هذا البروفايل يحوي ملخص كتابي دوحة الفارسية وهو عبارة عن مقابلة اجرتها معي الصحافية الاستاذة باسمة القصاب والكتاب يتحدث عن قريتي عسكر والفارسية المندثرتان ويحوي وثائق وصور نادرة وكثير من المعلومات القيمة وهذا نص البروفايل:
“أوقفتني الساحرة وقالت لي: ليس الكلام في الكتب، الكلام في الناس”. قاسم حداد
الفارسية المندثرة
نسأل الناس الذين هم في الجوار والذين هم في ذات المكان، نسأل عن الأرض التي كانت، وعن البحر الذي كان، وعن القرية التي كانت، وعن النخل والعين والدالية والبستان والجوبار، وعن الإنسان الذي كان.
لم تتضارب الإجابات، كما حدث مع مسافر زاآد، ولم ينف بعضها بعضاً، ولم يرو كل واحد حكاية جديدة تخالف الأخرى. لم نسمع كلاماً يقول: “لم يكن هنا ثمة….”. بل كلٍّ يقول: نعم كان هنا ثمة نخل، ثمة أرض، ثمة بستان، ثمة مُلك، ثمة وقف، ثمة قرية، ثمة إنسان.
الكلام الذي في الناس (لا الكلام الذي في الكتب)، يقول تاريخ هذه الـ (ثمّة)، وكيف تغيّرت إلى (ثمَة) أخرى، فغيّرت وجه المكان وتاريخ المكان وإنسان المكان.
كل إجابة توقفنا، تضيف من واقعها إلى واقع الإجابة الأخرى ما يُصْدِقُها، تضيف روايتها إلى تاريخ الرواية الأخرى ما يثريها، تضيف ماضيها إلى حاضر الأخرى، ما يؤلف من كل ذلك حقيقة خاصة. حقيقة ليست في الكتب، بل في الناس. حقيقة محفوظة في قلوب الناس لا في قوة الكتب. توقفنا هذه الحقيقة، كما أوقفت قاسم ساحرته. تقول “لا تكلمهم إلا رمزاً، ففي ذلك نعمة لهم، ورحمة عليك”. لكنها من جهة أخرى تفصح بالرمز مثل اللغة، فحروفها كلها مكشوفة.الفارسية.. تفصح بالرمز مثل اللغة
أوقفتني في بابها وقالت: إذا طرقت لن أفتح، وإذا فتحت لن تدخل، وإذا دخلت لن تص ل، وإذا وصلت لن تعرف، وإذا عرفت لن تدرك، وإذا أدركت لن تنال، وإذا نلت لن أكون، فكل هذه الأبواب لا تفضي بك إليّ. قاسم حداد
لم يخطئها اسمها. فالفارسية قرية عجماء، منذ أن هجرها أهلها عام 1925م، مخلفين وراءهم بيوتهم وأراضيهم، مرتحلين إلى قرية المعامير القريبة. لا تنطق قرية الفارسية اليوم كلاماً. فقدت قدرتها على النطق منذ فقدت قدرتها على تجديد دورة الحياة فيها. منذ تحولت من أرض خضراء تضم حوالي 1900 نخلة، كما يصفها لوريمر (1904م) في دليل الخليج، إلى أرض سبخة يابسة ودثار ميت. منذ تحولت من ظلٍّ غضٍّ كثيف، كما يصفها الحاج جاسم بن حسن بن عتيق “لم تكن الشمس تصل إلى الأرض بسبب كثافة النخيل، من يقف بين النخيل لا يرى الشمس”، إلى أرض جرداء قاحلة مشتعلة بالشمس.
تقف الآن عند باب قرية الفارسية المدثورة. تَطرُق فلا يُفتح لك. منطقة محظورة. وإن فتحتَ أنت، وإن دخلتَ، وإن وصلتَ، وإن عرفتَ، وإن أدركتَ، فستقف عند ما لن تناله. كل أبواب الفارسية، لا تفضي بك إليها إلا دثاراً، أثراً وحجراً وقبراً وشاهداً وركاماً وبقايا إنسان. يكلمك الدثار رمزاً وتكلمه تأويلاً. لم يبق من هذه القرية غير الكلام الذي في الناس. وحده الكلام الذي في الناس يحمل ذاكرة غير عجماء للقرية التي كانت ناطقة بالحياة.
التي كانت..
هي واحدة من قرى الساحل الشرقي للبحرين “التي كانت”. تمتد على خط واحد مع باقي القرى الساحلية: العكر، المعامير، سابية، شبافة، سلبة، رأس سلبة، الفارسية، زويد، رأس زويد، رأس أبو جرجور، عسكر، ثم رأس حيان على التوالي. لم يبق من هذه القرى الآن غير العكر والمعامير وعسكر، أما باقي القرى، فهُجرت واندثرت وصارت تاريخاً.
جاء في دليل الخليج، أن الفارسية تقع على الساحل الشرقي على بعد ثلاثة أميال من الرفاع. وجاء في عقد اللآل للتاجر، أن الفارسية تقع على الساحل الشرقي للبحرين في الطرف الجنوبي لمدينة المنامة. يحددها جاسم حسين بوصف أكثر عصرنة “تقع جنوب شركة نفط البحرين بابكو. يحدها من الشرق ساحل البحر وقرية سلباء المندثرة، ومن الجنوب قرية أبوجرجور المندثرة التي أقيم على آثارها محطة أبو جرجور لتحلية المياه، ثم قرية عسكر. أما جهة الشمال فتحدها منطقة سيبة وشباثة والمعامير. وفي غربها تقع منطقة زويد ثم شركة المنيوم البحرين ألبا”.
لماذا فارسية؟
قيل في سبب تسميتها الفارسية خمس روايات:
الأولى تنسبه إلى زوجة القائد الإيراني الذي بعثه نادر شاه ملك إيران للإستيلاء على البحرين ونهبها من يد البرتغاليين. دخل الجيش الفارسي (حسب المروية) من الساحل الشرقي. وأختار أن يقيم في هذه القرية. كانت زوجة القائد (قدمت معه إلى البحرين)، تمتلك سلطة ونفوذاً كبيرين على زوجها. لذا سميت بالفارسية.
الرواية الثانية تنسبها إلى إمرأة فارسية تزوجها أحد أبناء المنطقة، فكان أهل القرى المجاورة يلقبون عيالها بأبناء الفارسية، فتعارف الناس على تسميتها بمنطقة أبناء الفارسية.
الثالثة ترجع أصول سكان هذه المنطقة إلى بلاد فارس.
وترجعها الرابعة لعبد الله بن فارس، أول من سكنها، تصفه المروية أنه كان فارسا شجاعا، وقد وفد الناس إلى المنطقة وسكنوا بجواره ليحتموا به من قطاع الطرق والمجرمين.
الخامسة تنسبها للفرسان المرابطين. قيل أنها كانت ثغراً لهم. يعود ذلك لقربها من قرية عسكر التي كانت معسكراً لجنود عبد الملك بن مروان، كانت الثغور موزعة على طول الساحل. وكان تمركزهم في الفارسية، فكانت التسمية نسبة إلى الفرسان. ولا يزال حتى اليوم يطلق على أهل الفارسية لقب “الفراسنة”.
تتعدد المرويات هنا، لكن ليس لينفي بعضها الآخر. بل ليكمله. القوة حضور مشترك في معظم هذه المرويات رغم اختلاف أسمائها. هي مرة قوة الفرس، ومرة قوة بني مروان، ومرة قوة القراصنة وقطاع الطرق والمجرمين. كلّ هذه القوى، هي نماذج لمحاولات الاستملاك المستمرة للبحرين عبر الأزمنة المختلفة.
جنّة الخوف..
تمتلك الفارسية ساحلاً رملياً نظيفاً له شهرة واسعة. غنيا بأنواع السمك. يرمى الصيادون الشبك فيمتلئ سمكاً. يمتد ساحل الفارسية من قرية سلبا شرقا الى حدود قرية ابو جرجور. كانت سفن الغوص والقوارب ترسوا فيه كلما عبرته. “كأني أراه الآن في ذاكرتي الصغيرة. ساحل رملته ناعمة نظيفة. تقف النخيل قريباً من الساحل. كأنها تطل عليه. يهيج الماء فيصل الموج إلى أسوار المزارع. يدغدغها ببياض زبده، ثم ينسحب عائداً نحو بياض البحر” الحاج جاسم بن حسن. كباقي قرى البحرين الخضراء، الساحلية منها على وجه الخصوص، تبدو الفارسية مصيفاً. اعتاد أهل القرى النزوح نحو السواحل في الصيف.
ربما كان الساحل الذي جعل من الفارسية جنة خلاّبة، هو عينه ما جعل منها مكاناً غير آمن تتهدده القوة. كانت القرى الواقعة على الساحل الشرقي دائمة التعرض لأعمال القرصنة حتى بدايات القرن العشرين. المقيم البريطاني دوّن في وثائقه ملاحظات تشير إلى وقوع أعمال قرصنة تشكل تهديدا مستمرا للبحرين لاسيما الذين يقيمون قرب السواحل القريبة من الزبارة. هذه التهديدات جعلت الفارسية مكان خوف لا مكان أمن. في كتاب حاضر البحرين يشير الشيخ ابراهيم المبارك إلى أنه “يوجد من الفارسية أناس متفرقون في بلدان البحرين هرباً منها، وذلك لبعدها عن القرى العامرة، فلا يزالون في خوف من تهجم اللصوص”.
يروي (الفراسنة) عن آبائهم وأجدادهم، حكايات القرصنة القادمة من البحر والسواحل القطرية. كان أهل الفارسية يعملون في الزراعة وإذا انتهى موسم الزراعة يعملون في صيد السمك ثم الغوص. يغيب الرجال ولا يبقى غير النساء والأطفال. تكثر أعمال النهب والسرقة والقرصنة أثناء فترات الغوص. تتسلل السفن والقوارب للسواحل المجاورة، ويقوم أصحابها بسرقة المال والتمر والماشية.
جنّة الماء..
في دليل الخليج، يشير لوريمر (1904م)، إلى أن الفارسية كانت أرضا خضراء تضم حوالي 1900 نخلة، وجميع أهلها يعملون في الزراعة، ولديهم خمسة حمير، وخمسة من الماشية (الأبقار)، وأنها في عام 1895م، كانت تضم ثلاثين كوخ وبرستج. ويذكر أن خالد بن علي آل خليفة حاكم جزيرة سترة وقراها (عشر قرى)، كان يملك بيتا في الفارسية وكانت الفارسية ضمن القرى التابعة لجزيرة سترة . يحكمها خالد بن علي شقيق حاكم البحرين آنذاك عيسى بن علي آل خليفة.
للفارسية عيون كثيرة. عيونها قريبة من سطح الأرض. وكأن أرض الفارسية الخصبة بالزرع والماء، كانت تفتح ماءها وتدعوك لتستنبعها. “من أراد الماء، ليس عليه سوى أن يحفر الأرض أمتاراً قليلة فقط، فينبع الماء العذب بين يديه”. الحاج حسن العازمي (مواليد 1943).
أشهر تلك العيون، هي عين الفارسية الكبيرة. تمد هذه العين أذرعها أنهاراً. فيصل ماؤها إلى القرى المجاورة مثل قريتي زويد وسابية. تسقي العين الفارسية زرع هذه القرى ونخلها. ماؤها المعدني بارد في الصيف وساخن في الشتاء. يخرج منها الدخان والبخار لشدة سخونتها. تهيئ العين الكبيرة الناس للسباحة حتى في أشد الأوقات برودة. “كنا نتدفئ بالاستحمام في العين شتاءً”. الحاج حسين القصاص (عاصر سنة الطبعة).
قوة العين..
تجف عيون القرى المجاورة، وتبقى عين الفارسية مقصداً للناس ومشرباً وُسقيا. يهجر الفراسنة قريتهم في عام 1925 إثر استمرار تعرضهم للهجمات من القراصنة وقطاع الطرق والمجرمين والسرّاق وأصحاب القوة. يجفّ الناس عنها فتصير خالية من الانسان، وتبقى عينها صامدة بالماء. تنبع العين من الأرض. الأرض قوة تبقى رغم كل شيء. تريد العين أن تقول كلمتها، أن تفصح عن معناها. يتردد أهل القرية على أرضهم وأملاكهم بين حين وحين. تشير لهم الفارسية بعينها، فيقفون عندها، يكلمونها عن فعل القوة، فتكلمهم عن فعل الماء. يتزودون. يسبحون. ثم يعودون، وكأنهم يأتون ليستمدا من قوة العين قوتهم للبقاء. لعل هذه القوة هي ما جعلتهم يعمرون قريتهم الجديدة التي سمّيت فيما بعد بالمعامير. بقى الناس يترددون على عينهم (عين الفارسية) حتى تم انشاء شركة بابكو بعد عشر سنوات من نزوحهم 1935م. “كنت طفلاً أرافق بعض عائلتي وهم يترددون على قريتهم الفارسية، كانوا يذهبون لمزارعهم ونخيلهم في فترات متقطعة، أذكر أني أكلت من رطبها، لكنهم انقطعوا عن زيارتها بسبب بُعدها، وتكرار سرقة تمورها، وتخريبها المتعمد”. الحاج جعفر بن عتيق.
استسلام العين..
بعد انشاء شركة بابكو تقوم بحفر عين كبيرة وعميقة، فتسحب هذه أغلب مياه العيون القريبة. ستؤثر عين بابكو على عين الفارسية الكبيرة وباقي العيون الصغيرة المجاورة لها. ستجعلها تستسلم للجفاف بعد سنين طويلة من مقاومة الموت. كما ستؤثر على زرع الفارسية والحياة الطبيعية فيها. بقت الحياة الطبيعية في الفارسية تقاروم حتى سبعينات القرن المنصرم. لكنها أخيراً استسلمت للموت. يُروى أنه بعد إنشاء بابكو، قام الحاج عبد العزيز العازمي بحفر بئر عميقة في مزرعته. لما وصل إلى الماء وجده ملوثاً بالكبريت. فلما أن استخدمه لزرعة تأثرت النخيل والزرع.
ضعفت عيون الفارسية، وبقيت ضعيفة مدة من الزمن، إلى أن بنت الحكومة محطة أبو جرجور حيث حفرت تسعة آبار ضخمة جنوب الفارسية لتزويد المحطة بالمياه الجوفية. فكان هذا المشروع سبباً آخر لجفاف عين الفارسية والعيون المجاورة. بقاء العين مهملة بعد رحيل سكان الفارسية كان سببا رئيساً لموتها أيضاً.
أما عن بيوت الفارسية ومقبرتها، فقد لشركة ألبا دور كبير إتلاف مساحات واسعة منها. حيث شقت طريقاًً لبناء جسر يمر وسط القرية ليصل الى حالة أم البيض. قامت الجرافات والآلات بجرف أجزاء من المنطقة، فاختفى الكثير من أثار القرية ومعالمها.
خفقة بن حرز
ليست أعمال القرصنة وحدها هي سبب نزوح أهل الفارسية وهجرهم لأرضهم. يستحضر معمّري الفارسية حكايات حول نشوب خلافات قبلية وطائفية مع القبائل الوافدة على الساحل الشرقي آنذاك، وتضرر أهل الفارسية منها. غياب قوة القانون تستحضر قوة من نوع آخر. قبل الانتقال إلى الطور البيروقراطي عام 1923، كانت الأمور غير مستقرة في مختلف قرى البحرين. الذاكرة الجمعية التي في الناس لا تلك التي في الكتب، تروي عن سيطرة بعض أصحاب القوة على المناطق الغنية بالماء والزرع والنخيل.
في قرية الفارسية قام هؤلاء (البعض) بالاستيلاء على الأراضي والمزارع والنخيل بالقوة. يلجأ المزارع الفقير إلى استئجار الأرض مقابل إعطاء صاحب القوة أغلب خراجها من التمر وباقي المحاصيل. كثيراً ما كان المزارعين وأبناءهم يعملون في أراضيهم التي استولى عليها صاحب القوة، مقابل مال قليل أو محصول زهيد.
تستحضر ذاكرة (الفراسنة) حكاية الحاج عباس بن حرز. تذكر أنه استأجر أرضاً من أحد أصحاب القوة الذين استملكوا أرضاً في الفارسية. في نهاية كل عام عليه أن يسلّم (صاحبها) ستة عشر جلة (160 كلة تمر). في إحدى السنوات قل المحصول. أنتجت الأرض حوالي عشر جلات (100 كلة تمر). جاء المتنفذون ليستلموا التمر. اعتذر إليهم بن حرز عن قلّة محصول العام. لم يُقبل عذره واتُهم أنه خبأ باقي التمر أو سرقه. وثِّق بن حرز بالحبال وسحبته الخيل. بقت الخيل تجره على طول المزرعة ليعترف أين خبأ التمر. أحد الأحصنة قام برفس بن حرز في صدره. بقت هذه الرفسة علامة في صدر بن حرز طيلة حياته. تركت الرفسة أثرها خفقة في صدره لم يمحوها الزمن. كما لم يمحوها من ذاكرة الأهالي ومروياتهم.
الواقعة الأخيرة..
أما الحادثة الأخيرة، والتي نزح على إثرها آخر من تبقى من أهالي قرية الفارسية، فهي وقعة مقتل الحاج محمد بن يوسف بن قمبر، والحاج عبدالله بن عتيق.
يُروى أن للحاج محمد قطعة أرض تجاور أخرى يملكها أحد أصحاب القوة. زعم الأخير أن الحاج محمد يسد مجرى النخل عن نخله. النهر يمتد من عين الفارسية الكبيرة إلى نخلهما معاً. هجم الأخير مع بعض رجاله على بيت الحاج محمد (برستج)، فتعارك معهم الحاج محمد باليد، وكان عتيداً سريع الغضب. تجمع عليه الوافدون، فوثقوه بالحبل وسحبوه إلى بيت والده وقتلوه أمامه. أما الحاج عبد الله بن عتيق، فقد كان نائما وأيقظته زوجته، فخرج ليستطلع الحادث فأطلقوا عليه النار وسقط ميتاً قرب بيته. وكان أخوه علي قد لحق به فأطلقوا عليه النار أيضاً. لكنه أصيب في رجله وكتفه. نقله على إثرها إثنان أهل الفارسية على حمار للمستشفى الامريكي في المنامة، وهناك تم إخراج الرصاص ومعالجته. شهد هذه الواقعة ابن الحاج عبدالله بن عتيق وكان اسمه محمد وعمره 10 سنوات حينها (مواليد 1915)، فبقت تفاصيل هذه الحادثة قابعة في ذاكرته الصغيرة، لم تفارقها حتى فارقت روحه الحياة. كانت هذه الحادثة آخر الوقائع التي جرت في الفارسية. بعدها هجرها أهلها وتفرقوا في القرى المجاورة.
هاهي القرية الفارسية إذن، توقفنا في بابها وتقول: إذا طرقت لن أفتح، وإذا فتحت لن تدخل، وإذا دخلت لن تصل، وإذا وصلت لن تعرف، وإذا عرفت لن تدرك، وإذا أدركت لن تنال، وإذا نلت لن أكون، فكل هذه الأبواب لا تفضي بك إليّ. لا تفضي لنا أبوابها عن القوة التي استملكتها. ولا عن الأقدام التي أضاعت معالم خريطتها. ولا عن المسح الذي لم يسجل الحياة فيها كيف كانت وكيف صارت. ليست تخبرنا الفارسية عن وثائق أراضيها كيف ضاعت أو طمرت أو أُخفيت. ليست تكلمنا هذه القرية إلاّ رمزاً. لم يبقى غير الرمز والكلام الذي في الناس.
هامش:
جميع المعلومات غير الموثقة، والمقابلات، مأخوذة بتصرف، من دراسة توثيقية غير منشورة، أجراها الباحث الشاب جاسم حسين إبراهيم آل عباس من قرية المعامير. تتناول هذه الدراسة تاريخ قريتي عسكر والفارسية. الشكر الجزيل لصاحب الدراسة على الثقة التي منحها بروفايل، بما قدم من مادة ثرية، وبما سمح بالاستفادة من كافة المعلومات والصور التي تضمنتها دراسته، رغم عدم نشرها حتى الآن.
جاسم حسين.. رحلة استنطاق الفارسية:
“لأني مهتم بالكتابة المسرحية والسينمائية، ولي كتابات سابقة في هذا المجال، فقد بدأت الفكرة عندي بالرغبة في عمل فيلم وثائقي عن قرية المعامير. كان ذلك في العام 2003. أردت أن أتناول تاريخ قرية المعامير وأصول سكانها. لكني اصطدمت بالمادة المرجعية، لم أجد تاريخاً موثقاً أستند إليه. الكتب المتوافرة لا تقدّم سوى معلومات مقتضبة تكاد لا تقول شيئاً. لم يقل الكلام الذي في الكتب ما يكفي، فذهبت أبحث عن الكلام الذي في الناس”.
الباحث جاسم حسين ابراهيم آل عباس، شاب في بداية العقد الثالث من عمره. نشأ في قرية المعامير، لكن أصول عائلته تعود إلى قرية عسكر. مهتم بالتاريخ، والتاريخ البحريني على وجه الخصوص، يستهويه البحث والتنقيب واكتشاف الآثار. عندما سُجن في العقد التسعيني المر لمدة أربع سنوات تقريباً (95-99)، كانت قراءة كتب السير والتاريخ هي ما يشغل معظم وقته، وكذلك كتابة المسرحيات والأفلام. عندما بدأ بحثه عن قرية المعامير التي تعود أصول سكانها إلى قريتي الفارسية وعسكر. حيث نزح سكان هاتين القريتين إلى قرية المعامير إثر هجرهما لقراهما. وجد جاسم ضرورة البحث عن تاريخ هاتين القريتين. “لا يمكن الحديث عن تاريخ المعامير دون الرجوع إلى تاريخ الأصول المكونة لها”. مع البحث وجد جاسم نفسه يسقط في هاتين القريتين. كان سقوطاً لذيذاً له غوايته الخاصة. أسلم جاسم نفسه بين يدي غوايته أكثر. فتحولت مقدمة كتاب المعامير إلى كتاب آخر عن الفارسية وعسكر.
“ذهبت أسأل الناس، فوجدت التاريخ محفوظاً في قلوب الشيوخ والمعمِّرين. بعضهم من الجيل الأول الذين نزحوا إلى المعامير، وبعضهم من الجيل الثاني الذي أخذ الكلام عن آبائه. خشيت أن يموت هؤلاء فتموت معهم الحقيقة وتختفي. كان لا بد أن أنزح إليهم واحداً واحداً. وهكذا فعلت. جلست إلى كل من استطعت الوصول إليه. كان تحصيل الكلام صعباً في البداية. جاء هؤلاء إلى المعامير محمّلين بإرث الخوف. كانوا يتهيبون الكلام. بقيت أتلقف الكلام من كل طرف وأصله بالطرف الآخر. أجمع ما يبعثرون. أكمل بواحدهم ما ينساه الآخر. كان البعض يستحث الذاكرة على استحضار التاريخ والحدث. معظم من جلست معهم ماتوا اليوم. لكني أحتفظ بتصوير كامل لكل لقاء. قررت أن أجعل من هذا الكلام كتاباً. أن أحفظه للتاريخ”.
في محاولته الأولى لزيارة الفارسية، للتعرف عليها، وجدها منطقة محظورة، وحين تحصل على تصريح بالدخول (بعد شهر ونصف)، راح يبحث عنها دون أن يتمكن من تمييزها ومعاينتها بالتحديد. في الزيارات الميدانية الأولى كان الأولى كان جاسم يرد قرية زويد (غرب الفارسية) على أساس أنها الفارسية. ”استعنت بأحد كبار السن، ممن كانوا يترددون على الفارسية في السبعينات، وهناك أراني حدودها، فعرفت أني كنت أني كنت أزور المكان الخطأ. دلني على مساجد الفارسية وعينها، ثم بعد تنقيبي الخاص، اكتشفت المقبرة وباقي الأماكن التي تناولتها في دارستي، كما عثرت على بعض العملات والأواني الفخارية”. لم ينشر جاسم دراسته بعد، لكنه يعمل على نشرها قريباً.
الكتاب قيد النشر
يقع حوالي في 250 صفحة