أوقف الأستاذ أبو عبد الله سيارته متجها نحو بوابة المدرسة، وقد كان في عجلة من أمره وهو يلتهم الخطى التهاما، ليصل إلى قاعة الإدارة، ويثبت تواجده الصباحي قبل السابعة، وقبل أن يسحب ملف التواجد فيحسب من المتأخرين. في هذه اللحظات القلقة لم يكن يلتفت هنا أو هناك وما توقف لأحد بل أفشى السلام وهو يطوف ببعض المدرسين المتجمهرين بالقرب من الإدارة كعادتهم، وما كانت هذه عادته. فقد اعتاد مصافحة كل على حدة. يقف عندهم يتبادل وإياهم التحية فردا فردا وكان من بين المتجمهرين الحاج محمد، أحد المستخدمين بالمدرسة (الفراش) الذي تعود من أبي عبد الله كل لطف وعطف، كانت عينا الحاج ترصدانه، تتبعا خطواته، وبينما هو في الطريق إلى غايته قطع عليه الحاج محمد دربه، فوقف وهو يهم بالمسير، افترسته عين الحاج قبل أن ينطق ببنت شفة، مد الحاج يده للأستاذ، ومازالت عيناه موجهة لقواسم وجه تنهشه انتهاشا، وكأنه يريد أن يقول شيئا، لكنه تلعثم في حديثه وقطعه قائلا: صباح الخير أبو عبد الله.
مد الأستاذ يده في تثاقل ليد الحاج، وهو يقول: صباح الخير، كيف الحال يا حاج محمد؟ وهو يحاول سحب يده وتخليصها من يده ليكمل مشواره.
لكن الحاج تشبث بها وهو يقول: تسأل عن الأحوال. أحوالنا ويلات، ومصائب هذا هو شأن من هو على شاكلتنا، يعيش المعاناة كل يوم.
أجابه الأستاذ في هدوء: “وهو يجذب يده منه” أعانك الله، وأصلح أمرك، والآن اتركني سنتحدث فيما بعد فإني مشغول.
الحاج: كلما أقدم، أرى أنك مشغول، أو تتشاغل عني وكأنك تطردني.
الأستاذ: أحس بوخز الضمير، وقال في ترو: اتركني الآن، والحق بي بعد لحظات عن مكان التوقيع بالإدارة.
ترك الحاج الأستاذ وهو مستبشر، اقتفى الحاج أثر الأستاذ كما الفصيل يقتفي أثر أمه، وصل الأستاذ إلى مكان التوقيع، وإذا بالملف قد رفعه المستخدم وتوجه به مهر ولا إلى حجرة المدير المساعد ليرصد الآخر بدوره المتأخرين، ويضع إشارة حمراء بارزة أمام اسم كل متأخر، ولكن الأستاذ قطع الطريق عليه فراوغه جعفر لكنه سرعان ما أمسك بالملف، فاستسلم صاحبه في مجاملة لطيفة توحي بالحياء والاقتناع، فأثبت الأستاذ توقيعه في تمام الساعة السابعة، وقد حاول بعض المدرسين محاباة المستخدم، ولكن فتوة المستخدم انتصرت فغادر بالملف من مكانه في فضول وغبن وتمتمات لا تتضح ألفاظها لكنها مفهومة المغزى ..
عندها قال الأستاذ أبو محمد: ماهذا؟! كأننا في الجيش أو الشرطة!! ماضرهم لو أنهم انتظروا دقيقة أو دقيقتين؟! مالذي سوف يحصل؟!
أجابه الأستاذ”في شيء من الغضب”: هؤلاء عندما يصلون إلى المراتب يتناسون أنفسهم، فكيف حال الآخرين معهم؟!
عندها حاول الأستاذ أبو عبد الله التخفيف عنهم، بأن يأخذوا الأمر ببساطة، فهذه مسألة لن يكون لها تأثير كبير عليهم، استثقلوا رأيه، لأنه سبقهم بالتوقيع فما عاد الأمر يهمه، عاود المتأخرون لغطهم بأصوات ونبرات مختلفة.
فقال أبو محمد: كم تتناسى الإدارة جهود المدرسين؟! وتتغافل عن نشاطهم!! لكنها سرعان ما تحاسبهم على أتفه الأمور وأبسطها، فأي واقع هذا الذي نعيشه؟!
فيجيب الأستاذ خالد: هذا وضع غير سليم، ولكن ما حيلتنا؟! وماذا نفعل؟ هذا هو واقعنا فنحن مقيدون، وقد اعتدنا النهج الصلف والنبرة النشاز.
يتأفف الجميع وهم يفترقون بخطوات متباينة، فمنهم من يسرع الخطى ليلحق بطلابه، فالحصة الأولى قد بدأت، ومنهم من يتثاقل في سيره، ليجد شخصا آخر يصاحبه لينفث ما في صدره من غيظ وحنق وآهات، وثالث يتمتم ليسمع نفسه دون سواه، ورابع يتحرك في صمت وهدوء، دونما تأثر أو تأثير وكأن لم يكن.
أما الأستاذ أبو عبد الله، فقد لزمه صاحبه الحاج محمد ليتابع المشوار معه، أحس الأستاذ به، فبادره القول: نعم يا حاج، ماذا تريد؟
– كيف تسأل عما بي؟! وكأنك لا تدري! أنت مدرس مثقف واع، وتعرف كيف هي أحوال رجل فقير مثلي؟!
– الأحوال يا حاج لا تتغير أو تصلح إلا بالصبر والعمل والكدح، والقرآن يقول: ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه))
- اترك عنك هذا الحديث، تنصحني وكأنك في مسجد، وكأني مختلف معك في شيء، فأنا لست مختلفا معك على العمل، ولكن ألا أيريد العمل جسدا قويا؟! وأنت تعلم بأن جسدي متعب مرهق، وقد ذرفت على الستين، وليت بليتي بي وحدي، فزوجتي هي الأخرى متعبة، ماذا أفعل؟! قل لي! وأنا لم أشتك لك حال الأولاد بعد!! فكم هم في حاجة ماسة لمصاريف المدرسة والبيت كبقية أبناء مجتمعهم و أنا لا حول لي ولا قوة، وحالهم يرثى له، وأمرهم يبكي العدو بملابسهم الرثة المهلهلة، وواقعم البائس ..وحرمانهم المستمر من ملذات الحياة.
قال أبو عبد الله.. بعد صمت قصير وتردد: نعم لقد تذكرت ياحاج أن المدرسة عازمة هذه الأيام على إنشاء الصندوق الخاص بكم وآمل أن تستفيد منه كبقية المستخدمين.
الحاج.. في تهكم وسخرية: المدرسة؟! وعودها كثيرة..
في هذه الأثناء يرفع صوته سكرتير المدرسة عن بعد ليسكت صوت الحاج، فيطلب الأستاذ أبا عبد الله فيضطر لقطع الحديث وهو يقول: أستأذنك يا حاج محمد.
- تفضل، ماذا نفعل؟! (يقولها على مضض)
- السكرتير: يا أستاذ، أعتقد أنك ستتعب نفسك في فراغ، ولن تستطيع الاستمرار مع الحاج محمد، فمطالبه كثيرة، وأنت تتعامل معه، وكأنك لم تعرفه بعد.
- الحاج متعب وزوجته كذلك، ولديه أولاد لهم مطالب وهو يحتاج لمن يقف إلى جانبه ونحن من واجبنا..
يقاطعه السكرتير: نحن ماذا نفعل له؟! نحن لا نستطيع أن نحل مشكلة الفقر للجميع، فكيف تتصور أحوالنا يا أستاذ، هل نحن من مشكلة الفقر للجميع، فكيف تتصور أحوالنا يا أستاذ، هل نحن من أصحاب الملايين؟! “إن هذه الكعكة من ذلك العجين”
– المفروض أننا..
يقاطعه السكرتير: اتركنا الآن من هذا الموضوع والمفروض أنك توقع لي في السجل عن الأدوات التي استلمتها من المدرسة وستبقى في عهدتك طوال هذه السنة الدراسية، فنحن لا نزال في بداية أيام العام الدراسي.
– سأفعل ..
وأسك بالسجل وتم التوقيع والحاج يرقب الموقف وكأنه أحس بثقل ظله، فغادر المكان بعد قصر انتظار، وبعد أن شنف أذنه السكرتير بكلمات آلمت قلبه وأوجعته، وشرع الأستاذ أبو عبد الله يغادر حجرة السكرتير متجها إلى حجرة المدرسين وهو في صمت وتفكير فيما جرى وسمع، ولكن متطلب التحضير لإعداد درس الحصة الثانية فرض نفسه عليه، فانهمك فيها متناسيا من حوله من المدرسين، ولكنه عاودها ثانية واستسلم لخياله وتفكره، وهو يدرك أن الحصة الثانية قد اقتربت.
وسرعان ما تزدحم حجرة المدرسين بهم وتعج بصراخهم، وفي حجرة المدرسين تثار الكثير من الموضوعات وتتعدد الأسئلة والإشكاليات ليبرز الطارحون فيها قدراتهم، وسعة ثقافتهم، ويدخلون في حلبة صراع الأفكار والمعلومات والتوجهات واستعراض المهارات والقدرات، ولا شك أن مثل هذه العادة حسنة، ولكن آثارها أحيانا على عكس المبتغي، فحاول استغلال هذا الصمت وهو يحاور نفسه، ويرى الأساتذة الآخرين مشغولين كذلك مثله بتصحيح كراسات طلابهم. ولم يفيقوا إلا بالجرس يقرع إيذانا ببدء الفسحة وعليه كان قدوم المدرسين قريب، فالحجرة تتسع لستة عشر مدرسا على اختلاف جنسياتهم وتوجهاتهم وسيعم الحجرة حينها الصخب واللغط وستتفاوت الآراء وتعلوا الصيحات وتتعدد الأهواء سكت برهة، توافد المدرسون على حجرتهم فرادى، وكان بينهم الحاج محمد الذي اخترق فضاء الحجرة بعد أن أفشى السلام فيهم ليقف أمام طاولة أبي عبد الله وهو يقول: آمل أن لا أثقل عليك، أو أشغلك عن أمر تردي إنجازه..
الأستاذ قاطعه: لا تفضل يا حاج.
عندها نطق أحد الأساتذة ويدعى أبو علي: كيف حالك يا حاج محمد.
فسارعه الحاج بالقول: جراح وآلام هي حياة التعساء مثلي الذين يعيشون شقاء هذه الدنيا وبلاءها الدائم.
أحس الأستاذ أبو علي كأنه نكث جرحا، فلاذ بالصمت، ولكن الأستاذ أبو محمد تدخل قائلا: قل الحمد لله يا حاج.
الحاج في تأفف وضجر وشيء من الغضب: لن أقول الحمد لله!! ولماذا أقول ذلك؟ .. هل هذه عيشة تستحق الحمد؟! ذهل الحضور لمقولة الحاج، فناوشته النظرات وبانت إمارات الدهشة وعلامات الاستغراب واضحة عليهم جميعا!!
لكن الأستاذ ماجد سرعان ما شق هذا الوجوم ليقول: استغفر الله يا حاج ولا تكفر، وحذار أن تأخذك العزة بالإثم.
فرد بانفعال وقد احمر وجهه وتغيرت ملامحه: أنا لم أكفر، ولكن الحمد يكون على النعمة، وليس لدي نعمة تستحق الحمد والثناء، فما الذي تريد أن تعرفه من نعمتي الموفورة؟! مرضي وتعبي الدائم، أم فقري الذي أنت أعلم به مني، أم التضحية الأخرى طريحة الفرش، هذه السقيمة التي تغالب الموت منذ سبع سنوات من زواجي بها وهي في ريعان شبابها، أم أولادي الذي يعيشون الفاقة والفقر ويتجرعون الحرمان جرعة جرعة دون رفاقهم، ولا ذنب لي سوى أني والدهم المعدم، في حين يعيش الآخرون النعيم، وما يحس النار إلا واطئها، فلم تستغربون حديثي؟!.. فأنا المطعون لا أنتم.
ثم سكت وهو يغالب دموعه، ويواريها بيديه بعد أن أعرض بوجهه عن الحضور، طأطأ بعض الحضور رؤوسهم تأسيا وأسفا، في حين أن البعض الآخر أشاحوا بوجوههم متجهمين لفعلته، لكنهم لم يجدوا السبيل المقنع فنكسوا رؤوسهم وسادة الصمت برهة ليشقه صوت الأستاذ أبو حسين: يا حاج محمد ما بدر منك لا يجوز أن تتفوه به وهو بمثابة الكفر، وأنت رجل مسلم قد ناهزت الستين وما زلت مؤمنا بدينك فلم هذا التسرع والتلفظ باللكمات المقيتة؟! وكما قال الأستاذ ماجد استغفر الله واصبر على الابتلاء، فالفقراء أحباب الله، والصابر على فقره له من عنده سبحانه وتعالى الأجر الكبير.
أجاب الحاج والغبن يلازمه والدموع تسيل على وجنتيه وتغرق لحيته المخضرمة: ماذا فعلت لتكون هذه حياتي؟! هل أذنبت، هل تركت صلاة أو صوما؟! أم تجاوزت أحكام ديني وقيم مجتمعي؟ فلماذا هذا هو حالي؟! وكثير من المذنبين العاقين يعيشون في رفاهية من العيش؟!
ألان هذا الحديث عطف أبي حسين فقال: الحياة الدنيا كما تعرفها، حياة ابتلاء وهذه محنتك وموطن اختيارك، والنجاح أو النكوص مرهون بعزيمتك وصبرك؟! وقدرتك على اجتياز المحن والصعاب.
أرخى الحاج صوته، وهو في تألم واستكانة وحزن يعصف دواخله، وبدأت تقاسيم وجهه تنقبض ثانية، والدموع تنهمر منم عينيه دون انقطاع، وهو يقول: ما هذا الزمن؟ وما نوع هذه الحياة؟ أنا لست معترضا على قدرتك وقضائك يا إلهي، ولكن لا صبر على بلائك.. لا صبر لي عليه كل يوم، فالأولاد يأخذون بتلابيب ثيابي لتلبية مطالبهم ولا سبيل لعونهم عندي! والزوجة طريحة الفراش منذ خمس عشرة سنة رهينة المرض الذي فت قواها، ولم تجد محاولات الشفاء شيئا. وأنا كما تعرف يائس فقير محتاج، رباه كم يعيش الإنسان ذل السؤال البغيض دونما فائدة، وكم ينتابه الشك والوهم حال الحاجة والفاقة، فواغوثاه ثم واغوثاه مما أنا فيه، ثم أجهش البكاء..
غاب الأستاذ أبو عبد الله على إثر هذه الوقعة عن الحضور، وسرح بخياله بعيدا عما حوله، فالتقط حكمة مأثورة استلبتها ذاكرته وهو قول مأثور عن صاحبي جليل مفاده:
“ما ذهب الفقر موطنا إلا قال له الكفر خذني معك”
تمعن الأستاذ هذه العبارة، استنطق كنهها، عاش لحظاتها، شجونها، قسوتها، تفاعل مع معانيها، ذاب فيها فكرا وشعورا، وجدها كارثة بل داهية دهماء لا مفر منها عند الكثيرين ممن يعيشون وضعا قاسيا كهذا، عندها أفاق على صوت الأستاذ أبي حسين يلاطف الحاج ليخفف عنه محنته.
فتوجه للحاج وهو يقول: لا عليك يا حاج محمد، استعن بالله فأنت رجل مؤمن والكل يعرفك بذلك، وسيعمل الأخوة المدرسون على إعانتك وسيجتهدون مجتمعين على تقديم ما يريح نفسك من عنائها.
دبت الروية في نفوس الحضور وهم يرون الحاج واجما كما المنهك من معركة خاسرة وهو يقول: عذرا أبنائي وإخواني لما قلته، وأستغفر الله ربي، وأرجو أن يقيل عثرتي، ويغفر زلتي، وأشكر لكم حسن صنيعكم الذي لن أنساه ما حييت.
أراد الحاج أن يستكمل حديثه.. وإذا بصوت يستحثه على الحضور إلى مبنى الإدارة.. فاغتنمها فرصة وهو يودع الحضور.
ولكن السؤال الذي خامر ذهن الأستاذ أبي عبد الله واستحوذ على فكره وفرض عليه نفسه هو:
إلى متى نعيش شرب الدواء دون الالتزام بالحمية؟!
إلى متى يبقى الحاج ومن هم على شاكلته يعيشون الفقر في مجتمع كهذا؟!
وما مصداقية القول المأثور للإمام على بن أبي طالب عليه السلام “والله لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته” على واقعنا هذا؟
أخرج أبو عبد الله السؤال من صومعة ذاكرته وأشاعه بين زملائه وبدأ الحوار، لكن رنين جرس انتهاء الفسحة كان أسرع إلى الآذان فقطع الحديث وبقي السؤال…