أمنية طفل بقلم الأستاذ ابراهيم حسين

الأستاذ ابراهيم حسين
الأستاذ ابراهيم حسين

غادرت الصبية السيارة مندفعة على غرفتها، بعد أن اجتازت قاعة المنزل جلست على مقعدها الخشبي، وأرسلت ذراعيها الصغيرين فوق طاولتها المطعمة برسومات الدب المختلفة، ودِماها العديدة بعد أن أشعلت مصباح غرفتها، ووجهت أصابعها الرقيقة إلى كراسة الرسم الملونة لتقطع ورقة صفراء زادها ضوء مصباح طاولتها الذي أشعلته هو الآخر لمعانا وبريقا وشرعت في عمق تستنزف طاقتها، لتفرغ أهازيج مخليتها، وأماني طموحات سنين عمرها السبت التي أججتها عبارات أبيها عن فضل الوالدين، وحقوقهما بمناسبة يوم الأسرة، الذي يصادف اليوم السبت الحادي والعشرين من مارس 98م، وهم قد قفلوا على التو راجعين إلى منزلهم بعد أمسية جميلة قضوها جميعا خارج البيت، احتفالا بهذه المناسبة السعيدة.

أخذت شيماء تردد في نشوة غمرة كيانها، وحركت جسدها الغض في عفوية رائعة، بابا، بابا، لم فؤادي، ماما، ماما خير عمادي، وهي تمسك بقلم الألوان الخشبي، لترسم تلك المشاعر التي تجول بخاطرها، كان أبوها الخيال الأول الذي مثل أمامها، فرسمته محاطا بأجمل الأشياء التي رسختها الأيام في ذاكرتها، وأججتها كلمات أبيها الطازجة فجعلت مخيلتها أرضا خصبا، وأفقا واسعا، استدرت عطاءها بألوان وأشكال تتناسب وروعة الطفولة الحالمة، وبراءتها.حشدت شيماء لوحتها بلقطات ومحطات عديدة، وجعلت أبويها في صدارة أضوائها التي زركشتها بالأماني والآمال كانت محطتها الأولى السيارة البنفسجية الحالمة في شكلها العجيب التي غادرتها قبل نصف ساعة في مدينة الملاهي. وقد أضافت عليها بأن جعلتها متهيئة للانطلاق في بستانها الممتد، وجعلت أباها ربانا وطوقتها بالشجيرات الخضراء وغصون الورد المتدلية بزهور حمراء وصفراء تحفها عصافير الصباح المغردة في حنايا الشروق الجميل. وكأنها تستعجل قدوم الصباح ليحقق أمانيها، بعدها رسمت بيت أحلامها المقام على ألوان الطيف، وجعلت في زوايا مملكتها الرائعة ركني المطبخ..وصالة الألعاب الجميلة، ثم أسلمت البستان الرحب عمقا إلى شاطئ البحر الأزرق المتلألئ..

كان قلم الصغيرة رائعا جميلا، وهو يتمايل بين أصابعها الغضة، ومشاعرها المتوثبة، وطموحاتها الكبيرة الذي اتسعها عقلها.. ليرسم خطوطا وأعمدة متقاطعة الألوان والمعنى، ويعبر بحركات وإيماءات عن ترنم ينسجم ودلال أبويها، وجميل رعايتهما لها. أوقفت الطفلة قلم تلوينها قبل أن تستكمل تلوين لوحتها المزحومة بعد أن استشعرت البهجة في داخلها.. وتمكنت من أمنيتها وهي تقول:
– بابا،ماما..
– نعم يا حبيبتي، ماذا تريدين؟
– ما رأيك فيما رسمت يا بابا؟

نظر عادل إلى رسومات شيماء قائلا: إنها جميلة حقا، فهل تعلمت كل هذا من مدرستك، وأنت لا تزالين في السنة الأولى؟
– نعم يا بابا.. تعلمتها في المدرسة، ولكن قل لي أهي جميلة حقا؟
– بالطبع يا عزيزتي.. إنها جميلة جدا. بل رائعة جد جدا.
– إنني رسمتها لكما أنت وأمي، إنها لكما معا.
– لم تريدنا أن نمتلك كل هذه الأشياء الجميلة والثمينة يا حبيبتي؟
– لأنني أحبكما كثيرا، وأود ان أهديكما أجمل وأغلى شئ في هذه المناسبة الكبيرة.
– صحيح أنك تحبينا إلى هذا الحد يا شيماء؟
– نعم يا بابا أحبكما كثيرا كثيرا.

طبع عادل قبلة رطبة على خد شيماء، وأحس بعدها أنه صنع أجمل نغم حالم، فيه كل معاني الحب، والود، والتفاؤل، ثم عاود سؤالها وهو في نشوة وثمل: ولم تحبينا كثيرا؟

سكتت شيماء برهة، وكأنها أدركت أن أباها لم تشفه أجابتها، وهو يحتاج المزيد، فاستجمعت قواها، وتركيزها ثم قالت: لأنكما تخرجا بنا أنا وأخي كثيرا، فأنت يا بابا تشتري لي ولأخي الكثير من الحلوى، والبالونات الملونة الكبيرة، والألعاب المسلية، والثياب الجميلة. وماما ترعانا وتساعدنا في مذاكرة دروسنا وأداء واجباتنا المدرسية، وتصحبني معها دائما في زيارات صديقاتها، لذلك فنحن نحبكما كثيرا، ولكن هل تحبانا أنتما كذلك؟

غاب الأب في فرحة غامرة.. لحسن إجابة شيماء، ولجميل لباقتها ولكنها عاودته السؤال وكأنما أيقظته، فأجاب: نعم يا حبيبتي إننا نحبكما كثيرا ونسعى لنحقق لك ولأخيك الكثير من الأشياء، ولكن قولي لي.. ماذا تريدين أن تكوني في المستقبل؟

ظهرت ملامح الرضا على شيماء، ووضعت كلتا يديها على خدها الذي غمرته الفرحة، وهي تقول بنبرات واثقة: أريد أن أكون طبيبة، أعالج الأطفال الصغار مثلي.

اخذ الأب شيماء إلى صدره، ولملم جسدها الطري بين ذراعيه، ورشقها بوابل من قبلاته الدافئة وهو يقول: غاليتي أيتها الدكتورة الصغيرة، لقد أودع الله فينا نحن الآباء حب أبنائنا الأغراء، وكلفنا برعايتهم، والاهتمام بحسن تنشئتهم، وتربيتهم على الخلق الحسن وحب الوطن والعمل على نمائه وتطويره.

ثم غاب عنهم ثانية، وقد تسلل إليه الشجن، وأحاطته موجات القلق وأخذ يحاور نفسه ويسألها: ماذا لو غبت عنهما.. عن حبيبتي شيماء ورائد؟ ماذا لو أوهنت العلل جسدين و أبلته الرزايا؟ ماذا لو فاجأتني الأقدار بالقيود؟ وأوقعتني الأيام أسيرا في الأغلال؟ هل تراهما يتحملان جشب العيش وصعوبة الحياة؟ هل سيتكفل بهما الأهل والأقرباء؟ هل سينظرهما المجتمع نظرة رحمة ورعاية؟

ثم ردد قول الشاعر:

لولا المنية لم أجزع من العدم
ولم أجب في الليالي حندس الظلم

وزادني رغبة في العيش معرفتي
ذل اليتيمة يجفوها ذو الرحم

أخشى فضاضة عم أو جفاء أخ
وكنت أخشى عليها من أذى الكلم

إذا تذكرت بنتي حين تندبني
جرت لعبرة بنتي دمعتي بدم

ماذا أفعل.. إنني حائر بين ولدي، وبين مجتمعي.. والتخلي عن قناعتي تجاه مجتمعي، امتثالا للقول المأثور: “الأولاد مبخلة ومجبنة” أم أن حاجة مجتمعي لي ولمن هم على شاكلتي تحتم علينا العمل من أجلهم؟ أرى أن التراجع أولى، لأنه ضمان لحياة أفضل لولدي، فالكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله، إضافة إلى أنني لا أستطيع أن أتصور شيماء ورائد طفلين بائسين معوزين، وربما يتيمين مجفوين.

انتزعته شيماء من استغراقه في خواطره قائلة: بابا لماذا أنت صامت؟ هل الذي يحب أولاده يصمت عندما يسألونه؟
– يا عزيزتي، ولكني أفكر في أشياء أخرى شغلتني عنك لبعض الوقت.
– ما لذي يشغلك عن محادثتي؟
– أفكر في لوحتك الجميلة، وحبك الكبير، كيف أحافظ عليهما؟ وكيف أضمن لم ولرائد السعادة والهناء، وأجعلكما على الدوام سعيدين.

ابتسمت شيماء ومدت يديها الناعمتين إلى عنق أبيها لتومئ له بالانحناء، وطبعت قبلتين حالمتين على صفحتي خده وهي تقول: أعدك بابا، بأنني سألون صورتك في كتابي تلوينا جيدا، وأنني سأرسم لك صورة أخرى، لنتسابق أنا ورائد في الرسم، وأنت وأمي تحكمان أي للوحتين أفضل؟
– سنكون سعداء بعملكما، وأدعو الله أن يحرسكما، ويحفظكما من كل مكروه.

لكن سرعان ما غادرت أبيها عندما رأته قد عاود الانشغال بنفسه، متجهة إلى أمها وهي تقول: قبلتها الأم واحتضنتها، وغدت تدغدغ خصلات شعرها الشقراء وهي تقول: اللوحة جميلة يا عزيزتي كما قال أبوك، وحن نعلم أنك تحبينا كثيرا، فأنت بنت رائعة وذكية، ومطيعة كذلك، وقد حان وقت نومك كما تعلمين، فالساعة شارفت على العاشرة مساء، فاذهبي لمنامك، وتصبحين على خير، ثم قبلتها ثانية مودعة، لكن الأم شخصت ببصرها نحو السماء قائلة: رباه كرمك، ولطفك.

كتبت في: مارس 98

شارك برأيك: