بربورة القرية البحرانية المندثرة (كتاب توثيقي) – ٤ – بربورة في مصادر المؤرخين والنساخين

يوسف مدن

بربورة في مصادر المؤرخين والنساخين

تعتبر شهادة المؤرخ وخاصة إذا كان من أهل البلد أحد أقوى أدلة الإثبات في قضية ما عاشها هذا المؤرخ بنفسه أو تلقى عنها بياناً مباشراَ من أفراد سبقوه بالوجود أو تلقاها من مصدر تاريخي موثق على وجود عوائل نويدرية ذات أصل بربوري نزحت من منطقتها الأصلية لتسكن في النويدرات المجاورة أو في مناطق بعيدة عنها لأسباب يقدرها النازحون آنذاك.

وتمثل هذه الشهادات وثائق إثبات تاريخي على وجود قرية بربورة في موقعها الجغرافي وفي فترة وجودها الزمني، وتنسحب هذه الشهادات بالأولى على المؤرخين البحرينيين وغير البحرينيين في تأييد الوجود التاريخي لبلدة بربورة بسكانها وعمرانها ومزارعها وعاداتها ومساجدها ودور العبادة فيها خلال زمان محدد يعود إلى القرن السابع عشر كما قيل أو ما تبينه المخطوطات الثقافية لعلماء ونساخي قرية بربورة، والله أعلم.


شهادة للشيخ يوسف آل عصفور البحراني

أخذت «بربورة» موقعها في بعض المصادر التاريخية المحلية بإشارات قصيرة في أغلب الأحيان، حيث اصطبغت معظم إشاراتهم بذكر للقرية دون تفاصيل من حياتها إلاَّ فيما ندر، فالاتجاه السائد لدى علماء الإمامية عدم الكتابة التفصيلية عن قراهم، وإنما يتداولونها بإشارات بمقتضى حاجتهم لا تتخطى إيضاحات محدودة، والتركيز على سيرة وتراجم الرجال من علمائهم، تم تجميعها في دراسات ومصنفات كاللؤلؤة وأنوار البدرين وما كتبه الشيخ سليمان الماحوزي في ترجمته لحياة من علماء الإمامية في البحرين، أما دراساتهم التفصيلية فتدور حول أبحاثهم العقلية والإسلامية.

ومع ذلكَّ فإن هذه الإشارات عن بربورة وتاريخها تعتبر بالنسبة لنا كباحثين مستندات وثائقية ذات قيمة علمية. وتعددت هذه المصادر من مؤرخ إلى آخر بحسب تنوع اتجاهاتهم، لكنها في نهاية المطاف تمثل سلسلة من الشهادات والتأكيدات الثابتة من قبل هؤلاء المؤرخين في قرون متعاقبة، ومن هؤلاء ما ذكره العلامة الكبير فقيه أهل البيت المرجع الشيخ يوسف آل عصفور في كلمات قليلة لا تزيد على سطر واحد، وقد أعطت هذه الكلمات بعداً تاريخياً للقرية التي تنكر البعض لوجودها لأغراض انتخابية.

فلقد ذكر العلامة فقيه البحرين الكبير الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور قرية «بربورة» باسمها التاريخي العريق بكلمات قليلة لا تتجاوز أربعة عشر لفظاً في الجزء الأول من كتابه (الكشكول) الذي ألفه في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وهو من أبرز مصنفاته، وذلك في سياق حادثة تاريخية ذات دلالات بالغة الأهمية في تاريخ البحرين وأهلها الأنجاب وهي حادثة الاعتداء الأموي على شعب البحرين إثر فرار جماعة مؤمنة من خواص شيعة الإمام علي عليه السلام إليها، فقد جاء في كتابه الآنف الذكر عبارته التالية:
«وكانت بيوت أهل البحرين يومئذ متصلة من خلف القطع الجنوبي إلى بربورة وإلى كرزكان»، ثم أضاف «وكان الرجل من أهل البحرين في ذلك الزمان يعد بألف فارس».

ويختزن النص بعض الحقائق:

  1. أن النص وُضعَ في سياق تاريخي أو خلفية تاريخية عبرت عن أبعاد إيمانية ونفسية وديمغرافية لشعب البحرين، إذ يشير هذا النص المهم في هذا الصدد إلى حقيقتين مهمتين هما:
    أ. أن أهل البحرين تمتعوا منذ بدايات الدعوة الإسلامية بالسبق الإيماني وسموه الروحي وقوته التعبيرية في ولائهم لأهل البيت ومحبتهم لأتباعهم، وتجسد هذا في مواقف عديدة منها على سبيل المثال إخلاصهم في إيواء جماعة إيمانية جهادية من أصحاب الإمام علي لجأوا إليها فراراً من السلطة الأموية الغاشمة التي تتعقبهم بسبب حبهم لأهل البيت عليهم السلام.
    ب. أن محبي أهل البحرين يتمتعون بمخزون روحي وإيماني ونفسي كبير يمدهم بالطاقة على أداء متألق في مقاومة الظالمين وسلطتهم الغاشمة والتصدي لمآربهم الطاغوتية، وتجسد هذا في التصدي لمآرب عبدالملك بن مروان ورغبته في إخضاعهم لسلطته الظالمة فبعث بجيش يتتبع من لجأ من أصحاب الإمام علي وخواص شيعته إلى البحرين أمثال (إبراهيم بن مالك الأشتر النخغي، وعامر بن عمرو الهمذاني، وصعصعة بن صوحان العبدي وغيرهم من محبي أهل البيت وأتباعهم).
  2. يشير النص التاريخي الوارد في كلمات الشيخ يوسف العصفور إلى واقع ديمغرافي لا نزال نشهده في توزع السكان وتمركزهم المكثف في الجزء الشمالي من جزيرة البحرين الأم حتى وسطها الممتد في شريط يبدأ من «بربورة» شرقاً إلى «كرزكان» غرباً، ويؤكد النص في هذا الجانب الكثافة السكانية في شمال الجزيرة ووسطها الممتد من بربورة إلى كرزكان، وأن هذا المنطقة كانت آهلة بالسكان حتى وإنْ كانت تتسمى عبر القرون بأسماء مختلفة، ويعني ذلك أن انتشار القرى في البحرين هو في شمالها ووسطها الجنوبي من قرية «بربورة حتى كرزكان»، ولعل هذا ما قصده العلامة العصفور بـ «خلف القطع الجنوبي » أي الانتشار السكاني الطبيعي لأهل البحرين في جنوب الوسط من بربورة حتى كرزكان.
  3. أن لفظ «بربورة» الذي ذكره الشيخ يوسف العصفور في هذا النص من كتابه الكشكول كان شائعاً في أيامه وعصره، وهو بالتأكيد دليل على وجود القرية كحاضرة بشرية حضارية آنذاك في زمانه في بداية القرن السابع عشر الميلادي، وخاصة أنها منطقة تعج بالعلم والعلماء كما يقال، بل يعتقد البعض بأنها أبعد زمناً في وجودها التاريخي، وظلت معروفة باسمها التاريخي حتى زماننا الحالي، ومن المعيب أن يحاول البعض ممن ابتعدت أنفسهم عن جادة الحق، والانصياع لهوى النفس بشطب اسمها من قاموس تاريخنا السياسي والثقافي والاجتماعي، وإحلال تسمية غير مألوفة لتحقيق أغراضهم السياسية والانتخابية، بغرص تأسيس تاريخ جديد بطعم البداوة على أنقاض تاريخ عريق متأصل ومتجذر في ذاكرتنا الوطنية منذ قرون.

شهادة «صاحب الذخائر»

ولنأخذ أيضاً شهادة أحد هؤلاء المؤرخين وهو الشيخ محمد علي بن الشيخ محمد تقي آل عصفور في كتابه «الذخائر في جغرافيا البنادر والجزائر» الذي يتناول تاريخ البحرين، إذ أشار صاحب الذخائر أكثر من مرة لوجود بربورة دون ذكر تفاصيل نحن بحاجة إليها لمواجهة حركة التدليس والطمس للهوية التاريخية للقرى البحرينية الأصيلة، ففي الفصل الأول من كتابه السابق الذكر (الذخائر) السابق الذكر، يذكر الشيخ محمد علي بن الشيخ محمد تقي آل عصفور أنَّ بعض مشايخه قالوا:

«كان عدد قرى البحرين في الزمان السابق بعدد أيَّام السنة، فبظلمهم ما بقي الآن سقوفها وفروشها، فتلك بيوتهم خاوية على عروشها، والقرى المعمورة الآن أزيد من مائتين فمنها: منامة، ومنها محرك، والسماهيح، وجفير، وحوره، ورأس رمان، ونعيم، ومني، وكّتَكَان، وكرزكان، وسنابس ودي، وكرباباد، وقلعة، وكرانة، وجد الحاج، وجنوسان، وباربار، وجبل الدخان، وجزيرة الحسان، وشريبه، وبديع، ودراز، وبني جمرة، وسار، وضلع، وعالي، وبوري، وجزيره، وحجر، وشاخورة، وأُكُل، وهجر، وقدم، وابكوة، وسهلة، وجدحفص، وهملة، ورويس، وبربورة، أوال، وسترة وهي خمسة، قرية، ورفاع، وبلاد القديم، وكورة، وتوبلي، وغريفى، ودار كليب، وزنج، وسقيه، وجبيلات، وحلة الصغيرة، وجو وهي واقعة منتهى البحرين، ومشهد، وأبو صيبع، ومصلى، وجبلة الحبش، وماحوز، وقرية، ومرخ، ودمستان، ومقابا، وبستان، وقرية الخارجية والدونج، وعراد والعقير، وجور، وصداد، وسند، ولقبيط، وجنبية، وجدعلي، وهلتا، وعالي حويص، وحلة الكبيرة، وحلة علي، وشويكة، وصداغة، وبنِّى، وفريق المزارعة، وشهركان، وعين الدار، وسلم آباد، ومروزان، وحرنان، قريتان بالبحرين كبرى وصغرى ذكرها في القاموس، وغير ذلك مما يأتي في حالات العلماء والشعراء من هذه الجزيرة».

فيما تقدم من نص ذكر الشيخ الحقائق التاريخية التالية:

  • أن عدد القرى في البحرين بعدد أيَّام السنة الهجرية (355) قرية.
  • القرى المعمورة إلى سنين حياته وإلى لحظة إعداد كتابه هذا أكثر من مائتي قرية.
  • أن عدد القرى العامرة التي ذكرها في الكتاب حوالي (91) قرية من بين القرى العامرة في زمانه التي تزيد على المائتين.
  • جاء ذكر (بربورة) كقرية قائمة آنذاك في زمن المؤرخ تحت رقم (39) من بين القرى المذكورة في النص والعامرة آنذاك، حيث كتب الشيح كتابه سنة 1901 م، ولا تزال بربورة عامرة بعدد من سكانها وقائمة لم تندثر.

وفي موضع آخر من كتابه المشار إليه (الذخائر) عاد الشيخ محمد علي آل عصفور صاحب الذخائر رحمه الله سبحانه وتعالى فقال في إشارة ثانية إلى منطقة بربورة: «وكانت بيرت أهل البحرين يومئذ متصلة من خلف قطع الجنوب إلى بربورة وإلى كرزكان».

ويلاحظ في النص المتقدم وقوع خطأ مطبعي أو تصحيف لم يعلِّق عليه المحقق بشيء من القول، فالشيخ محمد علي آل عصفور يقول:
«وكانت بيرت أهل البحرين» وهو بالتأكيد يقصد هنا «بيوت أهل البحرين» لا بيرت لأنها كلمة غير ذات معنى مفيد.

ونفهم من هذه العبارة أن بيوت أهل البحرين في الجزء الجنوبي من البلاد ممتدة من بربورة شرقاً إلى كرزكان غرباً، ويعني ذلك أن هذه البيوت قد تكون متواصلة ديموجرافياً بين القريتين دون انقطاع أو من خلال قرى متفرقات كما يتردد على ألسن كبار السن الذين أكدوا وجود قرى عديدة موجودة في الوسط الجنوبي من بلادنا البحرين، ويظل التواجد السكاني يتناقص كلما اتجهنا جنوباً، ويتزايد كلما ذهبنا صوب الشمال من الجزيرة الأم.

وتفسر هذه العبارة قول الشيخ إبراهيم بن ناصر بن الحاج عبدالنبي آل مبارك التوبلاني الهجيري بأن بربورة قديمة وبلاد كبيرة جداً امتداداً من حدودها الشرقية المجاورة للنويدرات حتى كرزكان في الجهة الغربية من البلاد مروراً بمجموعة قرى قد تكون متصلة بمنطقة «عالي ثمود» التي يقال إنها وصلت إلى حدود الرفاع حالياً، وتقدر أقوال بعض الطاعنين عدد القرى بين بربورة وكرزكان بنحو ثلاثين قرية مسكونة، والله أعلم لأنه لا دليل قطعي مؤكد في هذا الشأن سوى التفسير الظني المأخوذ من عبارات مبهمة أحياناً، أما الخريطة التي عرضناها فتبين أن الانتشار السكاني في قرى البحرين هو في شمالها حتى منطقتها الوسطى من جهة الجنوب امتداداً من بربورة شرقاَ حتى كرزكان غرباً، ويقل الانتشار السكاني في هذه المنطقة عن كثافته شمالاً.


شهادة الشيخ محمد علي التاجر

أشار هذا المؤرخ الجليل إلى وجود بلدة «بربورة» أيضاً كوجود عمراني قائم مؤرخ كبير هو الشيخ محمد علي التاجر رحمه الله تعالى، وهو قريب عهد بالقرية، فقد زارها قبل وفاته سنة (1387هـ – 1967م)، إذ وصف رحمه الله قرية «بربورة» بجنة غنَّاء تتمتع بجمال رقعتها الزراعية الخضراء ونخيلها الباسقات، وتدفق ماء عيونها الجميلة في قناطر وجداول تمثل شبكة مياه للري الزراعي تغطي مساحة كبيرة من الأراضي، إذ يقول رحمه الله وهو قريب عهد بنا:
«بربورة ذات بساتين من النخيل الباسقة وعيون الماء الدافقة، وشرقيها آثار قديمة، وأهلها فلاحون، وشرقيها جنوباً قرية (النويدرات) بصيغة التصغير وهي ذات نخيل كثيرة ومياه جارية غزيرة وأهلها فلاحون وبعضهم غواصون وبها مصانع المديد، وهي نوع من الحصر المنسوج من الأسل المتين الجميل» أي أنَّ بربورة تقع بالنسبة للنويدرات من جهتين (الشمالية والشمالية الغربية) مع تداخل كثيف في أشجار نخيل القريتين فيما بينهما على امتداد مساحة طويلة نسبياً من جهتي الغرب والشمال، فإذا قطعها إنسان ما لا يشعر بالملل أو الخوف، إذ يواجه مئات الناس في حركة دؤوب.

ويعد ما كتبه الشيخ محمد علي التاجر عن بربورة أصدق تعبير على حد تعبير الدكتور منصور سرحان لأنه في نظره «عمل موثق نتيجة زيارته لجميع مناطق البحرين في بداية العقد الأول من القرن العشرين وتدوين ملاحظاته عن كل قرية ومنطقة زارها».

وذكر الشيخ محمد علي التاجر كذلك في كتابه «عقد اللآل في تاريخ أول» رواية غزو عبدالملك بن مروان للبحرين، ثم نقل عن الشيخ يوسف آل عصفور في كتابه الكشكول أو أنيس الجليس رواية الغزو المشار إليها، وانتهي التاجر إلى عبارة العلامة العصفور القائلة: «وكانت بيوت أهل البحرين يومئذ متصلة من خلف القطع الجنوبي إلى بربورة وإلى كرزكان» فأدرجها في كتابه عقد اللآل.


شهادة الشيخ إبراهيم آل المبارك

وهذه شهادة مؤرخ وعالم دين فاضل وأحد قضاة المحكمة الشرعية عاش في القرن الرابع عشر الهجري، هو الشيخ إبراهيم بن الشيخ ناصر بن الحاج عبدالنبي بن يوسف آل المبارك الهجيري التوبلاني، وأهمية شهادته أنه شهد بربورة حية، قائمة في أواخر مراحل وجودها، وأن له من جهة أخرى صلة نسب مع بربورة عن طريق جدته «أم جده» الحاج عبدالنبي عليهم جميعاً شآبيب الرحمة والرضوان، فبلدة بربورة كما يقول المرحوم الشيخ إبراهيم في كتابه حاضر البحرين:
«كانت في الزمان القديم بلاداً كبيرة جداً، وأمَّا الآن فسكانها قليلون، حديثو عهد بها، وخرابها قريب العهد لأنَّ أم جدي الحاج عبدالنبي كانت منها»… أي من بربورة.

ويستفاد من مقدمة كتابه (حاضر البحرين) أنّ الشيخ إبراهيم المبارك رحمه الله ذكر بعض الحقائق التالية التي تعتبر برهاناً على وجودها في زمانه على الرغم من أنه لم يفصل في ذلك، وهذه الحقائق هي كما يأتي:

  1. كانت بربورة في الزمان القديم بلاداً كبيرة جداً، ويوحي تعبيره بـ «الزمان القديم» بامتدادها التاريخي – الجغرافي لقرون متعاقبة تصل لأربعة قرون على أقل تقدير.
  2. أن سكانها في زمانه كانوا قليلين، وهذا ما يتوافق مع ذهب إليه لوريمر من أن مساكنها قليلة تبلغ العشرين، ولكن توحي عبارة الشيخ كذلك أنها كانت عامرة ببعض من سكانها حتى فترة من حياته ثم هجروها تماماً في القرن العشرين، وهذه أيضاً نقطة التقاء مع رأي لوريمر، فسكانها في مراحل وجودها الأخيرة قليلون وعدد منازلها لا تتجاوز العشرين، وخرابها ليس ببعيد، فالشيخ ولوريمر شهدا بربورة في مطلع القرن العشرين مباشرة بزيارات ميدانية.
  3. أن أم جده لأبيه الحاج عبدالنبي بن يوسف المبارك رحمه الله كانت من منطقة بربورة، وهي عليها الرحمة والرضوان زوجة يوسف بن إبراهيم بن الشيخ مبارك الهجيري التوبلاني، وجدة لخمسة أولاد من بينهم والد الشيخ إبراهيم وهو الشيخ ناصر بن الحاج عبدالنبي».
  4. وأن الشيخ إبراهيم استدل بخراب قريب لهذه القرية بأن جدته لأبيه الحاج عبدالنبي بن يوسف المبارك كانت من بربورة ولم تعد الآن قائمة في زمنه بالربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، لكنه أدرك وجودها قبل خرابها نهائياً أو أدرك آثارها من المباني والحجر بمعاينته الشخصية.

فإذا افترضنا بحسبة رقمية مقدرة أنَّ جده المرحوم الحاج عبدالنبي بن يوسف المبارك قد تقدم عليه بجيلين نقدر أن (الجدة البربورية) المذكورة رحمها الله قد وجدت قبل ميلاد حفيدها الشيخ إبراهيم بن الشيخ ناصر آل مبارك الهجيري التوبلاني على أقل تقدير بقرن ونصف أو أقل من السنين، وعاشت – على افتراض أنها مخضرمة العمر – لفترة لا تقل عن جيلين من أعمار الناس الطبيعية بما يعادل (150) عاماً فأقل، وهي في الوقت نفسه منتسبة لعائلة معروفة تتوارث الأبناء جيلاً بعد جيل.

وهذا يعني أن منطقة بربورة كانت عامرة بأهلها إلى وقت قريب لا تتجاوز قرناً من الزمان، فكلمات الشيخ وهو عالم ومؤرخ تعتبر دليلاً وشاهداً حيَّاً على وجود القرية ووجود عمراني لـ «بربورة» التي اندثرت فيما لا تزال بعض آثارها قائمة حتى اللحظة الراهنة، ووجود مواطنين يسكنون في بيوت دائمة، ومكونة من الحجر والطين بحسب شهادة المؤرخ والجغرافي البريطاني لوريمر.

ويؤكد النص التاريخي المتقدم كذلك حقيقة وجود مبان من الآثار والحصى والحجارة للبلدة لا مجرد أكواخ مبنية من الأخشاب والبوص والأشجار وألياف النخيل وسعفها، وهذا يدل على الوجود الاجتماعي للقرية وما تركته هذه المظاهر من حقائق تاريخية لا يمكن إطلاقاً لشخص ينثر رذاذ تزويره ليطمس تاريخ ناصع مجيد بعلمائه.

ولا يستبعد وفق واقع التفاوت الاجتماعي بين الناس في مستوى المعيشة تقبل حقيقة اجتماعية مرتبطة بها، وهي تتفاوت بيوتهم من حيث نوعية الأدوات التي تم بها تشييدها، فقد تكون بيوت مشيدة من الحجر والطين، وبيوت أخرى أكواخ مبنية من البوص وسعف النخيل والأخشاب.

وعاد الشيخ إبراهيم آل مبارك الهجيري التوبلاني رحمه الله إلى ذكر قرية «بربورة» مرة أخرى في موقع آخر من كتابه عندما كتب عن الموقع الجغرافي لقرية النويدرات الملتصقة ببربورة والمتصلة معها فقال رضي الله عنه:
«نُوَيْدِرَات… مخففاً مصغراً وموقعها بين العكر وبربورة».

وأردف قائلاً: «وريفها للشمال… أي ريف النويدرات… يتصل بريف سند من الجنوب، وتتصل هي بالشارع المار إلى سترة».

ونستفيد من النص ما يأتي:

  1. يقرر الشيخ إبراهيم بن ناصر آل المبارك الهجيري التوبلاني البحراني وجود قرية بربورة بموقعها الجغرافي الكائن بين سند جنوباًً، والنويدرات شمالاً وغرباً، خلافاً لنفي السفيه الذي بالغ في العدوان على تاريخ المنطقة بإنكارها التام وابتلاع وجودها بلا رأفة أو رحمة من أجل أحقاد مذهبية وأطماع في دنياه، وليحيط نفسه بهالة «انتماء» مفرطة وكأنه خُصَّ وحده دون سائر الناس بمشاعر مختلفة عنهم في حب الوطن والولاء له.
  2. يربط الشيخ إبراهيم المبارك رحمه الله وأرضاه بين ريف «بربورة» المتصل بريف سند من جهة الجنوب وبين ربف بربورة الموصول بريف النويدرات من جهتين شمالاً وغرباً، وهذا ما جعل ريف القرى الثلاث متصلاً، ولم يذكر في كتابه هورة سند مطلقاً، وأمَّا بربورة فهي قرية حيَّة قائمة قبل المدن الجديدة التي تم تأسيسها كالرفاع والمحرق، وبتأمل في تراجم بعض علمائها نجدها أبعد في وجودها من القرن السابع عشر الميلادي.
  3. أن الريف الأخضر الذي يصل النويدرات وسند ريف طويل، وهو نفسه ما نعرفه اليوم بأكبر دوائر «بربورة» الكبرى، حيث يتداخل ريف القرى الثلاث، ومع بعضها ليرسم جمالاً بين القرى الثلاث يقال إنه سبب تسمية القرية بـ «بربورة» بالشريط الأخضر الطويل أو ما يسميه ناصر بن جوهر خيري بـ «الرياض الناضرة واسعة الأطراف» عندما كان يصف الرفاع الشرقي في كتابه «قلائد النحرين في تاريخ البحرين».
  4. أن في ذكر «العكر وبربورة» دلالة تاريخية مهمة هي أن القريتين السابقين أسبق في وجودهما من النويدرات، وأن بربورة التي تقع شمال النويدرات أصبحت ريفاً لها يمتد من شمالها حتى جنوب سند، ويفيد ذلك أن ريف النويدرات في زمن الشيخ هو الجزء الشمالي من بربورة القديمة التي تمتد للأطراف الغريبة والجنوبية من النويدرات.

