الحادي عشر الهجري.

كانت فاران والقريَّة والجنبية وبني جمرة من البقاع المقدسة التي حوت من العلماء ما يعلم الله بنسبة عددهم، ويحكي أهل القريَّة أن أكثر من ثلاثمائة عالم قد قبروا في مقبرة الدرمكية، منهم من مات شهيداً لسبب القلاقل والهزَّات التي هوَّت البلاد في زمانهم، ومنهم من مات بانقضاء الأجل.

وفي فاران قبر العلامة الشيخ علي بن سليمان الذي وجد جثمانه في السَّاب، وهذا الساب مشهور حتى عند الأطفال الذين بلغوا من العمر ما يمكنهم من التمييز، والشيخ المزبور له ضريح ومشهد جديد، وذلك قليل في حقه [15]”.

ثم قال عن الشيخ محمد الفاراني: “الشيخ محمد الفاراني إلى جنب قبره، ومن جهة الجنوب تجد آثار مدرستين، وكذلك له مدرسة في شمال غرب القرية، بجنب الشارع العام المؤدي إلى بني جمرة والبديع [16]”.

معالم الظاهـرة الثقافية في قرية فاران البحرانية

نظراً لقلة الكتابات التي اطلعنا عليها عن هذه القرية وعدم اطمئنانا لسلامة مادتها المعرفية فإن مصادرنا البحرانية المتأخرة التي تابعناها لم تتح لنا الحصول على معلومات وافية عن معالم الظاهرة الثقافية في فاران التاريخية باستثناء مظاهر ثلاثة هي:

  • مدرسة الشيخ محمد الفاراني.
  • وترجمة موجزة لأحد علمائها.
  • وكتابة حاشية صغيرة عن الشيخ محمد الفاراني البحراني مؤسس المدرسة.

وعليه نضع أمام القارئ الكريم مجمل الأفكار التي تعرفنا عليها عن المظاهر الثلاثة السابقة مع نقص في الأدلة والأسانيد والوثائق، ولكن ما جاء في كتابي منتظم الدرين وأنوار البدرين يفيد في تأسيس معلومات أولية للباحثين نأمل أن تكتمل بنحو يجعل الحركة العلمية في فاران واضحة وجلية، وتسمح بمزيد من التراجم لعلماء فاران.

والمظاهر الثقافية التي سنشير لهما بإيجاز هي:

  1. مدرسة الشيخ محمد الفاراني البحراني.
  2. ترجمة منفردة لأحد علماء فاران، بالإضافة إلى استثمار ما جاء في حاشية الشيخ عبد الله العرب في تكوين معرفة أو ترجمة بسيطة وأولية للشيخ محمد الفاراني رحمه الله سبحانه وتعالى.
  3. النشاط الثقافي للعلماء والمدرسة معاً.

المظهر الأول
الإشارة لوجود مدرسة فاران

أشار لهذه المدرسة العلمية مصدران هما الشيخ عبد الله العرب الجمري في حاشيته بكتاب أنوار البدرين [17]، وبالعودة إلى نص الحاشية يذكر الشيخ عبد الله العرب العالم الجليل الشيخ محمد الفاراني رضوان الله عليه، ولقبه بالفاراني ” نسبة لقرية فاران، من قرى البحرين من الجانب الغربي، ثم يذكر كذلك مدرسته بقوله: “وآثار مدرسته باقية إلى الآن [18]”، وبعده أكَّد العلامة الشيخ إبراهيم المبارك في نص آخر “وجود مدرسة في فاران للشيخ محمد الفاراني [19]”.

وأشار الشيخ علي العصفور في كتابه ((بعض فقهـاء البحرين في الماضي والحاضر)) لمدارس ثلاث في فاران، ولكن لسوء الحظ لم يتكلم العلماء الثلاثة عن تفاصيل أكثر مما قالوه في نصوصهم المذكورة، ولكن يستفاد من الوصف المعرفي القليل أن الشيخ عبد الله العرب شهد بعينه رؤية المدرسة ورأى آثارها باقية حتى زمانه فيما قبل استشهاده في علم 1341هـ – 1921م، وكرر الشيخ علي العصفور قريباً من كلامه عندما قال: “ولا زالت آثار المدارس الدينية موجودة بين أطلالها [20]” يعني أطلال فاران، ثم قال بوجود مدرستين بجنب قبر الشيخ محمد الفاراني، ومدرسة ثالثة له في شمال غرب القرية بجنب الشارع العام العام المؤدي إلى بني جمرة والبديع [21]”.

ويستفاد كذلك من وجود المدرسة في عرف علماء فاران بأنها كانت تقوم بتدريس العلوم الشرعية والعقلية على حد سواء أسوة بسائر المدارس العلمية المنتشرة في قرى البحرين قاطبة، وتصدت لمجموعة أدوار وعمليات ثقافية من تعليم وتدريس ونسخ وكتابة حواشي وتأليف كتب أو مصنفات، ولا يمكن أن تكون مدرسة مشهورة دون أن تتصدى لهذه المهام حتى وإنْ لم نملك وثائق من مصنفات ومخطوطات وغيرها، فمدرسة فاران هي كسائر نظيراتها من المدارس العلمية للبحرين قد نشطت في فترة النهضة العلمية خلال القرون الهجرية الأربعة من القرن العاشر حتى الثالث عشر.

وهذه المدرسة مهمتها إعداد كوادر علمية وتخريج علماء بتخصصات شرعية مختلفة تعينهم على إدارة المجتمع البحراني وتنميته روحياً وثقافياً واجتماعياً، فالهدف العلمي بروح عبادية هي سمة التعليم لدى علماء البحرين وفقهائها، وليست مدرسة فاران بدعـاً عن هذه القاعدة التربوية والثقافية.

أما تمويل التعليم في مدرسته فلا يختلف عن سواها من المدارس العلمية في البحرين، فهي تشابه تماماً مدارس العلم المنتشرة في أرجاء البلاد من حيث تمويل أنشطتها اليومية، ومع أننا لا نملك وثائق في هذا الشأن إلاَّ أننا نتتوقع أن تعتمد مدرسة الفاراني كغيرها على قدراتها المالية الذاتية التي جعلت من الحقوق المالية الشرعية كالزكوات والأخماس والصدقات الطوعية منافذها في التمويل، بالإضافة إلى تمويل بعض المقتدرين لها مصدراً، ومع عدم وجود وثائق تبين لنا تفصيلات في إدارة المدرسة إلاَّ أن المعتاد في إدارة مدارس علمية أخرى أخرى يشابه مدرسة فاران في إدارة نشاطها التعليمي والثقافي، فما ينطبق على المدارس العلمية خلال فترة النهضة وما قبلها ينطبق أيضاً على مدرسة فاران التي أسسها الشيخ محمد الفاراني البحراني، فخصائص النظام التعليمي لهذه المدارس المنتشرة في البحرين واحدة.

المظهر الثاني
ترجمة علماء فاران

صعب علينا العثور على تراجم لسيرة بعض علماء فاران إلاَّ شخصية واحدة واستفدنا من حاشية الشيخ عبد الله العرب في التعرف بنبذة قصيرة على الشيخ محمد الفاراني البحراني.

1. ترجمة صاحب منتظم الدرين للشيخ علي العليمي الفاراني:
لقد تمكننا لحسن الحظ من الحصول على ترجمة منفردة والإفادة منها، وقصيرة لحياة الشيخ علي العليمي الفاراني البحراني بما نصه:

“العالم الفاضل الأديب الأريب البهي الشيخ علي المعروف بـ “العليمي الفاراني”، نسبة إلى قريـة (فاران) إحدى قرى البحـرين، شاعر له شعر كثير [22]”.

وتؤكد هذه الترجمة التي انفرد بها صاحب منتظم الدرين ((شهادة بوجود القرية))، وهذه الشهادة برهان على أن قرية فاران قد شهدت نشاطاً ثقافياً جسدته أوصاف المترجم له بالعلم والأدب وبخاصة في نظم الشعر، ولم يحدد عصره أو تاريخاً لحياته، ولم يذكر عام وفاته رحمه الله سبحانه، ونميل إلى أنه عاش في سنوات من القرنين الثاني عشر والثالث عشر أو في أحدهما، فهي الفترة التي تم توثيقها من قبل علمائنا، ويحتمل أن العلامة الشيخ التاجر قد استفاد من ذكر أحد مصادر الإمامية لهذا العالم فكتب عنه النبذة القصيرة المتقدمة.

2. ترجمة أولية للشيخ محمد الفاراني:
أما الشيخ محمد الفاراني صاحب مدرسة فاران الذي أشار إليه الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري البحراني في حاشيته بأنوار البدرين في ترجمة الشيخ حسن الدمستاني البحراني فلم يجد الشيخ عبد الله العرب ترجمة خاصة به [23]، ومما يلحظ بأن المعلومات التي أشار إليها الشيخ عبد الله بن أحمد العرب في حاشيته لم تجعله يصفها بـ “الترجمة” للشيخ الفاراني.

ولكن الكلمات الواردة في حاشية الشهيد الشيخ عبد الله بن أحـمد العرب الجمري البحراني رحمه الله استفدنا منها، حيث ساعدتنا في تكوين ترجمة موجزة عن الشيخ محمد الفاراني الذي عرف بتأسيسه لمدرسة علمية في قريته فاران، وآثارها ما تزال باقية، وقد وثقها الشيخ العرب والشيخ إبراهيم المبارك رحمهما الله.

ويمكننا القول بأن الشيخ محمد الفاراني قد يكون من علماء القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، وقد قد عاصر الفاراني شاعر البحرين الشيخ حسن الدمستاني المتوفي سنة 1181هـ، ويعني ذلك أن كليهما قد عاشا معاً في قرن واحد هو الثاني عشر الهجري، ويحتمل أن الشيخ الفاراني أكبر سناً من الشيخ الدمستاني، فعله عاش في سنوات متأخرة من القرن الحادي عشر، ثم أدرك سنوات من القرن الثاني عشر، والله أعلم، وقد استنبطنا هذا الاستنتاج من قول الشيخ عبد الله العرب برواية الدمستاني عن الشيخ محمد فاراني، حيث قال الشيخ عبد الله العرب في حاشيته بأنوار البدرين أن الشيخ الدمستاني روي عن الشيخ محمد الفاراني [24] رحمهما الله سبحانه وتعالى.

وهذا يعني أن الشيخ عبد الله بن أحمد العرب يؤكد أن الشيخ محمد الفاراني هو أستاذ الشيخ حسن الدمستاني أو على الأقل بينهما علاقة علمية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، فالشيخ حسن الدمستاني بحاشية الشيخ عبد الله العرب يروي عن الشيخ الفاراني، كما يروي الدمستاني كذلك – كما ذكر صاحب الأنوار – عن أستاذه الشيخ عبد الله ابن الشيخ علي بن أحمد البلادي [25] البحراني الذي شارك في مقاومة قوات العمانيين الغزاة [26] في احتلالهم الأول للبحرين سنة 1130هـ، وإذا صح توقعنا فإنه عاصر عصر كبار الفقهاء منهم الشيخ يوسف آل عصفور البحراني صاحب الحدائق، والشيخ عبد الله السماهيجي والشيخ ياسين البلادي وغيرهم من العلماء الأنجاب، فهؤلاء جميعاً عاشوا عصر الدمستاني الذي يروي عن الشيخ الفاراني كما قال الشيخ عبد الله العرب، وللشيخ محمد الفاراني ضريح مشهور في منطقته ((فاران)) وقراها الحالية.

3. الشيخ علي بن سليمان الجنبي:
ترجم لهذا العالم الجليل الشيخ علي بن محمد آل عصفور في كتابه ((بعض فقهاء البحرين في الماضي والحاضـر)) بلقب الجنبي، وقد أسماه بهذا اللقب – فيما يبدو – نسبة إلى ((الجنبية)) إحدى قرى فاران التاريخية كما يقول الشيخ إبراهيم المبارك البحراني، وهو في نظرنا لا ينفصل عن كونه من أهالي فاران التاريخية لأن الجنبية جزء من البلدة الكبيرة (فاران) التي تغطي مجموعة قرى متجاورة في المنطقة تعرف كما يقول الشيخ علي العصفور من البقـع المقدسة [27]، وتحدث بإيجاز عن استشهاده، وكراماته، ودفنه في قبر جديد إثر اكتشاف جسمه الطاهر وكأنه لم يدفن [28] بعد على حد تعبير الشيخ علي العصفور، وقد شيد المؤمنون له مقاماً صغيراً لا يتسع لأكثر من عشرة مصلين، وله قبة خضراء، ودعاؤه مستجاب عند الله تبارك وتعالى.

المظهر الثالث
النشاط الثقافي لعلماء فاران ومدارسها

لا نملك وثائق ثقافية مخطوطة أو كتب منسوخة، فقد خلت من هذه الوثائق إشارات الترجمة في مصادر التراجم لعلماء فاران الأبرار، بالإضافة إلى عدم وجود كلام تفصيلي عن مدرسة فاران نفسها – كما تقدم – حتى من المؤرخين الذين ذكروها، فالباحثون وهم في زمن متأخر عن عصر نشاطها بحاجة لمادة معرفية تتيح لهم إعادة تأسيس ثقافة تراثية عنها وعن علمائها ونظامها ومدى نجاحاتها في تحقيق أهدافها التربوية والثقافية، ولكن من المؤكد أنه طالما توجد في مجتمع فاران مدرسة علمية بالنحو المشار إليه في بعض مصادر دراسة تراثنا الثقافي فإن ذلك مؤسس على وجود بنية حقيقية لوجود المدرسة في فترة سابقة أدرك الشيخ عبد الله العرب آثارها، وهي كمؤسسة ثقافية مصدرنا التاريخي في معرفة علمائها والكتب والرسائل المخطوطة التي يستفاد منها، ومعرفة أدوارها التي توجه أنشطتها القائمة على تداول مجموعة من العمليات الثقافية كالتدريس والمناظرات ونسخ كتب والإجازات في الرواية ونقل المعرفة وغيرها، وقد حددنا هذا النشاط للمدرسة لتشابه كل المدارس عند الشيعة الإمامية في أنشطتها الثقافية.

وهذا النشاط – بكل أسف – لم يكشف منه إلاًّ النزر القليل، بل ما اكتشف منه غير موثق حتى اللحظة الحاضرة، وما يزال ما تبقى منه معرضاً لخطر التلف والضياع والاندراس، بيد أن الزمن وتكاتف الجهود وبخاصة طاقات الباحثين والمجموعات العلمية المتجددة من الشباب كفيل بتحقيق ذلك في قابل الأيَّام، فلا يستبعد أن نجد بجهودهم شيئاَ من المخطوطات والكتب والرسائل التي كتبها علماء فاران وغيرهم من علماء البحرين، فيساعدون على كشف نشاطهم وإنتاجهم الثقافي، وكذلك متابعة عمليات النسخ الثقافي للمخطوطات، وهو أمر مهم في تأسيس ثقافة تراثية عن علماء فاران ومدرستها.

المظهر الرابع
نظـم الشعر

قدم أحد علماء التراجم البحرانيين حالة واحدة من علماء فاران وترجم لها صاحب المنتظم هو الشيخ علي المعروف بـ “العليمي الفاراني”، وقد وصفه كما تقدم بأنه عالم فاضل، وأديب أريب بهي، شاعـر له شعـر كثير، وتوقف عن إعطائنا أية معلومات أكثر من هذا القدر، ويلحظ في الوصف المشار إليه أن المترجم له، ونقصد الشيخ العليمي، قد وصفه صاحب المنتظم العلاَّمـة الشيخ محمد علي التاجر بأنه ” شاعر له شعر كثير “.

ولم يبيِّن صاحب المنتظم نوع الشعر الذي نظمه الشيخ علي العليمي الفاراني، ولم يقدم لنا نموذجاً من شعره، ولا القضايا التي أثاره فيه، ولكنَّ الغالب في شعر علمائناً ومنهم الشيخ العليمي الفاراني أن يكون مسخراً في خدمة الدين والمجتمع، وأن يتسم بأخلاقياتهما، كما أنَ كثرة شعره كما قال الشيخ التاجر تدل على عشق للشعر، وربما لتمكنه منه.

ومع أن الترجمة لشخصية واحدة يتيمة إلاَّ أنه يستدل من الإشارة للشعر كحالة ثقافية في حياة أحد علماء فاران على إمكانية شيوع هذا الفن في الوسط الثقافي لمجتمع القرية، وإن صاحب المنتظم ذكر هذه الحالة للإشارة إلى اهتمام بهذا الفن وتوظيفه في تحقيق الأهداف الإنسانية الكبرى للدين الذي يؤمن به علماء فاران رحمهم الله وأهلها الطيبون.


[1] تذكر مصادر دراسة التراث الثقافي لعلماء البحرين أن هذا العالم المظلوم قد استشهد على يد مجموعة من القبليين الموتورين لحظة عودته ليلاً على قريته بني جمرة، وقد وقعت حادثة اغتياله الظالمة في منطقة الصليب الواقعة بين أبي صيبع ومقابا وأبي ر ويس ((القرية المندثرة)) بالبحرين، وذلك في 27 من ذي الحجة الحرام سنة 1341هـ – 1921م على أيدي بعض الموتورين، وكان برفقته بعض رجاله وهو الحاج حسين رمضـان رحمها الله، انظر أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين خلال 14 قرناً، ج2 ص 681.

[2] كان من عمل الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري البحراني رحمه الله كتابة بعض الحواشي لتوضيح بعض الأمور أو للإضافة كما فعل في حاشيته التي كتبها عن الشيخ محمد الفاراني فعرَّفنا بأن الشيخ حسن الدمستاني البحراني يروي عنه، وأنهما من أبناء القرن الثاني عشر الهجري، وقد كتب مجموعة حواشي انتفع به قراء كتاب أنوار البدرين فجزاه الله خيراً.

[3] أنوار البدرين ص 220.

[4] البلادي، أنوار البدرين، انظر حاشية الشيخ عبد الله العرب ص 220.

[5] التاجر، منتظم الدرين، ج3 ص 176.

[6] المبارك، حاضر البحرين ص 93.

[7] هكذا جاء في أصل النص من كتاب حاضر البحرين، ويبدو أن خطأً قد وقع، وقد يكون مطبعي أو نتيجة مراجعة الكتاب، فالقرية التي خربت هي فاران وليست الجنبية، فالأخيرة ما تزال عامرة، بينما خربت فاران، ولهذا نلفت نظر القارئ الكريم إلى هذا الخطأ الواضح.

[8] يقصد هنا الشيخ ابراهيم المبارك قري مري من توابع توبلي، والكاف في النص أعلاه للتشبيه وليست جزءً من اسم هذه القرية.

[9] المبارك، حاضر البحرين ص 45.

[10] ومجمل مضمون هذه الإسطورة أن رجلاً من الطغاة قد مر بالقرية وسمع إمرأة تمدح، فشده صوتها الجميل وعزم بجبروته على مقاربته بأية وسيلة، فشعر الناس وبخاصة أهلها بالخوف، فاستمهلوه للتفكير في الأمر وإجابته بما يريحه، ولما جن الليل عليهم هربت عوائل من القرية خوفاً على نفسها من طغيان هذا الجبروت، وشيئاً فشيئاً تضاءل عدد العائلات في القرية حتى أصبحت خاوية على عروشها هرباً على نفسها من العار الأخلاقي.

[11] المبارك، حاضر البحرين ص 45

[12] المصدر السابق ص 34.

[13] المصدر السابق ص 93.

[14] المصدر السابق ص 51

[15] علي بن محمد العصفور، بعض فقهاء البحرين في الماضي والحاضر، ج3 ص 135

[16] المصدر السابق ص 135 – 136.

[17] أنوار البدرين ص 220

[18] أنوار البدرين ص 220.

[19] المبارك، حاضـر البحرين ص 93.

[20] العصفور، بعض فقهاء البحرين في الماضي والحاضر، ج3 ص 135.

[21] المصدر السابق ص 135 – 136.

[22] التاجر، منتظم الدرين، ج3 ص 176.

[23] أنوار البدرين ص 220.

[24] أنوار البدرين (حاشية الشيخ عبد الله العرب) ص 220.

[25] أنوار البدرين ص 220.

[26] انظر دراستنا عن الاحتلال العماني للبحرين في حلقاته التسع.

[27] علي العصفور، بعض فقهاء البحرين في الماضي والحاضر، ج3 ص 135.

[28] علي العصفور، بعض فقهاء البحرين في الماضي والحاضر، ج3 ص 129 – 130.

شارك برأيك: