قرى بائدة في مصادر دراسة التراث الثقافي لعلماء البحرين
التاريخ الإنسـاني – كما نعلمه – ساحة عملية لتسجيل الوقائع وتراكم أحداث في الحياة الإنسانية، وبروز نهضات ثقافية واجتماعية ودينية وسياسية، وميدان لتطبيقات فعلية للسنن والقوانين، فالتاريخ الأحداث المتعاقبة في حركة المجتمعات، ومنها وقائع نمو وقيام دول وسقوط حضارات تسود في فترات من الزمن ثم تنتهي، وهذه الوقائع محكومة بقانون اجتماعي.
وقد انسحب أثر هذا القانون الاجتماعي على كل التجمعات البشرية بمختلف أشكالها المادية والعمرانية على حد سواء ودونما استثناء، ولم تفلت القرى وتجمعاتها البشرية العامرة في بلادنا البحرين على امتداد تاريخ طويل من قبضة قانون النمو والسقوط الاجتماعي، فتلك سنة الله في خلقه.
والمتيقن من النظر في تاريخ البحرين منذ العصر الحديث حتى زماننا المعاصر قيام بعض القرى البحرينية ونموها التدريجي حتى ازدهارها في مرحلة معينة ثم سقوطها بفعل وتأثير عوامل نعلم ببعضها ونجهل بعضها الآخر.
وكما أن بعض هذه القرى والتجمعات البشرية متفاوتة في نموها الاجتماعي فإنها كذلك مختلفة في ظروف سقوطها وتدهورها الاجتماعي، ولا غرو فالتاريخ يحتضن الراغبين فيه والنافرين منه على حد سواء، وهو في كلا الحالين يعطي للراشدين شهادات معتبرة حتى وإنْ قل اعتبارهم في غالب الأحيان، ويمد الناس على اختلاف مشاربهم بخبرات مربية تختزن في داخلها العِبَر وطرق الاعتبار التي يحتاجها الإنسان في توجيه وضبط مسارات المجتمع الإنساني وحركته في النمو والسقوط معاً.
وقد سجل مؤرخو التراث الفكري والتاريخ الثقافي والاجتماعي لعلماء البحرين وخاصة في عصر نهضتهم إبان القرون الأربعة الهجرية (من العاشر حتى الثالث عشر) إشارات متفرقة لظاهرة نمو تجمعات بأصلها البشري القروي وسقوطها الاجتماعي بعد فترة زمنية تهيأت فيها هذه القرية أو تلك للخراب وتوافرت لها أسباب التدهور والتراجع العمراني، وفرار أهاليها منها إلى تجمعات لا تزال في طور التكوين أو بلغ بعضها حالة من النضج أو مرحلة الاستقرار ليستأنفوا حياتهم في ظروف تجمع بشري جديد.
ويستفاد من مصادر دراسة التراث الثقافي والتربوي للعلماء في بلدنا ولحركة النهضة العلمية خلال القرون الهجرية الأربعة من (10 – 13) أن ثمة إشارات لعلماء نسبهم المؤرخ البحرايني لقرى لا تزال قائمة في وجودها آنذاك كالشيخ سليمان الماحوزي والشيخ يوسف الدرازي البحراني، والسيد هاشم التوبلاني، والسيد عبدالرؤوف الجدحفصي، والشيخ عبدالله الستري، والشيخ محمد بن علي المقابي والشيخ علي بن حسن البلادي والشيخ حسن الدمستاني شاعر البحرين الكبير أو إلى قرى كانت قائمة ثم خربت وبادت واندثرت واندرست كثير من معالم الحياة فيها.
ولكن إشارات المؤرخ التربوي إلى شيوع ألقاب لعلماء منسوبين إلى قراهم البائدة كالشيخ محمد الفاراني، والشيخ الجليل محمد بن الحسن بن رجب الرويسي، والشيخ محمود المَعَنِي والشيخ يوسف العسكري وابنه الشيخ محمد العسكري، والشيخ عبدالله بن الحسين البربوري، والسيد هاشم بن إسماعيل الكَتَكَاني (إحدى قرى توبلي) إنما تدل على وجود تاريخي لقرى كانت سائدة ولم تعد موجودة الآن، أم في كتب التراجم عند الشيعة الإمامية فتستخدم الألقاب نفسها.
وقد ولد هؤلاء الأعلام في أحضانها وترعرعوا على ترابها ونشأوا في أجوائها وتعلموا فيها ثم حدثت أسباب أدت إلى تناقص ظروف الحياة فيها تدريجياً واندراس كثير من معالمها، ثمَّ تدهورها وسقوطها في نهاية المطاف، ومن ثم بقيت أثراً بعد عين يتجلى في شواهد دالة على وجودها في فترة تاريخية ما كذكر أسماء علماء من قرى بائدة أو ذكر مصنفات ثقافية أو كتبهم أو آثار مادية لبلادهم القروية لا تزال محفوظة في الذاكرة أو بطون مصادر دراسة التراث الثقافي والتربوي لعلماء البحرين.
نماذج لقرى مهجورة خربت وبادت في كتاب حاضر البحرين
ذكر الشيخ إبراهيم آل المبارك مجموعة من القرى التي آل مصيرها إلى الخراب والزوال ومنها على سبيل المثال (أبو غزال، أبو زيدان، أبو محارة، بربورة، بريغي، برْدَج، بويرد، جُبُور، خرباباد، خُصيفة، دونج، دار، رُويس، روزكان، سبْسبْ، سلباء، سويفية، شباثى، شريبة، شراكي، صمَّان، صرفاء، ظهران، عالي مَعْن، عالي حُصْ، عالي حُوَيص، عالي ثمود، غُريفة القريبة من الشاخورة لا القريبة من ميناء سلمان، فاران، كَتَكَان، محاري، محَّاري، مَرِيْ، ناصفة، ناصرية، نور جرفت، هداروه).
وهناك قرى أخريات قد خربت وذكرت في مصادر أخرى كالتي ذكرها الشيخ محمد علي بن الشيخ محمد تقي آل عصفور في كتابه الذخائر أو ما يعرف أحياناً بكتاب (تاريخ البحرين أو عيون المحاسن)، حيث ذكر بعض القرى التي لا تزال في زمنه معمورة في الربع الأول من القرن الثالث عشر الهجري مثل «كتكان، ورويس، وبربورة، ومشهد، وهلتا، والدونج، وعالي حويص، ولقبيط، والعقير، وصدَّاغة وغيرها» ثم خربت واندثرت.
وإذا تأملنا تاريخ تأليف الشيخ محمد علي آل عصفور لكتابه «الذخائر في جغرافيا البنادر والجزائر» نجد أن هذه القرى لا تزال في نظر الشيخ محمد علي آل عصفور معمورة آنذاك بسكانها حتى سنة 1319 هـ / 1901 م، وهو تاريخ الانتهاء من كتابه الآنف الذكر، حيث انتهى من تدوين كتابه هذا في يوم الجمعة الثاني عشر شهر شعبان المعظم أحد شهور سنة 1319هـ التاسع عشر وثلاثمئة بعد الألف أي أنَّ تاريخ الانتهاء من كتاب الذخائر هو 12 شعبان سنة 1319 هجرية (1901 م).
ويدل – إنْ صح توقعنا – على اندثار القرية بعد هذا التاريخ بزمن يتراوح بين تسعين عاماً أو يزيد بقليل، ويؤيد هذا التوقع سند آخر هو أن أم الحاج عبدالنبي المبارك جد الشيخ إبراهيم المبارك الهجيري التوبلاني كانت من بربورة قبل مدة زمنية قد تتراوح بين المئة والعشرين عاماً أو قرن ونصف من السنين على الأكثر.
وإذا أخذنا بهذه الشهادة من مؤرخ وعالم دين وابن بار بالبحرين نستطيع القول إن أقوال بعض أهالي بربورة والنويدرات صادقة تماماً فيما رأوه بأن بربورة كانت إلى مطلع القرن العشرين عامرة بعدد قليل من أهلها رغم ما طرأ عليها من خراب في معالمها وبيوتاتها وبعض دور العبادة فأصبحت أطلالاً.
وأيد ذلك ما شهد به المؤرخ البريطاني «ج، ج، لوريمر» في الجزء الأول من كتابه دليل الخليج الذي صدر في 24 ديسمبر سنة 1908م بوجود (20) بيت مبنية بالطين والحجارة في مطلع القرن العشرين الميلادي، وهي ذات دلالة في نظره على وجود مساكن دائمة. مشيدة من الحجر والطين، وبمقابلة كلام لوريمر بكلام الشيخ إبراهيم يتضح لنا أن لوريمر يتكلم عن فترة متأخرة من حياة بربورة، بينما الشيخ إبراهيم يمتد بكلامه عن تاريخ متقدم للقرية وخاصة تاريخ جدته البربورية، ويبدو أن مصدر معلوماته طرفان هما معايشته الشخصية للفترة الأخيرة من تاريخ بربورة وتوافر عدد من العارفين بالقرية من كبار السن الذين عايشوا القرية عن قرب قبل أن تنهار تماماً في العقد الثاني من القرن العشرين.
وكذلك ما كتبه المؤرخ الشيح محمد علي بن أحمد بن سلمان التاجر المتوفي سنة 1967م في كتابه المعروف «عقد اللآل في تاريخ أوال» عندما قال رحمه الله عن بلدة «بربورة» أثناء زيارته الميدانية لها في الأربعينيات إنها: «ذات بسـاتين من النخيل الباسقة وعيون الماء الدافقة، وشرقيها آثار قديمة، وأهلها فلاحون».
تلك هي شهادة التاريخ والأرض وشهادة الإنسان بآلامه وآهاته التي تعبر عن نفسها بمرارة مختزنة في قلوب عوائل هذه القرية المشردين هنا وهناك، وتنتظر اللحظة التي تجد فرصة التعبير عن وجودها التاريخي.
وتوحي جملته الأخيرة من النص المتقدم «وأهلها فلاحون» بثلاث حقائق تاريخية مهمة ومباشرة يصعب ردها، وتتجلى في الاجتماع البشري بالمظاهر التالية:
- أنَّ « بربورة ما تزال آنذاك عامرة وآهلة بعدد قليل من السكان »عندما زارها الشيخ التاجر في الأربعينيات، وهي زيارة متأخرة عن الزيارة الميدانية للمؤرخ والجغرافي لوريمر في بداية القرن العشرين قبل صدور كتابه سنة 1908م، واتفق كلاهما على وجود سكان للبلدة… أي بربورة.
- والحقيقة الأخرى هي أنَّ الفلاحة هي المهنة الأساسية البارزة التي ذكرها لأهالي بربورة، فمكونات حياتهم زراعية، فالماء والنخيل الباسقات تفرض عليهم أن تكون الزراعة أبرز مناشط الحياة الاقتصادية في الفترة الأخيرة الحرجة من تاريخها، وقد أكدتها شهادة لوريمر والتاجر معاً، إذ يقول أحدهما عن سكانها أنهم بحارنة يعملون في الزراعة، ويقول عنهم التاجر: إنهم فلاحون.
- وثالث الحقائق هي وجود آثار قديمة في القرية وخاصة في قسمها الشرقي منها، وببالغ أسفنا لم يتم تفصيل هذه الآثار وإعطاء بيانات واضحة عنها من قبل الشيخ التاجر، فبقيت عبارته محلاً للغموض فالاجتهاد.
عوامل نمو القرى وسقوطها
تعتبر القرى أول التجمعات السكانية البشرية الكبيرة إلى حد ما في تشكيل المجتمع الإنساني ونموه، وكما أنها تبدأ في التشكل والتكوِّن حتى تصل إلى أعلى مستويات تطورها فإنها تختزن بمرور الزمان عوامل نهاياتها وتدهورها التاريخي.
وسنحاول الإجمال في تحديد عوامل مؤثرة في نمو بعض القرى والتجمعات البشرية وبعض أسباب سقوطها الاجتماعي فيما يأتي:
تتكون بعض القرى في البحرين كسائر بلاد الله إذا توافرت بعض العوامل التي تساعد على التجمع البشري وتكوينه، ثم نضجه وازدهاره وحركته وفق قوانين الله وسننه في الاجتماع البشري، ومن ذلك العوامل باختصار:
- توافر ظروف حياة اقتصادية وطبيعية واجتماعية متعددة، كتوافر ظروف الكسب المادي مثل وجود بيئة زراعية وزراعة النخيل وغرس الأشجار والنبت بمختلف أشكاله، أو قرب القرية من الساحل البحري لصيد الأسماك، وهذا يساعد السكان على كسب أرزاقهم وابتداع مهن يدوية مرتبطة بأعمالهم أو بظروف بيئتهم مثل صناعة المديد أو السلال التي انتشرت في قرى بربورة والنويدرات وسترة وغيرها من المهن اليدوية.
- إقبال عدد كبير من الناس بما فيهم طلبة العلم على البقاء والعيش في قرى آمنة ينتشر فيها العلماء المشهورون وتكثر فيها فرص الكسب المادي والاعتماد على البيئة الاقتصادية كما كان في بربورة وغيرها.
- لجوء بعض الناس ومنهم طلبة العلم أيضاً إلى البحث عن التجاور القروي (تجاور مجموعة قرى مع بعضها) وتجنب العيش في قرى معزولة إلى حد ما، وبعيدة عن قرى بحرانية أخرى، وذلك لتحقيق حالة من الأمن الاجتماعي والنفسي، وتعاونهم وحماية بعضهم من عوارض الغزو القبلي والاعتداءات البدوية عليهم التي شهدتها البحرين من داخلها ومن خارجها، وخاصة في أوقات النكبات وظروف المحن الصعبة.
عوامل الضعف والتدهور والسقوط
وفي مقابل ذلك هناك عوامل واضحة تسبب للمجتمعات الاجتماعية التدهور الاجتماعي لهذه القرى وفرار سكانها، ومنها:
- تعرض أهالي القرى وخاصة المعزولة عن بعضها إلى عمليات اعتداءات داخلية وربما غزو خارجي، كما حدث لعديد من قرانا خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فأدى ذلك إلى تآكل وجودها الاجتماعي البشري بالتدريج أو بصورة مفاجئة، ومنها على سبيل المثال الاعتداء على قرية الشاخورة على يد العمانيين.
- تراجع صعب في مكونات العيش والحياة الاقتصادية الجيدة لسكان القرى، وبحثهم عن ظروف حياة أفضل لهم، مما يضطر بعض الأهالي إلى الهجرة أو الرحيل والانتقال لمنطقة سكن أخرى أوفر في ظروفها المادية ونعمها الاقتصادية.
- تناقص عدد سكان بعض القرى وهجرة بعض القاطنين من قراهم المعزولة إلى مناطق في طور التكون أو في مرحلة ازدهار وتناقص عدهم تدريجياً.
آثار بربورة
«بربورة» كان وجودها قائماً حتى عهد قريب منَّا، ولا تزال أصداء تاريخها – بالنسبة لجيلنا المخضرم – ترن في الأسماع حتى اللحظة الراهنة، وحاجتنا لاستحضار تاريخها والفعاليات الإنسانية التي حدثت فيه هو ضرورة تربوية واجتماعية ذات شأن إنساني، فهو ينطوي على خصائص إيجابية تمكننا من إعادة ضخ بعض الدماء في عروق الأجيال من أهالي قريتي «النويدرات وبربورة» بأفعال في الزمان كي يتوالد منها آمال وتطلعات وأنشطة جديدة.
وحاجتنا إلى التاريخ ضرورة حيوية للدفاع عن هوية الإنسان الذي ولد في «بربورة» أو عاش في كنفها، وهي ضرورة لمقاومة الحملة على كيانها التاريخي المفترى عليه، فاستعادة بعض أحداث هذا التاريخ إنَّما هو عملياً حركة هادفة تبتغي تحقيق غرض هو استكناه حقائقه الناصعة والتعرف عليها ثم البناء على مرساها الاجتماعي الأصيل.
فآثار بربورة من النواحي الاجتماعية والثقافية العمرانية والمادية تربطنا في كل لحظة بالآثار التاريخية للقرية والكشف عنها من خلال مبانيها الحجرية الدالة على الإقامة والسكن الإنساني، ومخطوطات علمائها تشهد على وجودهم، وتراجم حياتهم في بعض كتب التراجم سد منيع على التهميش والتنكر وإقصاء الأصالة بالاغتراب أو الانتماء المفتعل، كما تدل التراجم والمخطوطات على وجود حركة ثقافية صنعها إنسان بربورة، وخاصة في القرون الثلاثة (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر) الهجرية وهي من الفترة الذهبية للنهضة العلمية لدى علماء البحرين.
فالمباني والمساجد والعيون الطبيعية والمزارع وبساتين النخيل والحركة الدائبة والمخطوطات وتراجم العلماء ونتاجاتهم الثقافية وعمليات النسخ الثقافية وغيرها هي آثار حسية لا تزال ماثلة لوجود حضاري، وهي ملامح استقرار رسمت بنسيجها خيوط تاريخ حي، وأنَّ هذه الآثار هي التي تستثير القلوب وتدفع بأجيال جديدة من أبناء قريتي بربورة والنويدرات بالبحث عن معالم الذات بإحياء الأدوار الروحية والثقافية والاجتماعية للمساجد والتفتيش عن أسماء العلماء ومناشطهم الثقافية واستعادة أو تذكر أسماء مناطق ذات حساسية تاريخية بالغة الأثر بالمنطقة والعمل بما أمكنهم لإقامة فعاليات روحية وثقافية تعيد حيوية الحركة فيها.
وبالتالي فإن التاريخ… تاريخ هؤلاء مع بربورة… يحرك حاضر هؤلاء الأفراد من الجيل المخضرم والجديد في إبراز تدريجي لمعالم حية من تاريخ بربورة المفترى عليه ويجعل من وقائعه قوة دفع ذاتية لتوجيه الحركة الجديدة بنحو تؤدي إلى مزيد من التحام الأجيال بالأرض والآثار والمعالم والذكريات لتحقيق غرض هادف هو تعميق الهوية الوطنية لإنسان هذه المنطقة وحمايتها من عبث العابثين.
لقد أدى في اعتقادي كبار السن والعارفون منهم بعفويتهم وأحاسيس الاضطهاد والظلم والمعاناة التاريخية التي سردوا بعض أدوارهم، وربما غالبها في الدفاع عن تاريخهم المجيد ونظام وجودهم الاجتماعي بالتناقل الشفهي والمحاكاة الاجتماعية اللفظية في سرد وقائع وأحداث عاشوها بقسوة وألم لمن عاش معهم ونقلوها لمن أتى بعدهم من أجيال حاضرة وسلموا بالقدر المتاح لهم بعض الأمانة لنا كمثقفين، فالمعمرون وكبار السن، كما نعرفهم، لا يملكون سوى طريقة السرد التاريخي بأقوالهم ومعتمدين على ذاكرتهم تعبيراً منهم عن معاناتهم المأساوية، فهذه الطريقة هي فقط أداتهم فقط في نقل بعض ما يستطيعون تذكره من حوادث الزمان التي مروا بهم لأنهم لا يملكون الكتابة التاريخية لتوثيق الوقائع وحفظ ما جرى، فلجأ جمعهم إلى طريقة النقل الشفهي والمحاكاة الاجتماعية.
ونحن المثقفون من أبناء النويدرات وبربورة – وإنْ نسينا في غفلة قسماً مهماً من تاريخنا في منطقة «بربورة» الغالية أو غيرها من تراب الوطن، فالباب لا يزال مفتوحاً يسمح لنا بالمرور مع تاريخ كل حي من بلادنا.
إنَّ تاريخنا – بحلوه ومره – مزيج بالتراب والثقافة، ومعانقة النخلة والصخر يشهد على عروبتنا وإسلامنا وكفاءتنا في إدارة دولاب الحياة بوطننا.
القرية البحرينية وأدوارها التقدمية الحضارية
استطاعت القرية الأصيلة في عصور مختلفة من تاريخها العريق أن تصنع مجدها الحضاري ومجد البحرين التقدمي في المجال الثقافي، فقد تبوأت بلادنا مكانتها وخاصة في عصور نهضتها المتألقة خلال القرون الهجرية الأربعة المتأخرة من تاريخ البحرين بإنجازات القرية وأدوارها الحضارية – التقدمية، فقد أسهمت بهمة أبنائها وخاصة علمائها وفئات أخرى من مواطنيها في تحقيق تنمية ثقافية واقتصادية وروحية بقدر ما هو ممكن آنذاك، فقد بسطت القرية البحرينية وجودها بما اضطلعت به من مسئوليات وأدوار أدّت إلى تحقيق مستويات من النمو الثقافي والتطور الاجتماعي، وذلك قبل أن يتاح لعدد من المدن المتأخرة في وجودها أن تسهم في هذه الحركة الحضارية للبلد.
فالقرية – كما هو مؤكد تاريخياً وبحسب نظام الاجتماع البشري – تعتبر مرحلة سابقة على وجود المدن ومتقدمة على ظهورها الزمني، وخاصة في القرنين المتأخرين، وفي هذه الفترة قامت قرانا بأدوارها ومسئولياتها فنتج عن ذلك واقع ثقافي واقتصادي واجتماعي، وقد تجلى هذا الواقع في مظاهر رصدها المؤرخ الثقافي للحركة العلمية البحرينية.
ظهر في القرية البحرينية عدد كبير من المدارس الفقهية كمدرسة الشيخ داوود بن حسن بجزيرة أًكل أو النبيه صالح بمسماها الشائع اليوم، ومدارس أخرى في بوري والقدم ومدرسة الشيخ عبدالله الستري في الخارجية بسترة، ومدرسة الشيخ حسين بن محمد آل عصفور في الشاخورة بالقرب من مسجده، ومدارس تعليمية في الماحوز بقراها الصغيرة (هلتا، والدونج)، وظهور مدارس علم ببلاد القديم كمدرسة الشيخ محمد بن ماجد بن مسعود الماحوزي بعد انتقاله لبلاد القديم عندما انتقلت إليه رئاسة البلد، ومدرسة السيد هاشم التوبلاني البحراني في «كَتَكَان» من قرى توبلي، ومدرسة الشيخ داوود بن ذي شافيز في جدحفص والمصلى ومدرسة الشيخ محمد بن علي بن عبدالنبي المقابي في قريته مقابة، ومدارس أخرى في أرجاء البلاد وقراها.
وارتبطت نشأة المدارس الفقهية والعلمية في قرى البحرين بأدوارها المناطة بها كعمليات التدريس، والتأليف وتصنيف الكتب وتحقيقها وشرحها ونسخها بخط اليد كما فعل الشيخ داوود بن حسن الجزيري الذي اهتم بنسخ المخطوطات من الكتب وتجميعها وتوظيفها في عمليات التعليم والتعلم بمدرسته في جزيرة النبيه صالح، وكذلك شارك علماء الإمامية في البحرين من رفد مدارس الحركة العلمية القائمة في قراهم في القيام بعمليات التدريس وتأليف الكتب وتصنيفها، واشتهرت بعض مؤلفاتهم داخل وخارج البلاد كما حدث للسيد هاشم التوبلاني والشيخ يوسف العصفور والشيخ حسين بن محمد آل عصفور، وصاحب العوالم الشيخ نور الدين البحراني الذي ألف كتابه «العوالم» فيما يزيد على مئة مجلد، وأيضاً ما كتبه الشيخ علي بن حسن البلادي البحراني من مصنفات أصبحت مصادر لتاريخنا الثقافي في البحرين، وقد شارك في تدشين هذه العمليات من تدريس وتعلم وتأليف ونسخ للكتب وخطها باليد علماء كذلك من قرية (بربورة) موضوع دراستنا ومن قرى مختلفة، فإذا تأملنا هذه الأسماء اللامعة والبارزة عرفنا أنها من القرى الأصيلة التي هي أصل المجتمع البحريني قبل نشأة المدن.
لقد أنجبت القرية البحرينية عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء والفلاسفة والشعراء والأدباء الكبار حتى اشتهر لقب «الـبحراني» بين علماء الدين، وأصبحت ظاهرة في التاريخ الثقافي للبحرين على امتداد التاريخ الإسلامي، وأصبحوا موضوعاً للدراسة من قبل علماء التراجم والباحثين في فترات مختلفة من العصور، فقام عدد من العلماء والباحثين المتأخرين بكتابة جانب من تراجم علماء البحرين، ومن كتب التراجم التي تناولت ظاهرة العلماء في البحرين وغالبيتهم، بل جلهم من أبناء القرى، ومنهم على سبيل المثال الشيخ ميثم بن علي البحراني، والشيخ يوسف آل عصفور الدرازي البحراني، والسيد هاشم التوبلاني البحراني، والشيخ أحمد بن عبد الله بن حسن بن جمال البلادي، والشيخ حسين العصفور صاحب السداد وعلماء كثيرون تقدوا عليهم وتأخروا عنهم في الزمان.