شهادة لوريمر

أشار إلى الوجود التاريخي لمنطقة بربورة واعتبارها قرية أصيلة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مؤلف أجنبي هو المؤرخ الانجليزي الأستاذ جون جوردن (لوريمر)، وقد ُنشِرَت ترجمة لموسوعته دولة قطر المكونة من أربعة عشر جزءاً باسم (دليل الخليج) بقسميه الجغرافي والتاريخي الذي صدر في 24 ديسمبر العام 1908م، وقام بإعداد وترجمة هذه الموسوعة باللغة العربية قسم الترجمة بمكتب أمير قطر، وتم توزيعه، وتوجد نسخ منه في المكتبة الحكومية بدولة قطر، كما تحتفظ مكتبات خليجية وبحرينية بعدد من نسخ هذا المصدر التاريخي، وهناك ترجمة أخرى عمانية لم تأخذ حظها من الانتشار والشهرة.

يقول المؤرخ جون جوردان لوريمر نفسه في سفره دليل الخليج وعمان وشرق الجزيرة العربية، القسم الجغرافي، الجزء الأول:
«بربورة على بعد ميلين إلى الشمال الشرقي من الرفاع الشرقي». ثم قال «إنَّ بها 20 مسكناً صغيراً من الحجر للبحارنة الذين يعملون بالزراعة»، وأردف قائلاً: «يوجد ينبوع في شمال القرية تروى منه المزروعات، وعدد الحمير 15، والماشية 2، والنخيل 1760 نخلة تقريباً».

وكانت هذه البيانات مكتوبة في كتابه «دليل الخليج» بجدول موزع على خانات أربع ضمن ما ذكره من قائمة المدن والقرى في البحرين، وقد وضعنا البيانات التي أوردها لوريمر عن قرية باربار بغرض التمييز وعدم الوقوع في الخلط بين القريتين المتشابهتين في الاسم والمتباعدتين في الموقع الجغرافي، وهذه الخانات على النحو التالي كما في الجدول أدناه:
اضطررنا لعرض ما كتبه لوريمر عن باربار لوجود اشتباه لدى بعض الباحثين بين هذه القرية وقرية بربورة، ولوجود خلط في بعض الدراسات التي لم تميِّز بين باربار وبربورة، وقد أدرك لوريمر هذا الفارق وكأنه انتبه لاشكالية الخلط بين اسم القريتين فكتب معلوماته الفاصلة عنهما على تتابع اسميهما في جدوله هذا، ولولا توقع الخلط من جديد لدى بعض الباحثين والقراء لما احتجنا للإشارة إلى قرية باربار؛ لأنه لا مسوغ لنا في المقارنة، كما أن هناك قرية بربرى مندثرة كما ذهب الأستاذ سالم النويدري.

وجاء في الموقع الإلكتروني للأستاذ حسين محمد حسين الجمري المعنون بـ (http://www.banijamrah.info) : «إن المؤرخ الغربي الأستاذ (لوريمر) نقلاً عن كتابه المعروف بـ (دليل الخليج) وصف بربورة بالقرية. وقال: إن بها 20 منزلاً مبنية بالحجارة، وأهلها يعملون في الزراعة، وبها عين عذبة تسقى بها المزارع، وبها من النخيل قرابة (1760) نخلة، وهذه البيانات المعلوماتية مأخوذة من نص للمؤرخ جون، جوردن لوريمر من كتابه (دليل الخليج) القسم الجغرافي، وهي بيانات أولية هامة مدونة في جدول عن مدن وقرى البحرين، ولا تتجاوز هذه البيانات ألفاظها اللغوية (36) كلمة مدونة في الجدول المتقدم».

وما يهمنا هنا أن هذا المؤرخ لاحظ في بربورة أن هناك بيوتاً دائمة وليست عرشاناً مبنية بالسعف، فهي ليست مظعن (مصيف) وإنما مسكن دائم، ولكنها في السنوات اللاحقة تحولت لمظاعن يسكنها أهالي النُّويدرات وبعض العائلات المتبقية من سكان بربورة.

يقول الدكتور منصور سرحان:
«تعد بربورة مصيفاً لأهالي النويدرات، حيث تقام فيها المساكن المبنية من سعف النخيل أو ما يعرف بالعريش، وذلك أثناء فصل الصيف، حيث يتمتع الأهالي بالاستحمام في عيونها الطبيعية للتخفيف من درجة حرارة الجو، كما أن أشهر الصيف هي أشهر جني ثمار رطب النخيل الذي يستمر قرابة ثلاثة أشهر، ما يعني بقاء من يظعن هناك تلك المدة» وربما يستمر الظعن إلى نهاية الشهر الرابع لمتابعة محاصيلهم وخاصة من تمور النخيل.

كما أنه أوضح للقارئ الكريم قضية مهمة وهي أنَّ سكانها من البحارنة، وهم من سكان البحرين الأصليين الذين تشيعوا لأهل البيت عليهم السلام منذ عصر النبوة حتى عصرنا، وكانت هناك معالم دالة على تحضرهم وبعدهم عن القبلية والبداوة التي نقلها للبحرين غيرهم بعد عمليات غزو متكررة، يقول لوريمر نفسه في هذه المسألة:
«جميع البحارنة شيعيون، وهم بطبيعتهم لا يحبون الحرب ويميلون إلى السَّلام، ويعيش الأغنياء منهم على التجارة، أما الفقراء فعلى الفلاحة والغوص من أجل اللؤلؤ وحرف متنوعة أخرى».

ويضيف المؤرخ البريطاني ج، ج، لوريمر في موضع آخر أنه «لا يوجد بين البحارنة تماسك قبلي أو تنظيم». مما يدل على ذلك حياتهم الاجتماعية الهادئة وعملهم المستقر بالعمل الزراعي الذي يتنافى وحياة البداوة والقبلية، وكذلك بروز حركة تعليمية وثقافية طابعها روحي وعقلي في حياتهم وخاصة بالقرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين المتوازيين زمنياً مع (القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين)، وهذا أيضاً يتنافى مع حياة البدو والقبليين.

وقد أشرنا في هذه الدراسة إلى بعض علماء بربورة الأبرار كشهود إثبات على وجودهم ووجود بربورة نفسها، ومنهم الشيخ عبدالله بن الشيخ حسين بن أحمد البربوري البحراني، وابنه الشيخ علي صاحب مخطوطة وفاة النبي يحي، والشيخ ناصر بن عبدالله بن ناصر البربوري البحراني ومجموعة علماء من أسرة واحدة هي أسرة «الربعي البربوري» المكون عددها من (7 علماء) سنذكرهم في حلقة قادمة من البحث، وسنذكر حياة العلماء الثلاثة المتقدمين في هذه حلقة قادمة.

ملاحظات إضافية لرأي لوريمر:
على الرغم من موقف (لوريمر) كمؤرخ محايد في الإقرار المباشر بوجود قرية بربورة في كتابه «دليل الخليج» والاعتراف بكيانها الاجتماعي كما فعل مع مدن وقرى البحرين الأخرى إلاَّ أننا نسجل بعض الملاحظات قد تكون نتيجة قصور غير مقصود في عملية الترجمة أو ناشئة من أخطاء المترجمين أو قصور المعلومات التي وصلته، وإننا نسجل هذه الملاحظات بإضافة بيانات على معلوماته لا بغرض تخطئتها.

إنَّ ما سجله لوريمر في كتابه من معلومات مهمة كانت معبرة عن بعض حقائق الواقع التاريخي للقرية لا كله، فمن الصعوبة تقديم بيانات إيضاحية ومكتملة وموضوع دراسته في سفره الكبير أوسع بكثير من الكتابة عن قرية ضعف حالها وأصبحت أثناء زيارته الميدانية لها قاب قوسين أو أدنى من الاندثار، ومن هنا فإن ملاحظاتنا هي للاستزادة والتعديل.

  1. ذكر لوريمر أن القرية تقع على بعد ميلين في الشمال الشرقي من الرفاع الشرقي، وربما اعتقد أن هذا التحديد الجغرافي يستهدف إبراز جغرافي أوضح لموقع القرية وتعريف القارئ بها لأن الرفاع الشرقي في النهاية ذات موقع بارز وهي امتداد للرفاع الكبرى التي يقع فيها مقر الحكم السياسي للبلاد، ويمكن لقارئ غير بحريني التعرف عليها من خلال هذا الوصف لموقعها الجغرافي والسياسي.
    لإيضاح موقع القرية وتعريف القارئ بها نشير الى ماذكره لوريمر من أنَّها لصيقة بالنويدرات دون فواصل جغرافية وتشابك نخيل القريتين بربورة والنويدرات في شريط أخضر يمتد إلى أشجار النخيل بقرى سند وجرداب وجد علي في شريط أخضر ممتد، وأن يحدد موقعها بين النويدرات وسند كما فعل عدد من المؤرخين البحرينيين، فالمقومات الاجتماعية والثقافية لا تقل أهمية عن البعد السياسي في تحديد موقعها الجغرافي.
  2. سجل المؤرخ الانجليزي (لوريمر) في إقراره بوجود القرية نقطة حيوية هي وجود مباني ومنازل مشيدة بالطوب والحجارة قدَّرَها بعشرين منزلاً في أثناء زيارته مطلع القرن العشرين، وفي ذلك كما نرى شاهد مادي مباشر على الطبيعة الحضرية لسكان القرية واستقرارهم في الأرض وإنتاج أهلها لمقومات الحياة الحضرية كالعلم والثقافة، فالاستقرار ميزة حضارية طبعت بصمتها على سكان القرى البحرينية القديم.
  3. وصف ج، ج، لوريمر في مطلع القرن العشرين الميلادي، أهالي بربورة بأنهم «فلاحون يعملون في الزراعة»، لكنه لم يذكر عددهم حتى تقديراً، ويبدو أنه كان يصف واقعاً لمجموعات السكان القلائل آنذاك، ولكنه لم يستطع كما يبدو من التعرف على مناشط اقتصادية أخرى يعمل فيها سكان القرية وأهاليها منذ سنوات قيامها الحضري في قرون سابقة، فركز للأسف على النشاط الاقتصادي الغالب وهو العمل في الفلاحة وحرث الأرض وزراعة أشجار النخيل، بينما هناك في واقع الحال مناشط عمل بجانب الفلاحة كصيد الأسماك، وصناعة الحصر والمديد والسلال، وبيع ثمار النخيل والمحاصيل الزراعية والغوص، وتربية الدواجن المنزلية، والتعليم القرآني في البيوت، عوضاً عن مساجدها التي تعتبر مراكز علم.
  4. ذكر لوريمر في سفره التاريخي والجغرافي أو كتابه الكبير (دليل الخليج) بعض البيانات العامة عن المياه في بربورة ومصادرها، ونخيلها وطبيعة العمل فيها، فذكر عيناً طبيعياً رئيسية واحدة لم يحدد اسمها، وأكد دورها الكبير في تزويد المناطق الزراعية والمشاركة في أعمال الغوص واللؤلؤ بمائها في مناطق بعيدة، وأحصى بدقة عدد نخيلها (1760) نخلة، لكنه توقف عند هذا الحد، ولم يذكر عيونها الطبيعية الأخرى وكواكبها، وينابيع ماء صغيرة يسمى الواحد منها في ثقافة أهالي المنطقة وسكانها بـ «الساب، الكوكب» وهذا ما لفت النظر إليه أستاذنا د. منصور محمد سرحان في مقالته «بربورة كما عرفتها» على نحو أكثر تفصيلاً.

شهادة الأستاذ ناصر خيري

والجدير بالذكر أنَّ المؤرخ البحريني المرحوم الأستاذ ناصر بن جوهر بن مبارك الخيري عند حديثه عن الرَّفاع الشرقي قال إنها: «تبعد عن المنامة قدر ثمانية أميال لجهة الجنوب، أسست على مرتفع من الأرض، فتكاد أن تكون مشرفة على كل البحرين، وتحيط بها رياض ناضرة واسعة الأطراف، لذلك أطيب هواء وأحسن مناخ من كل بلاد البحرين».

ونلاحظ أن الأستاذ ناصر بن جوهر الخيري لم يحدد الجهة التي تقع فيها الرياض المحيطة بالرفاع الشرقي في النص المتقدم، ولكن بالتركيز في موقعها لا يحيط بها سوى شريط أخضر طويل يمتد من قرى (جرداب فسند ثم بربورة فالنويدرات حتى شباثة وسلبا وفارسية في اتجاه الجنوب بالقرب من عسكر أو عسكر الشهداء كما تسمى أحياناً).

ويقع هذا الشريط أو ما أسماه الخيري برياض ناضرة محاذاة الجهة الشرقية للرفاع الشرقي، أما سائر الجهات الأخرى المحيطة بالرفاع الشرقي فلا توجد فيها مناطق خضراء، وبالتالي فإن ناصر الخيري كمؤرخ لم يذكر أسماء قرى الشريط باستثناء سند والنويدرات وفارسية لكنه أقر بوجودها من خلال تأكيده على وجود رياض ناضرة واسعة الأطراف تحيط بالرفاع من جهتها الشرقية، وتدخل القرى الأربع في نطاقه، وذكر الخيري السبب في عدم ذكره بعض القرى -بعد أن ذكر (62) قرية – أنه اعتبر بعض القرى لا تستحق الذكر لقلة سكانها، حيث قال في كتابه المذكور: «وهناك عدة قرى لا تستحق الذكر، وسكان هذه القرى تتراوح بين المايتين نسمة إلى الخمسماية إلى الألف والألفين وأقل من ذلك».


شهادة الشيخ محمد علي الناصري

قام هذا المؤرخ المهتم بتراث شعب البحرين وتاريخه بتسجيل شهادته بوجود بربورة في أكثر من كتاب، ومنها قوله وهو يتحدث في أحد كتبه عن أسماء بعض القرى البحرينية التي سادت ثم بادت ولم يبق منها غير أسمائها وبعض آثارها.

وفي ذلك يقول الشيخ محمد علي الناصري عن القرى المندثرة هناك: «بعض أسماء من القرى والمدن التي بادت ولم يبق منها إلاَّ الأسماء أو بعض الآثار البالية في البحرين وتوابعها:
1. إسماعيلية.
2. أم الطلى.
3. بربورة.

وأخذ الشيخ محمد علي الناصري يعدد أسماء هذه القرى فبلغ ما حصره منها (32) قرية ومدينة»، ثم وعدنا – كقراء وباحثين – بموافاتنا بالتفصيل الكامل عن هذه الأسماء في كتاب خاص نأمل أن يتاح لنا فرصة الإفادة منه.

ويبدو أنه الكتاب الذي أشار إليه الدكتور منصور سرحان كمخطوطة محفوظة بيد أحد أبناء الشيخ محمد علي الناصري.


شهادة النساخين من أهالي بربورة والنويدرات

عرف المجتمع البربوري كمجتمعات القرى الأخرى القائمة آنذاك حركة ثقافية شهدت بعض مظاهرها المتوافرة لدينا على امتداد وجوده التاريخي في العقد الخامس من القرن الرابع عشر الهجري، وهذا يوافق العقد الثاني من القرن العشرين، ولكنَّ شهادة النساخين في كثير من القرى، وللأسف لم تأخذ حظها من التوثيق والحفظ، ومن الإشارة إليها في مصادر دراسة التراث الثقافي لدى علماء الإمامية في البحرين لأنها لا تنشر في أدبيات معتمدة كالكتب.

ومن أهم مظاهر هذه الحركة الثقافية ما قام به بعض النساخين من نشاط ثقافي تمت بواسطته عملية إعادة «نسخ الكتب وكتابة المخطوطات» بخط اليد في المجتمع البربوري وفي مؤسساته التقليدية التي تولد تلقائياً مع أي تجمع للشيعة كالمآتم، وما تتطلبه نسخ الكتب كعملية ثقافية كانت آنذاك ضرورة لنمو المجتمع البربوري، وهي في الوقت نفسه استجابة طبيعية لإشباع حاجاته الروحية والثقافية.

وبالرغم من مشقة هذه العملية وبخاصة في عصر ما قبل الطباعة في بلادنا فإن عدداً قليلاً من النساخين حرصوا بشدة على إنجازها بواجب ديني محض، إذ تطوع عدد منهم للقيام بمهمة إعادة كتابة المخطوطات ونسخ الكتب وتجديدها وتوزيعها على المآتم للاستفادة منها في المناسبات والمواسم الدينية، وقد يكون مردودها المادي قليل جداً قياساً للجهد المبذول.

ومع أن مخطوطاتهم وما نسخوه من كتب مكنت المجتمع البربوري من تحقيق بعض احتياجاته وإشباعها إلاَّ أنها قد أضافت قيمة علمية من خلال عمرها التاريخي، فقد أمدت الباحثين -ومنها دراستنا- بتواريخ في غاية الأهمية، حيث استخدمنا تواريخ المخطوطات التي نسخها أبناء بربورة كأحد أدلتنا على إثبات وجود بربورة نفسها على نحو يصعب التنكر لها إنْ كانت هناك لدى الباحث رغبة صادقة في طلب الحقيقة وبلوغها والإيمان الصادق بها.

إنَّ تواريخ المخطوطات لا تثبت عمرها فحسب، ولا تقدم بيانات محضة عن نساخها كذلك، بل تؤكد قيمتها العلمية في التدليل على قضايا تاريخية إنسانية وإثباتها في فترة النسخ، واستثمارها في ضبط أحداث يراد لها أن تحفظ أو يستفاد منها كتاريخ في مواجهة حركة توجيه منحرفة تعتمد التزوير كما هو الحال لدى المتمترسين وراء التزوير لوأد الوجود التاريخي لآخرين يختلفون عنهم عرقياً أو مذهبياً.

ومن هنا تكمن قيمة ما نسخه النساخون من أهالي بربورة وغيرهم في الاستدلال بها كوثيقة تاريخية على تقدير العمر التاريخي لقريتهم أو الاستدلال على وجودها في فترة استنساخ الكتب على أقل تقدير وإبطال مزاعم المتعجرفين وصلف تنكرهم ظلماً وبهتاناً وزوراً.

وتضمنت هذه العملية كما سيرى القارئ الكريم في الصفحة الأخيرة من مخطوطاتهم عبارات واضحة وموثقة في تأكيدها على وجود بربورة نفسها من خلال الإشارة إلى مآتمها، وما تزال بعض هذه المخطوطات موجودة لدى المهتمين بتراث بربورة الثقافي، وبالتالي اعتبرناها شاهد إثبات على مشهد من جوانب الحياة الثقافية في بربورة، وصفعة للراغبين في محو اسمها التاريخي.

إن الناسخ ليس مؤرخاً بالتأكيد، فهو لا يهتم بدراسة منهجية ومنظمة لحوادث تقع في التاريخ، لكنه بعد أن ينتهي من نسخ «كتاب معين» بخط يده يكون هذا المخطوط وثيقة تاريخية أو مستنداً يستفاد منه كأحد الشواهد الثبوتية على حادثة بحجم قرية قديمة، بل هي منطقة عمرانية أشبه كما يقال بمدينة متجذرة تاريخياً ومترامية الأطراف كـ«بربورة»، وبالتالي فإن ما يخطه الناسخ هو بالنسبة للباحث خاصة المهتم بالتاريخ هو مستند تاريخي أو وثيقة ثقافية ذات قيمة علمية مؤكدة تعزز منطق المؤرخ وتفسيره لهذا الوجود بأدلة ثبوتية دامغة وقاطعة.

إن عملية النسخ ذاتها تسجل كحادثة تاريخية وقعت في زمان معين وتمت في مكان ما، ثم بالتقادم الزمني وتراكم السنين تسجل نفسها كدليل ثبوتي يفسر حدوث قضية وقعت في التاريخ الإنساني، وهذا ما يتجلى في المخطوطات التي كتبها بعض النساخين في المجتمع البربوري لتلبية احتياجاته من المعرفة الدينية والمادة الثقافية التاريخية، فجهد الناسخ ونشاطه في خط الكتب ونسخها هو في النهاية تاريخ يعزز مهمة المؤرخ في دراسة الوقائع التي حدثت في حياة المجتمع البربوري وتاريخه، ويسهل على الباحثين مهمتهم العلمية في التعرف على الحقائق لأن هذه الوقائع تتحول بالتتابع الزمني إلى سجل تاريخي يحفظ ما جرى منها، ونلمسه فيما بعد من خلال أدوات وعمليات ثقافية كنسخ المخطوطات أو تأليف الكتب، أو التراجم أو الخرائط أو أقوال مؤكدة ومثبتة في مصادر تاريخية.

وعلى ضوء ذلك استفدنا من مخطوطات ما تزال محفوظة تركها لنا بعض النساخ في المجتمع البربوري كشواهد على تاريخه، ووجوده، وكرد علمي على متنطعين يسعون بصلف إلى محو تام لذكر كل أثر لمجتمع لا يشعرون بالانسجام النفسي والثقافي معه حتى لو امتد لعدة قرون بالرغم من توافر الأدلة الدامغة على وجوده في حركة الزمان.

فالإشارات المكرورة إلى ما يعرف بوقف المخطوطات والكتب المنسوخة وقفاً شرعياً دائماً لمأتم بربورة الذي يديره الحاج علي بن عيسى بن محمد البربوري وإخوانه في منطقة سكنهم الأصلية (بربورة) تستبطن في حد ذاتها شهادة تاريخية واضحة من هؤلاء النساخين على استمرار وجود هذه القرية حتى تاريخ نسخ بعض هذه المخطوطات في نهاية العقد الثاني من القرن الهجري الرابع عشر… أي قبل وقتنا بمائة واثني عشر عاماً هجرياً.

فالناسخ المعروف علي بن عيسى بن عبد الله بن آل سليم (ويقال في بعض الأقوال أنه من أهالي بربورة) قدم أكثر من إشارة نسجلها نحن الباحثين كشهادة ذات قيمة علمية بوجود قرية بربورة في زمن قريب لم تنته بعد آلامه وذكرياته، ولم تختف متاعبه من وجودها الاجتماعي- التاريخي، وذلك حينما أكد هذا الناسخ في أكثر من مخطوط أن المرحوم علي بن عيسى بن محمد البربوري أوقف وقفاً شرعياً دائماً ما كان يستنسخه هذا الناسخ من كتب ومخطـــوطات لمأتــم بربورة سنة 1318 1319-هـ.

وقد أرَّخ علي بن عيسى بن عبد الله آل سليم لهذه الشهادة في أكثر من مخطوط بالتاريخين المتقدمين كما سترى في اثنين من الوثائق والمستندات التاريخية اللتين سنعرضهما في الحلقة النهائية من دراستنا بعنوان (وثائق ومستندات تاريخية)، فتاريخ 1318هـ هو تاريخ الانتهاء من أحد مخطوطاته، وهو تاريخ يوافق العام (1900م)، أي بداية مطلع القرن العشرين، وهذا يشهد بأنَّ هذه القرية عامرة حتى ذلك التاريخ بعدد من عوائلها التي أحصاها لوريمر بـ«20» مسكناً صغيراً من الحجر على حد قوله، وأنَّ مآتمها ما تزال تؤدي واجباتها الروحية والثقافية أثناء زيارته، وأنّ بربورة تشهد آنذاك نشاطاً في مآتمها.

وهذا زمن يسبق زيارة المؤرخ الانجليزي (ج، ج، لوريمر) لبربورة بسنوات ثلاث أو بسنتين على أقل تقدير، كما أنه يسبق صدور كتابه «دليل الخليج وعمان وشرق الجزيرة العربية» بثمان سنوات، حيث ظهر هذا السفر التاريخي للوجود في نسخته الأجنبية في 24 من ديسمبر/ كانون الأول سنة 1908م، وظلت مخطوطات بن آل سليم رحمه الله تستخدم في مآتم بربورة وحسينياتها وفي النويدرات لسنوات عديدة لا تقل عن نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين، وبعبارة واضحة حرصت بعض مآتم بربورة وفي مقدمتها مأتم «البربوري» على استخدام مخطوطات بن سليم رحمه الله في القراءة المعروفة بالحديث حتى العام 1960على أقل تقدير كما يقول بعض المعمرين، ثم هجرها الناس وبقيت المخطوطات محفوظة بيد أصحاب المآتم بالرغم من عدم استخدامها لمستجدات الحياة وإقبال الناس على الكتب المطبوعة بحلل جديدة ومشوقة وأكثر وضوحاً.

شارك برأيك: